الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموحدين للبيدق والذيل على صلة ابن بشكوال لابن فرتون وكتب ابن عبد الكريم التميمي وغيرهما مما يأتي مستوفي في تسمية الكتب المؤلفة في هذا العصر على العموم. ولكن ما لا بد أن ننبه عليه هنا، ونحن نؤرخ الحركة الأدبية في المغرب، هو المؤلفات الخاصة بالأدب وتاريخه. ولقد كاد كتاب المعجب أن يكون تاريخ أدب أكثر منه تاريخ سياسة. والسبب في ذلك أن المراكشي السفه في المشرق ليطلع أهله على ما خفي عنهم من شؤون أهل المغرب السياسية والأدبية. وهكذا أيضاً ألف أبو الخطاب بن دحية، المطرب، من أشعار أهل المغرب، وهو إن يكن كسلفه مليئاً بأدب الأندلس ليس فيه من آثار أهل المغرب إلا القليل، فكفانا أنها مع أثران مغربيان ينمان عن أدب صاحبيهما وعبقريتها.
وإن ننس لا ننس كتاب صفوة الأدب، وديوان العرب، الذي ألفه الشاعر أبو العباس الجراوي على وضع كتاب الحماسة لأبي تمام وضمنه مختارات من الشعر العربي في مختلف أبوابه، ولم يغفل أن يضم إليه من شعر الأندلسيين والأفارقة ما جعله يمتاز عن حماسة أبي تمام. ويعرف بالحماسة المغربية. وقد وصلنا مختصره الذي أطلعنا منه على غزارة حفظ مؤلفه وحسن صنيعه. وبالجملة فإن نهضة علوم الأدب في هذا العصر كانت شاملة. وما يمنعنا من تتبع مظاهرها إلا خشية التطويل، ويأتي مزيد بيان لها في الكلام على الحياة الأدبية.
***
العلوم الحكمية:
وأما العلوم الحكمية فإنها انتشرت انتشاراً كبيراً لم تبلغه في أي عصر آخر، حتى لقد كان هذا عصرها الذهبي في المغرب، وكان الموحدون، والحق يقال، أشبه الدول الإسلامية بالعباسيين في الأخذ بضبع هذه العلوم وتنشيط رجالها لكن أربى عليهم في ذلك كإرباء المأمون على سائر العباسيين يوسف بن عبد المؤمن؛ فهو مأمون هذه الدولة الذي ناصر علوم الفلسفة ووالي أهلها. وكان هو نفسه متحققاً بكثير من أجزائها مشاركاً في جملة من فنونها. ويقول المراكشي إنه استظهر من الكتاب الطبي الملكي أكثره مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل. ثم تخطى ذلك إلى ما هو
أشرف منه من أنواع الفلسفة. وكان من صحبه من العلماء المتفننين أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة الإسلام. له تصانيف في أنواع الفلسفة من الطبيعيات والإلاهيات. وكان يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخدمة من الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد؛ إلى غير هؤلاء من الطوائف. قال المراكشي: «وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له. بلغني أنه كان يقيم في القصر عنده أياماً ليلاً ونهاراً لا يظهر. ثم قال: «ولم يزل أبو بكر هذا يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار وينبهه عليهم ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد بن رشد، فمن حينئذ عرفوه ونه قدره عندهم. أخبرني تلميذه الفقيه الأستاذ أبو بكر بن داود بن يحيى القرطبي قال، سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معها غيرهما. فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال: ما رأيهم في السماء، يعني الفلاسفة، أقديمة هي أم حادثة، فأدركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بالفلسفة، ولم أكن أدري ما قرار معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء؛ فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة. ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت؛ فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب. قال وأخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه، قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يوماً فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل. وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني واشتغالي بالخدمة (كان وزيراً ليوسف) وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فإن هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس» .
