الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة الأدبية
قدمنا أن هذا العصر كان هو العصر الذهبي للعلوم الأدبية في المغرب. وعليه فيكون هو أزهى عصور الإنتاج الأدبي فيه، لأن هذا الإنتاج ينبع غالباً تلك العلوم رقياً وانحطاطاً. خصوصاً عندما يكون الاعتماد على الدراسة والتلقين، لا على السليقة والطبع.
وفوق ذلك، فإن الوسط الأدبي في المغرب، لم يبلغ من الرقي في عصر من العصور ما بلغ في هذا العصر، فقد اشترك في تكوينه جميع الطبقات من الملوك فمن دومنهم إلى السوقة. أما الملوك فقد علمت أن أكثر سلاطين بني مرين كانوا من أهل العلم والمعرفة والمشاركة في فنون الأدب، وبالطبع فإن وزراءهم وحجابهم وقوادهم فضلاً عن كتابهم وقضاتهم كانوا كذلك؛ إذ يستحيل أن يقرب بساط الملوك، إذا كانوا ملوكاً بمعنى الكلمة، غير أهل الكفاآت النادرة من أرباب المعارف المتنوعة، وكذلك كنت لا تجد في منصب من مناصب الدولة إلا رجلاً كفوء لا يؤتى من قصور، ولا يعاب من تقصير، حتى ذوو البيوتات الذين كانوا يتوارثون الرياسة في هذا العصر كبني العز في وعبد المهيمن وأبي مدين والمكودي والقبائلي، لم يكونوا على ما عهد في أمثالهم من الاعتداد بالأحساب والاتكال على الأنساب وإنما كانوا كما قيل:
إنا وإن أحسابنا كرمت
…
لسنا على الأحساب نتكل
تبني كما كانت أوائلنا
…
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
هؤلاء ممن دون الملوك، ولكنهم فوق السوقة. وأما السوقة فقد أشرنا فيما سبق (. . .) أثرت فيهم نهضة علوم اللسان وما مكنت لهم من تذوق أسرار اللغة ومهم أغراض الأدب، حتى لمن كان منهم في طبقة صاحب حديث «اللظافة» الآني
ولا يخفى أن في هذا العصر استفحل ذلك الشعر العامي الذي يتحدث عنه ابن خلدون في المقدمة، وهو من نظم عوام المغاربة؛ فيكون من الدلائل القاطعة على تمام استعرابهم، وبالتالي على رقي الوسط الأدبي عندهم، لأنهم ما نقلوا الشعر من رطانتهم إلى العربية حتى كان قد تغلغل الروح العربي فيهم إلى حد بعيد جداً. ولا عبرة بما في ذلك الشعر من ألفاظ ركيكة وتراكيب ضعيفة، وإنما العبرة بكونه نظماً على الأسلوب العربي وبألفاظ عربية في الجملة، يصدر من عوام المغرب الذين لم يثقفوا علماً ولا أدباً.
والعجب ممن تخفي عليه هذا الأمر، فراح ينعي على المغرب حظه من اللغة والأدب، ويستشهد بذلك الشعر الذي هو من قول عوام أهله. ولقد كان خليقاً أن يستشهد به على قوة انتشار اللغة العربية وآدابها في المجتمع المغربي الذي يقول عامته مثل ذلك الشعر؛ ولكنه لقصوره لم يعرف أن المغرب شعراء كأعظم شعراء بلاده إن لم يكونوا أعظم منهم. وابن خلدون لم يجعل هؤلاء العوام هم شعراء المغرب، وإنما أتى بهم دليلاً على ضعف الملكة الشعرية عند أهل الأمصار، وخصوصاً الأعجام منهم. ولو زاولوا الصناعة بالتعليم، وهو يغرق على عادته في هذه النظرية فيتناسى ما لأهل هذه الأمصار من اليد الطولي على العربية وآدابها خصوصاً في عصره، وقد كان محاطاً بكثير من نبغائهم الذين لا يقصرون عن غيرهم في فن ولا أدب؛ فجاء مؤلفاً كتاب المطرب في أدب الأندلس والمغرب، ففها عنه أن أولئك العوام هم شعراء المغرب، فانكرا العلم والأدب على المغاربة، فظهما المغرب والتاريخ الأدبي أشد الظلم، وكانا كمن يسمع أزجال عوام المصريين فيحكم على مصر بالعقم الأدبي ناسياً الشوقيات وغيرها من الآيات البينات) (1).
