المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ــ كتاب العارية أفصح لغاتها: تشديد الياء، والثانية: التخفيف، والثالثة: عارة - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٥

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ــ كتاب العارية أفصح لغاتها: تشديد الياء، والثانية: التخفيف، والثالثة: عارة

‌كِتَابُ الْعَارِيَّةِ

ــ

كتاب العارية

أفصح لغاتها: تشديد الياء، والثانية: التخفيف، والثالثة: عارة على وزن ناقة، والجمع: العواري مشددًا ومخففًا.

قال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب، وغلط في ذلك بأن عين العارية (واو) وعين العار (ياء) وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار.

وقيل: مشتقة من التعاور وهو التناوب.

وقيل: من عار يعير إذا جاء ثم ذهب بسرعة، ومنه قيل للغلام الخفيف: عيار؛ لكثرة ذهابه ومجيئه.

وفي حقيقتها قولان:

أشهرهما: أنها إباحة الانتفاع بالأعيان التي يحل الانتفاع بها مع بقاء عينها.

وثانيهما: أنها هبة المنافع مع استيفاء ملك الرقبة.

والأصل في جوازها واستحبابها: قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} .

وفسر الجمهور قوله تعالى: {ويمتنعون الماعون} بما يستعيره الجيران بعضهم من بعض كالدلو والفأس.

وقال في (البحر): إن ذلك كان واجبًا في صدر الإسلام.

وقال علي وابن عمر: الماعون الزكاة والطاعة.

وقال عكرمة: أعلاها الزكاة وأدناها عارية المتاع، واستحسنه الشيخ.

وقال البخاري: هو المعروف كله.

ص: 139

شَرْطُ الْمُعِيرِ: صِحَّةُ تَبَرُّعِهِ،

ــ

وقال بعض العرب: الماء.

وهي مندوب إليها؛ لأنها من جملة المعروف والخير، لكن تقدم في (باب الصلح) عن القديم: أن الجار يجب عليه أن يعير جاره جداره لوضع جذوعه.

وأفتى أبو عبد الله الزبيري بوجوب إعارة ما كتب عليه طبقة السماع لينقل منه، ووافقه بعض الحنفية والمالكية.

والظاهر من حيث الفقه: وجوب إعارة ما فيه إحياء مهجة محترمة، كمن خشي عطش حيوان محترم ووجد بئرًا، ومع غيره دلو ورشاء يحصل به الماء، وكذا إعارة الحبل لإنقاذ الغريق ونحوه.

ويدل لها من السنة ما روى الشيخان [خ2341 - م1536] عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له أرض فيلهبها أو ليعرها).

وروى أبو داوود [356] والترمذي [1265] وابن حبان [5094] عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العارية مؤداة والزعيم غارم).

وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعًا يوم حنين فقال: أغصبًا يا محمد؟ فقال: (لا بل عارية مضمونة) رواه أبو داوود [3557] والنسائي [سك 5747] والحاكم [2/ 47].

والإجماع منعقد على مشروعيتها، والحاجة داعية إليها.

قال: (شرط المعير: صحة تبرعه) فمن لا يتبرع كالصبي والمجنون والسفيه والمكاتب والمحجور عليه .. لا تصح إعارتهم.

وأفهم كلامه أن السفيه لا يعير نفسه، وأن المفلس لا يعير العين.

قال الشيخ: والمتجه الجواز إذا لم يكن فيه تعطيل كإعارة الدار يومًا ونحوه،

بخلاف الإجارة فإنها ممتنعة

ص: 140

وَمِلْكُهُ الْمَنْفَعَةَ. فَيُعِيرُ مُسْتَاجِرٌ لَا مُسْتَعِيرٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

ــ

ولم يذكر المصنف شرط المستعير، قال في (الروضة): يشترط كونه أهلًا للتبرع عليه بعقد مشتمل على الإيجاب والقبول بقول أو فعل، فلا يستعير الصبي ونحوه.

