الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القطرين محرراً من القيود التي كانت تجعله يثور لاقل بادرة من الخروج عن دائرة المسلمات والقواعد والرسوم المتعارفة. فشتان بين عهد المرابطين الذي كان فقهاؤه في كل من الأندلس والمغرب يجرمون الإحياء وغيرها من كتب الغزالي ويحكمون بإحراقها؛ وبين هذا العهد الذي ينبغ فيه مثل ابن عربي الحاتمي وينشر كتابه الفتوحات الملكية وغيره فلا يحرك الفقهاء ساكناً في سبيل الإنكار عليه، مع عظم الفرق بين محتويات الإحياء ومحتويات الفتوحات مما لا تقره المذاهب الفقهية بأجمعها وربما (ورب للتكثير)) يتعارض مع جوهر العقيدة الإسلامية في كثير من المسائل.
علم الكلام:
وكذا الكلام أخذ حظه الكامل من الانتشار فقد كان ابن تومرت يلزم أصحابه بدراسته إلزاماً. وكان الموحدون على العموم يعتبرون من لم يعرف العقائد على سبيل التفصيل وعلى طريقة الأشعري بالأخص يعتبرونه كافراً ليس معه من الإسلام إلا الاسم. ومن ثم سموا أنفسهم بالموحدين ونبزوا المرابطين خصومهم بالمجسمين. وألف المهدي لأصحابه عقائد مختصرة باللسانين العربي والبربري كما سبق القول، فتأثر الناس أخطاه وصنفوا في هذا العلم الكتب العديدة. وكان من أطولهم يداً وأحسنهم عارفة في هذا السبيل عند العامة الشيخ أبو عمرو عثمان بن عبدالله بن عيسى السلالجي. وهو الذي على يده وقع تحول أهل فاس من المذهب السلفي في العقيدة إلى المذهب الأشعري تبعاً للتيار العام الذي اكتسح المغرب بأجمعه في هذا الأمر نتيجة لدعوة ابن تومرت. ولكن قد شيب صفو هذا العلم في أوائل أيام الموحدين مما أضافوه إليه من تعاليم شيعية بدعية جرياً وراء ما كان يذهب إليه داعيتهم المهدي بن تومرت من ذلك المذهب. فقد كان الاعتقاد بالأمام وعصمته شائعاً في ذلك الوقت وكانت الخطب على منابر المغرب والأندلس وإفريقية التي تنيف على ألفي منبر لا بد أن تشتمل على الدعاء «للإمام المعصوم المهدي المعلوم» حتى تقدم يمنع ذلك يعقوب المنصور على ما ألمعنا إليه سابقاً فكانت حسنة من حسناته وكفارة عن جميع ما يؤخذ عليه بشأن العلم والعلماء، وعلى كل حال فإن علم التوحيد أو علم الكلام - كما سمي قديماً - إنما انتشر في هذا العصر، وما كان قبله أنما هو من قبيل المحاولات الأولى. ومثله علم أصول
الفقه، فقد تبوأ من بين العلوم في هذا العصر مكاناً عالياً ووجد من القرائح المغربية مجالاً خصماً لنموه وازدهاره.
وهذا أن العلمان هما مما نقله المغرب عن المشرق مباشرة وقد نبهنا في عصر المرابطين على الطليعة الأولى من رجالهما الذين أدخلوهما إلى المغرب. ثم جاء المهدي بن تومرت وقد أخذهما عن أئمتهما الراسخين من أهل المشرق فبثهما وحفز الهمم تطلبهما وكان انتشارهما سبباً في تقريب شقة الخلاف ما بين الفقهاء والمتكلمين والمتصوفة، لم يحملان عليه من النظر في الأدلة وعدم المسارعة إلى الإنكار قبل معرفة مدرك الخصم، وبذلك زال النزاع الشديد الذي كان قائماً بين هذه الطوائف من العلماء. والذي كان يبعث بعض الفقهاء من أهل هذا العصر على أن يقول مثل هذه المقالة المنقولة من كتاب الحلال والحرام لراشد الفاسي. قال فيه:«سمعت من أبي محمد عبدالله بن موسى الفشتالي أن التائب إذا اقتصر على ما عند علماء الشريعة أولى وأسلم له، بل لا يجوز اليوم اتخاذ شيخ السلوك طريق المتصوفة أصلاً، لانهم يخوضون في فروعها ويهملون شروط صحتها، وهو باب التوبة، إذ لا يصح بناء فرع قبل تأسيس أصله. وسمعته يقول: لو وجدت تأليف القشيري لجمعها والقيتها في البحر. قال وكذلك كتب الغزالي. وسمعته يقول: إني لأتمنى على الله أن أكون يوم الحشر مع أبي محمد بن أبي زيد لا مع القشيري والغزالي بل مع أبي محمد يشكر فذلك أكثر أمناً لي على نفسي» .
