الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة 140: التحذير والإغراء
أ- التحذير: "تنبيه المخاطب على أمر مكروه؛ ليجتنبه"1. والأصل في أسلوب التحذير أن يشتمل على ثلاثة أمور مجتمعة:
أولها: "المحذر"، وهو المتكلم الذي يوجه التنبيه لغيره.
ثانيها: "المحذر"، وهو الذي يتجه إليه التنبيه.
ثالثها: "المحذور"، أو "المحذر منه"، وهو: الأمر المكروه الذي يصدر بسببه التنبيه.
ولكن هذا الأصل قد يعدل عنه أحيانا كثيرة، فيقتصر الأسلوب على بعض تلك الأمور الثلاثة -كما سنعرف.
ولأسلوب التحذير -بمعناه اللغوي العام-2 صور مختلفة؛ منها: صورة الأمر؛ كالذي في قول الشاعر:
احذر مصاحبة اللئيم، فإنها
…
تعدي كما يعدي السليم الأجرب
ومنها: صورة النهي؛ كقول الأعرابي في لغته، وقد فتنته:
لا تلمني في هواها
…
ليس يرضيني سواها
…
ومنها: الصورة المبدوءة بالضمير "إياك"3 وفروعه الخاصة بالخطاب4
1 هذا تعريف لغوي يردده -بنصه- كثير من النحاة. ولكن يفضل بعضهم أن يقال: "إنه اسم منصوب، معمول للفعل: "أُحذر" المحذوف، ونحوه". لأن هذا يناسب مهمة النحو التي هي البحث في أحوال الكلم إعرابا وبناء. وأيضا ليدخل في التعريف نحو قول الشاعر:
بيني وبينك حرمة
…
الله في تضييعها
بنصب كلمة: "الله" بعامل محذوف تقديره: احذر، أو: اخش، أو: اتق، أو نحو ذلك
…
فبناء على التعريف اللغوي يكون: "الله" هو الأمر المكروه؛ وهذا لا يليق.
2 الذي يشمل "الاصطلاحي" الآتي، وغير الاصطلاحي.
3 بكسر الهمزة، مجاراة لأفصح اللغات، وأشهرها، ويجوز فتحها في لغة، كما يجر قلبها "هاء مكسورة" في لغة أخرى
…
4 هي: إياك، وإياكما، وإياكم، وإياكن.
كالذي في قول أعرابية لابنها: "إياك والنميمة1. فإنها تزرع الضغينة2، وتفرق بين المحبين. وإياك والتعرض للعيوب؛ فتتخذ غرضا3؛ وخليق4 ألا يثبت الغرض على كثرة السهام
…
" وقولهم: "إياكم وثورة الغضب فإنها تجلب المرض وسوء العاقبة". إلى غير هذا من العبارات والصور المتعددة التي تحقق "التحذير" بمعناه اللغوي العام.
غير أن الكثير من الصور السالفة لا يخضع لأحكام هذا الباب. ولا تنطبق عليه ضوابطه النحوية وقواعده؛ لأن هذه الضوابط والقواعد والأحكام، لا تنطبق إلا على خمسة أنواع "اصطلاحية"؛ يسمونها:"صور التحذير الاصطلاحي"، هي -وحدها- المقصودة من هذا الباب بكل ما يحويه. ولا سيما اشتمال كل منها على اسم منصوب يعرب مفعولا به لفعل محذوف مع مرفوعه، وفيما يلي بيان هذه الأنواع الخمسة الاصطلاحية:
النوع الأول: صورة تقتصر على ذكر "المحذر منه""وهو: الأمر المكروه" اسما ظاهرا5، دون تكرار، ولا عطف مثيل له عليه -والمراد بالمثيل هنا؛ محذر منه. آخر؛ كتحذير الطفل من النار؛ بأن يقال له: النار، وكتحذيره من سيارة؛ بأن يقال له: السيارة.
وحكم هذا النوع: جواز نصبه بفعل محذوف جوازا هو ومرفوعه. فكلمة: "النار" أو "السيارة" يجوز نصبها على اعتبارها مفعولا به لفعل لمحذوف جوازا تقديره مثلا: احذر النار - احذر السيارة. والفاعل ضمير محذوف معه أيضا؛ تقديره: أنت. ويجوز تقدير فعل آخر يناسب المعنى والسياق من غير تقيد بشيء في اختياره إلا موافقة المعنى. وصحة التركيب، مثل: اجتنب النار - اجتنب السيارة
…
أو: حاذر، أو: جانب
…
وفي كل هذه الأمثلة يصح حذف الفعل وفاعله معا. أو ذكرهما معا6،
1 السعي بين الناس بالإفساد.
