المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ولاية الحاكم بأمر الله على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٤

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الرابع]

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 354]

- ‌ذكر ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 355]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 356]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 357]

- ‌ذكر ولاية أحمد بن علىّ بن الإخشيذ على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 358]

- ‌ذكر ولاية جوهر القائد الرومىّ المعزّىّ على مصر

- ‌ذكر دخول جوهر إلى الديار المصريّة وكيف ملكها

- ‌ذكر بناء جوهر القائد القاهرة وحاراتها

- ‌ترجمة القائد جوهر وما يتعلق به من بنيان القاهرة وغيرها

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 359]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 360]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 361]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 362]

- ‌ذكر ولاية المعزّ العبيدى على مصر

- ‌ذكر ما قيل في نسب المعزّ وآبائه

- ‌ذكر ركوب الخلفاء الفاطميين في أوّل العام من كلّ سنة

- ‌ذكر ركوب الخليفة في يومى عيد الفطر والنّحر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 363]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 364]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 365]

- ‌ذكر ولاية العزيز نزار على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 366]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 367]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 368]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 369]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 370]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 371]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 372]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 373]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 374]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 375]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 376]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 377]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 378]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 379]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 380]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 381]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 382]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 383]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 384]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 385]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 386]

- ‌ذكر ولاية الحاكم بأمر الله على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 387]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 388]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 389]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 390]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 391]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 392]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 393]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 394]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 395]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 396]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 397]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 398]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 399]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 400]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 401]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 402]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 403]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 404]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 405]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 406]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 407]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 408]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 409]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 410]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 411]

- ‌ذكر ولاية الظاهر على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 412]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 413]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 414]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 415]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 416]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 417]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 418]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 419]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 420]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 421]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 422]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 423]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 424]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 425]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 426]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 427]

- ‌فهرس الولاة الذين تولوا مصر من سنة 355 هـ- 427 ه

الفصل: ‌ذكر ولاية الحاكم بأمر الله على مصر

أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.

‌ذكر ولاية الحاكم بأمر الله على مصر

هو أبو علىّ منصور الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله نزار بن المعزّ بالله معدّ بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد والدار والمنشأ، الثالث من خلفاء مصر من بنى عبيد والسادس منهم ممن ولى من أجداده بالمغرب، وهم: المهدىّ والقائم والمنصور المقدّم ذكرهم.

مولده يوم الخميس لأربع ليال بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وثلثمائة بالقاهرة؛ وقيل: فى الثالث والعشرين منه. وولّاه أبوه العزيز عهد الخلافة فى شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، وبويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة ستّ وثمانين وثلثمائة؛ فولى الخلافة وله إحدى عشرة سنة ونصف، وقيل: عشر سنين ونصف وستّة أيام، وقيل غير ذلك.

قال العلّامة أبو المظفّر بن قزأوغلى في تاريخه: «وكانت خلافته متضادّة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبّة للعلم وانتقام من العلماء، وميل الى الصلاح وقتل الصلحاء. وكان الغالب عليه السخاء؛ وربّما بخل بما لم يبخل به أحد قطّ.

وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمام؛ وأقام سنين يجلس فى الشمع ليلا ونهارا، ثمّ عنّ له أن يجلس في الظّلمة فجلس فيها مدّة. وقتل من العلماء والكتّاب والأماثل ما لا يحصى؛ وكتب على المساجد والجوامع سبّ أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزّبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضى الله عنهم

ص: 176

فى سنة خمس وتسعين وثلثمائة، ثمّ محاه في سنة سبع وتسعين؛ وأمر بقتل الكلاب وبيع الفقّاع «1» ، ثم نهى عنه؛ ورفع المكوس عن البلاد وعمّا يباع فيها؛ ونهى عن النجوم، وكان ينظر فيها؛ ونفى المنجّمين وكان يرصدها «2» ؛ ويخدم زحل وطالعه المرّيخ، ولهذا كان يسفك الدّماء. وبنى جامع «3» القاهرة، وجامع راشدة «4» على النيل بمصر، ومساجد كثيرة، ونقل إليها المصاحف المفضّضة والستور الحرير وقناديل الذهب والفضّة؛ ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها؛ وقطع الكروم ومنع من بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرما؛ وأراق خمسة آلاف جرّة من عسل فى البحر خوفا من أن تعمل نبيذا؛ ومنع النساء من الخروج من بيوتهنّ ليلا ونهارا؛ وجعل لأهل الذمّة علامات يعرفون بها، وألبس اليهود العمائم السّود، وأمر ألّا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وألّا يستخدموا غلاما مسلما، ولا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حمّاما، وجعل لهم حمامات على حدة؛ ولم يبق فى ولايته ديرا ولا كنيسة إلّا هدمها؛ ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه والصلاة

ص: 177

عليه في الخطب والمكاتبات؛ وجعل مكان الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين، ثمّ رجع عن ذلك؛ وأسلم خلق من أهل الذّمّة خوفا منه ثم ارتدّوا؛ وأعاد الكنائس إلى «1» حالها» . انتهى كلام أبى المظفر.

قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ في تاريخه: «كان جوادا سمحا، خبيثا ماكرا، ردىء الاعتقاد، سفّاكا للدّماء؛ قتل عددا كبيرا من كبراء دولته صبرا؛ وكان عجيب السيرة، يخترع كلّ وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعيّة عليها؛ فأمر بكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر العمّال بالسبّ في الأقطار في سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وأمر بقتل الكلاب في مملكته وبطّل الفقّاع والملوخيّا؛ ونهى عن السمك، وظفر بمن باع ذلك فقتلهم؛ ونهى في سنة اثنتين وأربعمائة عن بيع الرطب ثمّ جمع منه شيئا عظيما فأحرق الكلّ؛ ومنع من بيع العنب وأباد كثيرا من الكروم؛ وأمر النصارى بأن تعمل في أعناقهم الصّلبان، وأن يكون طول الصليب ذراعا وزنته خمسة أرطال بالمصرىّ؛ وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامى الخشب في زنة الصلبان أيضا، وأن يلبسوا العمائم السّود، ولا يكتروا من مسلم بهيمة، وأن يدخلوا الحمّام بالصّلبان، ثمّ أفرد لهم حمّامات. وفي العام أمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة «2» . ولّما أرسل إليه ابن باديس «3» ينكر عليه أفعاله، أراد»

استمالته فأظهر التفقه وحمل في كمّه الدفاتر وطلب إليه فقيهين وأمر هما بتدريس مذهب مالك في الجامع؛ ثمّ بدا له فقتلهما صبرا؛ وأذن للنصارى الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشّرك. وفي سنة أربع وأربعمائة منع النساء من الخروج

ص: 178

فى الطريق، ومنع من عمل الخفاف لهنّ؛ فلم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتّى مات. ثمّ إنّه بعد مدّة أمر بيناء ما كان أمر بهدمه من الكنائس. وكان أبوه العزيز قد ابتدأ بيناء جامعه الكبير بالقاهرة (يعنى الذي هو داخل باب النصر) فتممّه هو. وكان على بنائه ونظره الحافظ «1» عبد الغنى بن سعيد. وكان الحاكم يفعل الشيء ثمّ ينقضه. وخرج عليه أبو ركوة الوليد بن هشام العثمانىّ الأموىّ الأندلسىّ بنواحى برقة فمال إليه خلق عظيم؛ فجهّز الحاكم لحربه جيشا فانتصر عليهم أبو ركوة وملك؛ ثمّ تكاثروا عليه وأسروه؛ ويقال: إنه قتل من أصحابه مقدار سبعين ألفا.

وحمل أبو ركوة إلى الحاكم فذبحه في سنة سبع وتسعين» . انتهى كلام الذهبىّ باختصار.

قلت: ونذكر واقعته مع عسكر الحاكم وكيف ظفر به الحاكم وقتله مفصّلا فى سنة سبع وتسعين المذكورة في الحوادث بأوسع من هذا، إن شاء الله تعالى؛ لأن قصّته غريبة فتنظر هناك.

وقال ابن خلّكان: «وكان أبو الحسن علىّ المعروف بابن يونس المنجّم قد صنع له" الزّيج" المعروف بالحاكمىّ وهو زيج كبير مبسوط. قال: نقلت من خطّ الحافظ أبى طاهر أحمد بن محمد السّلفىّ رحمه الله تعالى أن الحاكم المذكور كان جالسا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأ بعض الحاضرين:

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

، والقارئ في أثناء ذلك كلّه يشير إلى الحاكم. فلمّا

ص: 179

فرغ من القراءة قرأ شخص يعرف بابن المشجّر (والمشجّر بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشدّدة وبعدها راء مهملة) وكان ابن المشجّر رجلا صالحا فقرأ:

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)

. فلمّا انتهت قراءته تغيّر وجه الحاكم، ثمّ أمر لابن المشجّر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئا. ثمّ إنّ بعض أصحاب ابن المشجّر، قال له: أنت تعرف خلق الحاكم وكثرة استحالاته وما تأمن أن يحقد عليك [وأنّه «1» لا يؤاخذك في هذا الوقت] ثم يؤاخذك بعدها فالمصلحة عندى أن تغيب عنه. فتجهّز ابن المشجّر إلى الحجّ وركب فى البحر وغرق. فرآه صاحبه في النوم [فسأله عن «2» حاله] فقال: ما قصّر الرّبان معنا، أرسى بنا على باب الجنّة» . انتهى كلام ابن خلكّان رحمه الله.

وقال ابن الصابئ «3» : «كان الحاكم يواصل الركوب ليلا ونهارا، ويتصدّى له الناس على طبقاتهم، فيقف عليهم ويسمع منهم، فمن أراد قضاء حاجته قضاها فى وقته، ومن منعه سقطت المراجعة في أمره. وكان المصريّون موتورين منه؛