هذا ما عمله يوسف بن عبد المؤمن في سبيل تقدم هذه العلوم بمملكته. وهاك ما عمله ولده يعقوب المنصور ممثلاً في عنايته الفائقة بفذ من أفذاذ هذه الطبقة. فحكى المؤرخون أن الطبيب أبا بكر بن زهر كان ملازماً له ومختصاً به وكان يقيم عنده المدد الطويلة ولا يرخص له في السفر إلى رؤية أهله وصلة الرحم بذويه وقرباه، حتى قال يوماً، يتشوق إلى ولد له صغير:
ولي واحد مثل فرخ القطا
…
صغيرة تلفت قلي لديه
وأفردت عنه فيا وحشتي
…
لذاك الشخيص وذاك الوجيه
تشوقني وشوقته
…
فيبكي علي وأبكي عليه
وقد تعب الشوق ما بيننا
…
فمنه إلي ومني إليه
فسمعها المنصور فأرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم أن يحتاطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدة، وفرشها مثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته؛ ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار، ثم احتال عليه حتى جاء إلى ذلك الموضع فرآه أشبه شيء بيته وحارته، فاحتار لذلك وظن أنه نائم وأن ذلك أحلام، فقيل له أدخل البيت الذي يشبه بيتك فدخله فإذا ولده الذي تشوق إليه يلعب في البيت، فحصل له من السرور ما لا مزيد عليه ولا يعبر عنه. فهل سمع بمثل هذا الأمر في إكرام العلم والعلماء وهل بقيت بعد هذا غاية في ذلك السبيل؟
ولا تقصر المهمة الموحدية عن أختها العباسية زيادة على ذلك في التنقيب عن الكتب النادرة وطلب المؤلفات الغريبة من سائر الجهات حتى لقد جمع يوسف بن عبد المؤمن الألوف المؤلفة منها، وكانت مكتبته تضاهي مكتبة الحكم المستنصر بالله الأموي. وقد أورد في المعجب هذه الحكاية التي تدل على ما كان يبذله في هذا السهيل من الترضيات الكبيرة. قال: «أخبرني أبو محمد عبد الملك الشذوني أحد المتحققين بعلمي الطب وأحكام النجوم قال: كنت في شبيبتي استعير كتب هذه
الصناعة، يعني صنعة الأحكام، من رجل كان عندنا بمدينة إشبيلية اسمه يوسف يكنى أبا الحجاج يعرف بالمراني بتخفيف الراء، كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في أيام الفتنة بالأندلس، فكان يعيرني إياها في غرائر؛ أحمل غرارة وأجيء بغرارة من كثرتها عنده، فأخبرني في بعض الأيام أنه عدم تلك الكتب، بجملتها. فسألته عن السبب الموجب لذلك فأسر إلى أن خبرها أنهي إلى أمير المؤمنين فأرسل إلى داري، وأنا في الديوان لا علم عندي بذلك. وكان الذي أرسل كافور الخصي مع جماعة من العبيد الخاصة وأمره أن لا يروع أحداً من أهل الدار وأن لا يأخذ سوى الكتب وتوعده والذين معه أشدت الوعيد إن نقص أهل البيت إبرة فما فوقها. فأخبرت بذلك وأنا في الديوان فظننته يريد استصفاء أموالي فركبت وما معي عقلي، حتى أتيت منزلي فإذا الخصي كافور الحاجب واقف على الباب والكتب تخرج إليه. فلما رآني وتبين ذعري قال: لا بأس عليك وأخبرني أن أمير المؤمنين يسلم علي وأنه ذكرني بخير ولم يزل يبسطني حتى زال ما في نفسي، ثم قال لي: أهل بيتك هل راعهم أحد أو نقصهم شيء من متاعهم؟ فسألتهم فقالوا: لم يرعنا أحد ولم ينقصنا شيء. جاء أبو المسك حتى استأذن علينا ثلاث مرات فأخلينا له الطريق ودخل هو بنفسه إلى خزانة الكتب فأمر بإخراجها. فلما سمعت هذا القول منهم زال ما كان في نفسي من الروع. وولوه بعد أخذهم هذه الكتب منه ولاية ضخمة ما كان يحدث بها نفسه».
وكان لخزانة الكتب عندهم ولاية خاصة لا يولاها إلا من، ومن، لأن أمرها عظيم لديهم. وممن ولي النظر فيها أيام يوسف بن عبد المؤمن، القاضي أبو محمد بن الصقر، وكان من أحسن العلماء نظراً في كثير من الفنون. فقام عليها أتم قيام، واستنسخ لها كثيراً من المجندات الضخام، وكان كلما بالغ في النصيحة والخدمة كلما بالغوا له في العطايا والهبات.
