المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْوَقْفِ ــ كتاب الوقف هو مصدر وقف يقف وقفاً، ومنه: {وقفوهم إنهم - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٥

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الْوَقْفِ ــ كتاب الوقف هو مصدر وقف يقف وقفاً، ومنه: {وقفوهم إنهم

‌كِتَابُ الْوَقْفِ

ــ

كتاب الوقف

هو مصدر وقف يقف وقفاً، ومنه:{وقفوهم إنهم مسئولون} ، ويرادفه: التحبيس والتسبيل، والفصيح: وقف، ولا يقال: أوقف إلا في لغة شاذة تميمية وعليها العامة.

وهو من القرب المندوب إليها بأدلة خاصة.

قال الشافعي: ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته داراً ولا أرضاً، وإنما حبس أهل الإسلام، يعني هذا التحبيس المعروف، وهو إشارة منه إلى أنه حقيقة شرعية، ويدل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب .. فعموم قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ، ولذلك لما سمعها أبو طلحة .. رغب في وقف بيرحاء وهي أحب أمواله إليه.

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم .. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم [1631].

والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، وأصرح منه ما في (الصحيحين) [خ2737 - م1633]: أن عمر أصاب أرضاً بخيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر على أن لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، والمشهور أنه أول وقف وقف في الإسلام.

وقيل: وقف النبي صلى الله عليه وسلم قبله أموال مخيريق التي أوصى بها له في السنة الثالثة.

واشتهر اتفاق الصحابة على الوقف قولاً وفعلاً، فوقف عمر وعثمان وزيد بن ثابت

ص: 453

شرط الواقف: صحة عبارته،

ــ

وعبد الله بن عمر وأنس وفاطمة والزبير بن العوام وحكيم بن حزام والأرقم والمسور بن مخرمة وجبير بن مطعم وعمرو بن العاصي، وغيرهم أكثر من ثمانين رجلاً كلهم تصدقوا بصدقات موقوفات.

قال الشافعي: وأكثر دور مكة وقف، ووقف علي البغيبغة وهي ضيعة بالمدينة لآل جعفر، قاله ابن سيده، وقال البكري: إنها بالينبع.

وقال أبو حنيفة: الوقف لا يصح، بمعنى: أنه لا يلزم، بل لابد أن يحكم به قاض؛ تمسكاً بما روي عن شريح أنه قال: لا حبس عن فرائض الله تعالى، والشافي حمله على الوقف على النفس.

وكان إسماعيل بن اليسع قاضياً بمصر يرى رأي أبي حنيفة في ذلك، فأرسل الليث بن سعد إلى هارون الرشيد: إنا لم ننقم عليه ديناراً ولا درهماً، ولكن أحكاماً لا نعرفها، فأرسل هارون كتاباً بعزله.

وقد رجع أبو يوسف عن ذلك لما سمع الحديث وقال: لا يسوغ لأحد أن يخالفه، ولو انتهى إلى أبي حنيفة .. لقال به.

والوقف في الشرع: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، ممنوع من التصرف في عينه، وتصرف منافعه إلى البر تقرباً إلى الله تعالى.

قال: (شرط الواقف: صحة عبارته) أركان الوقف أربعة: الوقف، والموقوف، والموقوف عليه، وصيغة الوقف، ولذلك ذكرها المصنف؛ فيجب أن يكون صحيح العبارة: فلا يصح وقف صبي ومجنون بالاتفاق؛ لأنه تصرف مالي، ومن يقول بصحة وصية الصبي والسفيه لا يطرده في الوقف؛ لأن الوقف منجز فيتضرران به بخلاف الوصية، وشمل ذلك ما لو بنى ذمي مسجداً .. ففي (فتاوى البغوي): أن ذلك جائز وإن لم يكن يعتقده قربة اعتباراً باعتقاد المسلمين، كما لو باع الشحم .. يجوز وإن كان لا يعتقد جوازه، قال: ويحتمل أن لا يصح، وهذا

ص: 454

وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ،

ــ

الاحتمال منقول عن الواحدي في تفسير قوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} ، وهذا بخلاف العتق والتدبير؛ فإنهما يصحان منه، لأنه يعتقدهما قربة، وهما عندنا كذلك.

قال: (وأهلية التبرع) فلا يصح من المبذر والمكاتب، وهذا أحسن من قول (التنبيه): ممن يحص تصرفه؛ فإن المكاتب يصح تصرفه ولا يصح وقفه، على أن المصنف لو اقتصر على أهلية التبرع .. لاستغنى عن الأول.

وشملت عبارته: صحة وقف المبعض؛ لأنه يصح تبرعه، وصحة وقف ما لا يقدر على تسليمه في الحال، فيصح وقف المغصوب كعتقه، قاله الجوري وغيره.

وكذلك وقف المريض مرض الموت وإن كان معتبراً من الثلث، لكن يستثنى ما يقفه الإمام من أراضي بيت المال، صرح بجوازه القاضي حسين، وبه أفتى ابن أبي عصرون نور الدين الشهيد متمسكاً بوقف عمر السواد، ونقله ابن الصلاح في (فوائد رحلته) عن عشرة أو يزيدون، ثم وافقهم على صحته، ونقل في (المطلب) في (باب قسم الفيء والغنيمة) صحته عن النص، والصحة في الجهة العامة أولى من المعين.

وقال ابن عبد السلام: للملوك أن يقفوا ما لهم أن يملكوه ابتداء على جهة الخير ما تستحقه تلك الجهة كالمدارس والربط، دون ما لا يجوز لهم تملكه كوقف الضياع على أولادهم وأمرائهم؛ فإنه لا يجوز.

ولو وقفوا على جهة أكثر ما تستحقه كنصف إقليم على مدرسة .. صح في قدر ما تستحقه دون غيره.

قال الشيخ: والذي أراه: أنه لا يجوز أن يقف من بيت المال على شخص أو أشخاص، ولا على طائفة أو طوائف خاصة؛ تمسكاً بقول الأصحاب: شرط

ص: 455

وَالْمَوْقُوفِ: دَوَامُ الاِنْتِفَاعِ بِهِ،

ــ

الموقوف أن يكون مملوكاً للواقف، والواقف هنا ليس بمالك، فكيف يصح وقفه؟ وكذلك حكم ما يقفه الإمام من رقاب أراضي الفيء، نص عليه وجرى عليه الجمهور، وكذلك ما يقفه الحاكم من بدل الموقوف عند تلفه، وما يقفه من ريع اشتراط أن يشتري به ويوقف، فكل هذا صحيح من غير أهل تبرع فيه.

قال: (والموقوف دوام الانتفاع به)؛ لأن الوقف إنما يراد للدوام، لأنه صدقة جارية قال صلى الله عليه وسلم:(حبس الأصل) وما لا يدوم النفع به لا أصل له يحبس.

وشرط المنفعة: أن تكون مباحة مقصودة، فلا يصح وقف آلات الملاهي جزماً وما لا يقصد بيعه كالدراهم والدنانير للتزيين على الأصح المنصوص.

وقيل: فيه وجهان مبنيان على صحة إجارتهما إن صححناها .. صححناه، ويصح وقف الحلي للبس النساء.

ولا يشترط وجود المنفعة حالاً، بل يجوز إن كانت منتظرة كالأرض الخراب والعبد والجحش الصغيرين، وكذلك الكبير المغصوب كما تقدم، وأورد على هذا الضابط: المدبر ومعلق العتق بصفة؛ فإنه يصح وقفهما مع أنه لا يدوم النفع بهما، فإنهما يعتقان بموت السيد كما سيأتي قريباً، وكذا لو استأجر للبناء والغراس فبنى أو غرس ثم وقفه .. فإنه يصح وإن لم يدم النفع به.

فرع:

أجر أرضه ثم وقفها .. قال الشيخ أبو علي والماوردي والروياني: يصح، وكذلك صححه في (أصل الروضة)، وبه أفتى ابن الصلاح؛ لأنه مملوك بالشرائط، وليس فيه إلا العجز عن صرف المنفعة إلى جهة الوقف في الحال، وذلك لا يمنع الصحة كوقف المغصوب، وهذه حيلة لمن يريد إبقاء ثمرة الموقوف عليه لنفسه مدة بعد

ص: 456

لَا مَطْعُومٌ وَرَيْحَانٌ. وَيَصِحُّ وَقْفُ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ

ــ

الوقف، لكن في (فتاوى القفال): أنه مخرج على الوقف المنقطع الأول.

قال: (لا مطعوم)؛ لأن منفعته في استهلاكه، ومقصود الوقف الدوام.

قال: (وريحان)؛ لسرعة فساده، هذا في الرياحين المحصودة، أما المزروعة .. فالظاهر- كما قال ابن الرفعة-: صحة وقفها للشم؛ لأنها تبقى مدة.

وفهم من تمثيلة بـ (الريحان) المشموم الذي ينتفع به على الدوام كالعود ونحوه يصح وقفه.

قال: (ويصح وقف عقار) بالإجماع، سواء في ذلك المقسوم والمشاع.

وأشار في (الأم) إلى أنه لابد من ضبط الشهود له بالحدود الأربعة كما في البيع، وبه صرح الماوردي وغيره، وقد تقدم في (الأصول والثمار) عن الماوردي: أنه لا يكفي ذكر حد ولا حدين، فإن تميزت بذكر الحدود الثلاثة .. صح البيع، وإلا .. لم يصح، فليكن هنا كذلك، لكن في (فتاوى الغزالي): إذا قال للشهود: اشهدوا علي أني وقفت جميع أملاكي، وذكر مصرفها ولم يحدد شيئاً منها .. صارت جميع أملاكه التي يصح وقفها وقفاً، ولا يضر جهل الشهود بالحدود، ولا سكوته عن ذكرها، ومهما شهد الشهود على هذا اللفظ .. ثبت الوقف.

