الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما ذاك عن بغض لها غير أنه
…
يرجي سواها فهو يهوى انتقالها
وكان ظهور الدولة الفاطمية على مسرح السياسة المغربية سبباً لقيام نزاع كبير بينها وبين الأمويين أصحاب الأندلس؛ على المغرب. فما كانت تطفأ لظى الحرب بينهم إلا وتشعل من جديد. وقد لقي المغرب من جراء ذلك عنتاً شديداً. ثم قامت دولة مغراوة وبني يفرن فكانت دولة مغربية محضة، وإن لم ير المغرب على عهدها إلا الحروب الطاحنة والفتن الداخلية الماحقة؛ فكان عهداً مظلماً توقفت فيه جميع الحركات الناشئة من علمية وأدبية، وانقرض العمران، وكادت الفوضى تقضي على هذه البلاد؛ لو لم يتداركها الله بعبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين.
الوسط الفكري في هذا العصر
رأينا كيف تأخر فتح المغرب إلى ما بعد منتصف المائة الأولى للهجرة، وأنه لم يقره قراره بعد الفتح الأول، ولا سكنت ثائرته. بل سرعان ما قتل الفاتح في إحدى جولاته بمدن إفريقية، وعادت البلاد كلها إلى عهد الفوضى والاضطراب، مما دعا إلى تجريد حملة ثانية على هذا الإقليم بقيادة موسى بن نصير، رأبت منه الصدع ورتقت الفتق، وشغلت المغاربة إلى حين بالعبور إلى الأندلس والقتال في تلك البلاد التي كانت إلى الأمس القريب تستتبعهم وتتحكم فيهم.
وفيما بين هذين الفتحين كان كثير من المغاربة لم يفهموا حقيقة الدعوة الإسلامية ولم ينظروا إلى العرب إلا كما كانوا ينظرون إلى الرومان والروم وغيرهم، ممن وغل عليهم ودوخ أقطار هم من قبل قصد الاستغلال والاستئثار. ولقد قالت الكاهنة داهية لقومها:«إنما تطلب العرب من المغرب مدنه وما فيها من الذهب والفضة، ونحن إنما نريد المزارع والمراعي، فالرأي أن تخرب هـ ذه المدن والحصون ونقطع أطماع العرب عنها» . وبالطبع فإن من يكون هذا رأيه في القوم لا يقبل ما أتوا به من شرع ودين، ولا يتأثر بما يحملونه من علم وعرفان.
ونقل عن ابن أبي زيد القيرواني أنه قال: ارتدت البربر اثنتي عشرة مرة،
من طرابلس إلى طنجة، ولا شك أن هذا الكلام إن أريد به الردة الحقيقية، فإنما يتنزل على أقوام من البربر لا على جميعهم، وإن أريد به الثورة والعصيان وشق العصا على الدولة، فهو صحيح في جملته. على أن الخلفاء والولاة الذين تتابعوا على حكم المغرب لما تنبهوا إلى وجوب تعليم المغاربة وتلقينهم مبادئ الدين الحنيف، فرتبوا لهم الأئمة والفقهاء يعلمونهم ويرشدونهم، أمنوا بعد ذلك من انتفاضهم وعرفوا السبيل إلى تفهيمهم حقيقة ما جاءوا به. ومن يومئذ لم تعد ثورات المغرب والحروب التي نشبت بعد، إلا تمرداً على الولاة الظالمين أو فتنة يوقدها ذوو الأغراض من الخوارج وأصحاب المطامع السياسية، ويستغلون فيها المغاربة البرءاء أسوأ استغلال.
وفي الحقيقة إن جناية الخوارج على المغرب لا تعادلها جناية، فإنها تسببت في انقسامه على نفسه، وتسليط بعضه على بعض، مما أدى إلى بقائه زهاء ثلاثة قرون طعمة النيران الحروب وميداناً لتجريب الحظوظ، وهو في كل ذلك إنما يزداد سوء حالة من ناحية انتشار الجهل وعدم الاستفادة، مما أتي به الفاتحون العرب، حملة الهداية الإسلامية ومنورو الشعوب.