ص: 180

فكانوا يدسّون إليه الرّقاع المختومة بالدعاء عليه والسبّ له ولأسلافه، والوقوع فيه وفي حرمه، حتى انتهى فعلهم الى أن عملوا تمثال امرأة من قراطيس بخفّ وإزار، ونصبوها في بعض الطّرق وتركوا في يدها رقعة كأنها ظلامة؛ فتقدّم الحاكم وأخذها من يدها. فلمّا فتحها رأى في أوّلها ما استعظمه، فقال: انظروا هذه المرأة من هى؟ فقيل له: إنها معمولة من قراطيس؛ فعلم أنهم قد سخروا منه، وكان في الرقعة كلّ قبيح. فعاد من وقته إلى القاهرة، ونزل في قصره واستدعى القوّاد والعرفاء، وأمرهم بالمسير إلى مصر وضربها بالنار ونهبها، وقتل من ظفروا به من أهلها؛ فتوجّه إليها العبيد والروم والمغاربة وجميع «1» العساكر. وعلم أهل مصر بذلك فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسهم، وأوقعوا النار فى أطراف البلد؛ فاستمرّت الحرب بين العبيد والعامّة والرعيّة ثلاثة أيّام، والحاكم يركب في كلّ يوم إلى القرافة، ويطلع إلى الجبل ويشاهد النار ويسمع الصّياح ويسأل عن ذلك، فيقال له: العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيظهر التوجّع، ويقول: لعنهم الله! من أمرهم بهذا. فلمّا كان اليوم الرابع «2» اجتمع الأشراف [والشيوخ «3» ] إلى الجوامع ورفعوا المصاحف وضجّوا بالبكاء وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء، فرحمهم الأتراك ورّقوا لهم وانحازوا اليهم وقاتلوا معهم، وكان أكثرهم مخالطا لهم ومداخلا ومصاهرا، وانفرد العبيد وصار القتال معهم؛ وعظمت القصّة وزادت الفتنة، واستظهرت كتامة والأتراك عليهم، وراسلوا الحاكم، وقالوا: نحن عبيد ومماليك، وهذا البلد بلدك وفيه حرمنا وأموالنا وأولادنا وعقارنا، وما علمنا أنّ أهله جنوا جناية تقتضى سوء المقابلة، وتدعو إلى مثل

ص: 181

هذه المعاملة. فإن كان هناك باطن لا نعرفه فأخبرنا به، وانتظرنا حتّى نخرج بعيالنا وأموالنا منه. وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفا لرأيك فأطلقنا في معاملتهم بما يعامل به المفسدون والمخالفون. فأجابهم بأنه ما أراد ذلك، ولعن الفاعل له والآمر به، وقال: أنتم على الصواب في الذبّ عن المصرييّن، وقد أذنت لكم فى نصرتهم، والإيقاع بمن تعرّض لهم. وأرسل إلى العبيد سرّا يقول: كونوا على أمركم؛ وحمل إليهم سلاحا قوّاهم به. وكان غرضه في هذا أن يطرح بعضهم على بعض، وينتقم من فريق بفريق. وعلم القوم بما يفعل، فراسلته كتامة والأتراك:

قد عرفنا غرضك، وهذا هلاك هذه البلدة وأهلها وهلا كنا معهم؛ وما يجوز أن نسلّم نفوسنا والمسلمين «1» لفتك الحريم وذهاب المهج. ولئن لم تكفّهم لنحرقنّ القاهرة، ونستنفرنّ «2» العرب وغيرهم؟ فلمّا سمع الرسالة. وكانوا قد استظهروا على العبيد.

ركب حماره ووقف بين الصّفّين وأوما للعبيد بالانصراف فانصرفوا، واستدعى كتامة والأتراك ووجوه المصريّين واعتذر إليهم، وحلف أنه برىء مما فعله العبيد؛ وكذب في يمينه؛ فقبّلوا الأرض بين يديه وشكروه، وسألوه الأمان لأهل مصر، فكتب لهم، وقرئ الأمان على المنابر، وسكنت الفتنة وفتح الناس أسواقهم وراجعوا معايشهم. واحترق من مصر مقدار ثلثها، ونهب نصفها. وتتبّع المصريّون من أخذ أزواجهم وبناتهم وأخواتهم، وابتاعوهنّ من العبيد بعد أن فضحوهنّ، وقتل بعضهنّ نفوسهنّ خوفا من العار. واستغاث قوم من العلوييّن الأشراف إلى الحاكم، وذكروا أنّ بعض بناتهم في أيدى العبيد على أسوأ حال، وسألوه أن يستخلصهنّ؛ فقال الحاكم:[انظروا «3» ] ما يطالبونكم به عنهنّ لأطلقه لكم؛

ص: 182

فقال له بعضهم: أراك الله في أهلك وولدك مثل ما رأينا في أهلنا وأولادنا، فقد اطّرحت الدّيانة والمروءة بأن رضيت لبنات عمّك بمثل هذه الفضيحة، ولم يلحقك منهنّ امتعاض «1» ولا غيرة. فحلم عنه الحاكم وقال له: أنت أيها الشريف محرج «2» ونحن حقيقون باحتمالك وإلا غضبنا عليك وزاد الأمر على الناس فيما يفجؤهم به حالا بعد حال من كلّ ما تنخرق به العادات وتفسد الطاعات.

ثم عنّ له أن يدّعى الرّبوبيّة، وقرّب رجلا يعرف بالأخرم ساعده على ذلك؛ وضمّ إليه طائفة بسطهم للأفعال الخارجة عن الدّيانة. فلمّا كان في بعض الأيام خرج الأخرم من القاهرة راكبا في خمسين رجلا من أصحابه، وقصد مصر ودخل الجامع راكبا دابّته، ومعه أصحابه على دوابّهم وقاضى القضاة ابن [أبى «3» ] العوّام جالس فيه ينظر في الحكم، فنهبوا الناس وسلبوهم ثيابهم وسلّموا للقاضى رقعة فيها فتوى، وقد صدّرت باسم الحاكم الرّحمن الرّحيم. فلمّا قرأها القاضى رفع صوته منكرا، واسترجع وثار الناس بالأخرم وقتلوا أصحابه وهرب هو. وشاع الحديث فى دعواه الرّبوبيّة، وتقرّب إليه جماعة من الجهّال، فكانوا إذا لقوه قالوا: السلام عليك يا واحد يا أحد يا محيى يا مميت، وصارت له دعاة يدعون أوباش الناس، ومن سخف عقله إلى اعتقاد ذلك، فمال إليه خلق [كثير «4» ] طمعا في الدنيا والتقرّب اليه. وكان اليهودىّ والنّصرانىّ إذا لقيه يقول: إلهى قد رغبت في شريعتى الأولى، فيقول الحاكم: افعل ما بدا لك، فيرتدّ عن الإسلام. وزاد هذا الأمر بالناس.