2 الحقد والعداوة.
3 هدفًا تصوب إليه السهام.
4 جدير، أمر محقق
…
5 أي: ليس ضميرا.
6 مع ملاحظة أن الضمير المستتر نوع من الضمير المذكور -لا من المحذوف- طبقات لما سبق إيضاحه في باب الضمير ج1.
فيقال: النار، أو اجتنب النار.. كما يصح ضبط "المحذر منه" ضبط آخر غير النصب، كالرفع؛ فيقال: النار، على اعتباره -مثلا- مبتدأ خبره محذوف. لكنه في حالة التصريح بفعله لا يدخل في عداد الأساليب الاصطلاحية الخمسة، وكذلك في حالة ضبطه بغير النصب، إذ الشرط الأساسي في التحذير الاصطلاحي. أن يكون الاسم منصوبا على أنه:"مفعول به"، وناصبه عامل محذوف هو مرفوعه1. معا.
النوع الثاني: صورة تشتمل على ذكر "المحذر منه" اسما ظاهرا2؛ إما مكررا، وإما معطوفا عليه مثله مثله بالواو -دون غيرها؛ نحو: البرد البرد - البرد والمطر.
وحكم هذا النوع: وجوب نصب الاسم في الصورتين بعامل محذوف مع مرفوعه وجوبا2. ويراعى في تقديره موافقته للمعنى وصحة التركيب؛ نحو: "احذر البرد البرد - احذر البرد والمطر". أو: تجنب
…
أو اتق
…
فحكم هذا النوع: وجوب النصب، ووجوب حذف العامل ومرفوعه معا. ويتعين في صورة "التكرار" أن يكون الاسم الثاني توكيدا لفظيا، وفي حالة "العطف" أن يكون حرف العطف هو:"الواو" -دون غيرها- وما بعدها معطوف على الاسم قبلها عطف مفردات، لا عطف جمل.
النوع الثالث: صورة تشتمل على ذكر اسم ظاهر3 مختوم بكاف خطاب للمحذر؛ بحيث يكون هذا الاسم هو الموضع أو الشيء الذي يخاف عليه، سواء أكان مكررا أم غير مكرر، معطوفا عليه بالواو مثيل له -أي:"محذر آخر" أم غير معطوف. ولا بد في صورة العطف أن يكون المعطوف "محذرا" أيضا "المعطوف عليه"؛ كأن يقال لمن يحاول لمس طلاء سائل: يدك -أو: يدك يدك- أو: كأن يقال لمن يحاول لمس طلاء سائل: يدك -أو: يدك يدك- أو: يدك وملابسك. والتقدير: أبعد يدك
…
- أبعد يدك وملابسك
…
، أو: صن يدك
…
، صن يدك وملابسك
…
ويصح اختيار عامل محوف آخر يناسب السياق والتركيب
…
1 والداعي البلاغي للحذف هو ضيق الوقت؛ لأن أكثر حالات التحذير تتطلب الإسراع، لينتبه المخاطب قبل فوات الفرصة، كي لا يصيبه المكروه بفواتها.
2 أي: ليس ضميرا -كما سبق.
3 لهذا إيضاح آخر، يجيء في:"د" في "د" من الزيادة والتفصيل من 134 و135.
وحكم هذا النوع: وجوب نصب الاسم السابق الذي تكرر، وكذلك المعطوف عليه. والناصب لهما عامل محذوف مع مرفوعه وجوبا1 وما بعد الواو معطوف على ما قبلها عطف مفردات، أما الذي جاء تكرار فتؤكيد لفظي.
فإن كان الاسم منفردا "أي: ليس مكررا ولا معطوفا عليه" فحكمه حكم النوع الأول الذي يجوز نصبه بعامل محذوف مع مرفوعه جوازا -لا وجوبا- فيصح إظهار عامله وحذفه، كما يصح ضبطه بغير النصب؛ فإذا ظهر عامله أو كان الضبط بغير النصب فلن يكون من أساليب "التحذير الاصطلاحي"؛ -كما أوضحنا في ذلك النوع.
النوع الرابع: صورة تشتمل على اسم ظاهر مختوم بكاف خطاب للمحذر، ويكون هذا الاسم كما في النوع السالف هو الموضع أو الشيء الذي خاف عليه، ولكن قد عطف عليه الواو -دون غيرها- "المحذر منه"؛ نحو: يدك والسكين -رأسك وحرارة الشمس- مواعيدك والخلف. فالمعطوف هنا "محذر منه"، بخلافه في النوع السالف الذي يكون فيه المعطوف "محذرا"
…
2.