فهذا وغيره مما أغفلنا، فضلاً عما جهلناه، يعطيك صورة واضحة لما كانت عليه هذه العلوم من الرواج والانتشار في عصر الموحدين الذين لم يألوا جهداً في البر برجالها والإحسان إليهم. ولا تنس المنة التي طرقوا بها عنق العالم المتمدن بانتشالهم الفيلسوف ابن رشد من وهدة الخمول، وإحلاله في المحل اللائق به. فقد علمت أنهم الحاملون له على تلخيص فلسفة الأقدمين كما روى المراكشي عنه. وإن كانت بدت من
يعقوب المنصور في حقه نزوة فإن ذلك لا يقدح في موقف الدولة كلها إزاء رجال العلم. على أنه نفسه تدارك ما فات وعاد فاصلح ما أفسده. خصوصاً وقد كان سبب امتحانه له سياسياً محضاً كما فصل ذلك المؤرخون. فإنه في شرح كتاب الحيوان لأرسطو طاليس لما ذكر الزرافة وصفها فقال: «وقد رأيتها عند ملك البربر بمراكش، فلما بلغ ذلك يعقوب حقدها عليه. ثم إن أعداء ابن رشد وجدوها فرصة مناسبة فأغروا المنصور عليه، واتخذوا اشتغاله بالفلسفة ذريعة إلى ذلك، فرفعوا إليه رقاعاً فيها ما يقتدي الكفر والمروق والغرطقة، مثل ما كان في إحداها حاكياً عن الفلاسفة اليونان، «فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة» في أشباه لذلك. فاستدعاه المنصور وأوقفه عليها وقال هذا خطك: فأنكر. فأمر بإخراجه من عنده وطرده، ولعنه الحاضرون. ثم ندم بعد ذلك على ما صدر منه وأرسل يستدعيه، فجاء واعتذر إليه وأكرمه وبقي عنده حتى مات بمراكش رحمه الله. وقد كان له مندوحة عن وصف ولي نعمته بملك البربر، وهو في الحقيقة ليس ملك البربر فقط، ولكن للسان عثرات.
وفي أيام المنصور هذا استبحر العمران بالمغرب وزهت الحضارة وتقدم فن المعمار بتقدم حركة البناء، إذ بنى المنصور مدينة رباط الفتح الفيحاء، وقصبة مراكش وجامعه الفخم بها ومنار الكتبية العظيم بمراكش أيضاً ومنار حسان الضخم بالرباط ومنار الخيرالدة بإشبيلية الذي هو من أعاجيب الدنيا. وأنشأ في جامعه بمراكش المقصورة والمنبر «الأتوماتكيين» وكانا موضوعين على حركات هندسية بحيث يبرزان لدخوله دفعة واحدة ويغيبان لخروجه كذلك. كانت هذه المقصورة كبيرة تسع أكثر من ألف رجل، كما عند صاحب الحلل. والذي صنعهما هو الحاج يعيش المهندس الذي بنى جبل الفتح لعبد المؤمن وقد أعيى الأدباء وصفها حتى قال ابن مجبر فيها قطعته الخالدة:
طوراً تكون من حوته محيطة
…
فكأنها سور من الأسوار
تكون طوراً عنهم مخبوءة
…
فكأنها سر من الأسرار
وكأنما علمت مقادير الورى
…
فتصرفت لهم على مقدار
فإذا أحست بالأمير يزورها
…
في قومه قامت إلى الزوار
يبدو فتبدو ثم تخفى بعده
…
كتكون الهالات للأقمار
فطرب المنصور لسماعها ولم يرض بما قيل في مقصورته غيرها.
كذلك بني عدة مساجد ومدارس في كل من إفريقية والأندلس والمغرب ومنها المسجد الأعظم بمدينة سلا ومدرسته الباقية إلى الآن شاهدة بأن هذا المسجد يضاهي القرويين في الضخامة والجفوة كان من معاهد العلم المقصودة حتى احتيج إلى بناء مدرسة حوله. ويعد بناء المدارس في هذا العهد من مظاهر التقدم العلمي، وقد أصبح تقليداً متبعاً حتى من أفراد الشعب. ونشير هنا بالخصوص إلى مدرسة الشيخ أبي الحسن الشاري من أعلام هذا العصر التي أنشأها في مدينة سبتة وكان لها صيت بعيد.
