الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أهل المغرب وعامة أهل الأندلس ساعدوا حركة العصيان وناصروها في الشر والإعلان. والقبائل قد شاهدنا ما كان من رياضة المهدي لهم وتخريجهم في مدرسته؛ فلم يكونوا محتاجين إلى تجديد عهد ولا تثبيت طاعة، فسرعان ما دانت البلاد العبد المؤمن الذي فرض دعائم الدولة المرابطية ودوخ المغرب من أدناه إلى أقصاه. وسرعان ما استقرت الأحوال واستتب الأمن وعادت الأمور إلى نصابها؛ فقامت دولة الموحدين بمراكش شامخة البنيان رفيعة الأركان. وتم الانقلاب الموحدي العظيم في مدة لم تكن تكفي في بادئ النظر لتجهيزه فأحرى تنفيذه. والله في خلقه شؤون.
توحيد المغرب العربي
لئن كان المهدي بن تومرت هو صاحب دعوة الموحدين والقائم على دولة المرابطين والممهد للانقلاب والواضع لخطط الثورة التي اتبعت بالحرف، فإن عبد المؤمن هو رجل الدولة الذي اضطلع بتنفيذ جميع برامج الثورة والاستيلاء على مملكة المرابطين وتحقيق وحدة الشال الإفريقي، مع الحرص على تطبيق مبادئ الدعوة الموحدية في الحقلين الديني والاجتماعي بأمانة وإخلاص. ولقد صدق المهدي حين قيل له إن الموحدين قد هلكوا، وذلك في وقعة البحيرة التي جرت بينه وبين المرابطين واستأصلت معظم أصحابه، فقال: ما فعل عبد المؤمن؟ قيل: هو على جواده قد أحسن البلاء. قال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد. . .
نعم لقد كان عبد المؤمن بالنسبة لدعوة الموحدين كيوسف بن تاشفين بالنسبة لدعوة المرابطين، هو الذي أبلغها كمالها وقرطس أهدافها ونهض بأعبائها المادية والمعنوية نهوضاً تاماً، فلم يخلف ظن إمامه حين اختاره لصحبته ومعاونته على مهمته منذ لقيه أول أمره، ولا حين قال فيه هذه الكلمة ورشحه لخلافته من بعده. وهكذا لما بويع له من طرف الموحدين خرج مغيراً على بلاد تادلة ودرعة وغمارة فاستولى عليها وتسابق الناس إلى الدخول في دعوته أفواجاً، وانتقضت القبائل على المرابطين؛ مما يدل على أن التعفن السياسي كان بالغاً فيها مداه. ثم صرف عزمه لفتح بلاد المغرب
فخرج من تينمل سنة 534 في غارة طويلة دامت سبع سنين، فلم يرجع منها حتى فتح المغربين الأقصى والأوسط. وهلك علي بن يوسف وابنه تاشفين الذي ولي بعده في تلك الأثناء وألقت إليه فاس وتلمسان ومراكش بالمقاليد أواخر سنة 541 فخلصت له مملكة المرابطين في المغرب بأجمعها.
ثم بدأ يهتم بأمر الأندلس، فيما تم أن قدم عليه وفدها وهو بمراكش للبيعة سنة 542 وأرسل إليها جيشاً بقصد تمهيدها ومدافعة العدو الذي اغتنم فرصة الانقلاب الموحدي فأغار على أطراف البلاد.
وطمح إلى الاستيلاء على بقية الشمال الإفريقي. وكانت دولة بني زيزي الصنهاجيين المعروفين ببني حماد، تسيطر على القسم الشرقي منه بما فيه من ولايات جزائرية وتونسية، إلا أنها قد ضعف أمرها وتطاول عليها الثوار من عرب هلال. وعدا النورمانيون وهم إفرنج صقلية على السواحل فأخذوا صفاقس وسوسة والمهدئة، ولقي السكان منهم هولاً عظيماً، فتوجه عبد المؤمن إلى هذه الناحية سنة 546 ومهد أمرها باستيلائه على بجاية وقلعة حماد وقسنطينة. ورجع إلى المغرب، ثم عاد إليها سنة 554 بجيش جرار؛ فدخل تونس وضرب الحصار على المهدية، وهي من أمنع ما يكون، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، فتركها محاصرة براً وبحراً. ومضى يفتح طرابلس وصفاقس وسوسة، وجبال نفوسة وسائر بلاد إفريقية إلى برقة. ثم سقطت المهدية في يده أواخر السنة بعد هزيمة الأسطول الذي أتى لنجدتها.