قال: (وملكه المنفعة)؛ لأن الإعارة ترد عليها دون العين، فللموصى له بخدمة عبد أو سكنى دار أن يعير.

وأورد على المصنف:

جواز إعارة الأضحية المنذورة وهي قد خرجت عن ملكه.

وإعارة الإمام أرض بيت المال .. فالمتجه فيها: الجواز.

وإعارة الأب ولده الصغير لما لا يقابل بأجرة لحقارته فالظاهر: جوازه؛ لفعل السلف، أما إعارته لمن يتعلم منه .. فجوزها الروياني، ويدل لذلك قصة أنس رضي الله عنه في (الصحيحين).

وقال صاحب (العدة): ليس للأب أن يعير ولده لذلك؛ لأن ذلك هبة لمنافعه كما لا يعير ماله، قال المصنف: هذا محمول على خدمة تقابل بأجرة.

قال: (فيعير مستأجر)؛ لأنه مالك للمنفعة، وهذا لا خلاف فيه.

قال: (لا مستعير على الصحيح)؛ لأنه غير مالك للمنفعة، وإنما أبيح له الانتفاع، والمستبيح لا يملك نقل الإباحة كما أن الضيف لا يبيح لغيره ما قدم له.

والثاني: وبه قال أبو حنيفة له أن يعير كما أن للمستأجر أن يؤجر.

فروع:

الأول: للمستعير أن يعير إذا أذن له المعير، فإن سمى الثاني .. خرج الأول بالإعارة منها وبرئ من ضمانها ولا رجوع له فيها، وإذا ردها الثاني عليه .. لم يبرأ، بل هو كالوكيل في الإعارة، فإن لم يسمه .. فالأول على استعارته والثاني مستعير منه

ص: 141

وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ لَهُ. وَالْمُسْتَعَارِ: كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ

ــ

وله الرجوع متى شاء، فإذا ردها الثاني عليه برئ.

الثاني: للموقوف عليه أن يعير إن كان الوقف مطلقًا، فإن قال: يسكنها معلم صبيان القرية .. لا يعير، قاله القفال وغيره وقياسه: المنع في البيت الذي يسكنه المدرس والمعيد ونحوه؛ لأنه ملك الانتفاع لا المنفعة، وقيد في (المطلب) جواز الإعارة للموقوف عليه بما إذا كان ناظرًا.

الثالث: استعار كتابًا يقرأ فيه فوجد فيه خطأ لا يصلحه إلا أن يكون قرآنًا، قاله العبادي.

وتقييده بالإصلاح يعلم منه أن ذلك لو كان يؤدي إلى نقص قيمته لرداءة خط ونحوه .. امتنع؛ لأنه إفساد لماليته لا إصلاح، أما الكتاب الموقوف .. فيصلح جزمًا، خصوصًا ما كان خطأ محضًا لا يحتمل التأويل، والله تعالى يعلم المفسد من المصلح.

قال: (وله أن يستنيب من يستوفي المنفعة له)؛ لأن الانتفاع راجع إليه، ولهذا: لو أركب دابته وكيله لغرض الموكل في مكان أرسله إليه أو ليحفظها له فتلفت في يده .. لم يضمنها الوكيل؛ لأنه في حاجته، وكذا له أن يركبها زوجته وغلامه، ولا يخفى أن شرط الراكب أن يكون مثله أو دونه.

وإنما جازت الاستنابة وامتنعت الإعارة؛ لأن الإعارة إخراج عن اليد بالكلية، والاستنابة كأنها في يد المستنيب.

قال: (والمستعار: كونه منتفعًا به) أي: منفعة مباحة كالدواب والدوار وكل ما يجوز عقد الإجارة علي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرسًا ومن صفوان أدرعًا وقيس عليهما غيرهما.

