الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى ذكر المؤرخين، لا ننسى الرحالين وبينهم وبين المؤرخين ارتباط كبير. ففي هذا العصر كان ابن بطوطة ذلك الرجل العصامي الذي بقي متجوّلاً في أطراف الكرة الأرضية أكثر من عشرين سنة وعاد إلى بلاده متوَّجاً بإكليل الغار. وفيه كان ابنُ رشيد صاحب رحلة مِلءِ العَيْبة، والعبْدري صاحب الرحلة الشهيرة وغيرهم.
وبالجملة فجميع الفنون الأدبية قد ازدهرت في هذا العصر أيّما ازدهار، ولا خصوصية بذلك لما ذكرنا؛ فان غيره مثله، وما طوينا ما طوينا إلا لاندراجه تحت المذكور، ولقصدنا إلى الاختصار. وفي جدول الكتب المؤلفة في هذا العصر بلاغ للمستزيد.
* * *
العلوم الكونية:
وأما العلوم الكونية، فقد تفهم أن نهضة الفقه قضت عليها وعاقت انتشارها لِما عُلمَ من تخاصم أهلها وتطاول من أُديل منهما على من دال بحكم قاعدة من عَزَّبَزَّ. ولكنَّ ذلك كان قبل نبوغ ابن رُشد الذي حمل راية الفقه باليمين، وراية الفلسفة بالشمال، فكان إماماً فيهما معترفاً بتقدمه من الجانبين كليهما، نعم هي وإن لم يقف انتشارها فلم يعُمَّ كما كان في العصر السابق، أو قُل إن وجهة الناس لم تبق مصروفة إلى كل مباحثها وأصولها وفروعها كما كانت من قبل، بل وقع الاقتصار على ما كانت حاجة الأمة ماسة إليه ومتعلقة به من فروع العلوم الرياضية والطب والكيمياء وما إلى ذلك، فإن هذه كانت تستفرغ مجهود الباحثين من علماء هذا العصر الذين توفروا على دراستها وتحقيقها، حتى بلغوا في ذلك شأواً بعيداً. على أننا نرى أن الذي كان يعوز هذه العلوم لتطفر طفرة أخرى مثل ما حصل لها أيام الموحدين، هو تأييد الدولة، وقيام مَلكٍ محب للفلسفة، كيوسف بن عبد المؤمن، يقرّب أهلها ويرفع من قدرهم فيرتفع شأنها ويطرّد نموها، وإلا فقد كان هناك رجال ممن شاركوا في جميع فروع التعاليم، ومنها الفلسفة، ينتصبون للتعليم ويأخذ الناس عنهم معارفهم المنوعة، ومنهم بسبتة أبو عبدالله محمد بن هلال إمام التعاليم وشارح المجسطي في الهيئة، أخذ عنه ابن النجار التلمساني، وكان مبرزاً في سائر التعاليم. ومنهم بفاس خلوف المغيلي اليهودي، اختفى عنده العلامة الآبلي لما أكرهه صاحب تلمسان على العمل؛ ففرّ إلى فاس ولازم شيخ التعاليم المذكور، فأخذ عنه فنونها
ومهر فيها، ثم لحق بمرَّاكش فنزل على ابن البناء ولازمه فتضلع عنه في علم المعقول والتعاليم والحكمة، ورجع إلى فاس فانثال عليه طلبة العلم، وانتشر علمه بكل مكان.
