الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظاهرة التي عمّت فأعمت، وهي ظاهرة الاختصار والتعمق فيه التي أشرنا في العصر السابق إلى مضارها الجسيمة، حتى أفضى الأمر إلى أن أصبحت العلوم في حالة من الغموض والإبهام تصد عنها كثيراً من الطلاب. وهذا الأمر إن لم يكن أخرها كثيراً، فقد عاقها عن التقدم والانتشار طوال المدة التي بقيت فيها قيد الإنشاء والإعادة.
العلوم الشرعية:
ويقال بالجملة أن العلوم الشرعية كالفقه والحديث والتفسير قد كانت منتشرة بكثرة على نسبة ترتيبها هذا، الذي ذكرناه؛ وإنما الذي ظهرت عليه آثار التحول هو الفقه، فالغالب أن كتبه التي كانت مستعملة في العصر المريني قد اطرحت الآن ولم يبق منها إلا القليل، وأخذت كتبٌ أُخر مختصرة عوضاً عنها وظهر نشاط كثير وتنافس في شرح هذه المختصرات والتعليق عليها.
وإن ننس لا ننس ما جد في هذا العصر من كثرة الإقبال على علوم القراءة وشدة العناية بها، حتى لقد تخصص بها علماء كثيرون لا يزاولون غيرها من العلوم، كما شارك فيها سائر العلماء، بل كان وصف العالمية لا يكمل إلا بها. ويمكننا أن نقول إن هذا كان عصرها الذهبي في إفريقية كلها، الذي بلغت فيه إلى أوج الكمال. وحسبك دليلاً أن وقف القرآن الذي وقع الإجماع عليه وجرى العمل به في المغرب منذ ذلك الوقت إلى الآن، إنما وضع في هذا العصر وكان واضعه هو الأستاذ الصماتي.
أما الكلام فقد قامت له أيضاً دولته، إذ وجد ما حفز الهمم للاشتغال به، وهو تلك المناظرة العنيفة التي قامت بين الشيخين الخرُّوبي واليسيثني أولاً، وبين هذا الثاني والشيخ الهبطي ثانياً، في مسألة الهيللة، هل الحق سبحانه وتعالى مما يدخل في النفي بلا، وهل تنتفي بها ألوهية الصنم وغيره مما عُبد من دونه باطلاً أم لا? وقد استمرت هذه المناظرة زماناً طويلاً وثار بسببها شرّ كبير بين العلماء حتى تدخل السلطان نفسه فيها ولم يُجدِ ذلك شيئاً. وبقيت المسألة على حالها إلى أن تأدّت إلى العصر العلوي، فلم تعدم من يروجها من الطلبة. ثم تصدى لها
أبو علي اليوسي فلم يترك مقالاً لقائل على عادته، وقطعت جهيزة قول كل خطيب.
ولم تكن هذه المناظرة هي الوحيدة من نوعها فقد قامت بين اليسيثني أيضاً، والشيخ عبد الوهاب الزقاق مناظرة أخرى في مسألة خلف الوعد من الله تعالى، فقال الزقاق أن ذلك يصح منه، وخالفه اليسيثني. وألف كل منهما في المسألة منتصراً لرأيه، مما يدل على زيادة اعتنائهم بهذا العلم وكثرة اشتغالهم به.
وأما التصوّف فقد كان طغى عليه سيل التدليس والتلبس، فقيض الله له مثل ابن خجو والهبطي، فهذباه ونقحاه. وكان الشيخ أبو العباس الصومعي، حامل رايته علماً وعملاً، ومن لم يستغل مقامه وجاهه ولا استغله أحد على كثرة هذا الصنف في المتصوفة بهذا العصر.
هذا ما يرجع إلى علوم الشريعة. وأما علوم الأدب فالنحو بالخصوص مما ظهر عليه أثر التحول جليّاً واضحاً، فاقتصر طلابه على اثنين أو ثلاثة من الكتب المختصرة أو المنظومة لا يجاوزونها إلى غيرها أبداً، وقد نشط العلماء في شرح هذه الكتب والتعليق عليها نشاطاً لا مزيد فوقه.
وأما علوم البلاغة فإنها كانت نافقة جداً، إلا أن أثرها في الألفاظ كان أقوى منه في المعاني، وعلى الأخص عند بعض الأدباء الذين شغفوا بالبديع فأكثروا منه إلى حد الإغراب. وقد كان على رأسهم المنصور الذهبي الذي هو في ملوك المغرب كابن المعتز في ملوك المشرق إلا أن هذا لم تدركه حرفة الأدب كما أدركت سلفه.
وأما علم التاريخ فهو الوحيد من علوم الأدب الذي ازدهر في هذا العصر ازدهاراً كبيراً إذ رزق رجالاً أكفاء انصرفوا لخدمته ووجهوا اهتمامهم إليه، وبالخصوص تاريخ السعدييّن الذي لولا هذه العناية لظل محجوباً عن الباحثين، كتاريخ الوطاسيين قبله، محاطاً بالغموض الذي يحوج المؤرخ إلى الرجم بالظنون وافتراض الفروض ولعل هذا الاهتمام كان منشأه تعضيد الأشراف السعديّين للمؤرخين وعلى الأخص المنصور الذي اجتمع في بلاطه عدد كبير منهم كالعلامة المقرّي صاحب نفح الطيب وأزهار الرياض وغيرهما وأبي العباس بن القاضي وعبد العزيز الفشتالي ومحمد بن علي