الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد رد يوسف بسياسته هذه المغرب إلى أحضان الجامعة الإسلامية بعد أن كان الولاة قبله قد اقتطعوه من جسمها. . وتلك ولاشك خطة مستمدة من تعاليم عبد الله بن ياسين التي كان يلقيها إلى تلاميذه المخلصين ومنهم يوسف بن تاشفين الذي قام عليها أصدق قيام. ولو كان ملوك الإسلام يحملون مثل هذا الشعور الذي كان بحمله يوسف، ويسيرون بهذه السيرة التي سار عليها لما تفككت عرى المملكة الإسلامية، ولما صار المسلمون بعد ذلك خولاً للأجانب تتداولهم أيدي الاستعمار في الشرق والغرب؛ فهم لا ينقذهم من سيطرة الأغيار إلا هذه السياسة الرشيدة التي هي سياسة الجامعة الإسلامية.
يوسف والمعتمد
من الثابت تاريخياً أن يوسف بن تاشفين لم يعد إلى الأندلس بعد معركة الزلاقة ويستخلص هذا القطر من أيدي ملوك الطوائف إلا بعد أن كتب إليه العلماء والخاصة والعامة يناشدونه الله ورابطة الإسلام أن يبادر لإنقاذهم من سيطرة ملوك السوء الذين انصرفوا بعد رجوعه للمغرب، إلى لهوهم ومجونهم وأغفلوا نصائحه في نبذ التخالف والتدابر، وأهملوا أمر الجند وضنوا عليه بالمؤونة، فأصبحت البلاد من جديد معرضة لحملات أعدائهم اليقظين المنتهزين للفرص. وحضه علماء المغرب وساسته وقواده وزعماء الرأي فيه على تلبية طلب هؤلاء، فتردد في الأمر وبقي يقدم رجلاً ويؤخر أخرى. ثم كتب إلى علماء المشرق وعلى رأسهم يومئذ حجة الإسلام الغزالي فأفتوه بوجوب المسارعة إلى ذلك، وإلا فيكون مؤاخذاً أمام الله والناس والتاريخ.
فلما رأى إجماع الأمة، علمائها وساستها ورجال الحرب فيها على رأي واحد، عزم متوكلاً على الله وسار إلى الأندلس أما أهلها فتلقوه بالفرح والسرور، وأما هؤلاء الملوك المعبر عنهم ملوك الطوائف: فمنهم من القى القياد ولم يدفعه الهوس إلى التهور في القتال غير المجدي؛ ومنهم من تعنت واستحدث من الضعف قوة لم يكن يستحدثها في محاربة من كان يؤدي إليهم الخراج من ملوك النصرانية، فكاشف جيش المرابطين بالعداء وناشبه القتال. وكان من بين هؤلاء المتوكل بن الأفطس صاحب بطانيوس الذي جنب إلى مصرعه فانتهى حديثه من يومئذ، والمعتمد بن عباد
الشاعر الغزل الرقيق الذي أوصى يوسف رجاله بالعناية به فأبقوا عليه، ولكنه ملأ الدنيا بكاء وعويلاً! . .
وهل تدري ما فعل به بعد؟ لقد كانت معاملته له بحيث لو لم يتفق المؤرخون على روايتها لقلت إنها من المستحيل على ملك بربري متوحش، كما يطيب لكثير من كتابنا وأدبائنا المهذبين أن يصفوه. لقد عامله بما لم تعامل به أوروبا الحديثة نابليون العظيم (1) وشتان بين نابليون والمعتمد! لقد أرسله إلى طنجة عروس المغرب، فلبث فيها ثم في مكناس شهوراً إلى أن فرغ الفاتح من أعماله وتقرر مصيره في أغمات. لا تقل وما أغمات? وأين تجيء أغمات من إشبيلية? فلم تكن أغمات إحدى القرى المهجورة في بلاد الصحراء والجزر المنقطعة في ظلمات المحيط، فهي كانت عاصمة الدولة قبل بناء مراكش، ويقول المؤرخون عنها أنها مدينة كبيرة في ذيل جبل كثير الأشجار والثمار والأعشاب والنباتات. ونهرها يشقها وعلى النهر أرحية كثيرة تدور صيفاً، وفي الشتاء يجمد النهر ويمر عليه الناس والدواب. وأهلها ذوو يسار وأموال، ولهم على أبوابهم علامات تدل على مقادير أموالهم. زاد ياقوت: وليس بالمغرب فيما زعموا بلد أجمع لأصناف الخيرات ولا أكثر ناحية ولا أوفر حظاً ولا خصبة منها.
