الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دولة بحرية قوية ذات أسطول عظيم يضمن لها السيادة المطلقة على غرب البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، بحيث لم تكتف بحماية الشاطئ الإفريقي بل منعت تدفق القوات الصليبية القادمة من الغرب على سواحل الشام، هذا إلى ما جنته البلاد من ثمار الدعوة الموحدية، إذ كانت دعوة إصلاحية تقدمية، في الميدان الثقافي والديني مما نتناوله بالبحث في الفصول الآتية.
الدولة والثقافة العربية
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي بهذا المطلع المطرب وحده، وهذا البيت البليغ المفرد، مدح محمد بن أبي العباس المعاني عبد المؤمن بن علي الذي استعاده منه واستعاده، وأمره بأن يقتصر عليه، وأجازه فيا يقول العياد الإصبهاني في كتاب الخريدة بألف دينار قائلاً له: لقد قلت في هذا كل شيء.
نعم، لقد قال فيه كل شيء. أليس قد مدحه بالشجاعة والتفوق فيها، حتى نفي عن غيره أن يكون هازاً عطفيه مثله، في الوغى المرتفعة بين السيوف اللامعة؟ وانظر أنت إلى رشاقة هذا التعبير وما فيه من الحسن والجمال، أليس يدعو إلى الإعجاب بحسن خلق عبد المؤمن قبل الإعجاب بحسن خلقه وبرشاقة قده واعتدال مشيته قبل شجاعة قلبه وثبات جأشه؟ وفوق هذا وذاك أليس قد دعاه بالخليفة؟ وهذه هي الأمنية الحلوة التي طالما تمناها ملوك الإسلام وحلموا بها في منامهم، حتى المضروب على أيديهم منهم، فيعدون الشرف الصميم والفخر العظيم والغاية التي لا قبلها ولا بعدها أن ينعتوا بالخليفة، فيكونوا ظل الله في أرضه ووارثي سر النبوة وواضعي أيديهم على رقاب ملايين البشر. لذلك فعبد المؤمن الناقد البصير يحق له أن يشير على السمعاني بالاقتصار من القصيدة على مطلعها هذا لأنه كما قال قد جمع كل شيء يمكن أن يقوله شاعر في ملك ذي صولة وبأس مثل عبد المؤمن. وهو من جهة
أخرى خشي أن يدرس البيت ويضيع في تضاعيف القصيدة فإبقاؤه على حاله من الفردية أدعى إلى حفظه وسيره وتخليده في الناس.
وبعد، فهذا مثال واحد من أمثلة تنشيط عبد المؤمن للأدب والأخذ بضبعه وإكرام أهله وإحلالهم منه المحل اللائق بهم، وإدرار الصلات الطائلة عليهم؛ ففي كل رحلة، وفي كل احتفال عيد وغيره، وفي جميع المظاهر العادية وخلافها والمقابلات الرسمية والمواقف العامة، كان يجلس إلى الشعراء، وما أكثرهم في دولته؛ فمن أندلسيين إلى مغاربة إلى أفارقة ومنهم إلى مصري وشامي وعراقي وغيرهم، يحاورهم ويساجلهم فينثرون عليه من عقود مدائحهم كل نفيس غال، فيحسن الاستماع إليهم ويسر من ثنائهم عليه وينتقد هذا ويقرظ ذاك، وفي الأخير تحيز الكل ويفيض عليهم من سيب عطائه ومجر نواله.