وثمة عامل آخر، إلى جانب انعدام الاستقرار واضطراب الأمن، كان له أسوء الأثر في عدم استفادة المغاربة مبكراً من علوم العرب وآدابها وبطء نهضتهم وظهور المثقفين فيهم؛ ذلك هو أن المغرب لبعده عن مواطن العرب الأصلية أو التي توطنوها بعد الفتح الإسلامي، لم يتخذه العرب مقراً لهم ومسكناً؛ وإنما كانوا يحلون في إفريقية وعاصمتها القيروان، التي كانوا هم المنشئين لها والممصرين، أو يجتازونه إلى الأندلس، حيث يجدون أنفسهم في بلاد شبه مستقلة عن قاعدة الخلافة وطائلة السلطان. ولذلك ما لبث الجناحان المغربيان الشرقي والغربي، أن نهضا وحلقا، فتكونت في إفريقية الأغلبية، وفي الأندلس الأموية، حركات فكرية وأوساط علمية وأدبية راقية، بخلاف المغرب الذي لم يكن يستقر فيه إلا أفراد قلائل من الولاة العرب، أو بعض الجنود من جفاة الأعراب الذين ليسوا في قبيل ولا دبير من شؤون الفكر وحياة العلم والأدب. وهم مع ذلك قليل وقليل جداً؛ حتى إن جيش طارق بن زياد الذي فتح الأندلس لم يكن فيه إلا ثلاثمائة عربي أو ثلاثة عشر على الخلاف في ذلك، وهو اثنا عشر ألفاً. . . وقد علمت أن إدريس الثاني استقبل في سنة 189 هـ وفود العرب من بلاد إفريقية والأندلس وهم نحو الخمسمائة فارس فقربهم واستأنس بهم
لأنه كان فريداً بين المغاربة ليس معه عرب. . . وما هو خطر خمسمائة فرد في قطر بعد سكانه بالملايين? فلا جرم إذا بقي المغرب على جهله وتأخره ولم يسرع إلى التطور والتعرب والنقل عن أساتذته الجدد كما نقل عنهم أشقاؤه وجيرانه.
على أننا إن صورنا الحياة الفكرية في هذا العصر بهذه الصورة القائمة، فلا نمر بدون أن نشير إلى ذلك البصيص من النور الذي كان يومض خلالها أحياناً، منبعثاً من مصدر الإشعاع بفاس، أعني جامع القرويين. . . فمن المعلوم أن هذا المسجد الذي يعد أقدم جامعة علمية في العالم الإسلامي، قد أسس في هذا العصر، وبالضبط في سنة? 45 هـ. وكانت التي بنته سيدة فاضلة من مهاجرة القيروان، تسمى أم البنين الفهرية.
ولما كانت المساجد في المجتمع الإسلامي تؤدي مهمتين: مهمة دينية، ومهمة ثقافية. إذ تلقى في أروقتها دروس في مختلف العلوم والفنون، فإنا نعتقد أن جامع القرويين منذ إنشائه كان مركزاً للدراسات الدينية والأدبية، التي لم تنقطع منه أبداً، وأن تأسيسه كان مبدأ الارتكاز للحياة الفكرية في المغرب، بالرغم من وجود مساجد أخرى سابقة له في فاس وغيرها. ولا أدل على ذلك من أن كبار علماء المغرب الذين عرفناهم، إنما نبغوا بعد التاريخ الذي شيد فيه ذلك المسجد العامر.