وحكم هذا النوع: وجوب نصب الاسم الظاهر والمعطوف، وأن يكون عامل النصب محذوفا مع مرفوعه وجوبا3. والأيسر والأسهل اختير عاملين مناسبين4 أحدهما: للمعطوف عليه. والآخر: للمعطوف. ولا يراعى في اختيارهما إلا مناسبتهما للسياق والتركيب؛ كأن يقال: صن يدك وأبعد السكين -احفظ رأسك؛ واحذر حرارة الشمس- تذكر مواعيدك، وتجنب الخلف
…
وأمثال هذا مما هو مناسب. وعلى هذا التقدير يكون أسلوب التحذير جملتين تشتمل السابقة منهما على الموضع أو الشيء الذي يخاف عليه، ويتجه إليه التحذير،
1 لهذا الحكم إيضاح آخر يجيء في "د" و"هـ" من الزيادة والفصيل، ص134 و135.
2 الفرق بين هذا النوع وسابقه. أن هذا النوع لا بد فيه من معطوف يكون محذرا منه. أما السابق فقد يوجد معطوف أو لا يوجد، وإن وجد وجب أن يكون اسما ظاهرا موضوعا للخوف عليه، وليس محذرا منه.
3 لهذا الحكم إيضاح يجيء في: "د" و"هـ" من الزيادة ص134 و135.
4 وقد يمكن اختيار عامل واحد يستقيم معه المعنى، ويساير الضوابط العامة. وفي هذه الحالة يكون العطف عطف مفردات.
وتشتمل المتأخرة على "محذر منه" وبين الجملتين واو العطف؛ تعطف الجملة الثانية على الأولى؛ فيكون العطف عطف جمل، لا مفردات1
…
النوع الخامس: صورة تشتمل على ذكر المحذر ضميرا منصوبا للمخاطب، هو:"إياك"2 وفروعه. وبعده "المحذر منه"، اسما مسبوقا بالواو -دون غيرها- أو غير مسبوق بها، أو مجرورا بالحرف:"من". فلا بد في هذا النوع من ذكر "المحذر" ضميرا معينا، ثم "المحذر منه". فمثال المسبوق بالواو قول الأعرابية لابنها: "إياك والجود بدينك، والبخل بمالك
…
". وقولهم: إياكم والدين؛ فإنه هم بالليل، ومذلة بالنهار. ومثال غير المسبوق بها قولهم: "إياكم تحكيم الأهواء السيئة؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم. ومن أمات هواه أحيا كرامته". وقول الشاعر:
إياك إياك المراء3؛ فإنه
…
إلى الشر دعاء، وللشر جالب
ومثال المجرور بمن قولهم: "إياك من مؤاخاة الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك". وقولهم: "إياك من عزة الغضب الطائش؛ فإنها تفضي إلى ذلة الاعتذار المهين".
وحكم هذا النوع: وجوب ذكر المحذر منه بد الضمير "إياك" وفروعه، ووجوب نصب هذا الضمير4؛ باعتباره مفعولا به لفعل واجب المحذف مع مرفوعه، وتقديره:"أحذر"، والأصل:"أحذرك". ثم أريد تقدير: "الكاف" لداع بلاغي؛ هو: "إفادة الحصر"؛ فمنع من تقديمها أنها ضمير متصل لا يستقل بنفسه، ولا يوجد إلا في ختام كلمة أخرى. فلم يكن بد -عند إرادة تقديمه- من الاستغناء عنه، والإتيان بضمير آخر منصوب، له معناه، ويمتاز بأنه يستقل
1 هناك تقديرات وإعرابات أخرى لا تسلم من تعقيد أو صعوبة. ولا حاجة لنا بها بعد أن تلاقت الآراء المختلفة عند وجوب نصب المتعاطفين، ووجوب حذف عامل النصب مع مرفوعه. أما الخلاف العنيف في غير هاتين الناحيتين فيريحنا منه الالتجاء إلى الطريقة التي تخيرناها.
2 الأحسن اعتبار "إيا" ومعها علامة الخطاب التي بعدها، هما الضمير المنصوب، ولا داعي لاعتبار الضمير هو:"إيا"، واعتبار ما بعده حرف خطاب.
"وقد سبق إيضاح هذا وتفصيل الكلام عليه في موضعه من باب: "والضمير" ج1 ص163 م19".