قال: (ومنقول)؛ لإجماع المسلمين على صحة وقف الحصر والمصابيح في المساجد من غير نكير، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأما خالد .. فإنكم تظلمون

ص: 457

وَمُشَاعٍ،

ــ

خالداً؛ فإنه احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله) رواه الشيخان [خ1468 - م983] من حديث أبي هريرة.

قال القاضي حسين: الأعتاد الخيل، وتؤيده رواية:(وأفرسه) ذكرها صاحب (التقريب).

وقال الشيخ: الصواب: أعتده، وهي جمع عتاد وهو: كل ما أعده من السلاح والدواب كما قاله الخطابي وجماعة، ورواه المتولي وغيره بالباء جمع عبد، وقال الحافظ أبو بكر بن المفوز: إنه الأصح المحفوظ في الرواية.

وقال أبو حنيفة: لا يصح وقف الحيوان، وعنه: ولا وقف الكتب، ومنع مالك وقف المنقول مطلقاً.

قال: (ومشاع)؛ لأن عمر رضي الله عنه وقف مئة سهم اشتراها من خيبر وكانت مشاعاً، رواه الشافعي [1/ 308] وغيره.

وروى البيهقي [6/ 162]: أن الحسن أو الحسين وقف أشقاصاً من دور، فأجاز ذلك العلماء، وسواء في ذلك العقار والمنقول.

قال ابن الرفعة: هذا مما يمكن الانتفاع به مع الإشاعة، فإن لم يكن كوقف نصف من دار أو أرض مسجداً .. فالظاهر: أنه لا يصح، وإذا صح وقف المشاع .. لا تثبت للشريك الشفعة فيه كما تقدم، وقد تقدم عن ابن الصلاح أنه أفتى بصحة وقف المشاع مسجداً، وثبت للبقعة أحكام المسجد، فلا يجوز للجنب المكث فيها، وتجب القسمة لتعينها طريقاً إلى الانتفاع بالموقوف، والذي قاله ابن الصلاح جزم به ابن الصباغ في (الكامل) بالكاف.

ص: 458

لَا عَبْدٍ وَثَوْبٍ فِي الذِّمَّةِ،

ــ

قال الشيخ: وقوله بوجوب القسمة مخالف للمنقول، إلا أن يكون في المسألة بخصوصها نقل صريح.

قال: ووقفت على فتيا الشيخ شرف الدين البارزي رحمه الله: أنه إذا صح وقفه .. يجوز للجنب المكث فيه ما لم يقسم، كما يجوز للجنب حمل المصحف مع أمتعة.

قال: وهذا غير صحيح؛ لأن محل جواز حمل المصحف إذا لم يكن مقصودًا.

ولو وقف نصف عبد ثم أعتق باقيه .. لم يسر للوقف؛ لأنه لا يقبل العتق.

ويجوز وقف الفحل للضراب، ووقف الأشجار للثمار، ووقف علو الدار دون سفلها وبالعكس.

فرع:

صحح ابن الصلاح والمصنف وقف ما لم يره الواقف، ولا خيار له عند الرؤية، ونقله ابن الرفعة عن شيخه الشريف عماد الدين؛ لأن عمر لم ير سواد العراق، وبناه بعض مشايخ الزمان على الملك، إن قلنا للموقوف عليه .. لم يصح، وإلا .. صح، وبناه ابن الرفعة على صحة وقف أحد عبديه.

قال الشيخ: ولم أر من ذكر المسألة غيرهم مع كثرة المطالعة، وفي أكثر الكتب اعتبار الوقف بالبيع فيقتضي ترجيح المنع، وعمر يحتمل أنه وكل في وقف السواد من رآه.

ويصح وقف الأعمى وإن لم يصح بيعه، وقل من تعرض لذلك.

ويصح وقف أسفل الدار دون علوها وعكسه، سواء وقفه مسجداً أو غيره.

قال: (لا عبد وثوب في الذمة) أي: لا وقف؛ إذ الوقف إزالة ملك، فصار كما لو أعتق عبداً في الذمة، سواء كان ذلك في ذمته أو ذمة غيره.

ص: 459

وَلَا وَقْفُ حُرٍّ نَفْسَهُ، وَكَذَا مُسْتَوْلَدَةٌ وَكَلْبٌ مُعَلَّمٌ وَأَحَدُ عَبْدَيْهِ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غِرَاساً فِي أَرْضٍ مُسْتَاجَرَةٍ لَهُمَا .. فَالأَصَحُّ: جَوَازُهُ.

ــ

نعم؛ يجوز التزامه في الذمة بالنذر.

ولا يصح وقف الحمل وإن صح عتقه، كذا صرح به الماوردي، ولو وقف حاملاً وقلنا: ليس للحمل حكم .. فالأقرب: أنه على الوجهين في الولد الحادث فيكون ملكاً للموقوف عليه على الأصح.

قال: (ولا وقف حر نفسه)؛ لأن رقبته غير مملوكة وإن قدرنا أن منافعه ملحقه بالأموال؛ لأن الوقف يشبه التحرير، وملك المنفعة لا يفيد ولاية التحرير، وكذا مالك المنفعة لا يجوز أن يقفها، سواء ملكها مؤقتاً كالإجارة أو مؤبداً كالوصية.

قال: (وكذا مستولدة وكلب معلم وأحد عبديه في الأصح)؛ لأن المستولدة لا تقبل النقل، والكلب غير مملوك، وأحد عبديه مبهم فامتنع كالبيع.

والثاني: يصح في المستولدة كما يصح إيجارها، وفي الكلب إذا قلنا: تصح إجارته، وفي أحد عبديه بالقياس على العتق ويطالب بالتعيين.

أما غير المعلم .. فلا يصح وقفه جزماً، وأما القابل للتعليم .. فالظاهر طرد الخلاف فيه.

وأما معلق العتق بصفة .. فيصح وقفه، فإذا وجدت الصفة .. عتق إن قلنا: الملك للواقف وبطل الوقف، وإن قلنا: للموقوف عليه .. لم يعتق ويبقى الوقف، وإن قلنا: لله تعالى .. قال البغوي والرافعي: عتق، وفي (النهاية) و (البسيط): لا يعتق.

وأما المدبر .. فيصح وقفه بلا خلاف، وهو رجوع عن التدبير إن جعلناه وصية، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة .. فكوقف معلق العتق بها.

قال: (ولو وقف بناء أو غراساً في أرض مستأجرة لهما .. فالأصح: جوازه)؛ لأنه مملوك منتفع به مع بقاء عينه، سواء في ذلك الإجارة الصحيحة والفاسدة.

ص: 460

فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَاحِدٍ أَوْ جَمْعٍ .. اشْتُرِطَ إِمْكَانُ تَمْلِيكِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ على جَنِينٍ،

ــ

والثاني: المنع؛ لأنه معرض للقلع، واختاره القفال.

ومحل الخلاف: إذا لم يقف رب الأرض أرضه معه، فإن وقفها .. صح بلا خلاف كما لو اجتمعا على البيع، وكان الأحسن أن يقول: له؛ لأجل العطف بـ (أو).

ثم على القول بالصحة: إذا مضت مدة الإجارة .. فليس للمؤجر تملكه بالقيمة، بل يتخير بين الأمرين الأخيرين، فإن قلع .. فهو وقف كما كان، فيوضع في أرض أخرى، إلا أن يبقى به نفع ففي هذه الحالة هل يصير مملوكاً للموقوف عليه أو للواقف؟ وجهان لا ترجيح فيهما، واستبعدهما الشيخ وقال: ينبغي أن يشتري به عقاراً أو جزءاً منه.

وقوله: (مستأجرة) مثال؛ فإن المستعارة والموصى بمنفعتها له مدة كذلك، وسيأتي بعد ورقة وشيء حكم ما إذا شرط الواقف صرف أجرة الأرض من ريع الوقف.

قال: (فإن وقف على معين واحد أو جمع .. اشترط إمكان تمليكه) أي: في الحال ولو ذمياً وفاسقاً وغنياً، ثم إن الوقف تمليك للمنفعة.

وعبر في (الروضة) بدل (جمع) بـ (جماعة) وهو أحسن؛ لدخول الاثنين.

وخرج بـ (إمكان التمليك) ما إذا وقف على أولاده ولا ولد له حالة الوقف .. فإنه يبطل بخلاف الوصية، وكذا لو وقف على فقراء أولاده وليس فيهم فقير، فإن كان فيهم فقير وغني .. صرف إلى الفقير، ويصرف إلى من افتقر من بعده، قاله البغوي.

قال: (فلا يصح على جنين)؛ لأن الوقف تمليك وإثبات حق ناجز فأشبه الهبة، وليس كالوصية؛ لأنها تتعلق بالمستقبل، وفي وجه غريب: أنه يصح كالإرث، حكاه في (البحر).

ص: 461

وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ،

ــ

وإذا لم يصح في الجنين في البطن .. فعلى جنين سيحدث أولى بالمنع، وقيل: إن كان تابعاً لغيره .. صح، كما لو وقف على أولاده وله ولد مجتن .. دخل معهم، ويوقف نصيبه، وإن كان مستقبلاً .. فلا.

قال: (ولا على العبد لنفسه)؛ لأنه ليس أهلا للملك، فإن ملكناه .. صح، وصرف لسيده كسائر أكسابه، فإذا عتق .. عاد إليه، ورده الرافعي بأن محله إذا ملكه سيده، فأما إذا ملكه غيره .. فلا يملك بلا خلاف، وحينئذ فإذا كان الواقف غير السيد .. كان الوقف على من لا يملك، واعترض عليه بأن الخلاف جار أيضاً في غير السيد كما صرح به الماوردي وغيره.

نعم؛ يستثنى من ذلك ما إذا وقف على عبد أوقف على سدانة الكعبة، أو قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فإنه يصح على الأصح، ويستثنى المبعض؛ فإن الوقف عليه صحيح قطعاً، قاله ابن خيران.