وهنا يحسن أن أورد للقارئ ما ذكره صاحب المعجب في وصف احتفاله ببيعة أهل الأندلس له على ظهر «جبل الفتح» كما كان يسمي هو جبل طارق ملخصاً قال: «ونزل الجبل المعروف بجبل طارق وسماه هو جبل الفتح فأقام به أشهراً وابتنى قصوراً عظيمة، والمدينة الباقية إلى اليوم ووفد عليه وجوه أهل الأندلس للبيعة كامل مالقة وغرناطة ورندة وقرطبة وإشبيلية وماو إلى هذه البلاد، وكان يوم عظيم اجتمع فيه من وجوه البلاد ورؤسائها وأعيانها وملوكها من العدوة والأندلس ما لم يجتمع لملك قبله، واستدعى الشعراء وكان على بابه طائفة أكثرهم مجيدون، فكان أول من أنشده أبو عبدالله محمد بن حبوس من أهل فاس قصيدة أجاد فيها ما أراد:
بلغ الزمان بهديكم ما أملا
…
وتعلمت أيامه أن تعد لا
وبحسبه أن كان شيئاً قابلاً
…
وجد الهداية صورة فتشكلا
وانشده ابن الشريف المعروف بالطليق المرواني:
ما للعدا جنة أوقي من الهرب؟
فقال عبد المؤمن إلى أين؟ إلى أين؟ رافعاً بها صوته فقال الشاعر:
أين المفر وخيل الله في الطلب؟ !
وأين يذهب من في رأس شاهقة
…
وقد رمته سماء الله بالشهب
تحدث عن الروم في أقطار أندلس
…
والبحر قد ملأ العبرين بالعرب
فلما أتم القصيدة قال عبد المؤمن مثل هذا تمدح الخلفاء! وأنشد ابن سيد الإشبيلي الملقب باللص:
غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل
وانظر إلى الجبل الراسي على جبل
أني استقر به؟ أني استقل به؟
أني رأي شخصه العالي فلم يزل
فقال له عبد المؤمن لقد أثقلتنا يا رجل! فأمر به فأجلس. وأنشد محمد بن غالب البلنسي المعروف بالرصافي:
لو جئت نار الهدى من جانب الطور
…
قبست ما شئت من علم ومن نور
الخ «هذا وغيره يفيدك بالخبر اليقين عن عناية الموحدين بالأدب ويدلك على نشاط الحركة الأدبية ونفاق سوقها في هذا العصر الزاهر، حتي عمت البدو والحضر والعرب والبربر؛ فأخصبت الأفكار وتفتحت العقول وآتت الآداب والفنون أكلها الشهي وثمرها الجني. أما الفضل في ذلك كله فإنه يرجع إلى عبد المؤمن وحده الذي عرف من أين تؤكل الكتف، فاستغل جميع عناصر الحياة التي كانت متوفرة في عهد الملوك المرابطين قبله ولم يترك من وسائل التشجيع وأسباب التنشيط شيئاً إلا فعله، واستحدث في ذلك أساليب خاصة به، وكيفيات لم يتبع فيها أحداً. ولعل
ذلك راجع لما تلقفه عن أستاذه ومربيه المهدي بن تومرت من أنواع المعارف وفنون الآداب، ولما تطور فيه من الأطوار، ولعبه من الأدوار، وما جربه بنفسه من تصاريف الدهر وتقلبات الزمان، فليس ينكر أنه استفاد من ذلك كله وأنه في مدرسة الحياة هذه، درس علوم الاجتماع والنفس بأجمعها. غير أنا إن اعتبرناه هو منشئ الحركة وموجدها وصاحب الفضل الكبير فيها؛ فلا ننسى ما بذله خلفاؤه الصالحون، كيوسف ابنه ويعقوب المنصور ومحمد الناصر وغيرهم من أعقابه وأحفاده، والأمراء الموحدين الآخرين الذين كانوا مقيمين بالأندلس وإفريقية؛ فإن هؤلاء أيضاً فضلاً كبيراً في قيام الحركة الأدبية واستمرار تقدمها إلى الأمام. إنما نحن في سائر تلك البلاد لا يهمنا إلا المغرب، إذ هو موضوع كتابنا هذا وقد وقفناك على مبدأ الأمر فيه فلنوقفك على منتهاه.
