الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في دائرة العروبة والإسلام الصحيح
يقول كثير من المؤرخين ونسابة المغرب: إن بني مرين فخذ من زناتة، يمتون في عداد قبيلتهم هذه إلى قيس عيلان، فهم عرب خلص، لا شك في ذلك، وقال شاعرهم عبد العزيز الملزوزي في نظم السلوك.
فجاورت زناتة البرابرا
…
فصيروا كلامهم كما ترى
ما بدل الدهر سوى أقوالهم
…
ولم يبدل منتهى أحوالهم
بل فعلهم أربى على فعل العرب
…
في الحال والإيثار ثم في الأدب
فأنظر كلام العرب قد تبدلا
…
وحالهم عن حاله تحولا
لا يعرفون اليوم ما الكلام
…
وما لهم نطق ولا إفهام
وإن تمادت بهم الأحوال
…
لم تبق في الدهر لهم أقوال
كذاك كانت قبلهم مرين
…
كلامهم كالدر إذ يبين
فاتخذوا سواه خليلاً
…
فبدلوا كلامهم تبديلاً
وهذا ظاهر على القول بعروبة البربر، والخلاف في ذلك شهير، فلا نطيل به هنا. وسواء صح ذلك أم لم يصح، فالواقع أن بني مرين كانوا يعملون للنهضة والتجدد في دائرة العروبة، لا يخرجون عنها أصلاً، فخدموا العربية خدمة مصادقة، ورفعوا لها منارة عالية، وكفى أننا لم نعد نسمع بعد توليتهم الحكم بشيء من التمييز الذي كان للبربر في دولة بني مؤمن؛ بل كان هذا آخر العهد بحياة الفرقة والعنصرية المقيتة. فعلا شعار العروبة كل الشعارات، وضمت الضاد جميع المغاربة في شق المصالح
والمرافق، الأمر الذي كان يجب أن يتم منذ جلوس أول عربي صميم تولد من بربرية صميمة على عرش المغرب، وهو إدريس الثاني بن كنزة بنت إسحاق بن عبد الحميد الأوربي، بل منذ أن قاد طارق بن زياد وهو البربري الصريح جيش المغرب الذي فتح الأندلس؛ فركز فيها راية العروبة فلم تزل فيها عالية خفاقة إلى آخر العهد بها.
وهكذا أيضاً كان عمل المرينيين في الناحية الدينية سليماً من أي نزعة، خالصاً من كل بدعة. فإذا كان المذهب الأشعري في العقائد قد تقرر في العصر السابق، وصار هو الغالب على أكثرية المغاربة، فقد علمت أنه تقرر بعيداً عن تأثير الدولة، وخالياً مما كانت تضيفه إليه من آراء شاذة مأخوذة عن المعتزلة وغلاة الشيعة. على أنه قد عم العالم الإسلامي، وأصبح هو والمذهب الماتريدي) (1) المذهبين العقدين الرسميين السائدين في سائر مملكة الإسلام، وفي الفقه ساد المذهب المالكي نهائياً لكفاح اتباعه المستميت في العصر السابق، ولمناصرة الدولة الجديدة له. على أن الحرية المذهبية لم تقيد قط في المغرب. فبقي أفراد عديدون في هذا العصر وفي العصور التي بعده يميلون إلى المذهب السلفي في العقائد، وآخرون يأخذون بمذهب أهل الحديث في أحكام العبادات. أما الذين يدرسون الحديث على أنه مادة الفقه وأصله المتفرع عنه فكثيرون. وفي بعض الأحيان كانت الدولة نفسها تناصر المذهب السلفي وتشجع العلماء على النظر والاجتهاد، كما حصل في أيام السلطان سيدي محمد بن عبدالله في العصر العلوي. وعلى كل حال فان مذهب أهل السنة سواء في الاعتقاد أو الفقه قد توطد منذ هذا العصر في المغرب. ولم يقم بعد الموحدين دولة تنزع نزعة مخالفة لما عليه الجمهور وسواد المسلمين. ولقد أعاد السلاطين من بني مرين إلى أذهان الناس ما كان من أبهة الخلافة الأموية الأندلس في قصورهم ومصانعهم ورؤسائهم وجنودهم؛ فكان خروج السلطان لصلاة الجمعة والعيدين، وللمناسبات الأخرى يقع في مشهد عظيم، وموكب فخيم. وكانت هذه المظاهر الشائقة كثيراً ما تغري كبار الذوات العلمية والأدبية في الأندلس والمغربين الأدنى والأوسط، فيفارقون بلادهم غير آسفين عليها، ويؤثرون الحضرة الفاسية حيث يتمتعون في كنف الدولة المرينية بأسنى ما كان يتمتع به رجالات الدول السالفة كالعباسيين والأمويين مما سمعوا به ولم يروه.
