الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سياسة الدولة
هذه ثانية دولة عربية صريحة قامت في المغرب بعد الأدارسة، بل ثانية دولة علوية بقطع النظر عما أرجف به خصومها من الطعن في نسبها. وهي لم تستند في قيامها إلى مهدوية ولا إلى عصبية، وإنما من أول الأمر كان نهوضها التحقيق أمنية وطنية، هي تنظيم القوات الجهادية وقيادتها لطرد الأجانب المحتلين لشواطئ البلاد وذلك بطلب من المجاهدين أنفسهم، فأشبهت في هذا الأمر الدولة الإدريسية من حيث كونها مطلوبة لا طالبة، وكون نهضتها سياسية من أول الأمر لم تموه بشيء من الدعاوى الكاذبة؛ وكون القائمين بنصرتها والمنضوين تحت لوائها هم البربر الذين قاموا بنصرة الأدارسة من قبل، وانضووا تحت لوائهم. والعجيب هو أنهم نصروهم على دولة بني وطاس البربرية، فلم ينظروا إلى ما تقتضيه عصبية النسب واللغة والقومية من الاحتماء لهم والدفاع عن سلطانهم أن يزول، وفي زواله فشل أمرهم وذهاب ريحهم؛ لكنها كانت زاغت عن الصراط المستقيم واشتغلت بالتهالك على طلب السلطة، وظنت الملك هو هذه المواكب التي يظهرون فيها بمظاهر الفخفخة والاختبال، من غير نظر في مصالح الرعية ولا اهتمام بتحصين البلاد من هجمات العدو. فسرعان ما اختلت الأمور، وتعرضت الأمة لشقاء الاحتلال وتحكم الأجنبي فيها فكثرت إغارة البرتغاليين على الشواطئ واحتلوا منها ما احتلوا وأخذوا يعدون العدة لضم أطراف المغرب بعضها إلى بعض، وتمثيل مأساة عام 1912 في 1512، فكيف لا يتحد البربر والعرب على رفع هذا العار عنهم وتلافي الخطر المحيق بهم؟ وبعد فهل تريد دليلاً أقوى من هذا على صحة إسلام البربر وصدق إيمانهم وتغلغل الروح الديني والتعاليم المحمدية في نفوسهم، حيث غلبوا الرابطة الدينية على العصبية الجنسية والأخوة الإسلامية على النعرة القومية، فدلوا بذلك على اتحادهم مع العرب وائتلافهم بهم اتحاد الروح مع الجسم وائتلاف اليمين بالشمال؟ اللهم إن من يزعم غير ذلك، ويكابر في هذه الحقيقة الملموسة فإنما غرضة السعاية وبث سموم البغضاء بين ذوي القرابات الوشيجة والأرحام المشتبكة.
دبت عوامل الانحلال في جسم الدولة الوطاسية وأخذ الضعف منها مأخذاً عظيماً فقصرت سلطتها على حواضر المغرب، ولم يبق لها نفوذ فيما عداها من البلاد النائية، والقبائل العاتية. وقد استنفذ مجهودها واستفرغ قوتها ما كان قائماً بين أفرادها من التنازع على نيل السلطة والاستبداد بصولجان الملك، ثم ما كانت تعانيه من قتال العدو المحتل بالثغور، وخصوصاً القريبة من عاصمة الدولة فاس؛ فلم يكن لديها قوة كافية تمكنها من القيام بدور حاسم في السواحل السوسية البعيدة حيث طغي سيل المستعمرين البرتغاليين، لما عرفوا أنهم بمنجي من طلب رجال الدولة وتعقب آثارهم، ولذلك أخذوا في بناء المعاقيل والحصون والتهيوء والاستعداد لليوم الذي له ما بعده؛ فضاق المسلمون بهم ذرعاً وغصوا بمكانهم من تلك البلاد التي هي حلق السوس وفم عاصمة الجنوب.