كان عبد المؤمن رجلاً ثقفاً حاذقاً متحققاً بكثير من فنون العلم والأدب، قد تلقف عن المهدي بن تومرت ما أتي به من المشرق، وزادته الأيام حنكة وتدريباً على الأمور، فجعلت منه ذلك العبقرية الفذ، الذي يندثر أن يجود الزمان بمثله إلا في الفينة النادرة. ولقد استخدم مواهبه كلها في تثبيت مركز الدولة وتقرير مستقبلها الحفيل بالعظائم، حتى شاد لها ذلك العز المكين والفخر المبين، الذي بقي ذكره مخلدة في بطون التواريخ. وكان هماماً بكل معاني الكلمة لا يستعظم مطلباً ولا يستبعد غاية، ملوكياً، كما يقول المراكشي؛ كأنه ورث الملك عن آبائه وأجداده، فلم يقصر نظره على أمر خاص من أمور سياسة الدولة، ولم يوجه عنايته إلى ناحية واحدة من النواحي العديدة التي يتطلبها إصلاح المجتمع، بل كان يقبل بكلتيه على كل أمر جليل أو حقير، صغير أو كبير فيرتق الفتوق، ويرأب الصدوع، ويتقن عملية المزج والتلقيح بين العناصر المختلفة، والأجناس المتباينة، ولقد خص الأندلس قبل المغرب برعايته وحمايته، وعرف ما لأهلها من فضل ويد في تقدم المعارف العامة، واستخلص منهم صفوة الصفوة، واختص بعلمائهم، وقربهم من مجلسه، وجعلهم بطانته وأهل مشورته، فأفاد ذلك المغرب والمغاربة كثيراً.
ولا نريد أن نطيل بالكلام على ما عمله أعقاب عبد المؤمن في هذا الصدد، فما جئنا بنموذج مما عمله هو، إلا ليكون نموذجاً عاماً عن جميع أعمال أعقابه، خصوصاً وقد تتبعوا خطاه، وترسموا آثاره في ذلك، ومن لم يزد منهم على ما عمله هو في البر
بالعلماء والعلم، لم يقصر عنه أصلاً، غير أن تأثير هذه السياسة التعليمية لم يبلغ من القوة في زمنه، بحيث تظهر نتائجه لكل إنسان، ما بلغ في زمن يوسف ابنه، ويعقوب حفيده، ومن بعدهما، إذ قد ازهر غرس عبد المؤمن وأثمر، بتعهد أبنائه له بالسقي والري، فتفتحت الأفكار، وتنورت العقول، واتسعت المدارك، وبلغ الشعب المغربي إلى درجة عالية من الثقافة العالمية، حتى لقد استجلى المنصور ذلك، وأصبح مضطرة إلى عدم الاستمرار في مغالطة الشعب الناهض ببعض التعاليم والشعائر، التي أتت بها دولتهم، وكانت الغاية منها سياسة محضة المهدوية وعصمة الإمام؛ فتقدم بإلغائها إلى الشعب الذي قابلها بمزيد الحماس، لما كان باقياً على سذاجته، ونبذها نبذ النواة، لما حصحص الحق وتبين الصبح لذي عينين. على أن الغريب في أمر هذه الدولة التي رأينا ما بذلته من جهود في خدمة الثقافة الإسلامية العربية، ونقل الشعب المغربي من حضيض الجهل والجمود إلى أوج المدنية والعرفان، هو اعتناؤها الزائد باللغة البربرية، وعدم نسيانها لها، حتى بعد استقامة أمرها ونجاح مطلبها، فلقد بلغ من محافظتها عليها، وتكريمها لأهلها أن حظرت الوظائف الدينية على من لا يحسن التعبير بها، بل عزلت الخطباء، وخطيب القرويين نفسه من الذين ليسوا ببربر أو ليسوا من يتكلمون البربرية، ثم ولست مكانهم من يضطلع بالمهمة المزدوجة، وينطق اللغتين) (1) معاً.
والحق أن هذا تصرف غريب، وفي منتهى الغرابة، يجعلنا نقف أمامه حائرين مشدوهين، لا نعرف سبيلاً إلى التوفيق بينه وبين ما قدمناه من سعر الدولة على تعميم نشر العلم والثقافة العربية.