ورجع عبد المؤمن إلى المغرب وقد ضبط أمر هذه البلاد وأصلح شأنها ولم يسترح إلا قليلاً. ثم عبر البحر إلى الأندلس سنة 556 ونزل بجبل طارق وكان قد أمر ببنائه وتحصينه، وكان يسميه جبل الفتح؛ فأقام به شهرين وأشرف منه على أحوال الأندلس، ووفد عليه قوادها وأشياخها؛ فأمر بغزو غرب الأندلس فغزي وكان الظفر فيه للمسلمين. ثم عاد إلى المغرب وأخذ في الاستعداد للجهاد؛ فأمر بإنشاء الأساطيل ونظر في استجلاب الخيل والاستكثار من أنواع السلاح والعدد. وحين كان على أتم أهبة وافاه الأجل المحتوم في جمادى الثانية سنة 558 برباط سلا. وكان أعظم أعماله بعد إرساء قواعد الدولة الجديدة هو توحيد أقطار الشمال الإفريقي، أو ما يسمى اليوم بالمغرب العربي وتكوينه منه دولة قوية زرعت الرعب في قلوب الأعداء؛
فحقق بذلك أعظم أمل لا يزال يخالج نفوس الساسة والمهتمين بمستقبل هذه البلاد، خصوصاً في العصر الحاضر، الذي أصبح شعاره قول الشاعر «وإنما العزة للكاثر» .
ولما تولى ولده يوسف سار على أثره في الحزم والتدبير وحياطة مملكته الشاسعة الأطراف، وكان له بالأندلس اهتمام خاص. جاز إليها جوازه الأول سنة 56? فاستولى على شرقيتها، وكان لم يدخل قبل في طاعتهم وحقق أمل والده في غزو أرض العدو فكانت له فيها وقائع منصورة. وأقام بالأندلس يغزو ويعمر البلاد ويشيد الآثار مدة خمس سنين، ثم رجع إلى المغرب وخرج إلى إفريقية سنة 5? 5 فتعهد نواحيها بالإصلاح والتنظيم، وعاد إلى مراكش بعد أن قضى سنتين في رحلته هذه. ثم جاز إلى الأندلس جوازه الثاني سنة 579، حيث أصيب في ساحة الشرف على أبواب مدينة شنترين وتوفي في ربيع الثاني سنة 580 وبويع هناك لولده يعقوب المنصور الذي بلغت الدولة في أيامه إلى منتهى القوة والعظمة. وكان عهده العهد الذهبي للمغرب سواء من ناحية استبحار العمران وازدهار الحضارة أو من ناحية استقرار النظام وانتشار العدالة؛ فكانت المرأة تخرج من بلاد نول فتنتهي إلى برقة وحدها، لا ترى من يعرض لها ولا من يمسها بسوء. وكان الدينار يقع من الرجل في الشارع العمومي فيبقى ملقى لا يرفعه أحد عدة أيام إلى أن يأخذه صاحبه. ويمكن القاضي الشهر وأكثر لا يجد من يحكم عليه لتناصف الناس وارتفاع مستواهم الخلقي. وكان المنصور ينظر بنفسه في المظالم، حتى إنه لينظر في قضية الدرهم والدرهمين وينصف من نفسه ويمتثل لحكم القضاة. وبقدر ما كان له من جولات مظفرة في تثبيت السلطة بأقطار إفريقية، كان لا يغفل عن القطر الأندلسي والسهر على حركة الجهاد فيه، حتى يفل من غرب العدو المستأسد على أهله. أما في إفريقية فإن أهم عمل قام به لضمان استتباب الأمن هناك هو تدبيره لأمر العرب من بني هلال الذين طالما أقلقوا راحة السكان منذ أن سراحهم الفاطميون للتشويش على ملوك بني زيري، فم ير أصلح لهم من نقلهم إلى المغرب حيث أمرهم ناحيتي الحوز والغرب، فانقطعوا عن الصحراء التي كانوا يعتصمون بها من السلطة بعد ما يعيشون في الأرض فساداً. وبذلك انحسمت مادتهم وأفادوا في تعريب الناحيتين المذكورتين وما اتصل بها من مواطن البربر.