ورأت قبائل المصامدة المباركة ذلك فساءها أن يكون عبيدها بالأمس أسيادها اليوم، وأن تبلغ القحة بأولئك البله الأغرار إلى أن يتحدوها في بلادها، ويجرءوا على خطي أسود الشري في عرينها؛ فتقدموا إليهم بنفوس أبية وأنوف حمية. لكنهم لما كانوا يعرفون أن يد الله مع الجماعة، وأن القوة في الاتحاد، أخذوا يبحثون عن ذلك الشخص الذي يولونه قيادهم؛ فسرعان ما أرشدوا إليه فكان هو الشريف أبو عبدالله محمد القائم بأمر الله وكان مقيماً بدرعة، فبعثوا إليه فقدم عليهم. واجتمع فقهاء المصامدة وشيوخ القبائل، وبايعوه فكان هو واضع الحجر الأساسي في بناء هذه الدولة الشامخ، ولقد ساعده الحظ وكتب له الظفر فأجلى الأعداء عن أرض الوطن وزحزح قدمهم التي كانت قد رسخت فيها، فتيمن المسلمون بطلعته وتفاءلوا بطائره.
وكان له ولدان أرضعاً أفاويق النجابة والبراعة، واقتعدا أسنمة النجدة والشجاعة فدعي الناس إلى بيعة أكبرهما وهو أبو العباس أحمد الأعرج الذي دخل مراكش سنة? ? ? وحارب الوطاسيين وجاذبهم حبل السلطة في المغرب زماناً، حتى تدخل الناس في الصلح بينهما فانبرم عقده على أن يكون للأشراف السعديين من تادلة إلى السوس، وللوطاسيين من تادلة إلى المغرب الأوسط. وكان الساعي في عقد هذا الصلح جماعة من العلماء والشرفاء والأعيان. ثم شالت نعامة السلطان أبي العباس الأعرج ونهض أخوه أبو عبدالله محمد الشيخ المهدي، وكان شهماً ذكياً عالي
الهمة، رفيع القدر، عالماً متفنناً، أديباً أريحياً سياسياً محنكاً، فذلل الصعاب وسنى العقاب، وتغلب بطول أمله وحسن مصابرته للأمور على جميع المشاق، وكان يقول:«ينبغي للملك أن يكون طويل الأمل، فإن طول الأمل لا يحسن إلا منه، لأن الرعية تصلح به» فمهد البلاد وأخضع العباد ودخل فاس سنة? 5? وأجلى منها آخر ملوك بني وطاس. ثم قضى عليه بعد ذلك وعلى دولته فصفا له ملك المغرب من أقصاه إلى أقصاه؛ فقعد قواعده وشاد مبانيه، وأحيي مراسم السلطنة الدارسة، ومعالمها الطامسة، وكانت سيرته وسياسته كلها مثال الحزم والضبط ودليل الحكمة والاقتدار.
ثم تلاه ابنه عبدالله الغالب فاقتفى أثره في حسن السيرة، وكان محبوباً من الشعب بجميع طبقاته. ونشطت الحركة الاقتصادية في زمانه، وكثر البنيان، واستبحر العمران، وكانت أيامه كلها أيام دعة وأمن ورخاء وعافية، ولما توفي قام على العرش ولده محمد، وكان الغالب أخوان تغرباً بالجزائر مدة توليته الملك خوفاً على أنفسهما منه، وهما الغازي أبو مروان عبد الملك المعتصم بالله، وأبو العباس أحمد المنصور الذهبي. فحين سمعا بوفاة أخيهما واستيلاء ابنه على الملك، وانتزاعه تراث أبيها من أيديها، لم يرضيا بالدنية، ووثبا وثبة الأسد الهصور؛ فلم يهدأ لهما بال حتى دبرا بينهما خطة الدفاع عن حقها المغتصب؛ فسافر الغازي أبو مروان إلى القسطنطينية العظمى ومثل بين يدي السلطان سليم الثاني وطلب إليه أن يمده بجيش يدخل معه المغرب فينتزع الملك من ابن أخيه، فلم يجبه إلى طلبه لاشتغاله بأمر تونس التي كان الأسبان يهاجمونها في ذلك الحين. فبقي هناك حتى جهز السلطان حملة سنان باشا التي انتزعت تونس من أيدي الأسبان فصحبها أبو مروان وأبلى فيها بلاء حسناً، ثم كان هو أول من أبلغ بشارة الفتح إلى السلطان فجازاه على ذلك بأن أمر كتيبة من الجيش التركي الجزائري يبلغ عددها أربعة آلاف رجل، فدخلت معه إلى المغرب بعد أن اشترطت عليه أن يعطيها عشرة آلاف عن كل مرحلة.
