المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب إحياء الموات - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٥

[الدميري]

الفصل: ‌كتاب إحياء الموات

‌كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ

الأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ إِنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الإِسْلَامِ .. فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهَا بِالإِحْيَاءِ،

ــ

كتاب إحياء الموات

(الموات) بفتح الميم والواو: فعال من الموت، ومنه: بلد ميت، والأرض الميتة: التي تعطلت عن النبات.

والموات في الاصطلاح: الأرض التي لا مالك لها ولا ينتفع بها أحد، وافتتح ابن خيران الباب بقوله تعالى:{وفي الأرض قطع متجورت} وفي (المحرر) بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضًا ميتة .. فهي له) وهو في (الترمذي)[1378] و (أبي داوود)[3068] و (النسائي)[سك5730] من رواية سعيد بن زيد بإسناد حسن.

والإجماع منعقد على جوازه في الجملة.

وقال في (المهذب): إن الإحياء مستحب، ووافقه المصنف عليه؛ لما روى ابن حبان [5205] والنسائي [5724] عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضًا ميتة .. له فيها أجر، وما أكلت العوافي منها .. فهو له صدقة).

و (العوافي): طلب الرزق من طير أو وحش أو غيرهما.

و (الموات) عندنا: ما لم يكن عامراً ولا حريماً لعامر قرب من العامر أو بعد، وهو طارئ وأصلي، فالطارئ: ما خرب بعد عمارته، والأصلي: ما لم يعمر قط.

قال: (الأرض التي لم تعمر قط إن كانت ببلاد الإسلام .. فللمسلم تملكها بالإحياء)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فمن

ص: 407

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أحيا شيئاً من موات الأرض .. فهو له) رواه أبو داوود [3071] والطيالسي [1440] من رواية عائشة.

وسواء أذن الإمام في ذلك أم لا، لكن يستحب استئذانه خروجاً من الخلاف.

وقال الجوري: كان موات الأرض ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رده على أمته.

واشترط أبو حنيفة إذن الإمام، وبه قال مالك في القريب من العمران، وخالفهما أبو يوسف ومحمد- وهو الحق- اكتفاء بإذن إمام الأئمة شفيع الأمة، فقد أذن صلى الله عليه وسلم وإذنه عام؛ لأنه إذن عن الله تعالى فهو نافذ على جميع الخلق إلى يوم القيامة، ولو كان إذناً لأهل عصره .. لعين المأذون له فيه والبقعة؛ لأن عند أبي حنيفة أن الإمام إنما يأذن في معين، فأما أن يأذن لأهل عصره في جميع الموات .. فلا، وهذا ما لم يتعلق به حق، فلو حمى الإمام قطعة من الموات فجاء شخص وأحياها .. لا يملكها إلا بإذن الإمام على الأصح؛ لما فيه من الاعتراض على الأئمة.

ثم لا يشترط في عدم العمارة التحقق، بل تكفي غلبة الظن بأن لا يرى أثرها ولا ما يدل عليها من أصول شجر ونهر وجدار.

وتعبيره بـ (التملك) يفهم اشتراط التكليف؛ لأن الصبي والمجنون يملكان ولا يتملكان، والمذهب أنه يستوي في التملك بالإحياء البالغ والصبي والعاقل والمجنون.

ودخل في إطلاق المصنف سواد العراق؛ فإن وقف عمر مختص بعامره.

وحكي عن أحمد أنه قال: ليس في السواد موات، فقيل: أراد العامر، وقيل: لأن السواد كله كان معموراً حين أخذه المسلمون.

والملك في اللغة: القوة، وفي الشرع: ليس أمراً حقيقياً قائماً بالمملوك، إنما هو مقدر فيه، وهو: إباحة الانتفاع بالمملوك والتصرف فيه.

و (قط) معناها الزمان الماضي، والمشهور فيها فتح القاف وضم الطاء المشددة، ومنهم من يضم القاف، ومنهم من يخفف فيها.

ص: 408

وَلَيْسَ هُوَ لِذِمِّيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْكُفَّارِ .. فَلَهُمْ إِحْيَاؤُهَا، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَذُبُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا

ــ

قال: (وليس هو لذمي) فلا يحيي في بلاد الإسلام لا بإذن الإمام ولا بغير إذنه، وإن أذن له .. لم يصح إذنه، ولو أحيا .. لم يملكه؛ لأنه استعلاء وليس له أن يستعلي في دار الإسلام.

واحتج بعض الأصحاب بقوله صلى الله عليه وسلم: (عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني) رواه الشافعي [أم4/ 45] وسعيد بن منصور في (سننه)، والبيهقي [6/ 143] عن طاووس مرسلاً، وأما ما زاده البغوي والرافعي من قوله: أيها المسلمون .. فلا يعرف.

والعادي: نسبة إلى عاد وثمود ومن بعدهم من الأمم، وكل قديم ينسبونه إلى عاد وإن لم يدركهم.