على أن الغريب في الأمر هو أن هذه الكتب التي كانت تعدم وتحرق لا تلبث أن تحيي وتروج أيضاً وهذه الإحياء ألم يحرقها علي بن يوسف؟ فكيف عادت إلى الظهور? إذ لا شك أنها المعنية في كلام الشيخ الفشتالي. وإذا قيل إنه كتب الغزالي قد انتشرت من جديد بسبب قيام دولة الموحدين التي يعتبر مؤسسها خريج المدرسة الغزالية وناشر تعاليمها في المغرب، فكيف يقال في كتب الفقه المالكي التي أحرقها المنصور وقد قيل أن عبد المؤمن نفسه أمر بإحراقها لما استتب له الأمر؟ . . والجواب أنه في هذا العصر كان جل الاعتماد على الحفظ والاستظهار. فبعد حرق هذه الكتب لم يصعب على الناس أن يجدوا من يستظهرها بلفظها وتكتب عنه. وهذا الشيخ أبو محمد عبدالله بن محمد بن عيسى التالي الفاسي الفقيه الحافظ المحصل المتوفي سنة 623 يذكر المؤرخون في ترجمته أن المدونة. كتبت من حفظه بعد أن أحرقها الموحدون أي في
نفس الوقت تقريباً. ومما لا شك فيه أن غيره كثيرون من كتبت الكتب الأخرى المحروقة من لفظهم وحفظهم.
والذي نريد أن نسجله هنا هو أن المذهب المالكي لم ينهزم مطلقاً أمام الدعوة إلى الاجتهاد التي كان الموحدون يتزعمونها، ولا أمام المذهب الظاهري الذي نشط نشاطاً كبيراً في هذا العصر. وذلك برغم الحملة المنظمة من رجال الدولة للقضاء عليه. فها أنت ترى كتبه الأمهات يعاد كتبها بفور إحراقها. وسترى في تسمية تأليف فقهاء العصر ما وضع حول هذه الكتب من دراسات وما عميل لها من شروح. وأنا لنعد من فقهاء المذهب المالكي الذين نبغوا في هذا العصر العثرات قبل أن نعد ظاهرياً واحداً أو فقيهاً متحرراً من تميل إلى الاجتهاد. ناهيك بأبي محمد بشكر الجراوي الذي سبق ذكره في كلام الشيخ الفشتالي، فإنه من فقهاء العصر وممن كتب على المدونة، وأبي محمد صالح الفاسي الذي بقي مثلاً مضروباً عند فقهاء المذهب للعدل المبرز، وأبي القاسم الجزيري صاحب المقصد المحمود في تلخيص العقود وهو الكتاب الذي اعتمده الناس في كتابة الوثائق ولم يقدموا عليه غيره، وأبي الحسن المتيوي الفقيه الحافظ صاحب الشرح العظيم على الرسالة بالنقل لأقوال الأئمة الذين تدور عليهم الفتوى. إلى غير هؤلاء من يطول الأمر بتعدادهم. بل أنا لنسجل ما قام به أحد فقهاء المالكية من رد فعل على حركة انتشار المذهب الظاهري ممثل في التهجم على ابن حزم إمام الظاهرية بالأندلس والمغرب، مما أدى إلى عقد مجلس علمي مراكش للنظر في القضية. وهذا الفقيه هو أبو زكريا الزواوي أحد أفراد هذا العصر علماً وصلاحاً. وكان مقيماً ببجاية. وإليك ما كتبه الغبريني عن هذه الواقعة في كتابه عنوان الدراية. قال:
«ولما كان من أمر الفقيه أبي زكريا الزواوي في شأن ابن حزم ما قد اشتهر، وتعصب له ناس ورفعوا القضية للخليفة بمراكش اقتضى نظر الفقيه أبي زكريا رضي الله عنه أن يتوجه عنه الفقيه أبو محمد عبد الكريم الحسني المراكشي. فتوجه وحمل تأليف الفقيه أبي زكرياء ورده على ابن حزم المسمى حجة الأيام وقدوة الأنام. ولما وصل حضرة مراكش استحضره أمير المؤمنين بين يديه بمحضر الفقهاء وعرض تأليف الفقيه عليهم وكان الفقيه. أبو محمد عبد الكريم هو النائب في الحديث فأحسن وأجاد وأطلع أمير المؤمنين ومن حضر من الفقهاء على كلام الفقيه رضي الله عنه مما دلهم على فضله
ودينه وعلمه، فكان من قول الحليفة «يترك هذا الرجل على اختياره فإن شاء لعن وإن شاء سكت» . وانقلب أبو محمد عبد الكريم وهو المبرور، وسعيه المشكور، رضي الله عنه وأرضاه.
وهذه الحادثة إن مثلت المعركة التي كانت قائمة بين المالكية وخصومهم، فإنها تدل على فشل الجهود التي بذلت لصرفهم عن مذهبهم وعلى ازدهار هذا المذهب في حين كان خصومه يعملون على ذبوله.
