الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض وتحليل
بقلم المرحوم الأمير شكيب أرسلان
كتب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان رحمه الله بحثاً مستوفى عن كتاب ((النبوغ المغربي)) حين صدوره في صورة عرض وتحليل، ونحن نثبت هنا القسمين المنشورين منه بجريدة ((الوحدة المغربية)) الغراء، الصادرة بمدينة تطوان، في عددها 224 و 234، المؤرخين في 4 صفر و 29 ربيع الثاني 1361، ونقدمها بين يدي الكتاب تتويجاً له وتحلية:
1
قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب الممتع الذي أخرجه للناس فذا في بابه السيد الشريف، والعلامة الغطريف الأستاذ/ عبد الله كنون
؛ من مفاخر القطر المغربي في دورنا الحالي، وقد كنت أعهد نفسي من بين المشارقة، الرجل الذي اطلع أكثر من غيره في تاريخ المغرب وأهله، وأنعم النظر فيما يتعلق بثقافته وسياسته وسائر شؤونه؛ ولكني رأيت نفسي بعد أن طالعت هذا الكتاب الصغير حجمه والكبير قدره؛ كأني لم أعلم عن المغرب قليلاً ولا كثيراً، وكدت أقول: إن من لم يطلع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدعي في تاريخ المغرب الأدبي علماً، ولا أن يصدر على حركاته الفكرية حكماً. وكما قيل في كتاب ((نفح الطيب)) للعلامة المقري: أنه كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وكلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب؛ الذي من لم يقرأه فليس بأديب، يمكن أن يقال كذلك: إن من لم يقرأ كتاب ((النبوغ المغربي في الأدب العربي)) فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي، بل هذا الكتاب في موضوعه أجدر بالإطلاق الشامل من كتاب ((نفح الطيب)) في موضوعه؛ وذلك بأن ((نفح الطيب)) على جلالة قدره قد حشر بين دفتيه غثاً وسميناً، وعالياً ونازلاً، وأطال حيث ينبغي الاختصار، وأوجز حيث النفوس تشتاق إلى
الإطالة والإكثار. وأيضاً فقد يكون الأديب أديباً ولم يقرأ ((نفح الطيب))، فأما ((النبوغ المغربي في الأدب العربي)) فهو خلاصة منخولة، وزبدة ممخوضة، استخلصها صاحبها من مئات الكتب المصنفة، وألوف الأحاديث التي لقفها من أفواه العلماء الذين أخذ عنهم، وقلما رأيت مؤلفاً جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وجاء في ضمن 250 صفحة بالعريض الطويل في درجة هذا التأليف الذي هو ثمرة تحقيق وتدقيق، ودرس عميق لم يخرج إلى قراء العربية أحسن منه في بابه.
أشار العلامة مصنف ((النبوغ العربي)) في مقدمة كتابه إلى جمعه فيه بين العلم والأدب، والتاريخ والسياسة، وإلى تصويره الحياة الفكرية في المغرب، من لدن قدوم الفاتح الأول إلى يوم الناس هذا، ولعمري إن من قرأ هذا الوعد الذي جزم به المؤلف لاعتقد في البدء أنه بالغ فيه جداً، وحمل نفسه إداً، وزعم الإحاطة بموضوع تعجز عنه الجملة، ولا تفي به الكتب الجمة، وادعى فتح مغاليق تنوء مفاتيحها بالعصبة، إلا أنه عندما يبدأ القارئ بالمطالعة يجد المؤلف قد وعد فأنجز، وقرب الأقصى بلفظ موجز، وكان فعله محققاً لقوله، وقد مزج في كتابه بين الحركات الفكرية والحركات السياسية مزجاً عجيباً، حقق فيه الصلة الطبيعية التي لا تكاد تنفك في كل دور من أدوار الأمم بين العلم والسياسة، بحيث لا يرقى الواحد منها إلا رقى الآخر برقيه كاللازم والملزوم. وهو إن لم يكن توخى ذكر الفتوحات والمغازي، ولا حاول استقصاء مآثر السيف في جانب مآثر القلم، فقد ضمن في تضاعيف كلامه على تطور الحركات العقلية في المغرب من لدن الفتح العربي إلى الآن لمحة دالة يفهم منها القارئ تطور السياسة وتعاقب الدول المختلفة التي سادت المغرب من ذلك اليوم إلى الآن، فلا يسير المطالع لهذا الكتاب إلا على ضوء من أول الكتاب إلى آخره، ولا يكاد يشكل عليه فيه مسألة، ولا يستعجم موضوعاً، ولا يفتقر مقام إلى مقال، وهو مع هذا كله من الكتب المختصرة، فكأنما أراد به صاحبه لا مثالاً للتاريخ فحسب، بل مثالاً للبلاغة.
