الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النسب ومحمد بن عيسى الكاتب وغيرهم. ناهيك بفدائه لابن القاضي المذكور لما وقع في أسر الإفرنج بألوف الدنانير الذهب.
العلوم الكونية:
وهذا في العلوم الأدبية. وأما العلوم الكونية فما كان مما تقتضيه في الجملة، طبيعة العمران البشري وخلة الاجتماع الإسلامي فإنه كان منتشراً بكثرة، وذلك كالهندسة والهيئة والطب وما إليها. وما عدا ذلك فلم نقف له على خبر.
أما الطب فقد كان للدولة مزيد اعتناء بأهله واهتمام بشأنه، وحسبك ما أسداه المنصور لطبيبه الخاص أبي عبد الله محمد الطيب، وما خلع عليه هو ورجال دولته، لما استقلّ من مرضه المخوف وتداركه الله على يد الطبيب المذكور عام? ? ? وكان هناك أطباء كثيرون منهم أبو القاسم الوزير صاحب كتاب المفردات المشهور وأحمد المريد وابن سعيد المرغيثي وغيرهم. ومما يدل على ارتقاء شأن الطب في هذا العصر ما وصفه المنصور من أنواع الوقاية والعلاج في كتابه الذي بعثه إلى ولده بمراكش عند ظهور الوباء ونص المراد منه:«والى هذا أسعدكم الله أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء ولو أقل القليل حتى بشخص واحد، ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله، فالزموه وإذا استشعرتم بسلامة بحرارة وتخوفتموها فاستعملوا الوصف من الوزن المعروف منه ولا تهملوا استعماله. وأما ولدنا حفظه الله لمكان الشبيبة فحيث يمنعه الحال من المداومة على الترياق فها هي الشربة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هنا لكم عند التونسي فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله، حتى إذا أحس ببرد المعدة من أجلها تعطوه الترياق فيعود إليها. والبراءة التي ترد عليكم من سوس أو من عند الحاكم أو من عند ولد خالكم أو من عند غيرهما لا تقرأ ولا تدخل داراً بل تعطى لكاتبكم هو الذي يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها. ولأجل أن الكاتب يدخل عليكم ويلابس مقامكم فلا يفتحها إلا بعد إدخالها في خل ثقيف وتنشر فتيبس وحينئذ يقرأها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس يأتيكم من سوس ما يستوجب الكتمان» .
ومما في هذه الرسالة مما يتعلق بالبيطرة وهي طب الحيوان قوله: «وأوصيكم
أعزكم الله أن تتفقدوا فرسنا الأحمر الصغير ولا تتركوهم يعطونه القصيل لئلا يكثر لحمه ويزاد ألمه، بل انظر من يركبه كل يوم، بل لا ينزع السرج بالكلية عن ظهره بياض النهار كله وأعطوه لصاحب روض المسرّة يركبه في ذهابه وإيابه للمسرة أو لداره وأوصوه أن لا يركبه غيره.
وأما الهيئة فقد كان لها فضل انتشار أيضاً، لمكان الحاجة إليها في معرفة أوقات الصلاة والإمساك والإفطار في الصوم وغير ذلك، وقد ألفت فيها وحدها ومع الحساب كتب عديدة. ومن علمائها المشهورين: البوعقيلي والمرغيثي وغيرهما.
وفي غير ما ذكر نقول أنهم ذكروا في ترجمة المنصور كدليل على نبوغه وعبقريته أنه قرأ كتاب إقليدس الهندسي وفك جداوله بنفسه من غير استعانة على ذلك بأحد لفقد «من يحسن ذلك الشأن في عصره» . وهذا لا يتوافق مع ما عرف عن هذا العصر من استبحار العمران وكثرة البنيان وشيوع فنون الزخرفة من النقش والتزويق وغير ذلك مما لولاه لما أمكن بناء قصر البديع العديم النظير وغيره من الحصون المنيعة والقناطر الرفيعة التي تحتاج في وضع تصميماتها وبنائها إلى جهود الجبابرة، وعقول الجهابذة من رجال الفن والهندسة المعمارية.
وفعلاً فإننا نرى أنه كان هناك رجال ممن يحسنون «ذلك الشأن» أو على الأقل من شارك فيه نظرياً مثل ابن القاضي الذي ألف كتاب المدخل إلى الهندسة، وأبي القاسم الغول الذي ألف كتاب كيفية قسم المياه على قواديس الديار. ولا بد أن يكون هناك آخرون لم نعرفهم وعنهم أخذ هذان وغيرهما، فبإضافة هؤلاء إلى الرجال العمليين الذين كانوا موجودين بكثرة يتضح ما في قولهم لفقد من يحسن ذلك الشأن في عصره، من المبالغة. إنما الواقع أن الاشتغال بهذه العلوم كان نسبياً وبمقدار مع طغيان الإقبال على العمل دون النظر، والأول وإن كان هو الأجدى والأنفع إلا أن الثاني له خطره ومزيته في حفظ النماء العلمي وصون التراث الفني.