ص: 142

مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. وَتَجُوزُ إِعَارَةُ جَارِيَةٍ لِخِدْمَةِ امْرَأَةٍ أَوْ مَحْرَمً،

ــ

وخرج بقيد الانتفاع به: الحمار الزمن ونحوه، وآلة الملاهي، والأمة المشتهاة للخدمة بشرطه.

قال: (مع بقاء عينه) فلا تجوز إعارة الشمعة والسراج للوقود والأطعمة فإن منفعتها باستهلاكها حسًا، وكذلك ما تستهلك منفعته شرعًا كخشب أو حجر يبنى به المسجد، قاله البغوي في (فتاويه)؛ لأن حكم العارية جواز الاسترداد، والشيء إذا صار مسجدًا لا يجوز استرداده، وكذلك لا تجوز إعارة النقدين في الأصح.

وفهم الرافعي من كلامهم أن الخلاف إذا أطلق فإن صرح بالاستعارة للتزين .. فينبغي أن يقطع بالصحة، وكلام الغزالي في (الإجارة) يدل على طرده فيه، وأجراهما الإمام في الحنطة ونحوها، والغزالي في الشجر للربط والتجفيف عليها.

قال: (وتجوز إعارة جارية لخدمة امرأة أو محرم)؛ لأنه لا محذور فيه، وسواء في ذلك محرم الرضاع والنسب والمصاهرة، ومن طريق الأولى إعارتها لزوجها فيما لا يلزمها فعله، وفي هذه الحالة تكون مضمونة عليه إلى أن يسلمها لربها، أو من يقوم مقامه؛ لأن يد الضامن لا تزول إلا بذلك.

وكذلك الحكم في إعارتها لمالكها ويتصور ذلك في المستأجر والموصى له بمنفعتها إذا كانت ممن لا تحبل.

وقاس في (المهمات) على جواز ذلك إعارة الأمة لخدمة المريض الأجنبي، وفي جواز ذلك نظر.

وأفهمت عبارة المصنف أن إعارتها لخدمة الرجال الأجانب لا تجوز؛ لأنه قد

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يفضي إلى الخلوة المحرمة، وبهذا جزم الرافعي، ومقتضى كلام (المطلب) و (الكفاية): أن الأكثرين على الجواز؛ لأن الخلوة غير لازمة.

وظاهر عبارة المصنف: أنه لا فرق بين الخصي وغيره، وفيه نظر.

كل هذا في الأمة المشتهاة، فإن لم تكن كذلك .. ففي الجواز وجهان:

أصحهما في (الشرح الصغير): عدم الجواز أيضًا.

والأصح في زوائد (الروضة) وعند الشيخ: الجواز، وقال في (المطلب): إنه الحق.

وإعارة العبد للمرأة كعكسه، ولو كان المستعير أو المستعار خنثى حكم فيه بالاحتياط.

وإذا حرمت الإعارة فأعار .. قال الغزالي: صحت العارية مع ذلك؛ لأن المنع لغيره كالبيع في وقت النداء، وفائدة الصحة: أنه إذا استخدم .. لا تجب عليه أجرة.

وقال في (الشرح الصغير): الأشبه فسادها كالإجارة للمنفعة المحرمة؛ فإن كان إعارتها للاستمتاع، فلا خلاف في تحريمه وفسادها، فإذا وطئ كان زانيًا ويلزمه الحد على الصحيح إن كان عالمًا، وإن كان جاهلًا .. عزر، وهو وطء شبهة يوجب المهر ويلحق النسب، والولد حر تلزمه قيمته، والكلام في المهر تقدم في (الرهن).

فلو كان المستعير أو المستعار خنثى .. امتنع على الصحيح احتياطًا.

وفي جواز إعارة الأمة للكافرة الأجنبية للخدمة نظر، وكذلك الفاسقة للعفيفة أو العكس؛ لما سيأتي من أحكام النظر.

ص: 144

وَتُكْرَهُ إِعَارَةُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ.

ــ

قال: (وتكره إعارة عبد مسلم لكافر)؛ لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا} .

