الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة الأدبية
نما الأدب المغربي في عهد المرابطين وترعرع، ولكنه لم يقو قوة الأدب الأندلسي ويسيطر على الميدان.
على أنه مع ذلك لم يكن ضعيف المادة ولا منحسر الموجة، بل كان ذا روح معنوية قوية تمثل الواقع المغربي في أجلى مظاهره، ذلك الواقع الذي لم يفتأ أن أثر في الأدب الأندلسي نفسه فانتشله من هوة الضعف والابتذال التي كان وقع فيها على ما ألمعنا إليه فيما مضى. فلما قام الموحدون، وقامت معهم تلك النهضة العلمية الأدبية، التي سبق توصيفها، تحول مجرى السفينة الأدبية إلى المغرب، وسيطر عليها الأدباء المغاربة يزجونها بمعرفة وحذق، وتعينهم على ذلك ريح رخاء من لطف تدبير الموحدين وحسن سياستهم.
وقد سبق ذكر ما كان لهم من العطف على الأدب والتشجيع لأهله، حتى لقد كان واحدهم يثيب على البيت والبيتين يمدح بها بالألف والألفين، بل كان الآخر يبلغه عن شاعره وقوعه فيه وتعريضه بأصله فيقول أعاقبه بالحلم عنه، وهي نفس الهفوة التي أخذوها على الفيلسوف أبي الوليد بن رشد، فلم يتسامحوا مع العلماء، وتسامحوا مع الشعراء، مما يدل على أن ضلعهم مع الأدب كان كبيراً.
وقد رأيت مقام الشعراء من عبد المؤمن في جبل طارق، وكيف كان أول من أنشده في ذلك المقام شاعر فاسي، وكان هو يعقب على قصائد الشعراء بالنقد أو التقريظ، ثم أعيد هذا الموقف، ولكن بأعظم من ذلك مع حفيده يعقوب المنصور لما رجع من غزاة الأرك المشهورة بالأندلس، فورد عليه وفود المهنئين والشعراء من كل ناحية، فكان كل واحد منهم ينشد من قصيدته بيتا أو بيتين لكثرتهم ويترك رقعتها أمامه، فما استتموا الإنشاد حتي حالت رقاع القصائد بينه وبين الناس، وهذا إن ثبت على حقيقته، كان أعظم شاهد على ما بلغته الحياة الأدبية في هذا العصر من النمو والازدهار.
ولكن منشأ النبوغ لم يكن هذا الذي أمعنا إليه من رعاية الموحدين للأدب وتنشيطهم لأهله فقط، وإنما هو متولد من جملة أسباب أخرى، منها النفس على الأندلسيين الذين كانوا قد طلعوا في سماء الأدب بدورة ساطعة، ونجوماً لامعة، وكانوا يغلبون أهل البلاد من المغاربة عند المفاخرة ويطاولونهم حين المنافرة، وتعد المناظرة التي وقعت مجلس والي سبتة الأمير أبي يحيى بن أبي زكرياء في هذا الصدد بين أبي الوليد الشقندي، وأبي يحيى بن المعلم الطنجي من أحسن الأمثلة على ذلك، وقد أمر الأمير كلاً من الأديب الأندلسي والأديب المغربي بكتابة رسالة في تفضيل قطره، غير أن رسالة المغربي لم تحفظ. ومن هذا يعلم أن الخصومة بين أدباء العدوتين، كانت لا تنقطع، والأندلسيون بالطبع كانوا يحجون جيرانهم بما يعدون من نبغاهم الكثيرين. وهذا وحده كاف للمحجوج في الانقطاع إلى الطلب والعكوف على التحصيل. ومنها الطماح إلى الخدمة في دواوين الحكومة وشغل المناصب العالية التي كان أعلاها يومئذ منصب الوزير، وهو في الحقيقة رئيس الكتاب، ونرى من أبناء مراكش البررة من وضع هذه الغاية نصب عينيه، وجهد في الوصول إليها فيما البث أن حصلها بحزمه وعزمه، وذلك هو الوزير أبو جعفر بن عطية. على أن ما يرجح بهذه الأسباب كلها هو عموم الحاجة إلى التثقيف والتهذيب، وقد شعر الناس بهذه الحاجة منذ قيام عبد الله بن ياسين بحركته الإصلاحية، ثم زاد شعورهم بها من حين الانقلاب الذي قام به المهدي بن تومرت. فنتج عن ذلك كله أن تقدمت الحركة العامية إلى الأمام، واتجهت النهضة الأدبية اتجاهاً جديداً يرضي الجماعة الذين كانوا لا يفتئون يناظرون خصومهم من أهل الأندلس في موجبات الفخار.
وعلى ذلك فلم تكن الآداب المغربية صورة طبق الأصل للآداب الأندلسية، كما يظنه البعض بل كانت قائمة بنفسها، تعبر عن شعور أهلها ولا تتأثر بالأندلس إلا كما تتأثر بالشام والعراق. فهذا ميمون الخطابي لا تجد من تقارنه في متانة أسلوبه وبلاغة معناه، وعنايته بالحكم الفلسفية إلا المتنبي. وهذا أبو العباس الجراوي لا تشبهه إلا بأبي تمام في اهتمامه باللفظ قبل المعنى، ثم إغرابه في بعض الأحيان حتى تختلف فيه الظنون، ولم يقصر وجه الشبه بينها على هذا الحد فيظهر أن شاعرنا كان يتتبع آثار أبي تمام في كل شيء، حتى ألف حماسته فانتشرت بالمغرب وأغنت عن حماسة أبي تمام.