فلو أراد سيد المبعض أن يقف بعضه الرقيق على بعضه الحر .. فالظاهر الصحة، كما لو أوصى لنصفه الحر .. فإنه صح في الأصح في زوائد (الروضة)، والمدبر وأم الولد في ذلك كالقن.

والوقف على المكاتب .. قال الشيخ أبو حامد: لا يصح كالوقف على القن، وقال الماوردي [والمتولي]: يصح في الحال، وتصرف الفوائد إليه، ويدام حكمه إذا عتق إن أطلق الوقف، وإن قال: تصرف الفوائد إليه ما دام مكاتباً .. بطل استحقاقه، وإن عجز .. بأن لنا أن الوقف منقطع الابتداء.

وإن وقف على المكاتبين .. صح وإن لم يعينهم؛ لأنهها جهة قربة، فإن صرف إليهم فعجز بعضهم .. فالحكم في الاسترجاع كما في الزكاة، والصورة إذا كان مكاتباً

ص: 462

فَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيْهِ .. فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ، وَإذَا أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى بَهِيمَةٍ .. لَغَا، وَقِيلَ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى مَالِكِهَا.

ــ

لغيره، فإن كان مكاتباً له .. لم يصح كما جزم به الماوردي وغيره.

قال: (فلو أطلق الوقف عليه .. فهو وقف على سيده) كما لو وهب له أو أوصى له، وفي وجه: لا يصح كالبهيمة، حكاه العمراني.

والأصح: أنه لا يحتاج قبوله إلى إذن السيد كما هو الأصح في الهبة والوصية، وأنه لا يكفي قبول السيد على الأصح وإن كان الملك له؛ لأن الخطاب ليس معه، فيكون المعنى: هو للسيد إذا تم.

قال: (وإذا أطلق الوقف على بهيمة .. لغا)؛ لأنها ليست أهلا للملك، ولهذا لا تجوز الهبة لها ولا الوصية.

قال: (وقيل: هو وقف على مالكها) كما لو وقف على العبد، فإن شرطنا القبول .. قبل مالكها، بخلاف ما إذا أضافه إلى العبد على الأصح؛ لأن الخطاب لم يجر معه، أما إذا لم تكن البهيمة مملوكة كما إذا وقف على علف الوحوش والطيور المباحة أو طيور حرم مكة .. فلا يصح قطعاً، كذا نقله الرافعي عن المتولي، لكنه اعترضه في (باب الوصية) فقال: الوصية على رأي وصية للبهيمة نفسها، وحينئذ فلا يتجه فرق بين المملوكة وغيرها، وهذا يعترض به على ما قاله في (الوقف) اهـ

واستبعد الشيخ أيضا مقالة المتولي، وقال: فيها نظر، ثم نقل عن الجويني ما يخالف مقالته.

نعم؛ يستثنى من ذلك الوقف على الخيل المسبلة في الثغور، فإنه يصح الوقف عليها كما جزم به الدارمي والزبيلي.

ص: 463

وَيَصِحُّ عَلَى ذِمِّيٍّ،

ــ

ولو قال: وقفت على علف هذه البهيمة أو نفقة هذا العبد ما عاش ثم بعده على الفقراء والمساكين .. لم يصح؛ لأن الوقف عليها- إذا صح- وقف على مالكها، والوقف لا يقبل النقل، فإذا مات العبد، إن نفينا الوقف .. كان مجهول الصرف، وإن قطعناه .. لم يكن الوقف لازما، وهو خلاف مقتضاه.

ولو وقف على عمارة دار زيد، فإن كانت دار زيد وقفا .. صح، وإلا .. فلا، قاله الماوردي والروياني، وقال ابن الرفعة: في الصحة نظر؛ لأن عمارتها من وقفها فيتعطل ما اقتضاه الوقف الأول.

قال: (ويصح على ذمي) أي: معين، سواء كان الواقف مسلما أو ذميا كصدقة التطوع وهي على الذمي جائزة، وحكى الجيلي فيه وجهاً.

أما غير المعين كأهل الذمة واليهود والنصارى .. فالمذكور في (الحاوي) و (تعليق القاضي حسين) و (شرح الكافية) للصيمري و (الشامل) و (البحر) و (التتمة) و (التحرير) وغيرها: أنه صحيح؛ لأن الصدقة عليهم جائزة وقال الرافعي: إنه الأشبه بكلام الأكثرين بناء على أن المرعي التمليك لا القربة، ثم مال إلى المنع؛ لتضمنه الإعانة على المعصية، وهو الذي أجاب به القاضي حسين، واقتضى كلام (الكافي) الجزم به.

تنبيهان:

أحدهما: يشترط في المعين أن لا يظهر فيه قصد المعصية، فلو قال: وقفت على

ص: 464

لَا مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ

ــ

خادم الكنس .. ففي (الشامل) وغيره: أنه لا يصح.

الثاني: إنما يجوز أن يوقف عليه ما يجوز أن يملكه، فيمتنع وقف العبد المسلم وكتب العلم عليه، أما المعاهد والمستأمن .. فهما كالحربي.

فرع:

وقف على أولاد اليهود والنصارى بشرط أن من أسلم منهم خرج عن الوقف .. ينبغي القطع بأنه لا يصح هذا الشرط؛ لأنه جهة معصية مقصودة، بخلاف ما لو لم يقصد .. فيحمل على جهة القربة فقط.

قال الشيخ: قد وقع لي في المحكمات هذا الشرط، فأبطلته وأثبت الوقف عليهم مع الإسلام.

قال: (لا مرتد وحربي)؛ لأنهما مقتولان لا بقاء لهما، والوقف صدقة جارية فلا يصح على من لا بقاء له، كذا علله الرافعي تبعاً لـ (المهذب)، ونقضه في (البيان) بصحة الوقف على الزاني المحصن، وفي معناه من تحتم قتله في المحاربة ومن استحق القتل بترك الصلاة.

والوجه الثاني: يجوز الوقف عليه كالذمي، ومال إليه ابن الرفعة، لاسيما إذا أبقينا ملك المرتد.

وخص الخلاف في (نكت التنبيه) بقوله: وقفت على زيد الحربي أو المرتد، فأما إذا قال: وقفت عل الحربيين أو المرتدين .. فلا يصح قطعاً.

ص: 465

وَنَفْسِهِ فِي الأَصَحِّ

ــ

وينبغي أن يقيد محل الخلاف في الحربي أيضاً بغير آلة الحرب، كما قيدوا به في الوصية له بغير ذلك وإن كان المطلق قد أطلق في البابين.

قال: (ونفسه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبس الأصل وسبل الثمرة) وتسبيل الثمرة يمنع أن يكون له فيها حق.

قال: (في الأصح) الخلاف عائد إلى المسائل الثلاثة، ومقابله هنا: يصح، وبه قال ابن سريج والجوري وابن الصباغ والزبيري؛ لأن استحقاق الشيء وقفاً غير استحقاقه ملكاً، وقد يقصد حبسه ومنع نفسه من التصرف المزيل للملك.

قال في (البحر): وعليه أكثر مشايخ خراسان، ويجوز أن يفتى به للمصلحة.

وقيل: يصح الوقف وتلغو الإضافة كما لو وقف وسكت عن السبل.

وقيل: إن كان على نفسه وغيره .. جاز، وإلا .. بطل.

وعلى الأًح: لو حكم به حاكم .. نفذ ولم ينقض.

ويستثنى من بطلان الوقف على النفس صور:

منها: إذا وقف على الفقراء ثم صار فقيراً .. جاز أخذه منه على الأصح؛ لأنه لم يقصد نفسه، وصحح الغزالي والبغوي المنع؛ لأن مطلقه ينصرف إلى غيره، بخلاف ما لو وقف رباطاً على المارة أو مقبرة للدفن .. فإنهما وافقا على الدخول فيهم.

ولو وقف على الفقراء وهو فقير .. قال الشيخ: لم أرها منقولة، وينبغي أن يكون فيه وجهان: أصحهما: الجواز، ولها وللتي قبلها التفات إلى أن المخاطب هل يدخل في عموم خطابه؟

وفي (الكافي): لو وقف على الفقراء وهو فقير أو على الفقهاء وهو فقيه .. يأخذ معهم كواحد منهم، فيدخل في العام ولا يدخل في الخاص في الأصح.

ومنها: لو شرط الواقف النظر لنفسه وشرط له أجرة .. ففي صحة هذا الشرط

ص: 466

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وجهان: أصحهما عند المصنف: صحته، وقيده ابن الصلاح بأجرة المثل.

ومنها: لو كانت منافع الموقوف مباحة كالمسجد وماء البئر فوقف على الناس وصرح بنفسه معهم .. فإنه يصح ويدخل كما جعل عثمان رضي الله عنه دلوه في بئر رومة كدلاء المسلمين؛ لأنه لم يقل ذلك على سبيل الاشتراط، بل على سبيل الإخبار.

قال المصنف: ومن هذا النوع: لو وقف كتاباً على المسلمين للقراءة فيه ونحوها، أو قدراً للطبخ فيها، أو كيزاناً للشرب فيها ونحو ذلك .. فللواقف الانتفاع معهم.

ومنها: أن يقف على أولاد أبيه المتصفين بصفة الفقه مثلاً، وليس فيهم فقيه سواه .. ففي (شرح ابن يونس): أنه يصح، وسبقه إلى تصحيح ذلك الفارقي، وتبعهما ابن الرفعة فوقف وقفاً على الأفقه من بني الرفعة وكان يتناوله، وكلام الماوردي والعزالي في (فتاويه) يصرح بخلافه.