وهذه الكراهة جزم الرافعي بأنها للتنزيه، وجزم الجرجاني وصاحب (التنبيه) بالتحريم، وجمع ابن الرفعة بين الكلامين فحمل التنزيه على الإعارة لغير الخدمة ببدنه والتحريم على الإعارة لها.

فروع:

قال ابن الصباغ وغيره: تعيين المعار ليس بشرط، فلو قال: أعرني دابة، فقال: ادخل الإصطبل فخذ ما شئت .. صحت.

وتحرم إعارة الصيد للمحرم، والخيل والسلاح للحربي، ولقاطع الطريق والباغي إذا غلب علي الظن عصيانهما بذلك كما تقدم في أول (البيع).

وإعارة المصحف وكتب الحديث ونحوها من الكافر كالبيع منه.

وتكره استعارة أحد أبويه للخدمة، وقيل: لا تحل، والأجداد والجدات كذلك، قال القاضي أبو الطيب: فإن استعارهما ليرفههما ويخفف من خدمتهما .. كان ذلك مستحبًا.

ونقل الشيخ عن القاضي حسين أنه يمتنع استئجار أحد الأبوين، والذي في (تعليقه القاضي) نقل ذلك عن أبي حنيفة فقط، ومن العجب أن مثل ذلك وقع للمصنف في (الروضة) فحكاه وجهًا، والذي في (الرافعي) عزوه إلى أبي حنيفة فقط.

ص: 145

وَالأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ لَفْظٍ كَأَعَرْتُكَ أَوْ أَعِرْنِي، وَيَكْفِي لَفْظُ أَحَدِهِمَا مَعَ فِعْلِ الآخَرِ، وَلَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَهُ لِتَعْلِفَهُ أَوْ لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ .. فَهُوَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ تُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.

ــ

وقال أبو يحيى البلخي- من أصحابنا واسمه زكريا بن أحمد-: لا يجوز أن يرتهن الرجل أباه ولا أن يستأجره.

قال: (والأصح: اشتراط لفظ كأعرتك أو أعرني)؛ لأن ذلك يدل على الرضا القلبي فأنيط الحكم به.

والثاني: لا يحتاج إلى ذلك، حتى لو رآه حافيًا فأعطاه نعلًا أو عاريًا فألبسه ثوبًا .. كان ذلك عارية.

قال: (ويكفي لفظ أحدهما مع فعل الآخر)؛ قياسًا على إباحة الطعام فإن اللفظ من أحدهما كاف في الإباحة.

وقال الغزالي: يشترط اللفظ من جهة المعير، وأما المستعير .. فيكفي قبوله بالفعل.

ويرد على اشتراط اللفظ: إعارة الأخرس واستعارته بالإشارة أو الكتابة، وأما إذا اشترى شيئًا وسلمه له في ظرفها .. فيجوز وهو عارية عند أبي عاصم العبادي.

قال المصنف: محل هذا إذا لم تقابل الهدية بعوض، فإن اقتضت عوضًا .. فالمحكي عن أبي عاصم: أن الظرف أمانة كالإجارة الفاسدة.

ولو أركب من أعيى فتلفت الدابة .. فالمذهب: أنه يضمنها، سواء التمس منه ذلك أم لا، خلافًا للإمام والغزالي.

ولو أركبه مع نفسه .. فعلى الرديف نصف الضان، وقال الإمام: لا شيء عليه تشبيهًا بالضيف.

قال: (ولو قال: أعرتكه لتعلفه أو لتعيرني فرسك .. فهو إجارة فاسدة توجب أجرة المثل) المراد: حيث تجب الأجرة في الإجارة الصحيحة بالقبض ومضي زمن لمثله

ص: 146

وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ

ــ

أجرة؛ لأن معنى ما صدر منهما هو الإجارة؛ إذ الإعارة لا عوض فيها، وإنما جعلناها فاسدة لجهالة المدة والعوض.