وما إن شارف فاس حتى خرج إليه ابن أخيه، لكن جيش هذا انضم إلى عمه. وكان الغازي يكاتب القواد والوزراء أيام مقامه بالجزائر ويعدهم ويمنيهم. فلما جاء كانوا كلهم على هواه، فانقادوا إليه، وهكذا رجع الملك إلى نصابه
فاستقل به أبو مروان ناهضاً بأعبائه، مضطلع بشؤونه، وكانت تلك المدة التي قضاها مشرداً عن بلاده ووطنه قد عملت عملها في تنشئته وتدريبه على السعي المحمود والعمل النافع. كما أن تحولاته ومشاهداته قد أكسبته خبرة واسعة بجميع الشؤون، ودربة سياسية نادرة، فأدخل عدة إصلاحات مهمة على الإدارة والسياسة، أهمها ما كان مختصاً بتنظيم الحربية، حيث اقتبس سائر نظم الجندية العثمانية. وسار بالجند المغربي في سبيلها حتى بلغ النهاية، فلم تحل واقعة وادي المخازن حتى كان لديه جيش منظم مدرب على أصول الحربية الفنية يندر وجود مثله في ذلك الحين عند المالك المعادية كالإسبان والبرتغال، وهما إذا ذاك من أعظم شعوب أوربا قوة وأمضاهم شوكة.
وقد شاهدنا نتيجة هذا الإصلاح العملي للجيش في قهره أكثر من مائة ألف جندي أراد ملك البرتغال أن يستذل بهم المغرب ويخضعه لحكمه؛ فساء فاله، وخاب أمله، وكان الباحث عن حتفه بظلفه، والجاذع مارن أنفه بكفه؛ إذ وقع متردياً في هاوية البوار، وباء هو وجيوشه الكثيفة بالدمار، وذلك في واقعة وادي المخازن الشهيرة التي جرت يوم الاثنين منسلخ جمادى الأولى سنة? ? 6.
نعم شاهدنا هذه النتيجة السارة، وان لم يكتب لبطلها العظيم أن يشاهدها مع الأسف حيث أنه توفي أثناء المعركة محموماً. لكنا نؤمن أنه ما أغمض عينيه حتى أغمضها عن يقين ثابت، واعتقاد راسخ بالنصر والغلبة، حيث عرف أنه قد بني وأحسن البناء فاطمأن قلبه، وهدأ روعه، وصعدت روحه إلى الملأ الأعلى تشرف من برزخها على ميدان القتال، وتبارك المجاهدين وتستقبل أرواح الشهداء في عليين.
ولما انكشفت الموقعة عن اندحار العدو وانكساره، نظر الناس فوجدوا سلطانهم قد توفي، فما كان بأسرع منهم إلى بيعة أخيه وخليفته ورفيقه في غربته السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذهبي. وإنه ليوم عظيم وعيد فخم حيث خرج الناس من الموقعة وهم سكارى بنشوة النصر. وزاد فرحتهم انتصاب هذا الملك الهمام على عرش آبائه الكرام لما كانوا يعرفونه من نجدته وشجاعته،
وجوده وحلمه وأخلاقه العالية التي لا يمكن تعدادها هنا، فناهيك به من يوم اجتمعت فيه أسباب الفرح، وغابت عنه موجبات الترح.
وماذا أحدثك بعد عن سيرة هذا السلطان وما بلغه المغرب في أيامه السعيدة من القوة والعظمة والحضارة والرقي والرفاهية والعمران? لقد كان المنصور بحق واسطة عقد الملوك السعديين، وقد رأيت أنه لم يكن فيهم إلا فاضل ابن فاضل، ومن ينشد مع القائل:
إذا سيّدُ منا خلا قام سيد
…
قؤول لما قال الكرام فعول
فالمنصور كان عالماً إلى درجة الاجتهاد، وإلى أن جزم علماء عصره بأنه المجدد في القرن العاشر. وكان أديباً شاعراً كاتباً سابق فحول الصناعتين من أدباء دولته، وكان سياسياً محنكاً وقائداً شجاعاً وإدارياً منظماً ومصلحاً اجتماعياً كبيراً. وبالجملة فلقد اجتمعت فيه أوصاف الزعامة وأشراط الإمامة، حتى لقد كان دماغ الأمة المفكر وقلبها النابض ويدها العاملة.