أما المؤرخون، فلم يذكروا لنا السبب الحامل على هذه السياسة الرجعية التي
(1) أشار صاحب القر طاس إلى هذا الإجراء في موضعين من كتابه، أثناء كلامه على بناء القرويين حيث قال:«فلا دخل الموحدون المدينة يعني فاساً، بدلت أحوال بأحوال، ورجال برجال، وبدل الخطباء والأئمة بجميع البلاد، فكان لا يؤم إلا من يحفظ التوحيد بلدان البربر» . وأثناء الكلام على خطباء القرويين حيث ذكر أنه لما دخلوا فاساً عزلوا خطيب القرويين أبا محمد مهدي ابن عيسى، وقدموا مكانه الفقيه أبا الحسن بن عطية «لأجل حفظه اللسان البربري لأنهم كانوا لا يقدمون للخطابة والإمامة الأمن يحفظ التوحيد باللسان البربري» ولم يشر إلى هذا الأمر في أثناء كلامه على الدولة الموحدية.
سلكتها الدولة بإزاء رجال الدين العرب ولا كيف كان تأثيرها في نفوس هؤلاء، وفي نفوس الجماهير الشعبية، وخاصة في كبريات المدن كفاس ومراكش وسبتة وطنجة، والى أي مدى بلغ انتشارها وكان نجاحها؟
وأما نحن فنستطيع أن نقول في قليل من التردد والحذر، إنه ربما كانت هذه السياسة من تقليد الموحدين الأعمى لابن تومرت، واقتداهم به في إلقائه دروسه بالعربية والبربرية، وكتابته تأليفه باللغتين؛ فإن يكن ذلك كما قلنا، فإنه من الأغلاط الفادحة، والأخطاء الفاحشة. وعجيب صدوره من عبد المؤمن العارف بمقتضيات الأحوال، ومناسبات الأمور إذ أن الظروف الزمانية والمكانية التي اضطرت المهدي إلى ذلك، هي غير الظروف التي قامت فيها دولة عبد المؤمن وتمركزت.
فإن تومرت كان مفتقراً إلى حماية البربر له، ومضطراً إلى مصانعتهم لمساعدته في القيام بنشر دعوته، وهو مع ذلك قد بث العربية في تلك الأوساط البربرية البحت، وارتكب أعجب الأساليب في تلقينها لمن يجهلونها (1).
ولم يستعمل البربرية إلا بقدر الحاجة إليها. أما عبد المؤمن فقد كان على الضد من ذلك كله، إذ كان طور التأسيس وتأليف البربر قد انتهى بالنسبة إليه، وأصبح هو وحده صاحب النفوذ المطلق في البلاد، بعد أن قضى على المرابطين، وأنشأ الدولة الموحدية باسم الدين. فلم لم يرسم لغة القرآن، ويستغني بها عن غيرها؟ ولم هذا التعصب للبربرية الذي أدى إلى تنحية رجال الدين عن وظائفهم، وإحلال أخرين ربما كانوا أقل منهم علماً وإخلاصاً في محلهم؟ لا نرى ما يسوغ لعبد المؤمن هذا التصرف الغريب، اللهم ألا أن يكون باعثه عليه أحد أمرين كلاهما يرجح الآخر:
1 -
فإما أن يكون مراده تحدي العرب بذلك، ليتوسل إلى أبعادهم عن
(1) من ذلك فيما حكى المؤرخون، أن طائفة من المصامدة عسر عليهم حفظ الفاتحة لشدة عجمتهم فعدد كلمات أم القرآن، ولقب بكل كلمة منها رجلاً منهم، وصفهم صفاً، وقال لأولهم: اسمك الحمد لله، والثاني رب العالمين وهكذا حتى تمت كلمات الفاتحة، ثم قال لهم: لا يقبل الله منكم صلاة حتى تجمعوا هذه الأسماء على نسقها في كل ركعة، فسهل عليهم الأمر، وحفظوا أم القرآن.
مواقف الزعامة الدينية، ومواطن قيادة الفكر العام خوفاً من انتقادهم عليه في يوم ما، ونبذهم طاعته بالعراء كما حدث بالفعل في أيامه الأولى، فقد ثاروا ضده مرتين، مرة في سلا بقيادة ابن هود، ومرة في سبتة بقيادة القاضي عياض. ولا نرتاب في أن ثورة ابن هود كانت سياسية محضة، لاتباعه خطة المهدي حذو القذة بالقذة، أملاً في النجاح الذي حصل للمهدي، وقد ساعده الحظ في أول الأمر، وكتب له النصر في جميع المواقع حتى كاد يتغلب على جميع مملكة عبد المؤمن الشاسعة.