وقيل: الذي وقع عارية فاسدة نظرًا إلى اللفظ.

وعلى هذا: فلا تجب الأجرة، واستبعده في (المطلب)؛ لأنه لم يبذل المنفعة مجانًا.

وأما العين .. فمضمونه على اعتبار اللفظ دون المعنى.

هذا كله إذا كان أحد العوضين مجهولًا كما فرضه المصنف، فإن كانا معلومين كما لو قال: أعرتك هذا العبد شهرًا من الآن بعشرة .. فالأصح: أنه إجارة صحيحة.

فرعان:

أحدهما: نفقة الدابة المستعارة عند القاضي حسين على المستعير وكذلك سترها بما يقيها الحر والبرد، قال: وكذلك إذا استعار عبدًا فطعامه وشرابه وحفظه عما يهلكه عليه، لكن صرح في (الحاوي) و (البيان) بأن نفقة المعار على المالك وهو القياس.

الثاني: قال الماوردي: لا يجوز أن يأخذ بالعارية رهنًا ولا ضامنًا، فإن شرط فيها .. بطلت، وهذا تقدم عند قول المصنف:(فصل شرط المرهون به كونه دينًا).

قال: (ومؤنة الرد على المستعير)؛ لما سيأتي في أول الباب الذي بعده من قوله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ولأنه ضامن فأشبه

ص: 147

فَإِنْ تَلِفَتْ لَا بِاسْتِعْمَالٍ .. ضَمِنَهَا وَإِنْ لَمْ يُفِرِّطْ، وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا يَنْمَحِقُ أَوْ يَنْسَحِقُ بِاسْتِعْمَال

ــ

الغاصب، ومن جهة المعنى أنا لو كلفناها المعير لرغب الناس عن الإعارة، وستأتي صورة مستثناة من هذا الإطلاق.

قال: (فإن تلفت لا باستعمال .. ضمنها وإن لم يفرط) لحديث صفوان رضي الله عنه السابق، ولأنه مال يجب رده فتجب قيمته عند التلف كالمستام، وصفة الضمان ذكرها في آخر الباب.

ولنا قول- كمذهب أبي حنيفة-: أن المستعير لا يضمن إلا بالتعدي، والأصح: أن ضمان الأجزاء كضمان العين كما سيأتي.

فروع:

أعاره بشرط ضمانه عند التلف بقدر معين قال المتولي: يفسد الشرط دون العارية وفيه وقفة.

ولو أعار بشرط كونها أمانة .. لغا الشرط وكانت مضمونة.

ولو استعار فقيه كتابًا موقوفًا على المسلمين شرط واقفة أن لا يعار إلا برهن تحرز قيمته فسرق من حرزه .. لا ضمان؛ لأنه مستحق تلف في يده بلا تفريط وإن سمي عارية عرفًا.

وفي (فتاوى البغوي): إذا استعار عبدًا عليه ثياب .. لا تكون ثيابه مضمونة عليه؛ لأنه لم يأخذها ليستعملها، بخلاف إكاف الدابة.

قال: (والأصح: أنه لا يضمن ما ينمحق أو ينسحق باستعمال).

(الانمحاق): التلف بالكلية كلبس الثوب إلى أن يبلى و (الانسحاق): النقصان.

وفي ضمان ذلك ثلاثة أوجه:

ص: 148

والثَّالِثُ: يَضْمَنُ الْمُنْمَحِقَ. وَالْمُسْتَعِيرُ مِنْ مُسْتَاجِرٍ لَا يَضْمَنُ فِي الأَصَحِّ

ــ

أصحها: أنه لا يضمنهما، لأنهما تلفا بسبب مأذون فيه، فأشبه ما إذا قال: اقتل عبدي أو اقطع يده، أو أذن في إتلاف ماله بإحراق أو غيره.

والثاني: يضمنهما؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).