ص: 183

وقال الشيخ شمس الدين في تاريخه مرآة الزمان: «رأيت في بعض التواريخ بمصر أنّ رجلا يعرف بالدّرزىّ «1» قدم مصر، وكان من الباطنيّة القائلين بالتناسخ؛ فاجتمع بالحاكم وساعده على ادّعاء الربوبيّة وصنّف له كتابا ذكر فيه أنّ روح آدم عليه السلام انتقلت إلى علىّ بن أبى طالب، وأن روح علىّ انتقلت الى أبى الحاكم، ثمّ انتقلت إلى الحاكم. فنفق «2» على الحاكم وقرّبه وفوّض الأمور إليه، وبلغ منه أعلى المراتب، بحيث إنّ الوزراء والقوّاد والعلماء «3» كانوا يقفون على بابه ولا ينقضى لهم شغل إلّا على يده. وكان قصد الحاكم الانقياد الى الدرزى المذكور فيطيعونه.

فأظهر الدّرزىّ الكتاب الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة؛ فثار الناس عليه وقصدوا قتله، فهرب منهم؛ وأنكر الحاكم أمره خوفا من الرعيّة، وبعث إليه في السرّ مالا، وقال: اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال، فإنّ أهلها سريعو الانقياد.

فخرج الى الشام، ونزل بوادى تيم الله بن ثعلبة، غربىّ دمشق من أعمال بانياس «4» ، فقرأ الكتاب على أهله، واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال، وقرّر في نفوسهم الدّرزىّ التناسخ، وأباح لهم شرب الخمر والزناء وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه؛ وأقام عندهم يبيح [لهم «5» ] المحظورات إلى أن انتهى «6» » .

وقال الذهبىّ: «وكان يحبّ العزلة- يعنى الحاكم- ويركب على بهيمة وحده في الأسواق، ويقيم الحسبة بنفسه، وكان خبيث الاعتقاد، مضطرب العقل.

يقال: إنّه أراد أن يدّعى الإلهية وشرع في ذلك؛ فكلّمه أعيان دولته وخوّفوه،

ص: 184

بخروج الناس كلّهم عليه فانتهى. [واتّفق «1» أنّه خرج ليلة في شوّال سنة إحدى عشرة] من القصر إلى ظاهر القاهرة، فطاف ليلته كلّها، ثم أصبح فتوجّه إلى شرقىّ حلوان ومعه ركابيّان «2» ، فردّ أحدهما مع تسعة من العرب السّويديين «3» ، ثم أمر الآخر بالانصراف. فذكر أنه فارقه عند قبر الفقاعىّ «4» ، فكان آخر العهد به (يعنى الحاكم) » انتهى كلام الذهبىّ.

ونذكر أمر موته بأطول من هذا من طرق عديدة.

قال ابن الصابئ وغيره: «إنّ الحاكم لمّا بدت عنه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه. وكان له أخت يقال لها ستّ الملك، من أعقل النساء وأحزمهنّ، فكانت تنهاه وتقول: يا أخى، احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك.

فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهدّدها بالقتل. وبعث إليها يقول: رفع إلىّ أصحاب الأخبار أنّك تدخلين الرجال إليك وتمكّنينهم من نفسك، وعمل «5» على إنفاذ القوابل لاستبرائها، فعلمت أنّها هالكة معه. وكان بمصر سيف الدولة بن دوّاس «6» من شيوخ كتامة، وكان شديد الحذر من الحاكم، وممتنعا من دخول قصره ولقائه إلّا في المواكب على ظهر فرسه، واستدعاه الحاكم مرّة إلى قصره فامتنع.

ص: 185

فلمّا كان يوم الموكب عاتبه الحاكم على تأخّره، فقال له سيف الدولة المذكور: قد خدمت أباك ولى عليكم حقوق كثيرة يجب لمثلها المراعاة، وقد قام في نفسى أنّك قاتلى، فأنا مجتهد في دفعك بغاية جهدى، وليس لك حاجة إلى حضورى في قصرك، فإن كان باطن رأيك في مثل ظاهره فدعنى على حالى، فإنّه لا ضرر عليك في تأخّرى عن حضور قصرك. وإن كنت تريد بى سوءا فلأن تقتلنى في دارى بين أهلى وولدى يكفّنوننى ويتولّوننى أحبّ إلىّ من أن تقتلنى في قصرك وتطرحنى تأكل الكلاب لحمى؛ فضحك الحاكم وأمسك عنه. وراسلت ستّ الملك أخت الحاكم ابن دوّاس هذا مع بعض خدمها وخوّاصها، وهى تقول له: لى إليك أمر لا بدّ لى فيه من الاجتماع بك؛ فإمّا تنكّرت وجئتنى ليلا، أو فعلت أنا ذلك. فقال: أنا عبدك والأمر لك. فتوجّهت إليه ليلا في داره متنكرة؛ ولم تصحب معها أحدا.