وفي مراكش كان يوجد مجمع علمي يسمى بيت الطلبة، وهو يذكرنا ببيت الحكمة الذي كان في بغداد على عهد المأمون. وكان مألفاً لأهل العلم من أصليين وطارئين. وإذا علمنا أنه كانت هناك وظيفة يسمى صاحبها رئيس الطلبة، فغير بعيد أن يكون هو عميد هذا البيت. وكان الموحدون يطلقون اسم الطلبة على أهل العلم عامة وأهل الحديث خاصة ولا يولون هذه الوظيفة إلا العلماء الراسخين أمثال المحدث ابن القطان والقاضي ابن المالقي. وفي هذا البيت استقبل أبو عمر بن عات، وألقيت عليه أحاديث من صحيح مسلم محولة المتون والأسانيد فأعادها إلى أصلها. فإن لم يكن بيت الطلبة هذا مدرسة للحديث كالتي أنشأها نور الدين محمود بن زنكي في دمشق، فهو في أقل تقدير مجمع علمي كما قلنا، تفردت به مراكش الموحدية عن سائر عواصم المغرب وإفريقية والأندلس.
ومما حلى به المنصور جيد أعماله التمدينية ورصع تاج الحضارة المراكشية المستشفى العظيم الذي يقول صاحب العجب فيه: «ما أظن في الدنيا مثله» . وناهيك بها شهادة من رجل جاب الأقطار واخترق الأمصار. وهاك صفته نقلاً عنه:
«وبنى بمدينة مراكش مارستاناً ما أظن أن في الدنيا مثله، وذلك أنه تخير
ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار والمشمومات والمأكولات، وأجرى فيها مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه، إحداها رخام أبيض. ثم أمر له من الفراش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجاً عما جلب إليه من الأدوية وأقام فيه من الصيادلة العمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض فإن كان فقيراً أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنياً دفع إليه ماله وتركه وسببه، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت، بيت يقول: كيف حالكم وكيف القومة عليكم إلى غير ذلك من السؤال، لم يزل مستمراً على هذا إلى أن مات رحمه الله».
وفي هذه القطعة دليل على تقدم علم النبات والفلاحة فضلاً عن الطب والكيمياء، وبستان المسيرة أعظم دليل على ذلك. وهو بستان أحدثه عبد المؤمن بضاحية مراكش، طوله فيما يقول ابن عذاري وصاحب الحلل ثلاثة أميال وعرضه قريب من ذلك. وكان فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليه الماء من أغمات زيادة على ما استنبط له من العيون الكثيرة. وأنشأ فيه صهريجاً واسعاً كالبحيرة كان يمرن فيه الجنود وشيوخ الموحدين على العوم والتجذيف كما في الحلل. وهذا الصهريج هو المعروف بالمنارة الكائن في أكدال بمراكش. قال ابن إليسع: وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان الذي غرسه عبد المؤمن يبلغ مبيع زيتونه وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص الفاكهة مراكش. قال الناصري: «ودعاه ابن عذاري ببستان المسرة وقال أنه بظاهر جنان الصالحة. ولشهرة هذا البستان وموقعه من الناس لهجت به صبيانهم وسجعوا به فيقولون:
يا جرادة مالحة، أين كنت سارحة، في جنان الصالحة. . . في أسجاع غير هذه
تجري على ألسنة الصبيان. وما زال هذا النشيد الشعبي مروياً عند الصغار حتى الآن.