وأما في الأندلس فإنه منذ ولي لم يفتر عن مواصلة الجهاد بنفسه وبواسطة كبار
قواد جيشه، إلا أن المعركة الكبرى التي خاضها ضد الفونس الثامن ملك قشتالة (1) كانت أجل أعماله الجهادية. وتسمى غزوة الأرك باسم الحصن الذي دارت حوله. وكانت يوم الخميس? شعبان سنة 591 وشارك فيها جيش الأندلس والعرب والموحدين وسائر قبائل المغرب فضلاً عن المتطوعة والعبيد؛ فهزم العدو هزيمة شنعاء وقتل من رجاله عدد كبير. وأما الأسرى والغنائم فشيء يفوت العد والإحصاء. وكانت هذه الواقعة أخت الزلاقة في خضد شوكة النصارى والتمكين الإسلام في أرض الأندلس إلى أمد بعيد.
وقد اشتهر إن السلطان صلاح الدين الأيوبي استنجد بيعقوب المنصور في حربه مع الصليبيين على بيت المقدس، ورجاه أن يبعث بأساطيله ليحول بينه وبين أساطيلهم المتدفقة على بلاد الشام فلم يجبه، وأن ذلك فيما يروي المؤرخون لكون صلاح الدين لم يخاطبه في رسالته بأمير المؤمنين. وهذا تعليل بارد لا نراه يتفق مع أخلاق المنصور وعلو همته وبعد نظره، وإنما الحقيقة أن صلاح الدين كان سرح مولاه قراقوش لبلاد المغرب سنة 568 ففتح طرابلس وما والاها من البلدان ووضع يده في يد العرب وابن غانية (2) وشغب كثيراً على المنصور مما سبب له متاعب جمة في بلاد إفريقية، لولاها لكان له في بلاد الأندلس فتوحات عظيمة لا تقدر بقيمة. فهذا هو السبب الحقيقي في إعراض المنصور عن نجدة صلاح الدين الذي ضربه من الخلف وأراد أن يغرر به لإتمام الضربة وإلا فأعمال المنصور في الجهاد وإعلاء كلمة الإسلام لا تقل عن أعمال صلاح الدين.
ويقال إنه بعد أن صرف رسوله جهز من أساطيله لهذا الغرض 180 قطعة ومنع
(1) A. G. Palencia: His. de La Espanà musulmana. p. 108.
وقد اضطربت كلمة المؤرخين العرب فبعضهم يجهله الفونس الثالث وبعضهم يجعله التاسع وكلاهما لا يصح.
(2)
بنو غانية هم بقية من المرابطين كانوا يلون جزائر شرق الأندلس المعروفة اليوم بالبليار. وكثيراً ما شوشوا على الموحدين بهجومهم ع على مدن الساحل الأفريقي المواجه للجزائر المذكورة. وكان أولهم محمد بن علي بن يحيى المسوفي، عرف بغانية أمه: آخرهم يحيي بن إسحق بن محمد المذكور والقائم منهم على المنصور هو علي أخو يحيي.
النصارى من سواحل الشام. ويؤيد هذا ما كان له من الصيت عند أهل الشام، حتى إنهم أقاموا له مشهداً بالقرب من دمشق على ما عند ابن خلكان.
وتوفي المنصور سنة 595 وخلفه ولده محمد الناصر وكان كأبيه همة ونجدة وشجاعة. وفي أوائل أيامه واجه ثورة ابن غانية بإفريقية فقضى عليها وقتل ابن غانية وأراح البلاد من فتنته وعيثه، وبعث بأسطول من مرسي الجزائر إلى جزائر شرق الأندلس المعروفة بالبليار؛ فاقتحمها وكانت هي معقل بني غانية، استقلوا بها منذ اضمحلال دولة المرابطين. وباستيلاء الناصر عليها أنهار آخر حصن للمرابطين كانوا يروعون به أمن السكان في شرق الأندلس وإفريقية ويهددون منه سلامة الدولة الموحدية. ومع أن هذا العمل الذي افتتح به الناصر مدة حكمه يدل على توفيقه وحسن سياسته، فإن الحظ خانه في الواقعة التي جرت بينه وبين القوات المتحدة الممالك النصرانية بالأندلس في صفر سنة 609 وتسمى بالعقاب (1) وكانت من الوقائع الفاصلة التي عجلت بسقوط الأندلس وأدالت بها للنصرانية من دولة الإسلام، ثم كانت هي مبدأ سقوط الدولة الموحدية وإن دامت بعدها أكثر من نصف قرن.