فلمّا دخلت عليه قام وقبّل الأرض بين يديها دفعات ووقف في الخدمة، فأمرته بالجلوس، وأخلى المكان. فقالت: يا سيف الدولة. قد جئت في أمر أحرس به نفسى ونفسك والمسلمين، ولك فيه الحظّ الأوفر، وأريد مساعدتك فيه؛ فقال:

أنا عبدك. فاستحلفته واستوثقت منه، وقالت له: أنت تعلم ما يقصده أخى فيك، وأنّه متى تمكّن منك لم يبق عليك، وكذا أنا، ونحن على خطر عظيم. وقد انضاف [إلى «1» ] ذلك [تظاهره «2» ] بادّعائه الإلهية وهتكه ناموس الشريعة وناموس آبائه؛ وقد زاد جنونه. وأنا خائفة أن يثور المسلمون عليه فيقتلوه ويقتلونا معه، وتنقضى هذه الدولة أقبح انقضاء. فقال سيف الدولة: صدقت يا مولاتنا، فما الرأى؟

قالت: قتله ونستريح منه، فإذا تمّ لنا ذلك أقمنا ولده موضعه وبذلنا الأموال؛ وكنت أنت صاحب جيشه ومدبّره، وشيخ الدولة والقائم بأمره؛ وأنا امرأة من

ص: 186

وراء حجاب، وليس غرضى إلّا السلامة منه، وأنى أعيش بينكم آمنة من الفضيحة.

ثم أقطعته إقطاعات كثيرة، ووعدته بالأموال والخلع والمراكب [السنية «1» ] . فقال لها عند ذلك: مرى بأمرك؛ قالت: أريد عبدين من عبيدك تثق بهما في سرّك، وتعتمد عليهما في مهمّاتك. فأحضر عبدين ووصفهما بالشهامة؛ فاستحلفتهما ووهبتهما ألف دينار، ووقّعت لهما بثياب وإقطاعات وخيل وغير ذلك، وقالت لهما: أريد منكما أن تصعدا غدا إلى الجبل، فإنّها نوبة الحاكم في الركوب، وهو ينفرد ولا يبقى معه غير القرافىّ الرّكابىّ، وربّما ردّه، ويدخل الشّعب وينفرد بنفسه؛ فاخرجا عليه فاقتلاه واقتلا القرافىّ والصبىّ إن كانا معه؛ وأعطتهما سكّينين من عمل المغاربة تسمى [الواحدة «2» منهما:] " يافورت" ولهما رأس كرأس المبضع الذي يفصد به الحجّام، ورجعت إلى القصر وقد أحكمت الأمر وأتقنته. وكان الحاكم [ينظر «3» فى النجوم فنظر مولده وكان] قد حكم عليه بالقطع في هذا الوقت، فإن تجاوزه عاش نيّفا وثمانين سنة. وكان الحاكم لا يترك الركوب بالليل وطوف القاهرة. فلما كان تلك الليلة قال لوالدته: علىّ في هذه الليلة وفي غد قطع عظيم، والدليل عليه علامة تظهر في السماء طلوع «4» نجم سمّاه، وكأنى بك وقد انتهكت وهلكت مع أختى، فإنّى ما أخاف عليك أضرّ منها. فتسلّمى هذا المفتاح فهو لهذه الخزانة، وفيها صناديق تشتمل على ثلثمائة ألف دينار، خذيها وحوّليها إلى قصرك تكون ذخيرة لك. فقبّلت الأرض وقالت: إذا كنت تتصور هذا فارحمنى واقض حقّى ودع ركوبك الليلة، وكان يحبّها، فقال: أفعل، ولم يزل يتشاغل حتّى مضى صدر

ص: 187

من الليل، وكان له قوم ينتظرونه كلّ ليلة على باب القصر، فإذا ركب ركبوا معه ويتبعه أبو عروس صاحب العسس. ومن رسمه أن يطوف كلّ ليلة حول القصر في ألف رجل بالطبول الخفاف والبوقات البحرية. فإذا خرج الحاكم من باب القاهرة قال له: ارجع وأغلق الأبواب؛ فلا يفتحها حتّى يعود. وضجر الحاكم من تأخّره عن الركوب في تلك الليلة، ونازعته نفسه إليه؛ فسألته أمّه وقالت: نم ساعة، فنام ثمّ انتبه وقد بقى من الليل ثلثه، وهو ينفخ ويقول:

إن لم أركب الليلة وأتفرّج وإلّا خرجت روحى. ثمّ قام فركب حماره، وأخته تراعى ما يكون من أمره، وكان قصرها مقابل قصره، فإذا ركب علمت. ولمّا ركب سار في درب يقال له درب السباع «1» ، وردّ صاحب العسس ونسيما الخادم صاحب السّتر والسيف، وخرج إلى القرافة ومعه القرافىّ الرّكابىّ والصبىّ. فحكى أبو عروس صاحب العسس أنه لما صعد الجبل وقف على تلّ كبير ونظر إلى النجوم وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! وضرب بيد على يد، وقال: ظهرت يا مشئوم «2» ! ثمّ سار في الجبل، فعارضه عشرة فوارس من بنى قرّة، وقالوا: قد طال مقامنا على الباب، وبنا من الفاقة والحاجة ما نسأل معه حسن النظر والإحسان؛ فأمر الحاكم القرافىّ أن يحملهم إلى صاحب بيت المال ويأمره أن يعطيهم عشرة آلاف درهم؛ فقالوا له: لعلّ مولانا ينكر تعرّضنا له في هذا المكان فيأمر بنا بمكروه، ونحن نريد الأمان قبل الإحسان، فما وقفنا إلّا من الحاجة؛ فأعطاهم الأمان وردّ القرافىّ معهم؛ وبقى هو والصبىّ، فسار إلى الشّعب الذي جرت عادته بدخوله،