ومن أول ما شغل المؤلف به ذهن القارئ: قضية خفاء الأدب المغربي على المشارقة، وإنكار كثير من هؤلاء لكثير من مزايا إخوانهم المغاربة، وهو غير ملوم في الاحتفال بهذه القضية، وفي كونه نص عليها في أول كتابه؛ لأن للمغاربة حقاً
في المطالبة بمكانهم في الأدب العربي الذي هم من جملة حملة ألويته، بل من نخبة عمار أنديته، ولكن الأمر على حد ما قال الشاعر:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
…
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
فالمشارقة الذي يعزو إليهم إخوانهم المغاربة جهل مقامهم في الأدب ليس منهم واحد يلز في جملة العلماء المحققين، وإنما هم من صغار المتأدبة الذي علموا شيئاً وغابت عنهم أشياء. ولم تكن قبل اليوم علاقات العالم بعضها ببعض كما في هذا العصر؛ الذي جعلت فيه الاختراعات العلمية ومظاهر أسرار الكهربائية؛ القاصي قريباً، والمجهول معلوماً، والبلدان النائية بلداً يكاد يكون واحداً، والأسفار المشتطة سفراً قاصداً. وقد كان المغرب من قبل في زاوية من الأرض ليس ورائها إلى الغرب سوى بحر الظلمات. نعم. لم يزل المغرب كما كان من الجهة الجغرافية، ولكنه أصبح اليوم قريبا بالباخرة والطائرة، والسلكي واللاسلكي، والهاتف والراديو؛ فصار الشرقي يعرف عن المغرب وأهله في اليوم الواحد ما لم يكن يعرفه في السنة بطولها. فالآن إذا جهل الشرقي أحوال المغرب وعميت عليه مآثره يكون جديراً باللوم، وحقيقاً بالرثاء لقصور معارفه، فأما عما مضى فلا يتوجه اللوم وأسباب الاتصال قليلة، ووسائل التعارف محدودة.
ولا تنس الانحطاط الذي طرأ على العالم الإسلامي شرقيه وغربيه؛ فإنه في مقدمة أسباب جهل بعض أجزائه بأحوال البعض الآخر، ولا تنس أيضا تكالب الاستعمار الأوروبي وكون أهم شروطه الفصل والقطع والضرب بالأسداد بين البلاد المستعمرة وأخواتها، والأمم المستضعفة ومن تمت إليهم بصلة دين أو نسب أو لغة؛ فهذا كله جعل أمور المغرب مجهولة عند غير المحققين من أهل الشرق. ولو كان الاستقلال السياسي موفوراً للعالم الإسلامي لما وقع من التجاهل والتناكر هذا الذي وقع أخيرا، وجعل الأخ لا يعرف شيئا عن أحوال أخيه، فقد عهدنا عندما كان الإسلام إسلاما، وكانت الرجال رجالا أن الحركات الفكرية إذا شاعت في المشرق شاعت في المغرب، وإذا نبغ شاعر أو كاتب في أحدهما تناقل الناس أقواله للآخر، وإذا كتب الإمام الغزالي كتاباً في أقصى الشرق تدارسه الفقهاء في أقصى الغرب، وعمل به الموحدون والغزالي بعد في الحياة، وألف سعد الدين التفتازاني كتاباً في خراسان أو ما يليها تكلم عليه ابن خلدون في فاس أو تونس في عرض كلامه على ملكة المشارقة في العلوم العقلية، والتفتازاني لا يزال حياً. وإذا ألف ابن هشام كتاباً في النحو وهو