إن هذا الاستعراض السريع لما بذله رجال الدولة الموحدية من جهود جبارة في سبيل إقرار الوحدة المغربية والدفاع عن تراث الإسلام في إسبانيا لمما ينبئ عن عقيدة راسخة وإيمان قوي بالمهمة السامية التي كان على المسؤولين في الدولة الجديدة أن يضطلعوا بها. فما كانت دعوة المهدي إلا دعوة توحيد وتجديد للمفاهيم الإسلامية التي تبعث روح القوة والعزم في نفوس المسلمين فينهضون للعمل بجد لحماية بيضتهم وحفظ كيانهم المادي والمعنوي. وتحت تأثير هذه الدعوة اندفع الموحدون المقاومة القوات المسيحية الحليفة من ممالك قشتالة وليون ونبارة وأراغون التي تدفقت على بلاد الأندلس معززة بعطف البابا وبالفرسان الصليبيين الذين جاءوا من مختلف بلاد أوربا يريدون سحق المسلمين. كذلك كانت مملكة النورمان الناشئة في صقلية أوائل القرن السادس الهجري قد اقتحمت مدن الشاطئ الإفريقي
(1) هو بكسر العين موضع بين جيات وقلمة رباح، قاله في الروض المعطار.
واستولت على ثغر المهدية أعظم حصن في هذا الشاطئ. فلولا قيام الدولة الموحدية التي استطاعت أن توحد الصفوف وتجمع الكلمة وتكون من أقطار إفريقية الشمالية هذه القوة العتيدة التي حاربت في آن واحد في كلتا الجبهتين الأندلسية والإفريقية لعصفت القوات النصرانية ببعض تلك البلاد أو بها جميعاً في ذلك الحين.
وقد ظهر من سباق الأحداث التي قارنت قيام هذه الدولة أن ملوك الموحدين قطعوا تلك الصلة التي تقر بتبعية المملكة المغربية لدولة الخلافة العباسية كما كان عليه الأمر في دولة المرابطين. ومن ثم فإنهم لم يحجموا عن اتخاذ لقب أمير المؤمنين وانتحال وصف الخليفة نفسه، ولعل ما شجعهم على ذلك هو حكمهم للأندلس وإفريقية الشمالية جميعاً، وكان بنو أمية بمجرد توطد ملكهم في الأندلس قد ادعوا الخلافة وتلقبوا بأمير المؤمنين، فضلاً عن ضعف أمر الخلافة العباسية في هذا العهد، ولا سيما وقد مات العاضد لدين الله آخر خلفاء الفاطميين الذين كان قيامهم من المغرب، فأقام صلاح الدين الأيوبي منافس يعقوب المنصور دعوة بني العباس في مصر، وقبله في سنة 549 أي عند استتباب الأمر العبد المؤمن، كان الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله كتب عهداً لنور الدين محمود ابن زنكي مخدوم صلاح الدين وولاه مصر وأمره بالمسير إليها. وكان قد تملك دمشق في ذلك العام، فلم يمنعه من قصد مصر إلا شغله بجرب الفرنج (1). والمقصود أن هذه العوامل مجتمعة كانت تشجع ملوك الموحدين على الاتصاف بالخلفاء وأمراء المؤمنين مع ما أعلم من انتسابهم في قيس عيلان بن مضر، وكون دعوتهم كما أرادها المهدي أول مرة تستهدف إصلاح أحوال المسلمين عامة، بدليل قيامه بالنكير للأوضاع الفاسدة في مصر بل حتى في مكة على ما يروي في ترجمته، فما بالهم لا يرون أنفسهم أحق بها وأهلها؟ . .
وإذا كان هذا من أهم الفوارق بين دولة الموحدين ودولة المرابطين التي لم تنقد في حبل الادعاء قط، فإن السيطرة التامة على كامل التراب المغربي من بلاد نول إلى أرض برقة هو ما تميزت به الدولة الموحدية في الميدان الحربي وجعلها في الوقت نفسه
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 291.