ص: 188

وقد كمن العبدان الأسودان له، وقد قرب الصّباح، فوثبا عليه وطرحاه إلى الأرض، فصاح: ويلكما! ما تريدان؟ فقطعا يديه من رأس كتفيه، وشقّا جوفه وأخرجا ما فيه، ولفاه في كساء، وقتلا الصبىّ، وحملا الحاكم إلى ابن دوّاس بعد أن عرقبا الحمار؛ فحمله ابن دوّاس مع العبدين إلى أخته ستّ الملك، فدفنته في مجلسها وكتمت أمره، وأطلقت لابن دوّاس والعبدين مالا كثيرا وثيابا. وأحضرت خطير «1» الملك الوزير وعرّفته الحال، واستكتمته واستحلفته على الطاعة والوفاء، ورسمت له بمكاتبة ولىّ العهد، وكان مقيما بدمشق نيابة عن الحاكم، بأن يحضر إلى الباب، فكتب إليه بذلك. وأنفذت علىّ بن داود أحد القوّاد إلى الفرما (وهى مدينة على ساحل البحر) فقالت له: إذا دخل ولىّ العهد فاقبض عليه، واحمله إلى تنيس، وقيل غير ذلك، كما سيأتى ذكره. ثمّ كتبت إلى عامل تنيّس عن الحاكم بإنفاذ ما عنده من المال، فأنفذه وهو ألف ألف دينار وألف ألف درهم، خراج ثلاث سنين.

وجاء ولىّ العهد إلى الفرما، فقبض عليه وحمل إلى تنّيس. وفقد الناس الحاكم فى اليوم الثانى، ومنع أبو عروس من فتح أبواب القاهرة انتظارا للحاكم، على حسب ما أمره به. ثمّ خرج الناس في اليوم الثالث إلى الصحراء وقصدوا الجبل فلم يقفوا له على أثر. وأرسل القوّاد إلى أخته وسألوها عنه؛ فقالت: ذكر لى أنّه يغيب سبعة أيام، وما هنا إلّا الخير، فأنصرفوا على سكون وطمانينة. ولم تزل أخته في هذه الأيّام ترتّب الأمور وتفرّق الأموال وتستحلف الجند؛ ثمّ بعثت إلى ابن دوّاس المذكور وأمرته أن يستحلف الناس لابن الحاكم كتامة وغيرها، ففعل ذلك. فلمّا كان

ص: 189

فى اليوم السابع ألبست أبا الحسن علىّ بن الحاكم أفخر الملابس واستدعت ابن دوّاس وقالت له: المعوّل في قيام هذه الدولة عليك، وتدبيرها موكل إليك، وهذا الصبىّ ولدك، فابذل في خدمته وسعك؛ فقبّل الأرض ووعدها بالطاعة. ووضعت التاج على رأس الصبىّ، وهو تاج عظيم فيه من الجواهر مالا يوجد في خزانة خليفة، وهو تاج المعزّ جدّ أبيه، وأركبته مركبا من مراكب الخليفة، وخرج بين يديه الوزير وأرباب الدولة. فلمّا صار إلى باب القصر صاح خطير الملك الوزير: يا عبيد الدولة، مولاتنا السيدة تقول لكم هذا مولاكم فسلّموا عليه؛ فقبّلوا الأرض بأجمعهم، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، ولقّبوه الظاهر لإعزاز دين الله، وأقبل الناس أفواجا فبايعوه، وأطلق المال وفرح الناس وأقيم العزاء على الحاكم ثلاثة أيّام.

وقال القضاعىّ في قتله وجها آخر، قال:«خرج الحاكم إلى الجبل المعروف بالمقطم ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوّال هذه السنة (يعنى سنة إحدى عشرة وأربعمائة) فطاف ليلته كلّها، وأصبح عند قبر الفقّاعىّ، ثمّ توجه شرقىّ حلوان: موضع بالمقطم، ومعه ركابيّان؛ فردّ أحدهما مع تسعة نفر من العرب، كانت لهم رسوم، ويقال لهم السّويديّون، إلى بيت المال وأمر لهم بجائزة، ثمّ عاد الرّكابىّ الآخر؛ وذكر أنّه فارقه عند قبر الفقّاعىّ والقصبة «1» ، وأصبح الناس على وسمهم؛ فخرجوا ومعهم الموكب «2» والقضاة والأشراف والقوّاد فأقاموا عند الجبل إلى آخر النهار، ثمّ رجعوا إلى القاهرة ثمّ عادوا؛ ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلمّا كان يوم الخميس سلخ شوّال خرج مظفّر صاحب المظلّة ونسيم صاحب السّتر و [ابن «3» ]

ص: 190

مسكين صاحب الرّمح وجماعة من الأولياء الكتاميّين والأتراك والقضاة والعدول وأرباب الدولة، فبلغوا دير القصير «1» (المكان المعروف بحلوان) ، وأمعنوا في الجبل؛ فبينما هم كذلك بصروا بالحمار الذي كان راكبه على قرن الجبل قد ضربت يداه بسيف فقطعتا، وعليه سرجه ولجامه، فتتّبعوا الأثر فإذا أثر راجل خلف أثر الحمار، وأثر راجل قدّامه فقصّوا [الأثر «2» ] حتّى أتوا إلى البركة التى شرقىّ حلوان؛ فنزلها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه، وهى سبع جباب مزرّرة لم تحلّ أزرارها، وفيها أثر السكاكين فتيقّنوا قتله. وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وولايته على مصر خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا.