ومراد المصنف: الاستعمال المأذون فيه، حتى لو كان قميصًا فاتزر به أو لبسه في غير الوقت المأذون فيه .. كان حكمه حكم الغاصب يضمن المنافع والأجزاء.

وتلف الدابة بالركوب أو الجمل المعتادين كالانمحاق، وعقرها أو عجزها كالانسحاق، والأصح: أنه يضمنه في آخر حالات التقويم.

قال البغوي: وإذا انتهى الثوب إلى تلك الحالة .. ليس له استعماله.

قال: (والثالث: يضمن المنمحق) ولا يضمن المنسحق؛ لأن مقتضى الإعارة الرد ولم يوجد مردود في المنمحق، وضعف بأن المنسحق بعض المنمحق فكيف يضمن المنمحق ولا يضمن المنسحق؟ وهذا الوجه من زيادات الكتاب على (المحرر).

وإذا أعاره سيفًا فقاتل به فانكسر .. قال الروياني: كان كانسحاق الثوب.

قال: (والمستعير من مستأجر لا يضمن في الأصح)؛ لأنه نائب عن المستأجر وهو لا يضمن، فكذلك نائبه.

هذا في الإجارة الصحيحة، أما الفاسدة .. فإنهما يضمناها والقرار على المستعير كما أفتى به البغوي.

والثاني: يضمن كالمستعير من المالك، ومؤنة الرد على المستعير إن رد على المستأجر، فإن رد على المالك .. كانت على المالك كما لو رد عليه المستأجر.

ص: 149

وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّتُهُ فِي يَدِ وَكِيلٍ بَعَثَهُ فِي شُغْلِهِ أَوْ فِي يَدِ مَنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ لِيُرَوِّضَهَا .. فَلَا ضَمَانَ. وَلَهُ الاِنْتِفَاعُ بِحَسَبِ الإِذْنِ،

ــ

ونظير المسألة: المستعير من الموصى له بالمنفعة ومن الموقوف عليه، ومؤنة الرد هنا على المستعير إن رد على المستأجر، وعلى المالك إن رد عليه، فتستثنى هذه الصورة من قوله أولا:(ومؤنة الرد على المستعير).

قال: (ولو تلفت دابته في يد وكيل بعثه في شغله أو في يد من سلمها إليه ليروضها .. فلا ضمان)؛ لأنه نائب عنه.

فروع:

أعار الهدي .. فالظاهر: لا ضمان؛ لأن يد المعير ليست يد ضمان فكذا فرعه.

ولو أردف غيره على دابته .. ضمن الرديف النصف على الصحيح، ولو ولدت العارية عنده .. فولدها أمانة على الأصح فلا يستعمله جزمًا.

ولو استعار حمارة معها جحش فهلك الجحش .. لم يضمنه؛ لأنه إنما أخذه لتعذر حبسه عن أمه، وكذا لو استعارها فتبعها ولدها ولم يتعرض المالك له بنفي ولا إثبات .. فهو أمانة، قاله القاضي حسين.

قال: (وله الانتفاع بحسب الإذن)؛ لأن المالك لم يأذن في غيره.

فعلى هذا لو استعار دابة ليركبها إلى موضع فتجاوزه .. كان عليه أجرة المثل ذهابًا وإيابًا إليه، وفي وجوبها من ذلك الموضع إلى بلد العارية وجهان:

أحدهما: لا؛ لأنه مأذون فيه من جهة المالك.

ص: 150

فَإِنْ أَعَارَهُ لِزِرَاعَةِ حِنْطَةٍ .. زَرَعَهَا وَمِثْلَهَا إِنْ لَمْ يَنْتَهُ، أَوْ لِشَعِيرٍ .. لَمْ يَزْرَعْ فَوْقَهُ كَحِنْطَةٍ، وَلَوْ أَطْلَقَ الزِّرَاعَةَ .. صَحَّ فِي الأَصَحِّ وَيَزْرَعُ مَا شَاءَ. وَإِذَا اسْتَعَارَ لِبِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ .. فَلَهُ الزَّرْعُ وَلَا عَكْسَ

ــ

والثاني: نعم؛ لأن الإذن قد انقطع بالمجاوزة.