وخالف الأئمة الثلاثة وأبو طاهر الزيادي فقالوا: يجوز بإذن الإمام؛ لأنه موضع اجتهاد.

وعلم من امتناع الذمي منع الحربي والمعاهد من باب أولى.

أما الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد .. فجائز للذمي والمستأمن في دار الإسلام، وليس ذلك للحربي.

وللذمي نقل التراب من موات دار الإسلام إذا لم يتضرر به المسلمون ويملكه، والفرق بينه وبين إحيائه الأرض: أن الإحياء يصير به مالكاً لأصل دار الإسلام وبنقل التراب لا يصير.

قال: (وإن كانت ببلاد الكفار .. فلهم إحياؤها)؛ لأنه من حقوق دارهم، وليس فيه ضرر على المسلمين.

قال: (وكذا لمسلم إن كانت مما لا يذبون المسلمين عنها) أي: يدفعونهم؛ لأنها كموات دار الإسلام، فإن ذبوهم عنها .. لم يملكها المسلم بالإحياء كالمعمور من بلادهم.

وقال الإمام والغزالي وأبو الطيب: يملك المسلم بذلك، واختاره الشيخ، ويظهر

ص: 409

وَمَا كَانَ مَعْمُوراً .. فَلِمَالِكِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ وَالْعِمَارَةُ إِسْلَامِيَّةٌ .. فَمَالٌ ضَائِعٌ، فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةَ .. فَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالإِحْيِاءِ.

ــ

أن محل ذلك في أرض صولحوا على أنها لهم، أو في أرض الهدنة، وإلا .. فدار الحرب معمورها يملك بالاستيلاء، ومواتها بالاستيلاء يصير كالمتحجر فكيف لا يملك بالإحياء؟

قال: (وما كان معموراً .. فلمالكه) سواء كان في بلاد الإسلام أو الكفر، لأن الإحياء لأحداث الملك وهي مملوكة.

وعبارة المصنف تشمل ما كان معموراً في الحال وما كان معموراً في الزمن السالف ثم اندرس، واستثنى في (الكفاية) منها- تبعاً للماوردي- ما أعرض عنه الكفار قبل القدرة فيملك بالإحياء.

قال: (فإن لم يعرف) أي: المالك (والعمارة الإسلامية .. فمال ضائع)؛ لأنه لمسلم أو ذمي، وأمره إلى رأي الإمام فيحفظها لمالكها أو يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يقترضه لبيت المال.

وعبارة (الروضة): حكمه حكم المال الضائع، وظاهره: أنه لا يجوز للإمام إقطاعه؛ فإن المال الضائع لا يقطع، لكن في (الكفاية): الأصح في (البحر): جواز إقطاعه، وفيها وفي (الحاوي) وجهان.

قال: (فإن كانت جاهلية .. فالأظهر: أنه يملك بالإحياء) كالركاز.

والثاني: المنع؛ لأنه ليس بموات.

ص: 410

وَلَا يُمْلَكُ بِالإِحْيَاءِ حَرِيمُ الْمَعْمُورِ، وَهُوَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ. فَحَرِيمُ الْقَرْيَةِ:

ــ

وقال الشيخ أبو حامد وأتباعه: إنه المذهب، وتابعه ابن الرفعة، ولعلهم يجعلونه فيئا، وأما الرافعي والمصنف .. فتابعا البغوي وعمما الخلاف، وحكى جماعة الخلاف وجهين وهو الأقرب.

قال: (ولا يملك بالإحياء حريم المعمور)؛ لأن مالك المعمور يستحق مرافقه، وله يملكه صاحب العمارة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لأن الملك بالإحياء ولم يحيها.

وأصحهما: نعم كما يملك عرصة الدار تبعًا للدار.

قال: (وهو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع) كالطريق ومسيل الماء ونحوهما، ويختلف ذلك باختلاف الأمكنة والأبنية؛ لأن مالك المعمور يستحق الانتفاع بحريمه.

وسمي حريمًا؛ لأنه حرم على غير من له اختصاص به أن ينتفع به، وحرم منع صاحبه منه، وهل يملك الحريم؟ وجهان: الأصح: نعم كما يملك عرصة الدار، لكن لا يملك بيعه منفردًا.

ولا يمنع من الإحياء ما وراء الحريم قرب أم بعد؛ لما روى الدارقطني وابن سعد [3/ 152] وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع ابن مسعود الدور لما قدم المدينة) وهي بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل والنخل.

روى البيهقي [6/ 145] والشافعي مرسلاً [شم 1/ 381]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الدور) فيقال: إن الدور اسم موضع، ويقال: أقطع تلك البقعة لتتخذ دورًا.