قال ابن خلكان بعد ما ذكر قتلته بنحو ما ذكرناه هنا: «مع أنّ جماعة من الغالين في حبّهم السّخيفى العقول يظنّون حياته، وأنه لا بدّ أن يظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم، وتلك خيالات هذيانية» . انتهى.

قال القضاعىّ بعد ما ساق سبب قتله بنحو ما ذكرناه إلى أن قال: «ثمّ أمرت ستّ الملك بخلع عظيمة ومال كثير ومراكب ذهب وفضة للأعيان، وأمرت ابن دوّاس أن يشاهدها في الخزانة، وقالت له: غدا نخلع عليك، فقبّل ابن دوّاس الأرض وفرح وأصبح من الغد، فجلس عند الستر ينتظر الإذن حتّى يأمر وينهى؛ وكان للحاكم مائة عبد يختصّون بركابه، ويحملون السيوف بين يديه، ويقتلون من

ص: 191

يأمرهم بقتله، فبعثت بهم ستّ الملك إلى ابن دوّاس ليكونوا في خدمته، فجاءوا فى هذا اليوم ووقفوا بين يديه، فقالت ستّ الملك لنسيم صاحب السّتر: اخرج قف بين يدى ابن دوّاس، وقل للعبيد: يا عبيد، مولاتنا تقول لكم هذا قاتل مولانا الحاكم فاقتلوه، فخرج نسيم فقال لهم ذلك فمالوا على ابن دوّاس بالسيوف فقطّعوه، وقتلوا العبدين اللذين قتلا الحاكم؛ وكلّ من اطلع على سرّها قتلته، فقامت لها الهيبة فى قلوب الناس» . انتهى كلام القضاعى.

وقال ابن الصابئ: لما قتلت ستّ الملك ابن دوّاس قتلت الوزير الخطير ومن كانت تخاف منه ممّن عرف بأمرها.

وأمّا ما خلّفه الحاكم من المال فشىء كثير. قيل: إنّه ورد عليه أيّام خلافته رسول ملك الرّوم، فأمر الحاكم بزينة القصر. قالت السّيدة رشيدة عمّة الحاكم:

فأخرج أعدالا مكتوبا على بعضها: الحادى والثلاثون والثلاثمائة، وكان في الأعدال الديباج المغرّز بالذهب، فأخرج ذلك وفرش الإيوان وعلّق في حيطانه حتّى صار الإيوان يتلألأ بالذّهب، وعلّق في صدره العسجدة، وهى درقة من ذهب مكلّلة بفاخر الجوهر يضيء لها ما حولها، إذا وقعت عليها الشمس لا تطبق العيون النظر إليها. وأيضا ممّا يدلّ على كثرة ماله ما خلّفته ابنته ستّ مصر بعد موتها، فخلّفت شيئا كثيرا يطول الشرح في ذكره، من ذلك ثمانية آلاف جارية- قاله المقريزى وغيره- ونيّف وثمانون زيرا صينيّا مملوءة «1» جميعا مسكا؛ ووجد لها جوهر نفيس، من جملته قطعة ياقوت زنتها عشرة مثاقيل. وكان إقطاعها في السنة خمسين ألف دينار، وكانت مع ذلك كريمة سمحة، والشيء بالشيء يذكر.

ص: 192

وماتت في أيّام الحاكم عمّته السيدة رشيدة بنت المعزّ؛ فخلّفت ما قيمته ألف ألف وسبعمائة ألف دينار؛ ومن جملة ما وجد لها في خزائن كسوتها ثلاثون ألف ثوب خزّ، واثنا عشر ألفا من للثياب المصمتة ألوانا «1» ، ومائة قطرميز «2» مملوءة كافورا، وكانت مع ذلك ديّنة تأكل من غزلها لا من مال السلطان. وماتت أختها عبدة بنت المعزّ بعدها بثلاثة أيّام، وكانتا قد ولدتا برقّادة من عمل القيروان.

وتركت أيضا عبدة المذكورة مالا يحصى، من ذلك: أنّه ختم على موجودها بأربعين رطل شمع مصريّة «3» ؛ ومن جملة «4» ما وجد لها ألف وثلثمائة [قطعة «5» ] مينا فضة، زنة كلّ مينا عشرة آلاف درهم، وأربعمائة سيف محلّى بذهب، وثلاثون ألف شقّة صقليّة، ومن الجوهر «6» اردبّ زمرّد؛ وكانت لا تأكل عمرها إلّا الثريد. وقد خرجنا عن المقصود ونعود إلى ما يتعلق بالحاكم وأسبابه.

