الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مصر، ولم تكن المطبعة قد عرفت يومئذ، لم تمض أشهر حتى امتلأت أسواق الوراقين في مدن المغرب بنسخ هذا الكتاب، وابن هشام يومئذ حي، وجعله مثل ابن خلدون موضوعا في مقدمته لذكر ملكة المتأخرين في علوم العربية، وهلم جرا. فالرقي الفكري متصل بالاستقلال السياسي اتصال النتيجة بالمقدمة، ولقد فقدت في الأدوار الأخيرة من العالم الإسلامي أسباب الاتصال بما طرأ من التفكك، ومصير بلاد الإسلام طرائق قددا، تليها دول مختلفة أكثرها خارج عن الإسلام، بل أكثرها عدو للإسلام كاشح يعمل لمحوه من الدنيا، ومن المعلوم أنه لا يعمل للإسلام غير دول الإسلام نفسها. فلا عجب بعد هذا أن يجهل بعضنا مكان بعض وأثر بعض، بل العجب أن تعلم اليد اليمنى باليد اليسرى ونحن على ما نحن عليه من تفكك الأجزاء وتقطع الأوصال، والسياسة كما قلنا هي والأدب شريكا عنان، وفرسا رهان.
وقد أصاب الأستاذ صاحب ((النبوغ المغربي)) في عدم إطلاقه القول على المشارقة أنهم جاهلون بأقدار المغرب، فإنه قيد ذلك بقوله ((إنكار كثير من المشارقة لكثير من مزايا المغاربة))، وفي هذا القيد قد أخرج محرر هذه السطور من هذه الجملة الخاسرة؛ فإني على ما بي من قصور وتقصير، وعيوب تضيق فيها المعاذير، أقدر أن أدعي بحق سبق غيري من جميع أنحاء العالم العربي إلى معرفة مزايا المغرب وأهله، وإيجاب عدم التفرقة بحال من الأحوال بين مغرب ومشرق، أقول هذا من باب التحدث بنعمة الله.
2
عالج السيد عبد الله كنون في صدر كتابه هذا حادثين جليلين
هما من أهم حوادث الفتح الإسلامي في العالم، وهما: إسلام البربر، هذه الأمة العظيمة التي لولا دخولها في الإسلام لكانت بلاد شمالي أفريقيا أقطارا معادية للإسلام، مناوئة للعروبة، بخلاف ما هي عليه الآن من الاعتصام بهما وتكوينهما جزءا لا ينفك من أجزاء العالم الإسلامي، ولا يقل شأنا فيه عن مصر، والشام، وجزيرة العرب، والأناضول، وفارس، وهلم جرا، بل حصنا منيعا تتكسر على جوانبه هجمات الأمم التي لا تطيق وجود الإسلام في الأرض. وكذلك حادث استعراب البربر الذين أصبحوا بتأثير الدين
الحنيف واللسان العربي الشريف كتلة واحدة هم والعرب، يعادون من عاداهم، ويوالون من والاهم، ويكونون دائما يدا واحدة على من سواهم، وإن وجدت بين الأحايين بين الفريقين منازعات ومشاجرات فلا تكون إلا من قبيل تنازع قبائل العرب أنفسهم بعضها مع بعض، أو من باب المنازعات العائلية التي لا تمنع أصحابها من الاتحاد على الأجنبي وتناسي جميع الأحقاد بإزاء الخطر العام، وهذا على حد المثل العامي القائل. . . (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عم على الغريب).