قال: (فحريم القرية: النادي) وهو مجتمع القوم للحديث، ولا يسمى المجلس ناديًا إلا والقوم فيه، ويقال لأهل المجلس أيضًا: النادي، ولهذا عبر في (الشرحين) و (الروضة) و (المحرر) بـ (مجتمع النادي) وما أحسن ما أنشد بعض الشعراء لما أتى بجمال الدين الأصفهاني الجواد من بلاده ميتًا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه بالحجرة الشريفة [من الطويل]:

ص: 411

النَّادِي، وَمُرْتَكَضُ الْخَيْلِ، وَمُنَاخُ الإِبِلِ، وَمَطْرَحُ الرَّمَادِ وَنَحْوُهَا، وَحَريمُ الْبِئْرِ فِي الْمَوَاتِ: مَوْقِفُ النَّازِحِ، وَالْحَوْضُ وَالدُّولَابُ، وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ، وَمُتَرَدَّدُ الدَّابَّةِ،

ــ

سرى نعشه فوق الرقاب وطالما .... سرى جوده فوق الركاب ونائله

يمر على الوادي فتثني رماله .... عليه وبالنادي فتبكي أرامله

قال: (ومرتكض الخيل) وهو مكان سوقها، وقيده ابن الرفعة والقمولي تبعًا للإمام بما إذا كانوا خيالة.

قال: (ومناخ الإبل) وهو بضم الميم كما ضبطه المصنف بخطه: الموضع الذي تناخ فيه.

قال: (ومطرح الرماد ونحوها) كالسماد والقمامات ومراح الغنم وملعب الصبيان وسائر ما يعد من المرافق عرفاً، أما مرعى البهائم .. فقال الإمام: إن بعد .. لم يكن حريمًا، وأما القريب المستقل .. فينبغي أن يقطع بأنه حريم، وقال البغوي: المرعى: حريم قطعًا، واختاره الشيخ.

قال: (وحريم البئر في الموات: موقف النازح) وهو القائم عليها للاستقاء بيده، واحترز بذلك عن المحفورة في ملكه، والمعتبر في ذلك العرف.

واعتبر قوم قدر عمقها فإن كان عشرة أذرع .. فحريمها عشرة أذرع، وإن كان ألف ذراع .. فألف ذراع من كل جانب.

قال: (والحوض، والدولاب، ومجتمع الماء، ومتردد الدابة) لتوقف الانتفاع بالبئر على هذه الأشياء، وأهمل المصنف سادسًا- ذكره الرافعي- وهو: الموضع الذي يطرح فيه ما يخرج من الحوض.

ص: 412

وَحَرِيمُ الدَّارِ فِي الْمَوَاتِ: مَطْرَحُ رَمَادٍ وَكُنَاسَةٍ وَثَلْجٍ، وَمَمَرٌّ فِي صَوْبِ الْبَابِ، وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ: مَا لَوْ حُفِرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا أَوْ خِيفَ الاِنْهِيَارُ.

ــ

فإن قيل: الحوض ومجتمع الماء واحد فكيف غاير المصنف بينهما .. فالجواب أن الماء قد يجتمع في حوض وفي غيره.

ومراده بـ (الدولاب) موضعه.

وما أطلقه في موضع الدولاب و (متردد البهيمة) مقيد بما إذا كان الاستقاء بهما، وكان ذلك فيما المقصود منه السقي، أما ما يتخذ للشرب فقط .. فالمعتبر فيه موضع وقوف المستقي.

و (الدولاب) فارسي معرب، قال ابن سيده: هو على شكل الناعورة، وضم داله أشهر من فتحها، ولم يحك في (العباب) سوى الفتح.

قال: (وحريم الدار في الموات: مطروح رماد وكناسة وثلج، وممر في صوب الباب) أي: جهته؛ لأن العرف قاض بذلك وقوله (ممر) مرفوع.

ومراده بـ (صوب الباب): جهته، وليس المراد امتداده طويلا قبالته، بل يجوز لغيره إحياء ما قبالته، إذا بقي له ممر وإن احتاج إلى انعطاف وازورار.

ونص الشافعي والأكثرون على أن من حريم الدار فناءها، وجعل الغزالي من الحريم مصب ماء الميزاب.

قال: (وحريم آبار القناة: ما لو حفر فيه نقص ماؤها أو خيف الانهيار) أي: السقوط، ويختلف ذلك باختلاف رخاوة الأرض وصلابتها، ولا يحتاج إلى موقف نازح ولا شيء مما تقدم في بئر الاستقاء، وفي وجه: حريمها حريم البئر التي يستقى منها وإليه ذهب العراقيون وأبو حامد وأصحابه، وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي وأبي حنيفة خلافاً لمالك، وما جعله المصنف حريمًا هو بالنسبة إلى حفر الآبار لا مطلقًا؛ فإنه يجوز لغيره أن يبني في الحريم المذكور.

ومحل ما ذكره في البئر المحياة، أما المملوكة .. فلا يمنع من حفرها وإن نقص غيرها.

ص: 413

وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ لَا حَرِيمَ لَهَا، وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدً فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ تَعَدَّى .. ضَمِنَ، وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ دَارَهُ الْمَحْفُوفَةَ بِمَسَاكِنَ حَمَّامًا وَإِصْطَبْلاً، وَحَانُوتَهُ فِي الْبَزَّازِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ إِذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمَ الْجُدْرَانَ.