وأمّا ولىّ العهد الذي كان بدمشق وكتبت بحضوره فاسمه الياس، وقيل:

عبد الرّحيم، وقيل: عبد الرّحمن بن أحمد؛ وكنيته أبو القاسم ويلقّب بالمهدىّ، ولّاه الحاكم العهد سنة أربع وأربعمائة. وقد قدّمنا من ذكره أنه كان وصل إلى تنّيس، وقبض عليه صاحب تنّيس، وبعث به إلى ستّ الملك، فحبسته في دار وأقامت له الإقامات، ووكلت بخدمته خواصّ خدمها، وواصلته بالملاطفات والافتقادات فلمّا مرضت ويئست من نفسها أحضرت الظاهر لإعزاز دين الله (أعنى ابن

ص: 193

أخيها الحاكم) وقالت له: قد علمت ما عاملتك به، وأقلّه حراسة نفسك من أبيك، فإنّه لو تمكّن منك لقتلك، وما تركت لك أحدا تخافه إلّا ولىّ العهد؛ فبكى بين يديها هو ووالدته؛ وسلّمت إليهما مفاتيح الخزائن، وأوصتهما بما أرادت.

وقالت لمعضاد الخادم: امض إلى ولىّ العهد وتفقّد خدمته، فإذا دخلت عليه فانكبّ كأنّك تسائله بعد أن توافق الخدم على ضربه بالسكاكين؛ فمضى إليه معضاد فقتله ودفنه وعاد فأخبرها، فأقامت بعد ذلك ثلاثة أيام وماتت. وتولّى أمر الدولة معضاد الخادم المذكور ورجل آخر علوىّ من أهل قزوين وآخرون.

وذكر القضاعىّ في قصّة ولىّ العهد شيئا غير ذلك، قال: إن ستّ الملك لمّا كتبت إلى دمشق بحمل ولىّ العهد إلى مصر لم يلتفت إلى ذلك؛ واستولى على دمشق، ورخّص للناس ما كان الحاكم حظره عليهم من شرب الخمر، وسماع الملاهى، فأحبّه أهل دمشق. وكان بخيلا ظالما، فشرع في جمع المال ومصادرة الناس، فأبغضه الجند وأهل البلد. فكتبت أخت الحاكم إلى الجند فتتبّعوه حتّى مسكوه وبعثوا به مقيّدا إلى مصر، فحبس في القصر مكرما، فأقام مدّة. وحمل إليه يوما بطّيخ ومعه سكّين فأدخلها «1» فى سرّته حتى غابت. وبلغ ابن عمّه الظاهر بن الحاكم فبعث إليه القضاة والشهود؛ فلمّا دخلوا عليه اعترف أنّه الذي فعل ذلك بنفسه. وحضر الطبيب فوجد طرف السكين ظاهرا، فقال لهم: لم تصادف مقتلا. فلمّا سمع ولىّ العهد ذلك وضع يده عليها، فغيّبها في جوفه فمات.

وقال ابن الصابئ: «وكان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدىّ، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدّث نفسه بالعصيان؛ فلاطفته

ص: 194

ستّ الملك وراسلته وآنسته، وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها، ولم تزل تعمل عليه [الحيل «1» ] حتّى أفسدت غلاما له يقال له بدر، وكان مالك أمره، وغلمانه تحت يده، وبذلت له العطاء الجزيل، [على الفتك به، ووعدته أن تولّيه مكانه «2» ] . وكان لفاتك غلام هندىّ يهواه، فاستغواه بدر المذكور وقال:

قد عرفت من مولاك ملالك، وتغيّر نيّته فيك، وعزم على قتلك، ودافعته عنك دفعات، وأنا أخاف عليك. ثم تركه بدر أياما، ووهب له دنانير وثيابا؛ ثم أظهر له المحبّة وقال: إن علم بنا الأمير قتلنا؛ فقال الهندىّ: فما أفعل؟ فاستحلفه بدر واستوثق منه، وقال: إن قبلت ما أقول أعطيتك مالا وأغنيتك وعشنا جميعا فى أطيب عيش. قال: فما تريد؟ قال: تقتله ونستريح منه؛ فأجابه وقال: الليلة يشرب وأنا أسقيه وأميل عليه، فإذا سكر فأقتله. وجلس فاتك المذكور على الشّرب، فلمّا قام إلى مرقده حمل الهندىّ سيفه، وكان ماضيا، ثمّ دخل في اللّحاف وبدر على باب المجلس واقف. فلمّا ثقل فاتك في نومه غمز بدر الهندىّ فضربه بالسيف فقطع رأسه؛ فصاح بدر واستدعى الغلمان وأمرهم بقتل الهندىّ فقتلوه. واستولى بدر على القلعة وما فيها؛ وكتب إلى أخت الحاكم بما جرى؛ فأظهرت الوجد على فاتك فى الظاهر، وشكرت بدرا في الباطن على ما كان منه من حفظ الخزائن، وبعثت إليه بالخلع، ووهبت له جميع ما خلّفه مولاه، وقلّدته موضعه. ونظرت ستّ الملك في أمور الدولة بعد قتل الحاكم أربع سنين، أعادت الملك فيها الى غضارته، وعمّرت الخزائن بالأموال، واصطنعت الرجال. ثم اعتلّت علّة لحقها فيها ذرب فماتت منه.

وكانت عارفة مدبّرة غزيرة العقل» . وقد خرجنا عن المقصود على سبيل الاستطراد.

ص: 195