وبعد فما نريد أن نقوله هو أن هذا الوسط الأدبي الطافح بعناصر الحياة،
(1) إن مثل هذا الغلط كثيراً ما يقع فيه كتاب الشرق، وما نبهنا على هذا الكتاب بخصوصه إلا لأنه من أحدث ما اطلعنا عليه في هذا الباب. وعلى كل حال فاللوم لا يتوجه عليهم بقدر ما يتوجه علينا نحن الذين أعملنا أنفسنا حتى صرنا كما قال القائل:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
كان هو مهد هذه الحركة الأدبية الذي فيه نشأت، ومنه درجت، فما ظنك بما تكون عليه من قوة المادة والروح؟
نعم، وقد كان هذا الوسط يغري كثيراً من ذوي الشخصيات الأدبية الكبيرة في إفريقية والأندلس فيؤمون الحضرة الفاسية، ويستوطنونها ناسين بما يلقونه فيها من التجلة والإكرام، أوطانهم الأصلية ومعاهد شبابهم الأولى، وعلى رأس هؤلاء ابن خلدون وابن الخطيب وابن جزي وغيرهم ممن سبقت الإشارة إلى بعضهم. وقد كان انتقالهم إلى المغرب في هذا العصر طوعاً ومن تلقاء أنفسهم، بل اختياراً وإيثاراً له على أوطانهم لا كما كان في العصر السابق كرهاً واضطراراً، لأن عاصمة الدولة ومقر السلطة المركزية كان في مراكش، فلا معدي لذوي المصالح وأرباب الكفايات من اللجوء إليها ولا كذلك في هذا العصر، فإن قيام دولة بني نضر في غرناطة، والدولة الحفصية في تونس، ودولة بني عبد الواد في تلمسان كان حرياً أن يصرف وجه النخبة من أبناء هذه البلاد عن المغرب، مع أن الأمر كان كما قلنا بالعكس، فما ذلك إلا دليل على أن الجو الأدبي في المغرب هو الذي كان يستميلهم إليه.
والحاصل أن في هذا العصر بلغ الأدب المغربي كماله، فتخلص من سائر التأثيرات الأجنبية عن النفس المغربية، وشق لنفسه طريقاً نحو الغاية المقصودة، وهي سد حاجة تلك النفس الظامئة إلى حياة أدبية حرة تتمثل فيها عواطفها ومشاعرها وسجاياها ومزاياها مصورة بصورة طبق الأصل لا رياء فيها ولا تصنع ولا ادعاء ولا تقليد؛ فبلغ تلك الغاية وأوفي عليها بمزيد التفنن والإبداع، ولا سيما في الشعر الذي حمل الطابع المغربي وحده منذ هذا العصر، فتجد الحقيقة فيه تسبق الخيال، والطبع يغلب الصنع والقصد إلى الوضوح أكثر من التعمق، والرقة والجزالة والسهولة في غير ضعف ولا غرابة ولا فسولة ولا ننس وصف الشاعر ابن زمرك لطريقة أدباء المغرب بأنها عربية، وهو الذي نقلناه في الكلام على الحياة الأدبية في العصر السابق، ويكفي أن في هذا العصر نبغ ذلك الشاعر الذي يحق أن يقال عنه، إنه شاعر المغرب الأكبر، ونعني به مالك بن المرحل الذي طبقت شهرته العالم العربي على رغم ما مني به أدباء المغرب من خمول الذكر، والذي لم يسع ابن خلدون إلا أن يعترف بشاعريته