(1) نسبة إلى مؤسسة أبي منصور الماتريدي أمام أهل السنة فيا وراء النهر، والماتريدية أو لأشعرية متفقون في أصول العقائد وليس بينها خلاف إلا في أمور ثانوية.
وكفى بابن خلدون وابن الخطيب وابن الأحمر وابن رضوان وابن مرزوق وابن جزي والمقري وكثيرين غيرهم من العظماء الذين تفيئوا ظل هذه الحضرة المرينية، وتقلبوا في نعمتها لما إنها كانت في عصرها حامية بيضة الإسلام، وموئل العروبة، دليلاً على ما نقول.
ولقد سار أولئك السلاطين في إقامة مراسيم الخلافة على سننن لا حب فكانوا يعقدون المجالس للمناظرة والمحاضرة، ويطارحون الأدباء، ويحاورون الشعراء. أما العلماء فلا تسل عن شدة تقريبهم لهم واختصاصهم بهم حتى أن جمهوراً منهم ذهب ضحية هذا التقريب والاختصاص في وجهة أبي الحسن الإفريقية كما سبق القول. وقد قيل إن عدد من غرق من العلماء في أسطول هذا السلطان أربعمائة عالم، فما بالك بمن لم يركب الأسطول ونجا؟ فما ظنك بمن لم يصحبه في تلك الوجهة? وهذا يعني أن العلماء كانوا متوافرين بحيث بلغ عدد الذين يصحبون السلطان - ولا يكونون عادة إلا من جهابذة أهل العلم - ذلك الرقم المرتفع جداً. وهذا يعني أن الدولة كانت في خدمة العلم، بحيث انصرفت الهمم إلى طلبه، وأشتد التنافس في تحصيله، فكثر العلماء نتيجة لذلك، وفعلاً فإن ما عمله المرينيون في هذا الصدد يجعلهم حريتين بلقب دولة العلم الذي يطلقه عليهم بعض المؤرخين، ولقد بذوا بمآثرهم العلمية جميع من تقدم أو تأخر من ملوك المغرب. فمدارسهم الفنية العديدة لم يستطع أحد أن يأتي بمثلها إلى الآن. وخزائن الكتب كذلك لا تزال تنطق بفضلهم على الحركة العلمية في هذه البلاد منذ أسسوها، ولا سيما خزانة القرويين التي أنشأها السلطان أبو عنان وأودعها كما يقول الجزنائي في زهرة الآس «الكثير من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان، واللسان والأذهان، وغير ذلك من العلوم على اختلافها، وتنوع ضروبها وأجناسها، ووقفها ابتغاء الزلفي ورجاء ثواب الله الأوفى، وعين لها قيماً لضبطها ومناولة ما فيها، وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جراية مؤبدة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى سنة? 5? » . وأسس أبو عنان كذلك بالقرويين خزانة مصاحف، احتفل في بنائها وتشييدها بما لم يسبق إليه، وأعد فيها جملة كبيرة من المصاحف الحسنة الخطوط، وكلف بها من يتولى أمرها على أحسن الشروط. وقبل أبي عنان عقد السلطان يعقوب المنصور صلحاً مشروطاً مع (شانجه) ملك إسبانيا، كان مما شرطه عليه فيه أن
