الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحركة العلمية
بذرت بذور النهضة العلمية الكبرى التي نمت وترعرعت على عهد الموحدين في أيام المرابطين. وكانت الغاية المتوخاة من حركة عبد الله بن ياسين هي نشر الدين والتمكين لتعاليمه السمحة من النفوس؛ فاستتبع ذلك رفع راية العلم والعرفان، ضرورة أن الدين الإسلامي والمعرفة متلازمان. ولما قام المهدي بن تومرث بحركته كان يرمي إلى غاية أبعد من غاية سلفه وهي تجديد الدين. وهذه مهمة تقتضي من التوسع في العلم أكثر مما يقتضيه نشر الدين، فلذلك كانت العلوم على اختلافها من عقلية ونقلية ألزم للدعوة الموحدية من أختها المرابطية بطبيعة الحال.
وبكل اعتبار فإن الأساس الذي وقع عليه البناء في هذا العهد هو من وضع المرابطين. فقد كانت تلك الحماسة الدينية وما صحبها من الإقبال على طلب العلم ولو الديني فقط؛ مما دفع بالناس إلى حب البحث والاطلاع، وأدى إلى الاحتكاك بالأندلسيين والنقل عنهم. . . وكما أن العرب في العصر الأول أيام حكم الأمويتين بقوا على السذاجة البدوية والفطرة الإسلامية ولم يعنوا عناية كبرى بغير شؤون السياسة والدين، وكانوا يتهيأون بعامل التطور للدخول في غمار المدنية العباسية ويستعدون لها بمختلف العدد والوسائل؛ فكذلك المغاربة في العصر السابق كانوا يتهيأون هذا العصر ويستعدون لاقتطاف أزهاره، واجتلاء أنواره. فما إن أقبلت تباشيره وأناخت ركائبه حتى أخذ كل شيء اتجاهه وجرت الأمور في مجاريها الطبيعية، حثيثة السير ثابتة الخطى نحو التقدم والكمال.
ولنعتبر ذلك في الحركة العلمية التي تعنينا الآن، فهذا علم الفقه على مذهب مالك قد واصل تفرعه وانتشاره كما كان قبل أو أكثر. ونتيجة للتفاعل مع الدعوة الجديدة فقد مال أهله إلى الترجيح والتأويل ونبذوا التعصب لأئمتهم ومشائخهم، وجعلوا البحث والنظر رائدهم في معرفة الحقائق وتقرير الأحكام؛ فرجعوا بذلك إلى أصوله ومصادره الأولى من الكتاب والسنة وما إليهما، حيث وجدوا من الدولة العتيدة ميلاً
إليها وتعضيداً لأهلها. لكن من غير أن تحملهم على ذلك حملاً وتلزمهم به قسراً، حتى اشتط يعقوب المنصور ثالث خلفاء الموحدين وتصلب في تنفيذ خطة ابن تومرت ومحاربة علم الفروع قصد الإجهاز عليه. فأحرق كتب المذهب وعوضها بالصحاح العشرة والمنتخب الذي اختاره منها. ويقول المراكشي في هذا الصدد: «وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، ففعل ذلك. فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبراذعي وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها. لقد شاهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة، وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين يجمع أحاديث من المصنفات العشرة؛ الصحيحين والترمذي والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن البزار ومسند ابن أبي شيبة وسنن الدارقطني وسنن البيهقي؛ في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها محمد بن تومرت في الطهارة. فأجابوه إلى ذلك وجمعوا ما أمرهم بجمعه؛ فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه. وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب وحفظه الناس من العامة والخاصة، فكان يجعل لمن حفظه الجعل السني من الكسا والأموال. وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث. وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب هذا. يشهد لذلك عندي ما أخبرني به غير واحد ممن لقي الحافظ أبا بكر بن الجد أنه أخبرهم قال: «لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس فقال لي يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله. أرأيت يا أبا بكر؟ المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا؛ فأي هذه الأقوال هو الحق وأبها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا؛ وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى كتاب سنن أبي داود، وكان عن يمينه، أو السيف! فظهر في أيام يعقوب هذا ما خفي في أيام أبيه وجده. وانتهى أمرهم معه إلى أن قال يوماً بحضرة كافة الموحدين يسمعهم وقد بلغه