وفي كلتا المدينتين طنجة وأغمات لم يكن بمنزلة المحبوسين السياسيتين التي نعرفها في هذا العصر، بل كان مطلق الحرية ليس عليه أدنى حجر، ولا على من يريد زيارته والوصول إليه. وقد اجتمع به شعراء طنجة وأدباؤها وطارحوه أحاديث الشعر والأدب كما وفد عليه جل أدباء الأندلس وهو في أغمات، وكانوا يقضون معه الأوقات الطويلة. وكذلك غيرهم من كل من يمت له بصلة أو يدلي إليه بسبب، وحسبك أنه استدعى ذات مرة طبيب يوسف الخاص لمعالجة بعض حريمه فلبى هذا طلبه، ولو علم كراهية يوسف لذلك لما أقدم عليه.
فليت شعري ماذا ينكر أصحابنا من هذه المعاملة التي هي في منتهى التسامح
(1) المقارنة هنا في قوة السلطان وعظم الشخصية لا غير والمقصود إظهار نبل يوسف على تقدم زمنه بالنسبة إلى أوربا الحديثة.
مع رجل أقل ما يقال فيه أنه أعطي ملكاً فلم يحسين سياسته، وقد أنكر شعبه تصرفاته، وعرض الفردوس العربي للفقد في منتصف القرن الخامس الهجري بعبثه واستهتاره، ثم حمل السلاح على حماة البلاد الذين أنقذوها من السقوط في يد العدو على حين أنهم لم يفرغوا بعد من لم شعثها ورأب صدعها؟ !
إننا مهما تملكتنا الأريحية الأدبية وأخذ منا الجمال الفني واستحوذ علينا الخيال الشعري، لا يبلغ بنا ذلك إلى حد إهمال شخصيتنا والتهاون في حفظ كياننا، فنفضل قول بيت من الشعر على إنقاذ مملكة من أزهى ممالك العرب والإسلام وأوسعها وأغناها وأعظمها حضارة وعمراناً ورقياً. .!
ليس يبلغ بنا استهواء المظاهر الحضارية الخلابة، والبذخ والترف، ومجالس اللهو والطرب، وعزف القيان وغناء الندمان، وتطيين البساتين بالمسك والعنبر) (1) وتشديد القصور وزخرفة الدثور إلى الاستكانة للذل والصغار وأداء الجزية التي يوجب الإسلام والشرف أخذها لا إعطاءها. ففي الحقيقة إن عمل يوسف جليل، وجليل جداً، وفوق ما يظنه الظان ويقدره أولئك الكتاب والأدباء الخياليون. والإسلام والمدنية والعالم كلها مدينة ليوسف بن تاشفين وممنونة له بإنقاذ الأندلس وبقائها في يد العرب مدة أربعة قرون أخرى. ومن المحقق أنه لو لم يسارع يوسف إلى إنقاذ الأندلس في ذلك الحين لما وجد ابن رشد ولا ابن طفيل ولا أبناء زهر ولا ابن العربي ولا ابن الخطيب ولا، ولا، ممن أنجبتهم تلك الجزيرة من رجال العلم والفلسفة في حياتها الثانية التي كان يوسف سبباً فيها، فضلاً عن غيرهم من رجال الدين والأدب الذين ازدهرت على أيديهم تلك الحضارة العديمة النظير. وهذا مما لا يشك فيه أحد، وإنما ألمعنا إليه هنا وإن لم يكن من موضوعنا لننبه على غلط أولئك الذين اندفعوا في تغليب أهوائهم وتحكيم عواطفهم ورموا المجاهد العظيم يوسف بن تاشفين بما أملاه عليهم تعصبهم للمعتمد بن عباد من صفات ذميمة وألصقوه به من تهم باطلة، ولو كانوا حقاً ذوي غيرة على دولة الأدب والشعر، لوجهوا حملاتهم العنيفة إلى من كان يعمل على هدم كيانها وتعفية أثرها في ذلك القطر العزيز بالتمهيد لاستيلاء العدو عليه
(1) هذه إشارة إلى يوم الطين في قصة المعتمد المشهورة مع حظيته الرميكية. وانظر عنها نفح الطيب ج? ص 484.