إنما الذي لا مرية فيه أن معظم النشاط العلمي في هذا العصر كان منصرفاً إلى الرياضيات من حساب وجبر وهندسة وفلك، والنابغون فيها كانوا أكثر من غيرهم، وكان على رأسهم الإمام أبو العباس بن البناء العددي ذلك الفلكي المشهور، والحاسب المعروف الذي بذَّ أهل عصره ومن بعدهم بكثرة تحقيقه وطول باعه في العلوم الرياضية والإسلامية جمعاء؛ فحسب الآتين بعده، أن يقتصروا على كتبه وما خلفه من تراث علميٍّ طائل. فكان حاسباً عددياً لا ينافسه في هذا أحد كما أقر له بذلك فطاحل أهل العلم من معاصريه، وكان فلكياً بارعاً أتى بتحقيقات عديدة خالف بها كثيراً ما تقارَ عليه أهل الفن قبله. ولا ريب فإنه كان مفكراً جباراً لا يؤمن إلا بما يهديه إليه فكره بعد البحث الدقيق، والاستنتاج الصحيح. وقد خلف أكثر من مائة كتاب كلها مثال التحرير والإتقان، وشهد ابن خلدون لكتبه الحسابية بالجودة، وبها كانت الدراسة في عصر ابن خلدون.
وكان هنالك أيضاً الجاديري الفلكي البارع، صاحب الروضة التي شرحت شروح عديدة، وكانت بها الدراسة في المعهد القروي. وهذا الفاضل، له أيضاً عدة أبحاث خالف بها المتقدمين من أهل هذا الفن.
وحبذا لو أن أهل الإخصاء من أبناء جلدتنا تجرَّدوا لبحث آثار أسلافهم هذه، والمقارنة بينها وبين آثار المحدثين من علماء الغرب، إذن لوجدوا كثيراً من النظريات التي يفخر هؤلاء بالاهتداء إليها أوَّلُ. وهي من نتيجة جهود أولئك الأسلاف.
وكان هناك السطّي صاحبُ جداول الحوفي في الفرائض التي دل بها على حسن نظره في الحساب والرياضيات. وأبو زيد اللجائي، وكان له باع طويل في الهندسة والحساب والهيئة، وله آلة فلكية تذكر في ترجمته، وغير هؤلاء كثير ممن نبغ في هذه العلوم وألف فيها التآليف المفيدة.
وفي خصوص الطب نبغ أبو الحسن علي بن الشيخ الطبيب بن أبي الحسن علي العَنسي المراكشي، وربما كان ولداً أو حفيداً للرياضي الكبير الحسن المراكشي الذي سبق ذكره في العصر الموحدي لأنه اختلف في اسمه: فمنهم من ذكره باسم الحسن ومنهم من ذكره باسم أبي الحسن؛ فيكون هو جدّ هذا. وله نظمٌ من مجزوّ الرجز في الأنكحة وصفاتها وما يطلب أو يتجنب فيها، والأمراض السرية وعلاجها وطبائع النساء وما يحمد أو يذمُّ منهن، وضعه برسم خزانة السلطان أبي الحسن المريني. وربما كان مشاركاً في غير الطب من العلوم الكونية، ولكننا لم نقف له إلا على هذا الأثر. وفي الطب والكيماء القديمة والعلوم العقلية من الفلسفة والتعاليم نبغ أبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي الشاعر الكاتب. قال ابن خلدون:«نظمه السلطان أبو سعيد المريني في جملة الكتاب، وأجرى عليه رزق الأطباء لتقدمه فيه، فكان كاتبه وطبيبه، وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده.»