يوجه إليه كتب العلم التي بقيت ببلاده للمسلمين؛ فوجه إليه منها ثلاثة عشر حملاً فيها كثير من المصاحف وكتب التفسير والحديث والفقه واللغة، فأرسلها المنصور إلى فاس وحبسها على طلبة العلم. ولقد جاوزت عنايتهم بهذا الشأن بلاد المغرب، إلى الخارج. فهذا السلطان أبو الحسن يوقف على المساجد الثلاثة المقدسة ثلاثة مصاحف كتبها بخطه، وجمع لها القراء والخطاطين والنقاشين، وأخرجها في حلة فريدة من الفن المغربي البديع، وأرسلها وقفاً كما قلنا إلى مسجد مكة، ومسجد المدينة، وبيت المقدس، وأوقف عليها من الضياع والرباع ما يقوم بكفاية القائمين عليها والقارئين فيها. وكانت المساجد والمشاهد والمنشآت التي خدموا بها الدين كثيرة أيضاً، ناهيك بأن أبا عنان منهم هو أول من نصب صواري الصوامع، ونشر فيها الأعلام (1) في أوقات الصلاة نهاراً والشرج ليلاً، يستدل بذلك من بعد ومن لم يسمع النداء وجعل علم يوم الجمعة أزرق للاستذكار. وفي ذلك اعتناء بأمور الأوقات، وما يتعلق بها من وجوب الصلوات وما يترتب عليها من وجوه الحقوق في العادات والعبادات وفيه قيل:
نور به علم الإيمان مرتفع
…
للمهتدين به للحق إرشاد
يأتون من كل صوب نحوه فلهم
…
لديه للرشد إصدار وإيراد
وفي الحقيقة إن كل واحد منهم كان مثالاً للملك العربي المسلم العامل لعزه قومه ودينه، فلا يفتأ يجد ويجتهد في إشادة مجدهما وتخليد مآثرهما، وبقدر حرصهم على الوحدة المغربية الذي قدمنا الكلام عنه وقلنا إنهم أخطأوا الطريق إليه، كان حرصهم على الوحدة الإسلامية عموماً، فأنت قد رأيت مقدار تفانيهم في الدفاع عن معقل المدنية الإسلامية، والحضارة العربية في بلاد الأندلس، ومبلغ نصحهم لملوكها، حتى إنهم كانوا معهم مثل الأجراء يعملون لهم، لكن بدون أجرة، بل هم كانوا يدفعون إليهم المبالغ الطائلة من الأموال والسلاح والعتاد. كذلك كانوا على اتصال دائم ملوك الإسلام في مصر والشرق؛ فكم كاتبوهم وهادوهم وعقدوا
(1) ولا نظير لذلك إلا في بعض بلاد الشام خاصاً بالظهر والعصر والمغرب التي يفيد فيها نشر العلم.
أواصر المودة والائتلاف معهم، وأوفدوا إليهم الوفود والسفراء من خيرة رجال المغرب الإداريين، وذوي العلم والأدب وأهل البيت المالك، كل ذلك يدلنا على ما كان لهم من صدق النية، وإخلاص الطوية، في خدمة الدين والوطن، وتعزيز الروابط الجنسية والملية بينهم وبين الدول العربية والإسلامية المعاصرة.
فلا جرم بعد هذا أن نقول إن كل أعمالهم ومآتيهم للنهضة والتجدد، كانت في دائرة العروبة والإسلام الصحيح، لا تزيغ عنها قيد فتر، وإنهم خدموا العربية والدين خدمة صادقة، ورفعوا لهما مناراً عالياً، وما بعد العيان بيان.