ومنها: أن يرفعه إلى من يراه فيحكم بصحته، ولو وقف على نفسه ثم جهات متصلة وأقر بأن حاكماً حكم بصحة هذا الوقف ولزومه .. أفتى البرهان المراغي بأنه يؤاخذ بإقراره في نفسه، ويجوز نقض الوقف في حق غيره، وخالفه الشيخ تاج الدين الفزاري وقال: إقراره فيما بيده مقبول عليه وعلى من يتلقى منه كما لو قال: هذا وقف علي.

ومنها: في (الحاوي): لو وقف وقفاً على أن يحج عنه منه أو يجاهد عنه منه .. قال الماوردي والروياني: جاز، ولا يكون وقفاً على نفسه؛ لأنه لا يملك شيئاً من غلته، فإن ارتد .. لم يجز الصرف في الحج؛ لأنه لا يصح عن المرتد، فيصرف إلى الفقراء والمساكين، فإن عاد إلى الإسلام. أعيد الوقف إلى الحج عنه، ولو وقف

ص: 467

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

على الجهاد عنه .. جاز، فلو ارتد الواقف .. فالوقف بحاله يصرف إلى المجاهدين عنه؛ لأن الجهاد يصح من المرتد.

ومنها: ما إذا أجر شيئاً مدة يظن أنه لا يعيش إلى مثلها، ثم وقفه، ثم استأجره لنفسه المدة المعقود عليها .. فينفرد باليد كما أفتى به ابن الصلاح وغيره.

فرع:

وقف على ولده ثم على ورثة ولده ثم على الفقراء، فمات ولده وهو وارثه فهل يرجع إليه قدر ميراثه؟ وجهان:

قال ابن سريج والزبيري: يرجع.

والثاني: لا يرجع إليه منه شيء، بل يكون نصيبه للفقراء، ويصرف الباقي إلى بقية الورثة، وبه أفتى الغزالي.

حادثة:

لا يصح الوقف بشرط أن يقضي منه دينه؛ لكونه وقفاً على نفسه وغيره.

فعلى هذا: لا يصح ما يعتمده الواقفون للبناء القائم على الأرض المحتكرة من اشتراط صرف أجرة الأرض من الريع؛ لكون الأجرة ديناً عليهم، قال الشيخ علاء الدين القونوي: وهذا يقع كثيراً في أوقاف الديار المصرية وغيرها، وكذلك كان الشيخ شمس الدين بن عدلان يفتي ببطلان الوقف بذلك، وبأن واقف الأبنية على الأرض المحتكرة تلزمه أجرة الأرض تخريجاً من جناية العبد الموقوف أن الفداء لازم

ص: 468

وَإِنْ وقَفَ عَلى جِهِةِ مَعْصِيَةٍ كَعِمَارَةِ الْكَنَائِسِ .. فَبَاطِلٌ،

ــ

للواقف على الصحيح بجامع أنه فوت بالوقف بيعه، والظاهر: أنها لا تلزمه، بل إن كان هناك ريع .. وجبت منه، وإلا .. لم تلزم الواقف الأجرة لما بعد الوقف، وللمالك مطالبته بالتفريغ.

والفرق بينه وبين جناية العبد الموقوف عليه: أن رقبته محل لتعلق الجناية بها لولا الوقف، بخلاف البناء إنما محل التعلق ذمة المالك، وقد زال ملكه فيزول التعلق، ولهذا لو مات العبد قبل اختيار الفداء .. لم يتعلق بالسيد منه شيء، ولو انهدم البناء .. كانت الأجرة الماضية لازمة للمالك، لا جرم كان المفتى به: صحة الوقف ولزوم الشرط وانقطاع الطلب عن الواقف.

وإذا سكت الواقف عن الشرط المذكور والحال أنه ليس هناك إجارة صحيحة .. فإنه يصرف الحكر من ريع الوقف، وعليه جرى العمل، ويكون مقدماً كالعمارة، وإنما يكون في تركة الواقف عند وجود الإجارة الصحيحة، وبهذا صرح بان الأستاذ فإنه قال: والأجرة من ريعه إن شرط الواقف ذلك أو سكت عنه.

قال: (وإن وقف على جهة معصية كعمارة الكنائس .. فباطل) بلا خلاف؛ لأنه إعانة على معصية، وسواء في ذلك الإنشاء والترميم، وسواء منعوا من ذلك أم لا بأن تكون في بلاد فتحت صلحاً على أن تكون رقابهم لهم، وكذا لو وقف على حصرها وسرجها وكتب التوراة والإنجيل؛ لأنهم حرفوا وبدلوا.

ونبه الشيخ على ما وقع في آخر (البخاري): (قال ابن عباس: وليس أحد يزيل لفظ كتاب الله من كتب الله تعالى، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله) أن هذا الكلام يحتمل أن يكون من قول ابن عباس وأن يكون مدرجاً بعده، وكان بعض الناس يغتر به ويرى جواز مطالعته، قال: وهذا منكر من القول، فلا خلاف في تبديلها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الواقف مسلماً أو ذمياً.

ص: 469

أَوْ جِهَةِ قُرْبَةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ .. صَحَّ،

ــ

ومعنى البطلان: أنا نحكم به إذا ترافعوا إلينا، وإلا .. لم نتعرض لهم حيث لا يمنعون من الإظهار، ولو قضى به حاكمهم ثم ترافعوا إلينا .. نقضناه، أما إذا وقفوه على كنائسهم القديمة قبل المبعث .. فإنه يقرر حيث تقرر الكنائس، كذا قال الرافعي، وأخذ ابن الرفعة منه أن الوقف على ترميم الكنائس التي يجوز تقريرهم عليها إذا لم يمنع منه يجوز، ونازعه الشيخ في ذلك وقال: الصواب: أن الوقف على ترميمها باطل.

كل هذا في كنائس التعبد، أما ما ينزلها المارة من أهل الذمة .. فنص الشافعي والجمهور على جواز أن يوصى ببنائها، وحكى الماوردي وجهاً: أنه لا يجوز إلا أن يشرك معهم المسلمين في النزول.

قال ابن الرفعة: والوقف يشبه أن يكون كالوصية، فلو جمع بين نزول المارة والصلاة فيها .. ففي (الاستقصاء): يحتمل أن يصح في نزول المارة، ويبطل في الصلاة.

قال: (أو جهة قربة) أي: جهة يظهر فيها قصد القربة، وإلا .. فالوقف كله قربة، وهذا يسمى وقفاً على الجهة؛ لأن الواقف نظر إلى جهة الفقر والمسكنة، ويقصد سد خلة موصوف بهذه الصفة لا لشخص بعينه.

قال: (كالفقراء والعلماء والمساجد والمدارس .. صح)؛ لحصول مقصود الوقف- وهو القربة- ولعموم الأدلة، ولأن الجامدات ليست مستحقة، إلا أن ذلك وقف على جماعة المسلمين؛ ليكون النفع عائداً عليهم، وعلى هذا النحو جرت أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم.

وقيل: لا يصح على من لا يملك كالكعبة والمسجد، حكاه الرافعي في (التذنيب).

وفي (فتاوى القفال) قول: إنه لا يصح على العلماء؛ لأنهم ينقطعون، بخلاف الفقراء.

والعلماء في العرف الشرعي: علماء الشرع الآتي ذكرهم في (الوصية).

ص: 470

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

نعم؛ يشترط في الجهة إمكان حصرها، فلو قال: وقفت على جميع الناس أو جميع الخلق أو على كل شيء .. فباطل، قاله الماوردي والروياني، فإن الوقف ما كانت سبله مخصوصة الجهات لتعرف؛ لأنه لا يمكن استيفاء هذا الشرط، وفرقا بينه وبين ما لو وقف على الفقراء والمساكين حيث يجوز؛ لأن الجهة مخصوصة، وعرف الشرع فيهم لا يوجب استيعاب جميعهم كالزكاة، ونازعهما الشيخ في ذلك ومال إلى الصحة؛ لأن الإسلام جهة اعتبرها الشارع في الإرث والعقل وغيرهما والمساجد موقوفة على جميع المسلمين.

فائدة:

بناء المسجد من أعظم القربات؛ ففي (الترمذي)[594] و (ابن ماجه)[759] من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب).

وفي (صحيح البخاري)[428] في (باب من نبش قبور مشركي الجاهلية) عن أنس بن مالك في حديث طويل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد).

وفي (صحيح مسلم)[533]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً .. بنى الله له في الجنة مثله).

وفي (ابن حبان)[1610] عن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة .. بنى الله له بيتاً في الجنة).

و (مفحص القطاة) بفتح الميم: مجثمها.

ص: 471

أَوْ لِجِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالأَغْنِيَاءِ .. صَحَّ فِي الأَصَحِّ.

ــ

قال: (أو لجهة لا تظهر فيها القربة كالأغنياء .. صح في الأصح)؛ بناء على أن المرعي في الموقف على الجهة العامة التمليك كالوصية لا القربة.

والثاني: لا، بناء على أن المرعي فيه جهة القربة، ولهذا لا يجب استيعاب المساكين، بل يجوز الاقتصار على ثلاثة منهم.

قال الرافعي: والأحسن توسط لبعض المتأخرين وهو: الصحة على الأغنياء دون اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق؛ لتضمنه الإعانة على المعصية، ومن هنا حسن تمثيله في الكتاب بالأغنياء فقط.

وقال ابن الرفعة: ما استحسنه الرافعي ببادي الرأي صحيح، لكنه خلاف قول الأصحاب كافة، وهو إحداث قول ثالث بعد الإجماع على قولين، ولو كان الأمر كما قاله في اليهود والنصارى .. لكان الوقف عليهم معصية، وهو خلاف ما قاله الأصحاب.

ومحل الخلاف في الأغنياء: إذا خصهم بالوقف، فلو كان معهم غيرهم أو كانوا محصورين كوقفه على أغنياء أقاربه .. قال ابن الرفعة: فالذي يظهر الجزم بالصحة.