قال: (فإن أعاره لزراعة حنطة .. زرعها ومثلها إن لم ينهه، أو لشعير .. لم يزرع فوقه كحنطة)؛ لأن ضرر الحنطة أكثر من ضرر الشعير وأقل من ضرر الذرة والقطن، وفي الإجارة قول أو وجه منسوب إلى نقل البويطي أو تخريجه: أن المستأجر لزراعة لا يجوز له أن يزرع غيره، وطرد هذا في المستعير أولى.

ويؤخذ من قوله: (ومثلها) الأدون بطريق الأولى، ولهذا عدل عن قول (المحرر):(وما دونها) ليبنه على المساوي.

قال: (ولو أطلق الزراعة) أي: أطلق الإذن فيها كأعرتك للزراعك (.. صح في الأصح ويزرع ما شاء)؛ لإطلاق اللفظ.

والثاني: لا يصح؛ لتفاوت الضرر في المزروع.

قال الرافعي: ولو قيل: إنها تصح ولا يزرع إلا أقل الأنواع ضررًا .. لكان مذهبًا، أما إذا قال أعرتك لتزرع ما شئت .. فيصح ويزرع ما أراد، لأنه عام، وقد نص الشافعي رضي الله عنه في نظيره من الإجارة على الصحة.

قال: (وإذا استعار لبناء أو غراس .. فله الزرع)؛ لأنه أخف، فصار كما إذا وكل في الشراء بمئة فاشترى بخمسين.

وقيل: لا؛ لأن الزرع يرخي الأرض.

وقيل: إن استعار للغراس .. زرع، وإن استعار للبناء لم يزرع.

قال: (ولا عكس)؛ لكثرة ضرر البناء والغراس.

ص: 151

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَغْرِسُ مُسْتَعِيرٌ لِبِنَاءٍ وَكَذَا الْعَكْسُ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِعَارَةُ الأَرْضِ مُطْلَقَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ نَوْعِ الْمَنْفَعَةِ

ــ

قال: (والصحيح: أنه لا يغرس مستعير لبناء وكذا العكس)؛ لاختلاف جنس الضرر، فإن ضرر الغرس في باطن الأرض أكثر، وضرر البناء في ظاهرها أكثر.

والثاني: يجوز؛ لأن كلًا منهما للتأبيد.

قال: (وأنه لا تصح إعارة الأرض مطلقة، بل يشترط تعيين نوع المنفعة) قياسًا على الإجارة.

والثاني: تصح؛ لأنها مكرمة ومعونة فتوسع فيها، وإلى هذا ذهب أكثر الأصحاب واختاره الشيخ، ولم يرجح في (الشرحين) شيئًا، ونقل في زوائد (الروضة) هنا التصحيح عن (المحرر)، وصححه في (الروضة) و (أصلها) في (باب الإجارة).

فعلى ما صححه الأكثرون: ينتفع بها كيف شاء لإطلاق الإذن.

وقال الروياني: ينتفع بما هو العادة، واستحسنه الرافعي.

ثم إن الرافعي استثنى بعد ذلك بدون صفحة دفن الموتى فقال: الوجه: القطع بأن الإطلاق لا يسلط عليه، لما فيه من ضرر اللزوم.

تتمة:

حيث أعار للبناء أو الغراس لم يكن ذلك للمستعير إلا مرة واحدة، فلو قلع ما غرسه أو بناه .. لم تكن له إعادته إلا بإذن جديد، إلا إذا صرح له بالتجديد مرة بعد أخرى، قاله البغوي.

وحكى القاضي أبو الطيب والمتولي في إعادة الغرس وجهين كالوجهين فيما إذا أعار الحائط لوضع الجذوع هل له إعادة غيرها.

ص: 152