ويقول ابن أبي زرع: أنه لم يبق بيد عبد المؤمن إلا مراكش فقط، إلا إن صاحب الحلل الموشية قال: إن فاساً بقيت معه كذلك. ثم دارت عليه الدائرة، وتمكن عبد المؤمن من إخماد ثورته ورجع الأمر إلى نصابه.
وأما ثورة القاضي عياض، فقد كانت مزيجة بين دينية وسياسية، ولكنها دينية أكثر منها سياسية، إذ أن أهل سبتة، قاوموا الموحدين أو نزوعاً منهم عن الخضوع السلطة بدعية تعتقد في الإمام، والعصمة، ما ينكره أهل السنة الذين كان عياض من زعمائهم، فهذه وجهة نظر عياض ومن كان معه من العلماء السنيين أيضاً ولكن لما سقطت كل البلاد المغربية في حوزة الموحدين، لم يبق لهم إلا التسليم طوعاً أو كرهاً، وهو الذي كان، ثم لما حدثت ثورة ابن هود، اغتنم القوم الفرصة، فأعادوا الكرة استينافاً لتأييد رأيهم الأول، وتحدياً لسلطة الموحدين التي رأوا منها انحرافاً ظاهراً عنهم، ولربما اشتموا منها رائحة الغدر بهم، وقد اضطروا أخيراً إلى التسليم أيضا، وتشتت شمل القائمين بالثورة، وتربص ببعضهم حتى توفي حتف أنفه.
2 -
وإما أن يكون أراد استرضاء البربر بذلك، واستبقاءهم على حالهم الأول، إذ كان قد تقرر عندهم أنهم أهل التوحيد الحق، والإسلام الصحيح، وغيرهم مبتدعة ومقلدون، لا يصح الاقتداء بهم كما لا يصح أن يقفوا مواقف الوعظ والإرشاد لئلا يضلوا العامة، وينحرفوا بهم عن مذهب الدولة، فهو قد اتخذهم تكأة يستند إليها في إقامة سلطانه ببث المذهب المهدوي الإمامي في الناس.
ومعلوم إن ليس من يقرره للعامة، ويبينه لهم إلا البربر الذين تلقوه عن صاحبه مباشرة إذ كانت أكثرية الرعية وجل أهل العلم، إن لم نقل كلهم في البلاد سنيين، لا يرضون بالدخول في ذلك المذهب، فأحرى أن يقوموا بالدعاية له.
هذا أو ذاك هو ما يكون الحامل لعبد المؤمن على سلوك هذه السياسة الرجعية كما حبب إلينا أن نسميها، ولئن كنا لا نعرف متى توقف العمل بها، فإننا نعرف أن حظها في النجاح كان قليلاً جداً، إذ لم يكن لها تأثير ما في ناحية من نواحي النهضة الأدبية المستجدة في ذلك العهد، إما لحصرها في دائرة مخصوصة، وهي الدعاية الدينية كما علمت؛ وإما لأن الموحدين أنفسهم كانوا لا يساعدون تقدمها في السر، وإن ساعدوها في العلانية، فلذلك لا خوف على العربية ما دامت دائرة انتشار البربرية محصورة، لم تشمل من المرافق العامة، والمصالح المشتركة سوى ما ذكر؛ زد على ذلك أن الأغلبية التي لا تغالب عربية، فهي لا تتأثر بهذه الشرذمة القليلة من الدعاة البربريين، كما أن أهل الكفاءة والاستعداد الذين احتلوا المناصب الرفيعة والمراتب العالية في الدولة بالرغم عنها، وبحكم مساس الحاجة إلى مؤهلاتهم العلمية ومواهبهم العقلية، كلهم عرب مغاربة وأندلسيون، فلا خوف على ما كان أولئك القادة حاميته وذادته. وهكذا لم يلبثوا أن صبغوا الدولة بالصبغة العربية، وطبعوها بطابعهم الصميم.