ص: 472

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وضبط الزبيري في (المسكت) الغني في هذا الباب بالذي تحرم عليه الصدقة، إما لماله أو قوته أو كسبه، قال: وقد يكون الرجل غني بغنى غيره لا بنفسه كالولد بأبيه والمرأة بزوجها، فيقال لهم أغنياء لأجل كفايتهم.

وعلى الأصح: لو ادعى شخص أنه غني .. لم يقبل إلا ببينة، بخلاف ما لو وقف على الفقراء فادعى أنه فقير ولم يعرف له مال .. فإنه يقبل بلا بينة.

قلت: وكون الوقف على الأغنياء لا قربة فيه فيه نظر؛ لأنهم قد يعتبرون بذلك كما في (الصحيح)[خ1421 - م1022] في حديث: (لأتصدقن الليلة بصدقة): (فوقعت صدقته في يد غني) وفيه: (لعله يعتبر فينفق مما آتاه الله تعالى).

فروع:

يجوز الوقف على سبيل الله- وهم: المستحقون سهم الزكاة- وعلى سبيل الخير أو البر أو الثواب، ويصرف إلى أقارب الواقف، فإن لم يوجدوا .. فإلى أهل الزكاة.

ولو جمع بين سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير .. صرف الثلث إلى الغزاة، والثلث إلى أقاربه، والثلث إلى الفقراء والمساكين والغرمين وابن السبيل وفي الرقاب.

ويصح الوقف على أكفان الموتى ودفنهم ومؤنة الغسالين والحفارين وإن كان فرض كفاية، قال في (المطلب): الذي يظهر اختصاص ذلك بالفقراء، وقد تقدم في (الجنائز) عن (فتاوى ابن الصلاح): أنه لا يزاد في هذه الحالة على ثوب.

ويصح على شراء الأواني والظروف ممن تكسر منه، وعلى المتفقهة- وهم:

ص: 473

وَلَا يَصِحُّ إِلَاّ بِلَفْظٍ،

ــ

المشتغلون بتحصيل الفقه مبتدئهم ومنتهيهم- وعلى الفقهاء ويدخل فيه من حصل شيئاً وإن قل، قاله الرافعي.

وقال القاضي: إذا وقف على الفقهاء .. يصرف إلى من يعرف من كل علم شيئاً، أما من تفقه شهراً أو شهرين .. فلا.

والوقف على الصوفية .. قال الشيخ أبو محمد: لا يصح؛ إذ ليس للتصوف حد يعرف، والصحيح المعروف: صحته، وهم المشتغلون بالعبادة في أغلب الأوقات، المعرضون عن الدنيا، قال القاضي: لا من كان مشتغلاً بالأكل والرقص والسماع.

وفي (فتاوى الغزالي): لابد في الصوفي من العدالة، فلو أتى بمعصية ترد بها الشهادة .. لم يجز له أخذ شيء من غلة الوقف.

ولابد من ترك الحرفة، ولا بأس بالنسخ والخياطة وما يشبههما إن كان يتعاطى ذلك أحياناً في الرباط لا في الحانوت، ولا تقدح قدرته على الاكتساب والاشتغال بالوعظ والتدريس، ولا أن يكون له من المال قدر لا تجب فيه الزكاة، وتقدح فيه الثروة الظاهرة والعروض الكثيرة، ولابد أن يكون في زي القوم، إلا أن يكون مساكنهم في الرباط .. فتقوم المخالطة والمساكنة مقام الزي، ولا يشترط لبس المرقعة من يد شيخ، وكذا ذكره المتولي.

والفقيه إذا كان على زيهم وأخلاقهم له النزول عندهم.

وليس الجهل شرطا في التصوف، ولا يلتفت إلى قول بعض الحمقى: العلم حجاب، بل الحجاب: الجهل والعلم المذموم.

قال: (ولا يصح إلا بلفظ) كالعتق وسائر التمليكات، ويخالف البيع حيث انعقد بالمعاطاة على وجه؛ لأن البيع كان في الجاهلية والشرع ورد بإباحته .. فجرى عليه،

ص: 474

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والوقف لم يعهد .. فاتبع فيه ما ورد به الشرع.

وعلم من هذا: أنه لو بنى مسجداً وأذن في الصلاة فيه .. لم يصر مسجداً، وكذا لو أذن في الدفن في ملكه .. لم يصر مقبرة عندنا خلافاً لأبي حنيفة، ويرد على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه حين بنى مسجده أنه تلفظ بوقفه، ولا عمر ولا عثمان حين وسعا المسجدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً

) الحديث، ويم يقل: وتلفظ بذلك، وقال في (البحر): إنها تصير وقفا فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أخبره بأنه نواه .. لزمه في الحكم أيضاً.

أما بالكتابة المجردة .. فلا يصح كما جزم به الرافعي في (باب الهدي)، والمتجه: الصحة مع النية كالوصية.

هذا كله في الناطق، أما الأخرس .. فيصح بإشارته المفهمة كغيره من التبرعات، وإذا رأينا مسجداً يصلي الناس فيه .. فيستمر حكمه ولا يغير، لأنه في أيدي المسمين لذلك.

واستثنى في (الكفاية) تبعاً للماوردي: إذا بنى مسجداً في الموات قاصداً به ذلك .. فإنه يصير مسجداً، ويقوم الفعل مع النية مقام اللفظ، ويزول ملكه عن الآلة بعد استقرارها في موضعها.

وأجاب الشيخ بأن الموات لم يدخل في ملك من أحياه مسجداً، وإنما احتيج إلى اللفظ؛ لإخراج ما كان في ملكه عنه، وأما البناء .. فصار له حكم المسجد تبعاً، ولو استقر .. لاعتبر اللفظ كما قال الروياني، فمن عمر مسجداً ولم يقف الآلة .. فهي عارية له الرجوع فيها متى شاء.

ص: 475

وَصَرِيحُهُ: وَقَفْتُ كَذَا أَوْ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَالتَّحْبِيسُ وَالتَّسْبِيلُ صَرِيحَانِ عَلَى الصَّحِيحِ

ــ

وتستثنى أراضي الفيء؛ فإنها تصير وقفاً بنفس الاستيلاء على ما قاله أبو حامد، وهو الأصح عند الماوردي.

وما يؤخذ من الناس ليبنى به زاوية أو رباط؛ فإنه إذا بناه .. يصير وقفاً على الجهة التي أخذ لها كذا قاله الشيخ أو بمحمد.

والشارع يصير وقفاً بالاستطراق من غير احتياج إلى لفظ كما قاله الإمام في (كتاب الصلح).

قال: (وصريحه: وقفت كذا)؛ لأنه تكرر على ألسنة حملة الشرع، بل هو أشهر الألفاظ المستعملة في هذا الباب عرفا ولغة، وعن الإصطخري رواية غريبة أن لفظ الوقف ليس بصريح.

قال: (أو أرضي موقوفة عليه) وكذا محتبسة أو مسبلة إن جعلناهما صريحين، وأشار بذلك إلى أنه لا يشترط فرق بين الفعل وما يشتق منه.

قال: (والتحبيس والتسبيل صريحان على الصحيح)؛ لكثرة استمالهما واشتهارهما شرعاً وعرفاً، ففي حديث عمر:(حبس الأصل وسبل الثمرة) رواه الشافعي [1/ 308].

والثاني: أنهما كنايتان؛ لأنهما لم يشتهرا اشتهار الوقف.

والثالث: التحبيس صريح والتسبيل كناية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غاير بينهما في حديث؛ فإنه قال: (حبس الأصل وسبل الثمرة) والثمرة غير موقوفة بالإجماع.

قال في (البسيط): وموضع الخلاف إذا اقتصر عليه، فلو أكده بالمصدر فقال:

ص: 476

وَلَوْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَوْقُوفَةً أَوْ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ .. فَصَرِيحٌ فِي الأَصَحِّ

ــ

حبسته تحبيساً مؤبداً محرماً .. فلا خلاف في الصراحة.

فجميع ما في ذلك أربعة أوجه: الجميع صريح، الجميع كناية، الصريح الوقف وحده، الكناية التسبيل وحده.

قال الشيخ: فينبغي لمن كتب كتاب وقف وأشهد به أن يضم إلى ألفاظ الواقف إقراره بالنية؛ ليخرج من الخلاف ويقطع بصحة الوقف، قال: والألفاظ المذكورة في هذا الباب: الوقف والتحبيس والتسبيل والتحريم والتأبيد والصدقة، فهذه ستة ألفاظ وأصلها الصدقة، ولكنها لما اشتركت بينه وبين غيره .. تأخرت عن رتبة الصريح، وصار أعلى المراتب لفظ الوقف، ودونه التحبيس، ودونه التسبيل، ودونهما التحريم والتأبيد، ودونهما الصدقة.

وجاء في هذا الباب نوع غريب لم يأت مثله إلا قليلاً وهو: انقسام الصريح إلى ما هو صريح بنفسه وإلى ما هو صريح مع غيره.

ويخرج من كلام الرافعي وجه: أنه ليس لنا لفظ صريح في هذا الباب، وهو عند انفراد لفظة أو لفظتين صحيح، وأما لو اجتمعت ألفاظ كثيرة بحيث يقطع بالمراد .. فكيف لا تمكن صراحته؟ والصريح ما دل على معنى لا يحتمل غيره، والألفاظ إذا اجتمعت .. أفادت ذلك، فلا وجه للتردد في صراحتها وثبوت الحكم بها.

قال: (ولو قال: تصدقت بكذا صدقة محرمة أو موقوفة أو لا تباع ولا توهب .. فصريح في الأصح)؛ لانصرافه بهذا عن التملك المحض.

والثاني: أنه كناية؛ لأنه صريح في التملك المحض المخالف لمقصود الوقف.

والثالث: أنه تمليك في قوله: (صدقة محرمة) دون ما إذا قيد بأنها لا تباع ولا توهب.