ولا نظن الكلام على الآثار الفنية الرائعة التي تخلفت عن هذا العهد وأخصها قصر البديع بمراكش وما توحي به من رسوخ قدم الصانع المغربي في فنون المعمار وعمل
المقربصات والزليج والنقش على الجص والخشب والتلوين والتذهيب وما إلى ذلك- إلا من الكلام المعاد، لا سيما وهذه مقابر السعديين بمراكش ما زالت ماثلة العيان تغني مشاهدتها عن كل بيان. أما قصر البديع فقد نقض مع الأسف الشديد، ولم تبق إلا أوصافه المعجبة المطربة مسجلة في الأشعار البليغة التي قيلت فيه، وكتب على جدرانه، ويتضمن قسم المنظوم من هذا الكتاب جملة صالحة منها. . لكن الذي ينبغي تسجيله في الكلام على الحياة الفنية في هذا العصر هو النهضة الموسيقية التي تتمثل في المحافظة على الطرب الأندلسي بجميع ألحانه ونغماته. وقطعه وأدواته، ثم تجديده وتكميله بما هو منه بسبيل كإضافة بعض الآلات وتوليد بعض الطبوع، ومن ذلك طبع الاستهلال الذي استنبطه الحاج علي البطلة، من أهل فاس، على عهد السلطان عبد الله الغالب بن محمد الشيخ المهدي وهو خارج عن شجرة النغمات الأصول والطبوع المتفرعة عنها، التي وضعها الموسيقيون لذلك. ولكنّ الغالب عليه أن يكون فرعاً من الذيل كما في كتاب الحايك الموسيقار المشهور. وإلى هذا فإن ضروباً من الزينة في اللباس والفراش والأثاث على العموم قد ابتكرت في هذا العصر، مما يدل على ذوق فني رفيع. ونذكر على سبيل المثال من ذلك المنصورية التي يقال إن المنصور الذهبي أول من لبسها، وكذلك الحائطي، ويطلق على الستور المزخرفة التي تزين بها جدران البيوت وقاعات الجلوس. وللشعراء فيه أوصاف جميلة. ومن الجدير بالذكر أن المرأة كان لها يد طولي في هذا الصدد، فقد سجل المؤرخون أن العريفة بنت خجو- وأسرة خجو أسرة معروفة بالعلم والفضل- هي التي هذبت حواشي مُلك السعديّين وخاصة في داخل قصورهم وحالاتهم في الطعام واللباس وعاداتهم مع النساء وما إلى ذلك، إذ كان قيامهم أولاً من البادية، فلم يكونوا يتقيدون بآداب الحضارة وسير أهلها. . وعلى ذكر المرأة لا ينبغي أن ننهي الكلام في هذا الفصل حتى نشير إلى ظاهرة حرية بالتسجيل في ميدان النشاط النسوي المغربي ألا وهي مساهمة المرأة في الحكم والسياسة أواخر أيام بني وطاس وأول عهد السعديين، إذ شاهد الناس لأول مرة على دست الحكم في مدينة تطوان السيدة عائشة بنت علي بن راشد، وهي سيدة من بيت شريف؛ فإن والدها السيد علي بن راشد كان شخصية لامعة في الجهاد، وترأس بناحية غمارة واختطّ مدينة شفشاون بقصد تحصين تلك الناحية من نصارى سبتة. وكانت ابنته هذه التي اشتهرت بالحرّة ذات ذكاء ودهاء ومعرفة وسياسة، تزوجت
بالسيد المنظري الصغير حاكم مدينة تطوان وحفيد القائد أبي الحسن المنظري الكبير مجدد بناها وحاكمها الأول. فلما توفي زوجها توالت هي حكم المدينة وضبطتها أحسن ضبط، ثم تزوجها السلطان أحمد الوطاسي وبنى بها في تطوان في شهر ربيع الأول سنة 948. ونجحت في السفارة السيدة سحابة الرحمانية والدة عبد الملك المعتصم بطل معركة وادي المخازن؛ فإنها كانت أول من أبلغ بشارة فتح تونس إلى السلطان العثماني بالقسطنطينية وطلبت منه كمكافأة لها على ذلك مساعدة ابنها بجيش الجزائر على استعادة ملك والده، فأجاب طلبها، الأمر الذي لم ينجح فيه عبد الملك نفسه من قبل. وفي الميدان الحربي أثبتت السيدة مريم أخت عبد الملك هذا كفاءتها في قيادة ثلاثة آلاف جندي من الرماة تركهم أخوها بمعيتها في قصبة مراكش فامتنعت بها على ابن أخيهما محمد أثناء انتزاع ملك والدهما منه. ولم يكن نبوغ المرأة المغربية في هذا العصر قاصراً على الناحية السياسية والحربية، فقد اشتهرت في ميدان العمل الاجتماعي السيدة مسعودة الوزكيتيّة والدة المنصور الذهبي ومن منشآتها الخالدة مراكش المسجد الجامع بباب دكّالة منها وجسر وادي أمّ الربيع وغير ذلك من أعمال البر والإحسان الكثيرة. واشتهرت بالعلم والتقوى والصلاح السيدة عائشة بنت أحمد بن عبدالله بن عمران والدة ابن عسكر المؤرخ السياسي المعروف. وكان لها في المجتمع المغربي مقامٌ محترم جداً. على أنّ النساء من هذه الطبقة كثيرات في هذا العصر فلا نطيل بذكرهن