وعلى كل حال فإن مما لا ريب فيه أن الفقه المالكي قد استفاد من هذه المعركة، غير الانتصار على الخصم، التلقيح بمادة الحياة الأصلية بالنسبة إلى كل المذاهب الإسلامية؛ وهي الرجوع إلى الكتاب والسنة فلم يبق ذلك الفقه الساذج الذي يقارن أقوال أئمة المذهب بعضها ببعض، ويرجعها في النهاية إلى رواية ابن القاسم عن الإمام مالك، بل صار يعتمد على الأدلة وينظر في الخلاف العالي. وبذلك أخذ خير ما في الدعوة المعارضة له وأحرز كيانه.
وكذا وقع في انتشار مذهب الأشعري العقدي بعيداً عما شيب به من تعاليم شيعية غالية على ما كان المهدي يدعو إليه. فإن الإمام الستلالجي الذي تجند لنشر العقيدة الأشعرية كان من أبعد الناس عن تلك الشبه وأكثرهم تمسك بالسنة. فلما أخذ الناس عنه العقيدة المذكورة لم يكن فيها شيء من تلك الشوائب وحمى الله المغرب وأهله من الغلو والانحراف في العقيدة والمذهب.
هذا وقد قلنا إن الموحدين كانوا يدعون إلى الاجتهاد ونحن نعني ما نقول خلافاً ما شاع من أنهم كانوا على مذهب الظاهرية. فإن أحداً من مؤرخيهم لم ينقل ذلك عنهم، وليس يكفي أن يظهر المنصور إعجابه بابن حزم لنحكم بأنه وقومه على (. . .)(1) ، كيف والذي ثبت من عمله أنه جمع من كتب السنة أحاديث في العبادات
(1). . .) في النفح أن المنصور مر بأوقية من أرض شلب فوقف على قبر الحافظ أبي محمد بن حزم، وقال: عجباً لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم! ثم قال: كل العلماء عيال على ابن حزم.
كان يمليها على الناس ويجعل لمن حفظها الجمل السني على هامر؟ فالأمر يتعلق بالدعوة إلى العمل بالسنة أكثر من الانتماء إلى مذهب معين. ويقول التاج ابن حمويه السرخسي الذي رحل إلى المغرب في أيام المنصور واتصال به اتصالاً وثيقاً حسبما اثبته المقربي في نفح الطيب عنه: «والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ويتكلم في الفقه كلاماً بليغاً. وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوي. وله فتاوي مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده. وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر وقد صنف كتاباً جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلق بالعبادات سماه الترغيب» فليتنبه إلى قول السرخسي (وله فتاوى مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده) وما تفيده هذه العبارة من ميله إلى الاجتهاد. وإلى قوله (وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر) وما تعطيه هذه الجملة من أنهم يتجنون عليه بذلك. وقد رأيت أن الفقيه الزواوي كان يجهر بلعن ابن حزم، وأن أمره عرض على الخليفة بمراكش فأقره على رأيه. وذلك مما يدل على أن الموحدين لم يكونوا ظاهرية وإلا لما قبلوا لغن أمامهم وكبير علماء مذهبهم.
والحجة الكبيرة في أن القوم لم يكونوا على مذهب أهل الظاهر هي مجموعة كتب المهدي بن تومرت هذه التي نشرها المستشرق المجري جولدزهير وتشتمل على كتاب أعز ما يطلب والعقيدة المرشدة وكتاب الطهارة الذي يقال إن المنصور جمع كتاباً في الصلاة على منواله، إلى غير ذلك من تعاليق المهدي وكلها ليس فيه ذكر للظاهرية ولا العلم من أعلامها. . بل إن في تعاليقه الأصولية ما يعارضها وهو أثبات القياس ومدحه مما لا يجنح إليه أهل الظاهر كما هو معلوم. وإذا كان هذا إمام الموحدين ومهدهم الذي أسس دولتهم ومهد مذهبهم لا يرى رأي الظاهرية ولا يبدي نحوها. أدنى ميل فلا شك أن خلفاءه كانوا كذلك. وإنما كان الفقهاء ينسبونهم إليها تشنيعاً عليهم كما يقال اليوم في كل من كان سلفي العقيدة: إنه وهابي، تنكيتاً عليه وتنفيراً من مذهبه) (1). ونظن أن ميل المهدي واتباعه إلى الاجتهاد جاءهم من الشيعة الذين
(1) مما يشهد لما قلناه، هذه الأبيات التي يقولها ابن عربي الحاتمي تبرياً من الظاهرية، وهو أيضاً ممن رمي بها:
نسبوني إلى ابن حزم وإني
…
لست من يقول قال ابن حزم
بل ولا غيره فإن كلامي
…
قال نص الكتاب ذلك حكمي
أو يقول الرسول أو أجمع
…
الخلق على ما أقول ذلك علي