فتلخص أن الصريح بنفسه ثلاثة: الوقف والتسبيل والتحبيس، وغيرها لا يكون صريحاً إلا أن ينضم إليه غيره، لكن لفظ التحريم كناية على الصحيح.

والقاعدة: أن الكناية لا تصير صريحة بانضمامها إلى كناية أخرى كما لو قال:

ص: 477

وَقَوْلُهُ: تَصَدَّقْتُ فَقَطْ .. لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَإِنْ نَوَى، إِلَاّ أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ وَيَنْويَ. وَالأَصَحُّ: أَنَّ قَوْلَهُ: حَرَّمْتُهُ أَوْ أَبَّدْتُهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ،

ــ

أنت خلية برية .. لا تطلق بغيرنية، فكيف جعلوه هنا صريحاً؟

وأجاب المصنف عنه في (نكت التنبيه) بأنه إذا قال: صدقة محرمة .. لم يفهم منه غير الوقف.

واستشكل الشيخ حكاية المصنف الوجهين في صدقة موقوفة، مع أنه جزم بصراحة لفظ الوقف، فكيف إذا اجتمع مع غيره؟ يأتي في خلاف فضلاً عن قوته.

قال: ولعله تحريف من ناقل، ويكون مكان (موقوفة): مؤبدة كما عبر به الشافعي والجمهور.

قال: (وقوله: تصدقت فقط ليس بصريح وإن نوى)؛ لتردد اللفظ بين صدقة لفرض والتطوع والوقف؛ لأن هذا اللفظ صريح في غير الوقف فلا يكون كناية فيه.

قال: (إلا أن يضيفه إلى جهة عامة) مثل تصدقت على الفقراء أو الغزاة، فإن أضافه إلى جهة خاصة كتصدقت عليك أو عليكم .. لا يكون وقفاً على الصحيح؛ لأن اللفظ لا إشعار له بذلك، وكل لفظ جعلناه كناية فيه إذا نوى به الوقف .. صار وقفاً في الباطن، فلو ادعى المتصدق عليه الوقفية، فإن صدقه .. ثبت ظاهراً أيضاً، وإن كذبه .. صدق بيمينه؛ لأنه أعرف بنيته.

هذا كله بالنسبة إلى الظاهر، أما في الباطن .. فيصير وقفاً بينه وبين الله كما تقدم.

قال: (وينوي)؛ لأن النية مع الكناية كالصريح، كذا قالوه، والصواب: أن إضافته إلى الجهة صيرته كالكناية حتى يعمل فيه بالنية، فإذا لم ينو .. لم يكن كناية قطعاً.

قال: (والأصح: أن قوله: حرمته أو أبدته ليس بصريح) بل هو كناية على المذهب؛ لأنهما لا يستعملان مستقلين، وإنما يؤكد بهما، فإذا أفردا .. لم يكن

ص: 478

وَأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْتُ الْبُقْعَةَ مَسْجِداً تَصِيرُ بِهِ مَسْجِداً،

ــ

المعنى مستفاداً منهما؛ لعدم صلاحيتهما للاستقلال، فلو جمع بينهما فقال حرمته وأبدته .. ازدادت قوة الكناية، ولكنها لا تبلغ حد الصريح.

هذا إذا قلنا بصراحة الوقف والتسبيل والتحبيس، فإن قلنا: كناية .. فهذان أولى.

والثاني: أنهما صريحان؛ لإفادتهما الغرض كالتحبيس والتسبيل.

قال الشيخ: وصورة المسألة أن يقول: حرمتها للمساكين، فلو قال: حرمتها عليهم .. انعكس المعنى.

وعلم من كان المصنف: أنه لا يشترط في صحة الوقف أن يقول: أخرجته عن ملكي، وفي اشتراط ذلك في (اللباب) وجهان، وكلام الشافعي في (الأم) - حيث أملي نسخة-: الوقف، وفيها:(وأخرجته عن ملكي يقتضي الاشتراط) وهو غريب.

قال: (وأن قوله: جعلت البقعة مسجداً تصير به مسجداً) وإن لم يقل: وقفتها، ولم يذكر شيئاً من الألفاظ السابقة لإشعار ذلك بالمقصود واشتهاره، ولأن المسجد لا يكون إلا وقفاً فأغنى لفظه عن لفظ الوقف، وأشار المصنف بذلك إلى أنه صريح فيه.

والثاني: لا يصير؛ لأنه وصفه بما هو موصوف به، قال صلى الله عليه وسلم:(جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا) وهذا عليه الجمهور، وبه قطع القفال والأستاذ أبو طاهر والقاضي حسين والبغوي والمتولي والخوارزمي.

قال ابن الرفعة: ومحل الخلاف إذا خلا عن نية الوقفية، أما إذا نوى بذلك الوقف .. فإنها تصير مسجداً، وكذا لو قال: وقفت هذه البقعة لصلاة المسلمين .. صارت مسجداً، ومحله أيضاً إذا لم يقل مع ذلك: لله، فإن قال: جعلتها مسجداً لله .. صح جزماً.

ص: 479

وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ.

ــ

ومقتضى كلام الإمام أن الخلاف يجري فيه.

وأشار بقوله: (تصير به مسجداً) إلى أنه يصير مسجداً بنفس اللفظ من غير احتياج إلى نية، وليس هذه في (المحرر).

قال: (وأن الوقف على معين) كزيد أو جماعة معينين (يشترط فيه القبول)؛ لأنه يبعد دخول عين أو منفعة في ملك شخص من غير رضاه، وعلى هذا: فليكن متصلاً بالإيجاب كالبيع والهبة.

والثاني: لا يشترط، واستحقاقه المنفعة كاستحقاق العتيق منفعة نفسه بالإعتاق، وهذا هو المنصوص في غير موضع، وهو اختيار جمهور العراقيين وخلائق، وهو الصواب المفتى به، وهو الراجح في (الروضة) في (كتاب السرقة)، والقائلون به اشترطوا عدم الرد كما سيأتي.

وإذا شرطنا القبول، فإن كان الموقوف عليه من أهله .. تولاه، وإن لم يكن كالصبي والمجنون .. تولاه وليه، وإن كان الواقف الأب أو الجد .. فالحكم في القبول كالحكم في قبول البيع والهبة.

قال ابن الصلاح في (فتاويه): فلو بلغ بعد قبول الولي ورد .. لم يرتد برده.

واحترز بـ (المعين) عن الجهة العامة كالوقف على الفقراء، وعن جهة التحرير كالوقف على المسجد والرباط؛ فإنه لا يشترط القبول جزماً لعدم الإمكان، ولم يجعلوا الحاكم نائباً عنهم في القبول كنيابته عن سائر المسلمين في استيفاء القصاص والأموال، قال الرافعي: ولو صاروا إليه .. لكان قريباً.

وأجاب الشيخ بأن استيفاء القصاص والأموال لابد لها من مباشر، فلذلك جعل الحاكم نائباً فيه، بخلاف هذا.

قال: ولو استدل بأن الله تعالى يأخذ الصدقات والوقف منها .. لكان من أحسن الاستدلال.

ص: 480

وَلَوْ رَدَّ .. بَطَلَ حَقَّهُ شَرَطْنَا الْقَبُولَ أَمْ لَا.

ــ

وشملت عبارة المصنف البطن الثاني ومن بعدهم إذا قلنا: إنهم يتلقونه من الواقف وهو الأصح، لكن في (الروضة): أن الإمام والغزالي نقلا أنه لا يشترط قبولهم قطعاً، والذي في (النهاية) و (البسيط) طرد الخلاف، وقال الرافعي: إنه الأحسن بناء على أنهم ممن يتلقون، ومقتضى ذلك ترجيح الاشتراط، والصحيح خلافه كما هو مقتضى البناء.

فرع:

قال: جعلت هذا للمسجد .. فهو تمليك لا وقف، فيشترط فيه قبول القيم وقبضه كالهبة للصبي.

قال: (ولو رد .. بطل حقه شرطنا القبول أم لا) كالوصية والوكالة، وادعى الإمام الاتفاق عليه، وشذ البغوي فقال: لا يبطل كالعتق، فلو قال: على زيد ثم الفقراء فرد زيد .. كان في حق الفقراء منقطع الأول، والصحيح بطلانه في حقهم، ووقع في (تصحيح التنبيه): أنه صحيح في حقهم، والمعروف الأول، وعلى المذهب: لو رده ثم رجع .. قال الروياني: إن رجع قبل الحكم برده إلى غريه .. كان له، أو بعده .. بطل حقه.

ثم إذا قلنا باشتراط القبول فهل يشترط القبض؟ المشهور المنصوص في (المختصر) و (الأم): أنه لا يشترط؛ لما روى البيهقي [6/ 162] عن ابن مسعود أنه قال (فرغ من أربع: الخلق والخلق والرزق والأجل، فليس أحد أكسب من أحد).

والصدقة جائزة قبضت أم لم تقبض.

والثاني: لا يتم إلا بالقبض كالهبة، وحكاه ابن يونس وجهاً.

ص: 481

وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هّذا سَنَةٍ .. فَبَاطِلٌ

ــ

قال: (ولو قال: وقفت هذا سنة .. فباطل)، لما أنهى الكلام في الأركان الأربعة .. شرع يتكلم في الشروط، وهي أربعة أيضاً.

الأول: التأبيد؛ بأن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمساكين، أو على من ينقرض ثم على من لا ينقرض كقوله: وقفت على ولدي ثم على الفقراء، أو على زيد ثم عقبه ثم الفقراء والمساجد والربط والقناطر، فإن عين مساجد وقناطر .. فوجهان، وفي معنى الفقراء: العلماء على الأصح، وفي (فتاوى القفال) خلافه؛ لأنهم قد ينقطعون، فإن أقت .. بطل، وقال ابن سريج: يصح وينتهي بانتهاء المدة، وادعى الجيلي: أنه أصح في أكثر الكتب.