ثم بعد هذا لا نخال القول بتقدم الصنائع النفيسة والفنون الجميلة كالنقش والتزويق وعمل الفسيفساء والمقربص إلا خبراً بمعلوم. فقد رأيت ما كان بها من الاهتبال، وعليها من الإقبال، حتى أنهم لم يخلوا منها المستشفى الذي أنشيء لغير من يهمهم أمرها من المرضى، ولكن الغاية في هذا الباب هو ما عمله عبد المؤمن في تحلية المصحف العثماني الإمام. وقد كتب في ذلك وزبره ابن طفيل رسالة بديعة نرى أنفسنا مضطرين إلى نقل ما يتعلق منها بهذا الغرض. قال بعد أن استهلها ببيان كيفية وصوله إلى عبد المؤمن بطريق الهدية من أهل قرطبة بعد أن تعلقت به نفسه جد التعلق، لكنه أبى أن يسلبهم تلك الذخيرة الثمينة ويوحش أنسهم بفقده حتى جادوا به محض اختيارهم طيبة به أنفسهم:
«ثم إنهم أدام الله سبحانه تأييدهم، ووصل سعودهم، لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزيز، شرعوا في انتخاب كسوته، وأخذوا في اختيار حليته، وتأنقوا في استعمال أحفظته، وبالغوا في استجادة أصونته، فحشروا له الصناع المتقنين ممن كان بحضرتهم العلية، وسائر بلادهم القريبة والقصية. فاجتمع لذلك حذاق كل صناعة ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين ولم يبق من يوصف ببراعة، وينسب إلى الحذق في صناعة، إلا أحضر للعمل فيه، والاشتغال بمعنى من معانيه، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة، وأشكال مبتدعة، وضمنوها من غرائب الحركات، وخفي إمداد الأسباب المسببات، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم، واستفرغوا فيه جهد قوتهم. والهمة العلية أدام الله سموها تترقى فوق معارجهم، وتتخلص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم، وتنيف على ما ظنوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم؛ فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب، ورأبوا من منتشرها كل شعب وأشرفوا عند تحقيقها، وإبراز دقيقها، على كل صعب، فكانت منهم وقفة كادت لها النفوس تيأس عن مطلبها، والخواطر تكر راجعة عن خفي مذهبها، حتى أطلع الله خليفته في خلقه، وأمينه المرتضى لإقامة حقه، على وجه انقادت فيه تلك الحركات
بعد اعتياصها، وتخلصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خلاصها، ألقوا ذلك أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته ويسره، إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول. فوقفهم حسن تنبيه ما جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم، وعلموا أن الفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة، والأشكال المؤنقة المعجبة، مما صنع للمصحف العظيم، من الأصونة الغريبة، والأحفظة العجيبة، أنه كسي كله بصوان واحد من الذهب والفضة ذي صنائع غريبة، من ظاهره وباطنه، لا يشبه بعضها بعضاً، قد أجري فيه من ألوان الزجاج الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم، وتتناسق عجائبه وتنتظم، قد أميلت للتحرك أعطفها، وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها، ونظم على صحيفته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدر وعظيم الزمرد مسالم تزل الملوك السالفة، والقرون الخالفة، تتنافس في أفراده، وتتوارثه على مرور الزمن وترداده، وتظن العز الأقعس، والملك الأنفس، في ادخاره وإعداده، وتسمي الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنعه واتحاده، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألئه وانقاده، وأشبهه الروض المزخرف غب سماء أقلعت عن إمداده، وأتى هذا الصوان الموصوف رائق المنظر، آخذاً بمجامع القلب والبصر، مستولياً بصورته الغريبة على جميع الصور، يدهش العقول بهاء، ويخير الألباب رواء، ويكاد يغشي الناظر تألقاً وضياء؛ فحين تمت خصاله، واستر كبت أوصاله، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله، رأوا أدام الله تأييدهم، وأعلى كلمتهم، مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات، والإشراف على جميع الثنيات، أن يتلطف في وجه يكون به هذا الصوان المذكور طوراً متصلاً وطوراً منفصلاً، ويتأتى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذلاً وتارة للعموم متجملاً، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف، وكل له مقام إليه ينتهي وعنده يقف، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد. وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر، ذي حلية عظيمة خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر، ورتب ترتيباً يتأتى معه أن يكسي بالصوان الأكبر، فيلتئم به التئاماً يغطي على العين من هذا الأثر. وكمل ذلك كله على أجمل الصفات وأحسنها.