ــ

وضبط المصنف (أبآر) بالهمز على الأصل، ويجوز ترك الهمز على الإبدال أيضاً، وجمع البئر قلة كذلك، وعلى الكثرة بئار.

قال: (والدار المحفوفة بدور لا حريم لها)؛ إذ لا أولوية لبعضها على بعض.

وقوله: (المحفوفة) ليس بقيد، بل غير المحفوفة كذلك إذا كانت في طريق نافذ؛ لأنه لعامة المسلمين، بخلاف ما لو كانت في غير نافذ، قاله الرافعي في (باب الأصول والثمار).

قال: (ويتصرف كل واحد في ملكه على العادة) ولو أدى إلى ضرر جاره أو أدى إلى تلف كما إذا حفر بئرًا في داره فتلف بها بئر جاره، ولو عمل بئر حش أو بالوعة .. جاز خلافاً للقفال.

قال: (فإن تعدى .. ضمن)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

قال: (والأصح: أنه يجوز أن يتخذ داره المحفوفة بمساكن حمامًا وإصطبلًا، وحانوته في البزازين حانوت حداد إذا احتاط وأحكم الجدران)؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه فلا يعترض عليه، فلو عمل ملكه مخبزة أو مدبغة .. فأولى بالجواز؛ لأن التأذي إنما هو بالرائحة والدخان.

وحاصله: منع ما يضر الملك دون المالك، فإن فعل ما الغالب منه ظهور الخلل في جدار جاره .. فالأصح المنع كما إذا دق في داره دقاً عنيفًا يزعج الأبنية، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر النداوة إلى جدار جاره.

ص: 414

وَيَجُوزُ إِحْيَاءُ مَوَاتِ الْحَرَمِ دُونَ عَرَفَاتٍ فِي الأَصَحِّ.

ــ

والوجه الثاني في أصل المسألة: عدم الجواز؛ لما فيه من الضرر، واختار الروياني في الجميع أن الحاكم يجتهد ويمنع ما يظهر فيه قصد التعنت، ومنه إطالة البناء ومنع الشمس والقمر، وأعلى الجدار كأسفله.

واختار ابن الصباغ وابن الصلاح وابن رزين والفارقي أنه يمنع من كل مؤذ لم تجر العادة به مطلقًا، وهو مذهب أحمد.

وقال في (البحر): لو كان دق القصار يمنع ثبوت الحمام في البرج .. لم يمنع.

و (الحانوت) يذكر ويؤنث وهو: الدكان، وجمع في (الوجيز) بينهما، والصواب حذف أحدهما، وهل نونه أصلية أو زائدة؟ قولان.

قال: (ويجوز إحياء موات الحرم) كما يجوز تملك معموره بالبيع والهبة، ومن يقول: لا تباع دور مكة .. ينبغي أن يقول: لا يحيى مواتها، ومن يقول: إنها فتحت عنوة أو صلحاً .. يأتي فيه ما تقدم.

واختار الشيخ في كل موات أنه يجوز لكل مسلم إحياؤه لعموم إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالجملة موات مكة لا يكره إحياؤه وإن كره بيع دورها؛ لأن عمارتها مطلوبة.

قال: (دون عرفات في الأصح)؛ لتعلق حق الوقوف بها للخاصة والعامة، فكانت كالمساجد والطرق.

والثاني: يجوز مطلقاً وإن ضيق، ويبقى حق الوقوف في الدور، ويكون التملك بالإحياء كبيع الدار المستأجرة.

والوجه الثالث: إن ضيق .. امتنع، وإلا .. فلا وهو الراجح في (الوجيز)، ونسبه الإمام إلى القياسين.

وموضع الخلاف في إحياء بعضها كما فرضه الإمام، واقتضى كلامه امتناع إحياء الجميع بالاتفاق.

ولو قال المصنف: ولا يجوز في عرفات في الأصح .. كان أحسن؛ لئلا يتوهم

ص: 415

قُلْتُ: وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنَىً كَعَرَفَاٍ، وَالله أَعْلَمُ. وَيَخْتَلِفُ الإِحْيَاءُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ؛ فَإِنْ أَرَادَ: مَسْكَناً .. اشْتُرِطَ تَحْوِيطُ الْبُقْعَةِ وَسَقْفُ بَعْضِهَا وَتَعْلِيقُ بَابٍ، وَفِي الْبَابِ وَجْهٌ.

ــ

أن عرفات مستثناة من الحرم وأن الخلاف فيهما، وعرفات من الحل قطعاً والخلاف مختص بها.

قال: (قلت: ومزدلفة ومنى كعرفات والله أعلم) فلا تحيى أرضها للمعنى المذكور ولما روى الحاكم [1/ 466] وأبو داوود [2012] والترمذي [881] عن عائشة أنها قالت: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نبني لك بمنى بيتًا يظلك؟ فقال: (لا، منى مناخ من سبق).