قال الإمام: وحقيقة هذا أنه عارية لازمة، وبالغ في تزييفه وقال: لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة.

والثالث: يلغى التأقيت ويصح الوقف مؤبداً، وهذا نظير ما إذا قال:(أعمرتك هذه الدار مدة عمري) على رأي.

والرابع: أن الوقف الذي لا يشترط فيه القبول لا يفسد بالتأقيت كالعتق، والذي يشترط فيه يفسد به.

كل هذا في التأقيت الصريح، أما الضمني- وهو منقطع الآخر والوسط- فالمذهب صحته.

قال الشيخ: قوله: وقفته سنة .. فيه تأقيت فقط، وقوله: وقفته على زيد سنة، وسكت .. فيه تأقيت وسكوت عن المصرف، فللبطلان سببان، فإن ذكر مصرفاً؛ بأن قال: على زيد سنة وبعدها على الفقراء .. صح بلا خلاف؛ لوجود الدوام كما أشار إليه ابن الصباغ وصاحب (الكافي) وغيرهما.

هذا فيما لا يضاهي التحرير، أما ما يضاهيه كقوله: جعلته مسجداً سنة .. فظاهر

ص: 482

وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي أَوْ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ نَسْلِهِ وَلَمْ يَزِدْ .. فَالأَظْهَرُ: صِحَّةُ الْوَقْفِ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ .. فَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَأَنَّ مَصْرِفَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذِكُورِ

ــ

إطلاقهم: أنه كذلك، لكن نقل الإمام عن المذهب: أنه لا يبطل بالتأقيت، بل يتأبد كما لو ذكر فيه شرطاً فاسداً.

ومقتضى إطلاقهم: أنه لا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة، ويمكن أن يقال: إن التأقيت بما لا يحتمل بقاء الدنيا إليه كألف سنة يصح؛ لأن القصد منه التأبيد لا حقيقة التأقيت.

قال: (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله ولم يزد .. فالأظهر: صحة الوقف)؛ لأن مقصوده القرة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء .. سهلت إدامته على وجه الخير، وهذا يسمى منقطع الآخر، وبصحته قال مالك وأحمد وأبو يوسف.

والثاني: أنه بطل كما لو جعله لغير مالك أو لم يجعل له سبيلا في الابتداء، ورجحه الإمام والغزالي، وبه قال محمد بن الحسن؛ لأن شرط الوقف التأبيد ولم يؤبده، فهو كما لو قال: وقفته سنة.

والثالث: إن كان حيواناً .. صح؛ إذ مصيره إلى الهلاك، بخلاف العقار.

قال: (فإذا انقرض المذكور .. فالأصح: أنه يبقى وقفاً)؛ لأن وضع الوقف الدوام كالعتق، ولأنه صرفه عنه فلا يعود كما لو نذر هدياً إلى مكة فلم يقبله فقراؤها.

والثاني: يرتفع الوقف ويعود ملكاً للواقف إن كان موجوداً، أو إلى ورثته حتى الزوجة إن كان قد مات؛ لأن إبقاء الوقف بلا مصرف متعذر، وإثبات مصرف لم يتعرض له الواقف بعيد فتعين ارتفاعه.

قال: (وأن مصرفه أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور)؛ لأن أفضل القربات صلة القرابات.

ص: 483

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقد استشكل هذا بالزكاة وسائر المصارف الواجبة عليه شرعاً؛ فإنه لا يتعين صرفها ولا صرف بعضها إلى الأقارب.

وأجيب: بأن الأقارب حث الشرع عليهم في حبس الوقف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: (أرى أن تجعلها في الأقربين) فجعلها أبو طلحة في أقاربه.

ويقابل الأظهر ثلاثة أقوال:

أحدها: تصرف إلى المساكين؛ لأن أمر الوقف يؤول إليهم.

والثاني: إلى المصارف العامة مصارف خمس الخمس.

والثالث: إلى مستحقي الزكاة غير العاملين، ويحتمل أن تسثنى المؤلفة والغارم، ومال الشيخ إلى أنه لا يستثنى ذلك؛ فإن الآية عامة ولا عمدة أقوى منها.

وحكى ابن داوود قولاً: إنه صرف إلى جيران الواقف، والصواب: أن الخلاف أربعة أوجه كما في (الروضة)، قال الإمام: ولعلها من تخريجات ابن سريج.

قال الشيخ: وإنما يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف إذا كان الواقف مالكاً مستقلاً، فلو وقف الإمام من بيت المال على بني فلان فانقرضوا .. صرف في المصالح ولا يصرف إلى أقارب الإمام، وهي مسألة مهمة، كثيراً ما تقع في الفتاوى.

فروع:

إذا لم يكن له أقارب أو كانوا وانقرضوا أو كانوا أغنياء كلهم .. قال سليم وابن الصباغ والمتولي: عاد إلى الفقراء والمساكين.

والمنصوص في (البويطي) - وهو الأظهر-: أن الإمام يجعله حبساً على سائر

ص: 484

وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الأَوَّلِ كَوَقَفْتُهُ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِي .. فَالْمَذْهَبُ: بُطْلَانُةُ، أَوْ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ كَوَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ رَجُلٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ .. فالْمَذْهَبُ: صِحَّتُهُ.

ــ

المسلمين يضع غلته في مصالحهم.

ثم المراد بـ (الأقرب): الأقرب رحماً، حتى يقدم ابن البنت على ابن العم، وقيل: الأقرب باعتبار الإرث، وقيل: النظر إلى أقرب الجوار من أقاربه، حكاه القاضي عن ابن سريج.

وإذا اجتمع قرابات .. فالقول في الأقرب كما في الوصية للأقرب، وهل يختص الفقراء بالصرف إليهم أو يشترك فيه الأغنياء والفقراء؟ وجهان: الأصح: الاختصاص، نص عليه في (حرملة)؛ لأن القصد القربة.

والثاني- وهو ظاهر نص (المختصر) -: لا اختصاص.

وإذا قلنا: مصرفه المساكين، فهل المراد مساكين بلد الواقف أو بلد الوقف؟ الظاهر: بلد العين الموقوفة قياساً على زكاة المال.

قال: (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) أي: ثم على الفقراء، وإلا .. كان منقطع الأول والآخر.

قال: (.. فالمذهب: بطلانه)؛ لعدم إمكان الصرف، لأنه لم يجد مستحقاً وابتداء صحيحاً يبني عليه، ومثله الوقف على مسجد سيبنى.

والطريق الثاني: قولان: ثانيهما: الصحة؛ لأن الأول لما بطل .. صار كالمعدوم، وصار الثاني كالمبتدأ به، ثم يصير وقفاً على من يصح الوقف عليه، وليس في (الشرح) ولا في (الروضة) تصحيح لواحدة من الطريقتين، لكن في (المطلب): أن الطريقة الأولى- وهي طريقة القطع- أرجح عند الأكثرين.

قال: (أو منقطع الوسط) بفتح السين (كوقفت على أولادي ثم رجل ثم الفقراء .. فالمذهب: صحته)؛ لوجود المصرف في الحال والمآل، وقيل: فيه

ص: 485

وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى: وقَفْتُ .. فَالأَظْهَرُ: بُطْلَانُهُ

ــ

القولان في منقطع الآخر أظهرهما: الصحة، والخلاف مرتب على منقطع الآخر، فإن صححناه .. فهذا أولى، وإلا .. فوجهان: أصحهما: الجواز، وهل يصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف أو المساكين أو المصالح العامة؟ فيه الخلاف السابق.

قال: (ولو اقتصر على) قوله: (وقفت) أي: كذا ولم يذكر مصرفه (.. فالأظهر: بطلانه)؛ لأن الوقف يقتضي التمليك، فإذا لم يعين المالك .. بطل كما لو قال: بعت ثوبي لعشرة ولم يقل لزيد، ولأن جهالة المصرف مبطلة فعدم ذكرها أولى.

الثاني: يصح كما لو قال: لله علي أن أتصدق بهذا ولم يعين، وإلى هذا ذهب مالك وأحمد، واختاره الشيخ أبو حامد وأصحاب (المهذب) و (الشامل) و (البحر) وابن أبي عصرون والشيخ؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة كالأضحية، ولأن المالك هو الله، ولحديث أبي طلحة وأبي الدحداح رضي الله عنهما، وكما لو قال: أوصيت بثلث مالي واقتصر عليه .. فإنه يصح ويصرف للفقراء لا جرم.

واستشكل الرافعي الفرق، وفرق بينهن في (الروضة) بأن غالب الوصايا للمساكين فحمل الإطلاق عليه، بخلاف الوقف، ولأن الوصية مبنية على المساهلة فتصح بالمجهول والنجس وغير ذلك، بخلاف الوقف.

وادعى ابن الرفعة أن المتولي حكى الخلاف المذكور في الوصية، وعلى الصحة في مصرفه الأوجه المتقدمة: أصحها: أقرب الناس إلى الواقف، وينبغي أن يكون الخلاف إذا لم يقل: لله، فإن قال لله .. صح قطعاً، ثم يرجع إليه في بيان المصرف، ويكفي بيان المصرف إجمالاً، فلو قال: وقفت على مسجد كذا .. صح، وصرف إلى مصالحه عند الجمهور.

وقال القفال: لا يصح ما لم يبين الجهة فيقول: (على عمارته) ونحوه، وقال

ص: 486

وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ كَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْتُ. وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ .. بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ

ــ

أبو علي: يراجع، فإن قال: أردت الصرف في مصلحته .. صح تمليكه، وإن لم ينو شيئاً .. فلا، ولو قال: وقفت كذا على ما يشاء زيد أو في ما شاء الله .. لم يصح.