وأبدع المذاهب وأتقنها، وصنع له محمل غريب الصنعة، بديع الشكل والصبغة، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك، ويشهد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك، مغشي كله بضروب من الترصيع، وفنون من النقش البديع، في قطع الأبنوس والخشب الرفيع، لم تعمل قط في زمن من الأزمان، ولا انتهت قط إلى أيسره ثواقب الأذهان. مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب، وامتدت امتداد ذوائب الشهب، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال، ويشاركه في أكثر الأحوال، مرصع مثل ترصيعه الغريب، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب، وصنع لذلك كله تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها، والصدور على محفوظ أمكارها، مكعب الشكل، سام في الطول، حسن الجملة والتفصيل، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل، جار مجرى المحمل في التزيين والتجميل، وله في أحد غوار به باب ركبت عليه دفتان قد أحكم إرتاجهما، ويسر بعد الإبهام انفراجهما، ولانفتاح هذا الباب وخروج الكرسي من تلقائه، وتركب المحمل عليه، ما دبرت الحركات الهندسية، وتلقيت التنبيهات القدسية، وانتظمت العجائب المعنوية والحسية، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسية، وذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فيصلاً فيه موضع قد أعد له مفتاح لطيف يدخل فيه. فإذا دخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف زائدة الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته. وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركة يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفاً إلى مقدمه. فإذا كمثل الكرسي بالخروج وكمال المحمل بالتقدم عليه، انغلق الباب برجوع الدفتين إلى موضعهما من تلقاها دون أن يمسها أحد، وترتيب هذه الحركات الأربع على حركات المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر. فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولاً، انفتح أولاً الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره؛ فإذا عاد كل إلى مكانه انسد الباب بالدفتين أيضاً من تلقائه. كل ذلك يترتب على حركات المفتاح كالذي كان في حال خروجه. وصحة هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسببات غائبة عن الحس في باطن الكرسي، وهي مما يدق وصفها ويصعب ذكرها، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد، وتنبيهات سيدنا ومولانا الخليفة أدام الله تعالى أمرهم، وأعز نصرهم.»
هذا ما أردنا نقله من رسالة ابن طفيل وهي على طولها ممتعة ومفيدة في معرفة مدى ما وصلت إليه هذه الصنائع الدقيقة من الرقي والكمال. ودون هذا فإن صنائع أخرى جليلة كانت في غاية من التقدم والإتقان كصناعة الأسلحة بجميع أنواعها والآلات الحربية والسفن، وكان لهذه دور كبيرة في مختلف الموانئ. وفيها صنع الأسطول المغربي العظيم الذي كان يصول ويجول في عرض البحر. واقرأ إن شئت في نفح الطيب ما للشعراء في وصفه من القصائد الطنانة التي تستشعر منها روح الفخار وتتعرف عظمة الأجداد.
وفي هذه الأثناء كان الشريف الإدريسي في صقلية يتقرى البلاد بحراً وبراً لأجل أن يؤلف كتابه (نزهة المشتقاق في اختراق الآفاق)، فيخلف لنا ذلك المستند الجغرافي الذي ما برح مرجعاً مهماً للمستكشفين وأرباب الرحلات ووضعة الخرائط والمصورات.
وإذا كانت مظاهر الحضارة الشعب من الشعوب تتمثل في شتى نواحي حياته الاجتماعية كما تتمثل في النهضة العلمية والصناعية فإن من أخص هذه النواحي ما يتصل بخفض العيش وترف البيت، وأجلى ما يتمثل فيه ذلك المطبخ. ومن ثم قال بعض الحكماء:«أرني مطبخ أية أمة أحدثك عن حضارتها» والواقع أن المطبخ المغربي في هذا العصر بلغ الغاية من التفنن في إعداد أنواع المطاعم والمشارب وإتقانها ما لا نعرف له مثيلاً الآن. وقد أفدنا هذا من كتاب في الموضوع لمؤلف معاصر) (1) تحدث إلينا عن أكثر من خمسمائة لون من ألوان الطعام والشراب والحلوى والمربى وما إلى ذلك ما كان يعمل للخلفاء الموحدين والأمراء منهم ورجال دولتهم على العموم. ومنهم ما يحمل اسم بعضهم لكونه كان يعجبه كثيراً أو لكونه من اقتراحه. ومنها ما يعرف باسمه العم، ومنها ما يعرف بصفته. وبعض هذه الأسماء لا يزال عندنا مستعملة. والمهم هو أن من هذه الأطعمة ما ينسبه بعض الناس اليوم إلى الأتراك ويعتقدون أنه مما أخذ عنهم أثناء حكمهم للقطر الجزائري بموجب المداخلة
(1) هو مخطوط مجهول المؤلف، كتب الأستاذ ويسي المستشرق الإسباني المعروف بحثاً عنه في مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، المجلد الخامس الصادر في سنة 1957.