ومنع الإحياء ثابت وإن قلنا باستحباب المبيت بها؛ لكونه مطلوبًا، لكن لا يظهر أن يلحق بذلك المحصب.

قال: (ويختلف الإحياء بحسب الغرض) والمرجع في جميع ذلك إلى العرف؛ لأن الشارع أطلقه، ولا حد له فيه ولا في اللغة فكان كالقبض والحرز.

قال: (فإن أراد مسكنًا .. اشترط تحويط البقعة) بما جرت العادة به في ذلك المكان من لبن أو طين أو حجر أو خشب؛ لما روى أبو داوود [3072] عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحاط حائطاً على أرض .. فهي له).

قال: (وسقف بعضها) ليتهيأ للسكنى، ولأن اسم الدار حينئذ يقع عليه، وقيل: لا يشترط.

و (السقف) جمعه سقوف وسقف مثل رهن ورهن، تقول: سقف البيت أسقفه سقفًا.

قال: (وتعليق باب)؛ لأن العادة جارية بذلك.

قال: (وفي الباب وجه)؛ لأن فقده لا يمنع السكنى، وإنما ينصب لحفظ

ص: 416

أَوْ زَرِيبَةَ دَوَابَّ .. فَتَحْوِيطٌ لَا سَقْفٌ، وَفِي الْبَابِ الْخِلَافُ. أَوْ مَزْرَعَةً .. فَجَمْعُ التُّرَابِ حَوْلَهَا وَتَسْوِيَةُ الأَرْضَ

ــ

المتاع، واقتصاره على حكاية الخلاف فيه فيه نظر؛ لأن الخلاف في السقف أيضا؛ فلو قال: وفيهما وجه .. كان أولى.

ولا تشترط السكنى جزمًا وقال المحاملي: يشترط الإيواء.

قال: (أو زريبة دواب .. فتحويط لا سقف) ولا يشترط أن يكون تحويطها كتحويط الدار، بل يكفي دون ذلك، وتشترط فيه التعلية بحيث يمنع الطارق وفرار البهائم.

ولا يكفي نصب سعف وأحجار من غير بناء؛ لأن العادة لا تقضي بالتملك بذلك، وإنما يفعله المجتاز.

ولو حذف المصنف لفظة (دواب) .. كان أولى؛ لأن زريبة الحطب وتجفيف الثمرة كذلك.

قال: (وفي الباب الخلاف) أي: السابق في المسكن، وهنا أولى بالمنع كما قاله في (الذخائر)؛ لأن الحارس أو الراعي يقعد بباب الحظيرة بخلاف الدور، وشرط صاحب (الإيضاح) أن يجعل على الحيطان شوكاً.

قال: (أو مزرعة .. فجمع التراب حولها)؛ لينفصل المحمي عن غيره، وفي معناه نصب قصب أو حجر أو شوك.

قال: (وتسوية الأرض)؛ لأن العادة قاضية بذلك.

و (المزرعة) مثلثة الراء، والأفصح فتحها، ولم يحك المصنف في تحريره الكسر.

والمراد بـ (تسوية الأرض) طم المنخفض وكسح العالي، وحراثتها إن لم تزرع إلا به لتتهيأ للزرع، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.

ص: 417

وَتَرْتِبُ الْمَاءِ لَهَا إِنْ لَمْ يَكْفِهَا الْمَطَرُ، لَا الزِّرَاعَةُ فِي الأَصَحِّ. أَوْ بُسْتَانًا .. فَجَمْعُ التُّرَابِ وَالتَّحْوِيطُ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادُ وَتَهْيِئَةُ مَاءٍ، وَيُشْتَرَطُ الْغَرْسُ عَلَى الْمَذْهَبِ.

ــ

قال: (وترتيب الماء لها إن لم يكفها المطر) وذلك بحفر بئر أو إجراء قناة، ويستثنى من اعتبار هذا الشرط أرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليه ولا يكفيها المطر، فإنها تملك بالحراثة وجمع التراب بأطرافها، وقال صاحب (التقريب) والقفال: لا مدخل للإحياء فيها، وكذلك أرض البطاح وهي: ناحية بالعراق غلب عليها الماء .. فيشترط في إحيائها حبس الماء عنها كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه.

قال: (لا الزراعة في الأصح)؛ لأنها استيفاء منفعة الأرض وهو خارج عن الإحياء، ولهذا لا تعتبر في إحياء الدار سكناها.

والثاني: تشترط؛ لأن الدار لا تصير محياة حتى يصير فيها عين مال المحيي فكذلك المزرعة، ولا خلاف أن الحصاد لا يشترط.

قال: (أو بستاناً .. فجمع التراب) كالمزرعة، وحكم الكرم حكم البستان، وليس المراد جمعه حوله كما توهمه عبارته، بل تهيئة أرض البستان وإصلاحه كما قاله الروياني وغيره.

قال: (والتحويط حيث جرت العادة به) بقصب أو شوك أو بناء عملاً بها، ورجوعًا إلى عادة ذلك المكان.

قال: (وتهيئة ماء) كما سبق في المزرعة.