على أن مراكز ثقافية أخرى كانت تقوم في كل من سبتة وطنجة والبصرة (1) وأصيلاً. وهي باستثناء سبتة قد عرض لحركتها فتور أو اضمحلت بالمرة أثناء هذا العصر نفسه، وإن تخرج منها أعلام لهم مكانتهم في تاريخ الحركة الفكرية بالمغرب. إذا فقد كانت هناك دروس، وكانت هناك هيئة علمية، وإن كنا لا نعرف من خبر هذه الهيئة وأثر تلك الدروس إلا الشيء القليل.
ولعل أهم ما نسجله عن الحياة الفكرية في هذا العصر، التي قلنا أن تأسيس
(1) مدينة البصرة أسست في عهد الإدارسة بالقرب من مدينة القصر الكبير، وكانت داخلة في ولاية القاسم بن إدريس لما قسم أخوه محمد المغرب بين أخوته. وازدهر عمرانها ثم خربت على يد أبي الفتوح ابن زيري الصنهاجي في العمر نفسه.
جامع القرويين كان مبدأ الارتكاز لها في المغرب، هو ظهور المذهب المالكي في الفقه، وسيطرته على المذهب الكوفي الذي كانت له الصولة في المغرب، وبالتالي قضاؤه على المذاهب الأخرى التي كانت منتشرة في جهات مختلفة من هذا القطر؛ كالمذهب الخارجي الذي كانت تعتنقه إمارة بني مدرار في سجلماسة، والبرغواطي (1) الذي كان باض وفرخ في تامسنا والإعتزالي الذي كانت منتشراً هنا وهناك، كالشيعي الذي يقال إن قرنه طلع مع نشوء الدولة الإدريسية. وعلى كل حال فإن مذهب مالك لم يتوطد أمره في هذا العصر كمذهب فقهي فقط، ولكن كعقيدة أيضاً فإن التلازم بين طريقته في الفقه والاعتقاد، وهي اتباع السنة ونبذ الرأي والتأويل، مما لا يخفى.
وقد كان الفضل في اتجاه المغرب هذا الاتجاه الرجال من أبنائه البررة، أرادوا إشباع نهمتهم من العلم، فتحملوا عن ديارهم ومساقط رؤوسهم، وضربوا في طول البلاد الإسلامية وعرضها طلباً للمزيد من المعرفة ورغبة في سعة الرواية، ثم عادوا إلى وطنهم يتفجرون عاماً ويلتهبون إخلاصاً.
فأخذ عنهم من لم يستطع الرحلة من مواطنيهم، وقاموا جميعاً بتأسيس قواعد العلم ومعاهد الدين في مختلف أنحاء البلاد. وهؤلاء أمثال أبي هرون البصري، الذي كان أول من أدخل كتاب ابن المواز إلى الأندلس، وأحمد بن الفتح المليلي، ودراس بن إسماعيل، وجبر الله بن القاسم الفاسي، وأبي جيدة بن أحمد، وأبي محمد الأصيلي، وابن أبي غافر، وعيسى بن علاء السبتيين، وعيسى بن سعادة الفاسي الذي تنازعه الفقهاء والمحدثون لما توفي بمصر، كلهم يدعيه ويقول أنا أحق بالصلاة عليه، وابن سمحون الطنجي بالحاء المهملة، ومحمد بن يحيى الصديني وأولاده، وابن الزويزي الذي كان يضرب به المثل في صحة الفتيا، يقولون: لا أفعله ولو أفتاك
(1) هذه النسبة إلى قبيلة برغواطة بالراء. ويقول ابن هشام اللحمي في كتاب لحن العامة وابن دحية في كتاب المطرب نقلاً عن كتاب تثقيف اللسان: إنها باللام، فالنسبة إليها بلغواطي. ولصاحب القرطاس رأي آخر في ذلك ينظر فيه عند الكلام على قتال ابن ياسين للبرغواطيين. ونحن قد اثبتنا هذه الكلمة على ما هو مشهور فيها. وانظر لمعرفة المذهب البرغواطي كتاب القرطاس في الموضع المشار له، والبيان المغرب في ص 226 ج ل.