وترجم في كتاب بُلغَة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة من مدرّس وأستاذ وطبيب سبعة أطباء فيهم امرأة قائلاً: وقد كان بسبتة في هذه الطبقة جماعة من الأطباء والشجّارين- لعله يريد العشّابين- سوى من ذكرناه، لم يبلغوا في العلم والمكانة مبلغ هؤلاء تركت ذكرهم. . فإذا كان هذا عدد الأطباء العلماء في بلدة واحدة هي سبتة، فماذا يكون عددهم في بقية المدن وخاصة العواصم كفاس ومراكش، لا شك أن هذه الطبقة من العلماء الطبيعيّين والرياضيين والفلاسفة، ضاعت تراجم الكثير منهم، وضاعت بالتالي أعمالهم العلمية من كتب ونظريات وتجارب. ومعالم الحضارة المغربية الباقية عن هذا العصر وغيره من العصور تنطق بأنها حضارة مبنية على أسس علمية وفنية متينة. ولئن كان ملوك بني مرين قد قصّروا في حماية علم الفلسفة ومد اليد إلى علماء الطبيعيات كما فعل ملوك الموحدين؛ فإنهم ناصروا الفنون الجميلة، وأخذوا بضبعها بما كان لهم من ذوق فني جميل حتى نهضت نهضتها الكبرى، ولا سيما فن العمارة والنقش والزخرفة وما إليها من الصناعات التي بلغت في هذا العصر أوج الكمال. وقد بقيت شواهد ذلك ماثلة للعيان في مباني الملوك المرينيّين من مثل مدرسة العطّارين والصفّارين والبوعنانيّة والأندلس بفاس، ومدرسة فاس الجديدة ومدارس مكناس وسلا ومراكش وغير المدارس من المساجد والزوايا والرُّبُط والقناطر وسقايات الماء في هذه المدن وغيرها
- وحكاية السلطان أبي الحسن في بناء المدرسة الجديدة بمكناس معروفة، وهي أنه لما رُفع إليه ما صُرف في بنائها استغلى ذلك، فلمّا وقف عليها وأعجبته أخذ حسابها وغرّقه في صهريجها وأنشد:
لا بَاسَ بالغالِي إذا قِيلَ حسن
…
لَيْس لما تَسْتَحْسنُ العَيْنُ ثَمَن
وتلك غاية في تخليد المآثر ليس بعدها غاية، وقد بلغ ما أنفقه على المدرسة التي بناها بغربيِّ جامع الأندلس من حضرة فاس وهو حينئذ وليُّ عهد والده أبي سعيد ما يزيدُ على مائة ألف دينار، وهي ما هي في ذلك الوقت. ومدرسة العطارين التي هي من بناء والده أبي سعيد، والمدرسة البوعنانيّة التي بناها ولده أبو عنان هما بالخصوص قطعتان خالدتان تقومان حجة على عظم النهضة الفنية في هذا العصر، وعلى ما كان لبني مرين من يد بيضاء في هذا الصدد.
وإن ننس لا ننس هنا الساعة العجيبة المنصوبة على باب المدرسة البوعنانية، فإنها كانت تُعدّ آية في دقة الصنع وحسن الوضع، وآثارها لا تزال ماثلة هنالك، وقد يكون من المفيد هنا أن ننقل لك ما ذكره ابن بطوطة في معرض مدح أبي عنان، وقد ذكر اعتناءه بجبل طارق ونص كلامه:«وبلغ من اهتمامه أيده الله بأمر الجبل، أن أمر ببناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور يمثل فيه شكل أسواره وأبراجه وحصونه وأبوابه ودار صنعته- التي أنشأها والده أبو الحسن- ومساجده ومخازن عُدده وأهرية زروعه وصورة الجبل وما اتصل به من التربة الحمراء؛ فصُنع ذلك بالمشوَر السّعيد (1) - بفاس- وكان شكلاً عجيباً أتقنه الصناع إتقاناً لا يعرف قدره إلا من شاهد الجبل، وشاهد هذا المثال، وما ذلك إلا لتشوّقه إلى استطلاع أحواله واهتمامه بتحصينه وإعداده.» فهذا وحده كاف في الدلالة على الرقي الذي بلغته هذه الفنون في العصر المريني. ولكنّ مزيّة هذا العصر ليست في هذا الرقي، بل في أن علماءه كلّهم مغاربة لا يمتون بسبب إلى بلاد غير المغرب، وقد كان علماء العصر السابق أعني فلاسفته جلّهم إن لم نقل كلهم
(1) يطلق المنشور في اصطلاح المغاربة على البلاط الملكي، وانظر بحثنا المعنون بعاميتنا والمعجمية في كتاب خل وبقل.