قال: (ويشترط الغرس على المذهب) بخلاف المزرعة، فإن الأرض للزراعة تحصل عمارتها بالحرث وإن لم تزرع وعمارة البستان بالغراس، ولأن الغراس للدوام فالتحق ببناء الدار، أما من اعتبر الزرع في المزرعة .. فيعتبر الغرس هنا من باب أولى.

ولا يشترط غرس جميعها، بل يكفي غرس بعض الأرض كما صححه الإمام.

ص: 418

وَمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إِحْيَاءٍ وَلَمْ يُتِمَّةُ، أَوْ أَعْلَمَ عَلَى بُقْعَةٍ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرَزَ خَشَبًا .. فَمُتَحَجِّرٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ- لَكنِ الأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ،

ــ

ولا يشترط أن يثمر الغرس، وقال البالسي: رأيت في بعض التعاليق أن في اشتراط ذلك خلافًا.

والثاني: لا يشترط الغرس كالزراعة.

قال: (ومن شرع في عمل إحياء ولم يتمه، أو أعلم على بقعة بنصب أحجار أو غرز خشبًا .. فمتحجر، وهو أحق به)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم .. فهو له) رواه أبو داوود [3066] ولم يضعفه، وهذه الأحقية أحقية اختصاص لا ملك على الأصح، ولها شرطان:

أن لا يزيد على قدر كفايته.

وأن يقدر على إكماله.

فإن فقدا أو أحدهما .. امتنعت الأحقية.

قال: (لكن الأصح: أنه لا يصح بيعه)؛ لأن حق التملك لا يباع كحق الشفيع.

والثاني- وبه قال أبو إسحاق-: يصح بيعه مع موافقته على عدم الملك وكأنه بيع اختصاص كبيع علو البيت للبناء والسكنى دون سفله.

وإذا قلنا بهذا .. فالبيع حينئذ حق اختصاص فيصير المشتري كالبائع، فمن بادر وأحياه .. ملكه في الأصح، ولا يسقط الثمن عن المشتري في الأصح عن المصنف؛ لحصول التلف بعد القبض.

ولو أحياه المشتري قبل الحكم بفسخ البيع .. فالأصح عند المصنف: أنه له، وقيل: للبائع.

تنبيهان:

أحدهما: عبارة جماعة- منهم الرافعي-: أنه لا يجوز بيع الأرض المحتجزة، وهو صريح في إيراد العقد على الأرض، وعبارة الإمام والغزالي: أنه لا يجوز بيع حق

ص: 419

وَأَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهُ آخَرُ مَلَكَهُ- وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّحَجُّرِ .. قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: أَحْيِ أَوِ اتْرُكْ، فَإِنِ اسْتَمْهَلَ .. أُمْهِلَ مُدَّةً قَريِبَةٍ

ــ

التحجر، وهو صريح في إيراد البيع على حق التملك لا الأرض.

الثاني: لو ولاه المتحجر غيره .. صح وصار الثاني أحق به بلا خلاف، قال الماوردي: وليست هبة، بل هي تولية وإيثار، وإذا باعه- وقلنا بالفساد- فهل يكون ذلك إيثارًا ضمنيًا أو لا؟ قال الشيخ: الظاهر المنع؛ لأن البيع الفاسد لا أثر له ولا للتسليم.

قال: (وأنه لو أحياه آخر ملكه)؛ لأنه حقق الملك وإن كان ظالماً كما لو اشترى على سوم أخيه أو خطب على خطبته، وهذا معطوف على (الأصح) ولا خلاف أنه حرام، وتقابله أوجه:

قيل: لا يملك لئلا يبطل حق غيره، قال الإمام: وهو أقيس، واختاره القفال.

وقيل: إن انضم إليه إقطاع .. لا يملك المبتدر، وإلا .. ملك.

وقيل: إن أخذ المتحجر في العمارة .. لم يملك المبادر، وإن اقتصر على التحويط .. ملك.

وشبهوا المسألة بالخلاف فيما إذا عشش الطائر في ملكه وأخذ الفرخ غيره هل يملكه؟ قال في (الروضة): الأصح: نعم، وكذا لو توحل طير في أرضه ونحو ذلك.

قال: (ولو طالت مدة التحجر .. قال له السلطان: أحي أو اترك)؛ لأن في ترك العمرة ضرراً بدار المسلمين فمنع منه، ولأن فيه نوعاً من الحمى وقال عليه الصلاة والسلام:(لا حمى إلا لله ولرسوله) والقائل له ذلك هو الإمام أو نائبه، ويعرف الطول بالعرف.

قال: (فإن استمهل .. أمهل مدة قريبة) رفقاً به ودفعاً لضرر غيره، وقيده

ص: 420

وَلَوْ أَقْطَعَهُ الإِمَامُ مَوَاتاً .. صَارَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ كَالْمُتْحَجِّرِ.