ولله در القائل:
وذوي ضباب مضمرين عداوة
…
قرحى القلوب معاودي الأكناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم
…
وهمو إذا ذكر الصديق أعادي
كيما أعدهمو لأبعد منهمو
…
ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
بل البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض، ولئن كان التاريخ قد روى بين العرب والبربر مخاصمات شعبية عامة كما جرى في الأندلس مثلا بعد فتحها بقليل وأوجب نكوصا كانت عواقبه السيئة فيما بعد، فقد ندر وقوع هذه الحوادث ذات الشكل العام بين الأمتين، وغلب عليهما الشعور بالوحدة الإسلامية حتى صارتا مصداق قوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
ولا ننسى ما قام به البربر في التاريخ الإسلامي من جلائل الأعمال في الذب عن حوض هذه الملة، سواء على أيدي المرابطين أو الموحدين، أو بني مرين أو غيرهم، مما يجعلهم في مقدمة صفوف المجاهدين الذين تتباهى بمآثرهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال، يمكننا أن نقول بحسن اهتداء البربر وتآخيهم مع إخوانهم العرب حملة القرآن الأولين امتدت جزيرة العرب من شرقي البحر الأحمر الضيق إلى شرقي الأوقيانس الأطلنطيقي الواسع، فصارت هذه الأقطار كلها سلسلة عربية إسلامية غير منفصلة ولا متعصبة. وهذا قد وفاه حقه الأستاذ كنون، وأوضح أسباب انتشار الإسلام من أول الفتح بين الأمة البربرية، وذكر من
هذه الأسباب التي أوجبت إقبال البربر على هذا الدين زرافات ووحدانا، ونبذهم ما عداه، ما لا يقدر العدو الألد والخصم الأعند أن يكابر فيه أو يتعامه عنه، وذكر الخلفاء الذين في أيامهم ازداد انتشار الإسلام بين البربر مثل: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، الذي أرسل إليهم طائفة من الفقهاء يعلمونهم القرآن وأصول الدين. ولا عجب وهو الخليفة العادل الورع المقرون اسمه باسم عمر بن الخطاب رضي الله عن الاثنين، حتى قيل في عدلهما: عدل العمرين، وسارت الأمثال في ورع الثاني كما سارت في ورع الأول، وروى المؤرخون أنه لما كثر إسلام القبط في مصر وارتفعت الجزية عمن أسلم منهم، شكا عامل مصر إلى عمر بن عبد العزيز نقصان الجباية عما كانت عليه؛ وذلك بسبب فشو الإسلام في القبط، فأجابه بتلك الكلمة الشهيرة: . . . ويحك إن محمدا لم يجئ جابيا، وإنما جاء هاديا. إذا كان جديرا بهذا الخليفة الورع أن يهتم بالاستقصاء في إسلام البربر، والإمعان في تأدبهم بآداب القرآن حتى غرس فيهم هذه النجابة المعروفة، وأوقد في قلوبهم هذه الحمية الإسلامية التي لم تفارقهم منذ ذلك اليوم. وذكر مآثر موسى بن نصير رحمه الله في هذا الباب حتى لم يمض إلا قليل فظهر الطابع العربي على البربر، ونبغ فيهم العلماء والخطباء بالعربية الفصحى، وحسبك شاهدا طارق بن زياد الذي خطب قبل الموقعة التي هز فيها لذريق ملك الأندلس، تلك الخطبة الطنانة التي لو حاول مثلها قس بن ساعدة، أو سحبان وائل، لم يأت بأفصح ولا أبلغ منها. ولقد كنت أفكر مليا في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي: . . . هنا لغز من ألغاز التاريخ لا ينحل معناه بالسهول، فقد اتفقت الروايات على كون طارق بن زياد بربريا قحا، وكذلك اتفقت الروايات أيضا على كونه هو لا غيره صاحب الخطبة الرنانة المعدودة من أنموذجات الخطب العربية، فكيف يمكن التلفيق بين هذين الأمرين المتناقضين، وأنى لطارق البربري مثل هذه العربية، وكنت أفكر في أن طارقا قد يكون أحسن تعلم العربية كما أحسن ذلك كثير من أبناء جيله، وكما تعلمت العربية رجال فارس حتى بزوا في العربية أقرانهم من أنفس العرب، ولكني لم أكن مستريح البال من جهة إتقان طارق للعربي الفصيح وبلوغه فيه هذه الدرجة العليا، وكان يحز في صدري أن تلك الخطبة كانت بلاغتها في المعنى، وإنما وضعها رواة العرب في هذا القالب الفصيح الذي سحر الألباب، وما زلت
متردداً في هذا حتى جاءني ثلج اليقين على يد الأستاذ عبد الله كنون الذي جزم بأن هذه الخطبة النادرة إنما كانت من جملة ثمرات انطباع البربر بالطابع العربي البحت (1).