والاتصال، مع أنه ما كان موجوداً في عصر الموحدين هذا، قبل ظهور الأتراك ووصولهم إلى المغرب بكثير.
ولعل قائلاً يقول وما نصت المرأة في هذه النهضة الشاملة الكاملة، وهي التي إذا عدمت مشاركتها في عمل ما يعتبر غير كامل ولا شامل. والجواب أن المرأة المغربية كانت دائماً عنصراً فعالاً في تطور البلاد وتقدمها وازدهارها. وقد ذكرنا عملها العظيم في العصر الأول الذي يتمثل في تأسيس كلية القرويين ومشاركتها في الأعمال السياسية والأدبية في العصر المرابطي. ولا يشذ هذا العصر عن سالفيه في أخذ المرأة بأسباب النهوض، بل إنه يعطينا أمثلة رائعة لمساهمتها في ضروب النشاط الفكري بإطلاق من علمي وأدبي. فمن الأسماء اللامعة التي عرفت بصفتها العلمية السيدة زينب ابنة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن. كانت عالمة فاضلة أخذت علم الكلام عن أبي عبدالله بن إبراهيم، وهي زوج ابن عمها السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ومن نساء الشعب السيدة خيرونة التي ألف الإمام السلالجي عقيدته البرهانية من أجلها. ولا شك أن لها يداً في نشر التوحيد على مذهب الأشعري بين نساء أهل فاس إسوة بأستاذها الذي ألمعنا إلى عمله في هذا الصدد. ومنهن في علم الرواية والحديث الشيخة أم المجد مريم بنت أبي الحسن الشاري صاحب المدرسة بسبتة. ومنهن في علم الفقه السيدة محلة المراكشية التي كانت من حفاظ المدونة، ومنهن في التصوف والعلوم اللدنية السيدة منية بنت ميمون الدكالي وسواها كثيرات، وهذا الصنف من السيدات هو الذي يتسامح كتاب الطبقات بذكره في مؤلفاتهم؛ فلذلك نقف على العدد العديد منهن، في حين أن الأصناف الأخرى إنما تذكر أسماؤهن عرضاً في تضاعيف الكتب. ولعل الاتصال الذي كان مسموحاً به في العرف لهؤلاء السيدات بصفتهن من الصالحات القاتنات له دخل في ذلك. وأما في العلوم الأدبية والكتابة والشعر فقد سبقت الإشارة إلى السيدة رميلة من بيت الخلافة الموحدية، وما كان لها من فصاحة وبلاغة في النظم. ومن نساء الشعب النابغات في ذلك السيدة الشريفة أمة العزيز بنت أبي محمد بن الحسن ابن أبي الجسام الحسيني السبتي. ذكرها ابن دحية في المطرب وقال إنها أخت جده لأمه. ومنهن السيدة حفصة بنت القاضي أبي حفص بن عمر. وقد ذكرها الشاعر
أبو العباس الجراوي في شعره وذكر نبوغها على طريقته في الهجاء والتعريض، فأجاب عنها والدها ولم تتنزل هي لجوابه ترفعاً وتصاوناً. ومنهن السيدة أم النساء بنت عبد المؤمن التاجر الفاسي، ذكرها ابن عربي الحاتمي في كتاب المحاضرات وقال إنها تجيد الشعر وقد أنشدت السيد أبي على صاحب فاس عند ولايته عليها قصيدة تقول في مطلعها:
جاء البشير بوعد كان ينتظر
…
فأصبح الحق ما في صفوه كدر
من خير هاد غدا بالهدي يأمرنا
…
وفي أوامره التسديد والظر
وفيها تصفه بالشجاعة:
ليث إذا اقتحم الأبطال حومتها
…
يفني الكتائب لا يبقي ولا يذر
ويضيق المقام عن استيفاء الكلام على جميع مظاهر النهضة العلمية الكبرى في هذا العصر فلنكتف بهذا القدر فإن فيه غنية لذوي الألباب.