ــ

الماوردي بما إذا أبدى عذرًا من غيبة صناع أو تعذر آلة أو نحوها، وهذه المدة مرجعها إلى رأي الإمام، والأصح أنها لا تتقيد بثلاثة أيام، وقدرها أو حامد من عشرة أيام إلى شهرين لا ما زاد.

وفي وجه رابع: أنها مدة تتهيأ فيها أسباب العمارة قاله القاضي أبو الطيب والإمام.

وقدرها أبو حنيفة بثلاث سنين استدلالاً بأثر ورد في ذلك عن عمر.

قال الشيخ: وينبغي إذا علم الإمام أنه لا عذر له فيها، أو علم منه الإعراض أن ينتزعها منه في الحال.

ولو مات المتحجر .. قام وارثه مقامه، أو جن .. قام وليه مقامه في إحيائها له إن رآه، فإن أحياها لنفسه .. فحكمه حكم المتغلب قاله الروياني.

قال: (ولو أقطعه الإمام مواتًا .. صار أحق بإحيائه كالمتحجر) لظهور فائدة الإقطاع؛ فقد أقطع النبي صلى الله عليه وسلم أرضًا للزبير كما رواه الشيخان [خ3151 - م2182] من حديث أسماء، وأقطع وائل بن حجر أرضًا بحضر موت، رواه الترمذي [1381].

وفي (أبي داوود)[3055] بإسناد جيد: عن عمرو بن حريث قال: (انطلق بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام شاب، فدعا لي بالبركة ومسح رأسي، وخط لي دارًا بالمدينة بقوسي ثم قال: ألا أزيدك) فاشتمل الحديث على مكارم الأخلاق وجواز إقطاع الصبي، والإقطاع بالمدينة والإحياء بها، وقد تقدم:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الدور من المدينة)، لكن ابن الأثير ذكر في (النهاية)[4/ 82] عن بعضهم أنه كان يتأول إقطاع المهاجرين الدور على معنى العارية، أي: أنزلهم دور الأنصار، والشافعي أعلم من ابن الأثير بذلك.

ص: 421

وَلَا يُقْطِعُ إِلَاّ قَادِراً عَلَى الإِحْيَاءِ، وَقَدْرًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمُتَحَجِّرُ

ــ

فائدة:

قد يقول من لا خبرة له: إن التمليك يحتاج إلى تقدم ملك، وجوابه: أن التمليك في هذا الباب من جهة الله، فهو حاصل للنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما فتح من الأرض وفيما لم يفتح؛ لأن ملك الله تعالى عليها كلها وملك رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفاد منه.

وقد ورد: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى تميمًا الداري قرية عينون التي بالشام قبل أن تفتح الشام- وممن ذكر ذلك من الفقهاء الماوردي، ومن المحدثين ابن سعد [7/ 408]- وأعطى أبا ثعلبة الخشني أيضًا شيئا من بلاده قبل أن تفتح، والذي أعطاه لتميم الداري باق بيد أهله إلى اليوم، وأراد بعض الولاة التشويش عليهم، وساعده بعض من لا بصيرة له، فأفتى الغزالي بكفره وقال: النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع الجنة فكيف لا يقطع الدنيا؟

قال الشيخ: ووقعت لي هذه القضية وأنا بدمشق، فأقررت أهل تميم الداري عليها.

وقال الشافعي: يجب على الإمام الإقطاع إذ طلب منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما أقطع ابن مسعود: (إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها) وقصة العباس مع عمر في الإقطاع شهيرة رواها البيهقي وغيره.

قال: (ولا يقطع إلا قادراً على الإحياء، وقدراً يقدر عليه)؛ لأنه ينظر بالمصلحة.

قال: (وكذا المتحجر) لا يتحجر إلا ما يحتاج إليه ويقدر عليه، فإن زاد .. كان لغيره أن يحيي الزائد.

والإقطاع قسمان: إقطاع تملك وهو: الموات ليحييه فيملكه، وإقطاع إرفاق كمقاعد الأسواق.

ص: 422

وَالأَظْهَرُ: أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَغْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ وَضَالَّةٍ وَضَعِيفٍ عَنِ النُّجْعَةِ،

ــ

والإقطاعات المعروفة في هذا الزمان للأمراء والأجناد من أرض عامرة لتكون لهم منافعها بالاستعمال وغيره ليس له ذكر في كلام الفقهاء.

قال الشيخ: وتسميته إقطاعًا مخالف لقولهم: إن الإقطاع إنما يكون في الموات، وكذلك الرزق التي يعطيها الإمام للفقهاء وغيرهم كذلك.

ومن فوائد النظر في ذلك: أنه لو تعدى شخص على المختص بها وزرعها، هل تلزمه أجرة المثل له لأنه ملك منفعتها بالإقطاع، أو لا لأنه كالمتحجر وهي باقية على اشتراك المسلمين؟ فيه نظر، لكن القاضي عياض نص على اختصاصها بالمقطع، ويؤيد ذلك ما تقدم من فتوى المصنف بصحة إيجارها.