ثم أشار الأستاذ إلى مثار الخلاف لأول الفتح بين العرب والبربر، فلم تأخذه العصبية للعرب الذين هو منهم، بل من أشرف بيوتاتهم، سبيل المؤرخ الصادق لا يحابي في الحق، بل سبيل المسلم العامل بمقتضى شريعته، الحافظ قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] الراوي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وهو: «ليس منا من دعا إلى عصبية» فذكر أن مثار النزاع بين الأمتين كان استبداد العرب بوجوه المنافع، واستئثارهم بمناصب الدولة من أيام الإمام إدريس رضي الله عنه، فكان هذا الأمر سببا للتنافس بين الفريقين في المغرب، وأنا أقول أن هذا الأمر نفسه قد كان سببا لتنافسهما في الأندلس منذ أوائل الفتح، حتى إن فريقا من البربر بلغ منهم السخط أن تركوا الجهاد في الطرف الشمالي من بلاد الجلالقة حيث كان منهم العدد الأغلب من المجاهدين، فأصبحت تلك الثغور عورة، ورجع الإسبان فاستولوا عليها، وكان بذلك مبدأ المقاومة الإسبانية ونمو شوكتها، ولم تزل مع الزمن تنمو
(1) يستشكل بعض الباحثين صدور خطبة طارق بن زياد منه وهو بربري قُح، يُستبعد أن تكون له هذه العارضة القوية في اللغة العربية حتى يأتي بتلك الخطبة البليغة، وهو استشكالٌ في غير محله:
(أولًا): لأن طارق بن زياد إن كان أصله بربريا فقد نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق، ولم هو الذي أسلم أولًا بل والده، بدليل اسمه زياد فإنه ليس من أسماء البربر، ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وأنه انتقل إلى المشرق حيث تولاه موسى بن نصير ونشأ ولده في هذا الوسط العربي الذي كونه وثقفه.
(ثانيًا): لأن نبوغ غير العرب في اللغة العربية منذ اعتناقهم الإسلام أمرٌ غير بدع حتى يستغرب من طارق، وهو قد نشأ في بيت إسلامي عربي، فعندنا سلمان الفارسي الذي قضى شطر حياته في بلاد عجمية فلما أسلم بعد ذلك تفتق لسانه بالعربية إلى أن قال فيها الشعر، وبيته المضروب به المثل في الاعتزاز بالإسلام واعتباره هو نسبه الذي يفخر به، إذ افتخروا بقيس أو بتميم، لا يخفى على أحد.
ونمثل ببربري آخر، غير طارق وهو: عكرمة مولى ابن عباس الذي قال فيه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة؛ ومقامه في العلم والرواية لا يُجهل.
(ثالثًا): لأنه ليس في الخطبة من صناعة البيان ما يمتنع نسبتها لطارق، وبلاغتها في نظرنا إنما ترتكز أولًا وبالذات على معانيها، والمعاني ليست وقفا على عربي ولا عُجمي. نعم يُمكن أن يكون وقع في هذه الخطبة بعض تصرف من الرواة بزيادة أو نقص، ونحن قد صححنا فيها بالفعل إحدى العبارات التي لم تكن واضحة الدلالة على معناها، ولكن هذا لا ينفي أصل الخطبة، ولا يصح أن يكون حجة للتشكك في نصها الكامل. هذا رأينا ولكل وجهة، والأمير شكيب رحمه الله لشدة المودة التي كان يخصنا بها جعلنا حجة في صحة نسبة الخطبة لطارق ولسنا هنا.
وتزداد حتى آلت إلى ما آلت إليه، مما لا حاجة إلى ذكره، ولو كان قومنا العرب عملوا يومئذ بقاعدة المساواة الإسلامية ولم يحابوا أنفسهم على إخوانهم الجدد، ولم يجعلوا في الإسلام عاليا ونازلا لما وقع ذلك الخرق الذي انتهى في الأندلس بذهاب الملك ووقوع الهلك، ونجمت عنه في أفريقيا نفسها أضرار جسيمة لا شك فيها.
وقد ذكر صاحب النبوغ المغربي هذه الحقائق في عرض كلامه على تاريخ الحركة الفكرية في ذلك القطر العظيم، وذلك لما تقدم لنا من اتصال الحركة الفكرية بالحركة السياسية والحركة الاجتماعية إلى الحد الذي لا يمكن معه ذكر إحداهما من دون ذكر الأخرى، ونبه الأفكار إلى نكتة هي من الأهمية بمكان، وهي السؤال: لماذا لم يكن في المغرب الاندماج تاما كما وقع في الشام والعراق والأندلس حيث قد ألقت العروبة بجرانها وعمت السهل والوعر، ولم يبق ثمة إلا أقطار عربية لا تفترق عن جزيرة العرب في شيء؟ فأورد على الفرق الواقع أسبابا معقولة سنخوض فيها بفصل تال.