أما الأدب الأندلسي فنجد أثره واضحاً كما نبه عليه المراكشي في ابن حبوس الفاسي
الذي كان يتشبه بابن هانئ، متنبي المغرب، في القصد إلى الألفاظ الرائعة والقعاقع المهولة، وإيثار التقعير، كما نراه من جهة الرقة والانطباع ممثلاً في الوزير ابن عطية الذي يشبه الوزير ابن عمار في كثير من أحواله.
والخلاصة أن الأدب المغربي هو غير الأندلسي، وأنه لم يتأثر به إلا نسبياً، لأن الأدباء المغاربة من غير شك كانوا يتعمدون مخالفة طريقة زملائهم الأندلسيين في الشعر والنثر، قصد مقابلة التحدي بمثله. فإن الأندلسيين كانوا يكثرون على المغاربة من تعداد محاسن أدبائهم، وابتكارات شعرائهم، التي بذوا بها غيرهم، كما ترى ذلك في رسالة الشقندي التي مرت الإشارة إليها. ولم يكن لدي من أخذوا أنفسهم بالتأدب لكم الأفواه الصاخبة، بتعجيزهم، إلا أن يقرعوا الحجة بالحجة، ويعارضوا الدليل بالدليل. وهذا غير السرق والتقليد. زيادة على أن هؤلاء، لم يكونوا قد استغرقوا في الحضارة والمدنية، وانغمسوا في الرفاهية والبلهنية كما كان ذلك حال الأندلسيين؛ فكانت تغلب عليهم رقة الطبع ودقة التصوير. بل كانوا لا يزالون أقوياء النفوس، أقوياء الطباع، كما كان الشاب في شعراء المشرق الذين نظرنا بهم وهم عرب أقحاح، تنقلوا في البادية، واعتادوا على خشونتها فغلبت عليهم متانة الأسلوب وجزالة اللفظ.
وبناء على هذا، فإننا نستطيع أن نقول إن الأدب المغربي منذ نشأ إلى أن ترعرع، كانت له في الغالب طريقة غير طريقة الأدب الأندلسي، ولا نستشهد على ذلك غير أديب بارع من أدباء الأندلس، بل خاتمة أدبائها، وهو الوزير أبو عبد الله بن زمرك الذي تحدث عن هذا الأدب إلى علم من أعلام الفكر الأندلسي وهو الإمام الشاطبي، بعد رحلة قام بها إلى المملكة المغربية. وهاك ما قاله الشاطبي في
كتابه (الإنشادات والإفادات) حسبما رواه المقري في النفح: «أفادني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبدالله بن زمرك إثر إيابه إلى وطنه من رحلة العدوة في علم البيان فوائد أذكر منها الآن ثلاثاً، (الفقه في اللغة) وهو النظر في مواقع الألفاظ، وأين استعملتها العرب، ومن مثل هذا الوجه - قرم وعام - اذا اشتهى، لكن لا يستعمل قرم إلا مع اللحم، ولا يستعمل عام إلا مع اللبن فتقول عمت إلى اللبن، وكذلك قولهم أصفر فاقع، وأحمر قاني، ولا يقال بالعكس وهذا كبير، (والثانية) تحري الألفاظ البعيدة عن طرفي الغرابة والابتذال، فلا يستدل
بالحوشيى من اللغات، ولا المبتذل في ألسن العامة، (والثالثة) اجتناب كل صيغة تخرج الذهن عن أصل المعنى أو تشوش عليه، إذ المقصود الوصول إلى بيان المعنى إلى أقصاه، والإتيان بما يحصله سريعاً ويمكنه في الذهن، وتحري كل صيغة تمكن المعنى وتحرض السامع على الاستماع، (وأخبرني) أن كتاب المغرب يحافظون في شعرهم وكتابتهم على طريقة العرب، ويذمون ما عداها من طريقة المولدين، وأنها خارجة عن الفصاحة، وهذه المعاني الثلاثة لا توجد إلا فيها».
وهذا الكلام إن كان قيل في أدباء العصر المريني فهو بأن يصدق على أدباء هذا العصر أولى؛ لأن هذه الصفات التي ذكرها ابن زمرك تتحقق فيهم أكثر من غيرهم ضرورة أن الثقافة الأدبية، بل الثقافة على العموم كانت في هذا العصر أوسع وأمتن منها في العصر المريني، وأن الروح المعنوية التي تنعكس في أقوال الأدباء، وإنتاج الكتاب لم تبلغ في عصر من عصور المغرب، ما بلغته في هذا العصر من القوة والظهور. ولا يبعد أن يكون ابن زمرك في كلمته تلك قصد الحكم على الأدب المغربي بعامة مما يشمل العصر الموحدي والعصر المريني، سيما وقد بقيت تلك الصفات هي سمة الأدب المغربي إلى العصر الأخير، وأعني به العصر العلوي، حين جاء العلامة الشيخ محمد بيرم التونسي صاحب كتاب «صفوة الاعتبار» فأكد قول ابن زمرك بما لا يخرج عن مضمونه في اللفظ ولا في المعنى.
والخلاصة، إن تحري الفصاحة والصدق وطرح التصنع والابتذال كانت وما زالت من أهم ميزات الأدباء المغاربة، وهم لذلك أقرب ما يكون من طريقة العرب وشعراء العصور الأولى من عصور الأدب العربي.
ويلوح لنا إننا بلغنا الغاية في تصوير الحياة الأدبية الموحدية على ما وصل إليه علمنا منها، فلنصنع هذه الصورة إطاراً من تراجم الأدباء المذكورين فيها يزيدها على حسنها حسناً.