فرع:

لو تحجر على أن يعمر بعد سنة ونحوها .. قال في (الوسيط): لا يجوز، وكان لغيره أن يحييه بغير إذن الإمام.

قال: (والأظهر: أن للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي نعم جزية وصدقة وضالة وضعيف عن النعجة) وهي: الذهب لطلب الرعي وغيره، وهي بضم النون.

ومعناه: أن يمنع سائر الناس منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع- بالنون- لخيل المسلمين، رواه ابن حبان [4683].

وحمى أبو بكر الصديق وحمى عمر السرف والربذة، رواه البخاري [2370]، وكان له غلام على الحمى اسمه هني، ولما استعمله .. قال له: يا هني اضمم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم؛ فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتني بعياله يقول: يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين؛ أفتاركهم أنا لا أبا لك، الكلأ أهون علي من الدينار والدرهم، وأيم الله! لولا المال الذي أحمل عليه في

ص: 423

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

سبيل الله .. ما حميت على المسلمين في بلادهم شبراً [خ3059].

و (الصريمة): الإبل القليلة، و (الغنيمة): الغنم القليلة.

وإنما يجوز ذلك إذا لم يضر بالمسلمين، فإن أضر .. لم يجز قطعاً.

والقول الثاني: لا يحمي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا حمى إلا الله ورسوله) رواه البخاري [2370] من حديث الصعب بن جثامة.

وأجاب الأول بأن معناه لا يحمي، إلا أن يقصد به وجه الله كفعله صلى الله عليه وسلم لا كفعل الجاهلية؛ فإن العزيز منهم كان يصعد على نشز من الأرض ويستنبح كلباً، فحيث انتهى صوت الكلب من كل ناحية .. كان حمى لنفسه يمنعه من غيره، ويشارك هو غيره في غيره، فنهوا عن ذلك.

يقال: حميت المكان منعته، وأحميته جعلته حمى، فيجوز أن يقرأ ما في الكتاب بفتح الياء ثلاثيًا، وبضمها رباعياً، والفتح أشهر.

واحترز بـ (الإمام) عن آحاد الرعية، فليس لهم الحمى قطعاً.

والمراد بـ (الإمام) الخليفة، فليس للأمير ولا لوالي الإقليم أن يحمي إلا بإذن الإمام كذا صرح به الماوردي والروياني، وألحق الفوراني الولاة بالخليفة، ووافقه الرافعي فرجح لهم الجواز، ثم مما يحمى له خيل المجاهدين، بل هي أحق به من غيرها.

والمراد بـ (نعم الجزية): ما يؤخذ بدلاً عن الذهب والفضة، وبـ (نعم الصدقة): ما يفضل عن سهمان أهل الصدقات فيعاد على أهلها، أو رعيها في زمن انتظار قسمتها عليهم لعدم حضور بعضهم.

أما الماء العد .. فيحرم على الإمام أن يحميه لشرب خيل الجهاد وإبل الصدقة وغيرها بلا خلاف.

ص: 424

وَأَنَّ لَهُ نَقْضَ مَا حَمَاهُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَحْمِي لِنَفْسِهِ

ــ

وهل يجوز لعامل الصدقة أن يحمي موضعًا لرعيها إذا لم يضر بأهل البلد؟ فيه قولان.

ويحرم على الإمام وغيره من الولاة أن يأخذ من أصحاب المواشي عوضًا عن الرعي في الحمى أو الموات بلا خلاف.

قال: (وأن له نقض ما حماه للحاجة) رعاية للمصلحة، وليس ذلك من نقض الاجتهاد بالاجتهاد.

والثاني: لا؛ لتعينه لتلك الجهة كالمسجد والمقبرة، أما حمى النبي صلى الله عليه وسلم .. فلا ينقض بحال؛ لأنه نص لا ينقض ولا يغير، وألحق به الصيمري ما حماه عمر، وقال أبو محمد في (مختصره) والغزالي في (الخلاصة): إنه الصحيح.

وحكى صاحب (الرونق) قولاً: إنه لا يجوز نقض ما حماه الخلفاء الأربعة وهو حسن، وجعل صاحب (التلخيص) القولين في حق الخلفاء الأربعة، وأما غيرهم .. فيجوز نقض حماهم قطعاً.

وقوله: (للحاجة) متعلق بـ (نقض) لا بـ (حماه).

قال: (ولا يحمي لنفسه)؛ لأن ذلك من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقع ذلك منه، ولو وقع .. لكان لمصالح المسلمين أيضاً؛ لأن ما كان مصلحة له .. فهو مصلحة لهم.

واستدل له البيهقي [6/ 147] بما رواه عن ابن عمر أنه قال: (اشتريت إبلاً، ثم انتجعتها في الحمى، فلما سمنت .. قدمت بها السوق، فدخله عمر فرأى إبلا سماناً فقال: لمن هذه الإبل؟ فقالوا: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر؛ بخ بخ، أبن أمير المؤمنين؟! قال: فجئته أسعى فقلت: ما لك

ص: 425