قال الشيخ: والبطلان في الصورة الأولى ظاهر؛ للجهالة، وفي الثانية ينبغي أن تكون كما إذا قال: وقفت، وسكت عن السبل .. فيصح عند من صححه، ولو قال: وقفت كذا على جميع الناس أو على جميع الخلق أو على كل شيء .. قال الماوردي: إنه باطل، ونازعه الشيخ فيه، ومال إلى الصحة؛ لأن الإسلام جهة اعتبرها الشرع في الإرث والعقل وغيرهما، والمساجد موقوفة على جميع المسلمين.

قال: (ولا يجوز تعليقه كقوله: إذا جاء زيد .. فقد وقفت)؛ لأنه عقد يقتضي نقل الملك في الحال فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والهبة، ومنهم من خرجه على الخلاف في منقطع الأول وأولى بالفساد، لكن يستثنى من ذلك التعليق بالموت، فإذا قال: وقفت داري على المساكين بعد موتي .. ففيها أفتى الأستاذ أبو إسحاق بصحة الوقف كعتق المدبر، ووافقه أئمة زمانه، وقال الإمام: هذا تعليق، وهو أولى منه بالإبطال.

وصحح الرافعي: أنها وصية؛ لقول القفال في (فتاويه): لو عرضها على البيع .. كان رجوعاً، وإليه يشير كلام المتولي، وعلى هذا: فلا استثناء.

أما لو نجز الوقف وعلق الإعطاء إلى الموقوف عليه بالموت .. فإنه يجوز كالوكالة، كذا قاله صاحب (البيان) تبعاً للقاضي حسين.

قال: (ولو وقف بشرط الخيار .. بطل على الصحيح) ومثله بشرط أن يبيعه أو يرجع فيه متى شاء؛ لأن مقتضى الوقف اللزوم، والخيار ينافي ذلك، فيفسد بهذا الشرط.

والثاني: يصح الوقف ويبطل الشرط؛ لحديث العمرى فإنه صلى الله عليه وسلم

ص: 487

وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ .. اتَّبعَ شَرْطُهُ،

ــ

جعلها للذي أعمرها في حياته ولورثته من بعد موته، فأزال ملك المعمر وأبطل شرطه، وكان الصواب أن يعبر بالأظهر؛ فإن الخلاف قولان في (البويطي)، ومحلهما: إذا لم يحكم حاكم بصحة الوقف، فإن حكم به .. صح بلا خلاف وأمضي كما قاله ابن كج.

أما إذا وقف وشرط لنفسه أن يحرم من شاء ويزيد من شاء أو يقدم أو يؤخر .. فالشرط فاسد في الأصح إذا أنشأ الوقف بهذا الشرط، فلو أطلقه ثم أراد أن يغير ما ذكره بحرمان أو زيادة أو تقديم أو تأخير .. فليس له ذلك قطعاً.

قال: (والأصح: أنه إذا وقف بشرط أن لا يؤجر .. اتبع شرطه) كسائر الشروط.

والثاني: لا؛ لأنه حجر على المستحق في المنفعة.

والثالث: إن منع الزيادة على سنة .. اتبع؛ لأنه من مصالحه، وإن منع مطلقاً .. فلا، فلو شرط أن لا يؤجر من متجوه أو ظالم أو نحو ذلك مما يكتب في كتب الأوقاف .. فإنه يتبع جزماً.

قال الرافعي: وإذا فسد بالشرط .. فالقياس: فساد الوقف، وعن العبادي ما يقتضي عدم فساده، وناقشه المصنف في ذلك.

وإذا قلنا بالأصح وهو: أنه يتبع شرطه في عدم الإيجار، وكان الوقف على جماعة تهايؤوا في السكن واقترعوا بينهم، فلو كان الموقوف عبداً أو حيواناً .. فنفقته على من هو في يده.

ولو شرط الواقف أن لا يعار .. اتبع شرطه، وإن سكت عنه .. جازت الإعارة؛ لأن من ملك منفعة ملك إعارتها.

ص: 488

وَأَنَّهُ إِذَا شَرَطَ فِي وَقْفِ مَسْجِدٍ اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ .. اخْتُصَّ

ــ

وقول القفال فيمن وقف داراً على سكنى معلم صبيان القرية: ليس له إسكان غيره .. فيه وقفة؛ فنص الشافعي يدل على خلافه.

قال الشيخ: ولا بأس بموافقته إذا اقتضاه عرف، فأما بيت المدرس وشيخ الرباط .. فقد رأينا الناس يتسامحون في إعارة ذلك، فإذا اقتضاه العرف ولم يفت به غرض الواقف .. فلا بأس.

قال: وبلغني أن المصنف رحمه الله لما ولي دار الحديث بدمشق وبها قاعة للشيخ .. لم يسكنها وأسكنها غيره.

فرع:

سبق في (الإجارة): أنه لو شرط أن لا يؤجر إلا ثلاث سنين، فأجره الناظر ثلاثاً في عقد وثلاثا في عقد قبل مضي المدة الأولى .. عن ابن الصلاح: أنه لا يصح الثاني إلا إذا خرب ولم تمكن عمارته إلا بإيجار سنين، فإنه أفتى بجواز إجارته سنين في عقود متفرقة؛ لأن إتباع شرط الواقف في ذلك يؤدي إلى مخالفة مصلحة الوقف، وبذلك أفتى ابن رزين وجماعة من علماء عصره، ووافقهم الشيخ، والذي اعتقده عدم جواز ذلك؛ فقد رأيت بمكة وغيرها أوقافاً استؤجرت كذلك فتملكها أولاد مستأجريها وعرفت بهم، وخرجت عن مسمى الوقف.

قال: (وأنه إذا شرط في وقف مسجد اختصاصه بطائفة كالشافعية .. اختص)؛ رعاية لغرضه، وإتباعًا لشرطه، وقطعاً للنزاع في الشعائر، فلا يصلي فيه ولا يعتكف غيرهم، وما دام واحد منهم موجوداً .. فله منع الغير منه، لكن صرح القاضي في (كتاب الجزية) بكراهة ذلك.

ص: 489

كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ

ــ

والثاني: لا يختص ولا يتبع شرطه؛ لأن جعل البقعة مسجداً كالتحرير فلا معنى لاختصاصه بجماعة، وصححه الإمام والغزالي والشيخ؛ لقوله تعالى:{وأن المسجد لله} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(إن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لذكر الله والصلاة عامة).

فعلى هذا: قال المتولي: يفسد الوقف بفساد الشرط، وقال الإمام: لا يفسد؛ إذ لا أثر للشروط الفاسدة في التحرير.

وعبر في (المحرر) بـ (أصحاب الحديث)، والمراد بهم: الفقهاء الشافعية، فصرح بهم المصنف، كما أن المراد بأصحاب الرأي: الفقهاء الحنفية، وهذا عرف خراسان.

وقال في (المطلب): سمعت بعض الفضلاء يقول: أصحاب الحديث: الشافعية والمالكية والحنابلة، وأصحاب الرأي: أصحاب أبي حنيفة فقط.

قال الشيخ: وأما قولهم في (كتاب الأقضية): علماء الفريقين .. فالمراد: الفقهاء والمحدثون.

قال: (كالمدرسة والرباط)؛ فإنه يختص بهم بلا خلاف وإن كانا قد ألحقا بالمسجد في التحرير.

والفرق: أن النفع هنا عائد عليهم، بخلافه في المسجد؛ فإن صلاتهم في ذلك المسجد وغيره سواء.

ولو جعل البقعة مقبرة وخصها بطائفة .. فطريقان:

أحدهما: أنها كالمسجد.

والثانية: تختص قطعاً وهو الأصح؛ لأن المقابر للأموات كالمساكن للأحياء.

ولو وقف المسلم أرضه مقبرة .. دفن فيها المسلم دون الكافر، كذا قاله الإمام.

ص: 490

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا .. فَالأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: أَنَّ نَصِيبَهُ يُصْرَفُ إِلَى الآخَرِ

ــ

قال: (ولو وقف على شخصين ثم الفقراء فمات أحدهما .. فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر)؛ لأن انتقاله إلى الفقراء مشروط بانقراضهما ولم يوجد، فإذا امتنع الصرف إليهم .. فالصرف إلى من ذكره الواقف أولى.

والثاني- وبه أفتى القاضي حسين-: يصرف إلى الفقراء، كما أن نصيبهما إذا انقرضا يكون لهم.

قال الرافعي: والقياس أن يجعل الوقف في نصيبه منقطع الوسط، ولا يصرف إلى صاحبه ولا إلى المساكين، ومعناه: أن مصرفه في هذه الحالة مصرف منقطع الوسط، وهذا وجه منسوب للسرخسي.

تتمة:

محل ما ذكره المصنف ما إذا لم يذكر بينهما ترتيباً، فلو وقف على زيد ثم على عمرو ثم على بكر ثم على الفقراء، فمات عمرو قبل زيد، ثم مات زيد .. قال الماوردي والروياني: لا شيء لبكر، وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء، وأفتى القاضي والبغوي بصرفه إلى بكر، كما إذا وقفه على ولده ثم على ولد ولده ثم على الفقراء فمات ولد الولد ثم الولد .. يرجع إلى الفقراء.

ولو وقف على فلان وفلان ما عاشا فمات أحدهما .. انقطع حقه وحق الثاني.

ولو قال: هاتان النخلتان وقف على فلان ما حملتا فانقطع حمل إحداهما .. انقطع حق الموقوف عليه.

ولو وقف على اثنين ولم يبين من يصرف إليه من بعدهما- وقلنا بصحة وقف منقطع الآخر- فمات أحدهما، فهل يكون نصيبه للآخر أو يكون لمن يصرف إليه نصيباهما إذا ماتا؟ فيه هذا الخلاف، هذه عبارة (الجواهر)، وعبارة (الشرح) و (الروضة):

ص: 491