يكفيك أن تنظر إلى مشاريعه العظام ومآتيه الجسام؛ فمن فتح السودان وتوات وتيكرارين، حتى أصبحت الصحراء الأفريقية كلها في قبضة يده وتحت تصرفه؛ فاتسعت دائرة نفوذه إلى ما لم يبلغه قبله في هذه الجهة سلطان واكتسبت المغرب بذلك جلالة قدر ورفعة شأن، وجعل يتقلب في النعماء كيف شاء؛ إذ لا يخفى أن هذه البلاد الشاسعة كانت تحتوي على منابع الثروة الطائلة، وكنوز الغنى الوافر؛ فقد كان الذهب يُجبي إليه منها بالأعمال، وكان في دار سكة المنصور أربع عشرة مائة مطرقة كل يوم تضرب الدينار الوهاج، وهذا غير المصوغات والحلي، ولذلك سمي المنصور الذهبي- إلى إحيائه سُنّة المشورة وجعله الحكومة شرعية أشبه شيء بالحكومات الدستورية النيابية، وذلك بفتحه للديوان الشوري الذي كان يعقد مجالسه كل يوم أربعاء من الأسبوع، ويحضره وجوه الأمة وسراتها فيتفاوضون في شؤون المملكة وتدبير سياستها، فلا يقطع في أمر بدون أن يعرف رأي الأمة فيه- إلى بنائه للقصور التاريخية العظيمة كالبديع، وغير القصور من الحصون والجسور- إلى إعادته تنظيم الجند من جديد
موفقاً بين النظام المستعجم الذي جنح له أخوه المعتصم، وكرهه الناس وقوفاً مع العوائد، والنظام العربي الذي كان قبله؛ فجاء في غاية ما يكون من النظام والترتيب. وسيأتي وصفه في قصائد شعرائه في قسم المنظوم- إلى تنشيطه للصنائع الوطنية بأنواعها وإدخال ما لم يكن معروفاً منها قبل، وتعضيده للفلاحة الذي أتي بأحسن النتائج، حتى في أنواع المزروعات التي لم يسبق للبلاد بها عهد، كقصب السكر الذي نجحت زراعته نجاحاً كبيراً، مما أدى إلى إنشائه لمعاصر السكر العديدة في بلاد سوس ومراكش والغرب، حتى كثرت هذه المادة الضرورية بالمغرب ولم يبق لها ثمن، فكانت أكثر صادراته إلى أوروبا وغيرها. وكان يبادل الإيطاليين بها الرخام- إلى غير ذلك مما يطول تتبعه.
ولا يمكننا أن نأتي في هذه النبذة على وصف ضخامة ملك أبي العباس المنصور وحسن سيرته، وإنما حسبنا أننا أشرنا إلى لمع من ذلك. ويقال بالجملة إن أيامه كانت غرة في جبين التاريخ المغربي، وإن الدولة السعدية لو لم تنجب إلا إياه لكفاها فخراً. على أن الدهر الخؤون لم يلبث أن أعلن حربه عليها بعد وفاة المنصور فتردت من ذلك العلو الشاهق إلى الحضيض الأسفل.
ومن السخف أن يحاول الإنسان الكلام على حياة هذه الدولة بعد وفاة المنصور وإن امتدت إلى حين. وكذلك نحن ننتهي هنا، وفي اعتقادنا أننا أعطينا القارئ صورة مصغرة من سياسة هذه الدولة وسيرتها في رعيتها التي أولتها قيادها وسلمت لها أمرها عن رضى وطيب خاطر منها؛ فلم تخيب فيها ظنها، وأتت بما يتناسب مع طيب عنصرها وشرف أصلها، إلا ما كان من أفراد قليلين لا يمكن أن يؤخذ الأبرياء بذنبهم، وهم فوق ذلك شبان أغرار لم يصدروا في شيء من أعمالهم عن خبث نية أو سوء قصد.