3 الطعن في كلام غيرك بقصد تكذيبه، وتحقيره.
4 للحكم إيضاح يجيء في "د وهـ" من الزيادة والتفصيل ص134 و135.
بنفسه، وهو الضمير:"إياك" فصار الكلام: "إياك أحذر" ثم حذف الفعل والفاعل معا؛ مجاراة للمأثور من الكلام الفصيح الذي يطرد فيه هذا الحذف الواجب.
أما الاسم الظاهر المذكور بعد "إياك" وفروعها فإن سبقته واو العطف وجب نصبه بفعل محذوف مع مرفوعه وجوبا. والأحسن الأيسر -اختيار فعل خاص به يناسبه ويساير المقام، ويكون غير الفعل الناصب للضمير "إياك" فيجتمع في الأسلوب فعلان محذوفان مع مرفوعيهما. ففي المثالين السابقين1:"إياك والنمية"، "إياك والتعرض للعيوب
…
" يكون التقدير؛ إياك أحذر، وأبغض النميمة، إياك أحذر، وأقبح التعرض للعيوب. بمعنى: أحذرك وأبغض
…
وأقبح
…
ويصح أن يكون التقدير: إياك احفظ2، واحذر النميمة، إياك احفظ2، واترك التعرض للعيوب
…
وهكذا من غير تقيد بشيء إلا نصب الاسم بعد الواو، واختيار فعل -أي فعل- يناسب المقام، ويساير الأسلوب الصحيح. وعلى هذا تكون الواو حرف عطف، والجملة بعدها معطوفة على الجملة التي قبلها، وبالرغم من حذف الفعل ومرفوعه في كل جملة؛ يراعى المحذوف هنا في العطف كأنه مذكور؛ ففي الأسلوب جملتان، الثانية منهما معطوفة بالواو على الأولى.
فإن لم تكن الواو مذكورة فالأسهل إعراب المنصوب بعدها مفعولا به للفعل: "أحذر" المحذوف؛ لأنه قد ينصب مفعولين بنفسه مباشرة. فأول المفعولين هو: "إياك" وفروعه، وثاني المفعولين هو الاسم الظاهر الواقع بعد الضمير "إياك"، وفروعه، أما إذا قلنا: "إياك من النميمة
…
". "إياك من التعرض للعيوب
…
". فإن الجار مع مجروره متعلقان بالفعل المحذوف وجوبا؛ وهو: "أحذر"؛ المحذوف؛ لأنه قد ينصب مفعولين بنفسه مباشرة. فأول المفعولين هو: "إياك وفروعه، وثاني المفعولين هو الاسم الظاهر الواقع بعد الضمير "إياك"، وفروعه، أما إذا قلنا: "إياك من النميمة
…
". "إياك من التعرض للعيوب
…
". فإن الجار مع مجروره متعلقان بالفعل المحذوف وجوبا. وهو: "أحذر"؛ لأنه قد يتعدى -أيضا-
1 في ص127.
2 و2 والأصل: احفظ نفسك واحذر النميمة، أو: باعد نفسك
…
و
…
حذف الفعل وفاعله فصار الكلام: نفسك واحذر النميمة، ثم حذف المضاف "نفس" وأقيم لمضاف إليه "وهو: الكاف" مقامه، فصار منصوبا مثله؛ وأتينا بدله بضمير منفصل؛ هو: "إياك"، للسبب الذي بيناه في الصفحة السالفة. ونعود فنكرر هنا ما رددناه -وما سيجيء "في" "ا" - ص133؛ وهو: أن تقدير الفعل المحذوف في جميع مسائل هذا الباب وغيره متروك للمتكلم يختاره بغير قيد، إلا قيد المناسبة للسياق، ومسايرته للتركيب الصحيح. ومن المسايرة للتركيب الصحيح ألا تعطف الجملة الثانية على الأول إذا كانت إحداهما خبرا والأخرى إنشاء، طبقا للرأي الأقوى.
لمفعولين؛ ينصب أحدهما بنفسه مباشرة، ويتعدى للآخر بحرف الجر:"من".
وفي جميع الصور السالفة يجوز تكرار الضمير "إياك" وعدم تكراره؛ فلا يتغير شيء من الأحكام المتقدمة. وعند التكرار يعرب "إياك" الثاني توكيدا لفظيا للأول.
ولا يصح أن يكون الضمير "إيا" المحذر مختوما بغير علامة الخطاب1 فلا يقال: إياي ومعاونة الظالم، ولا إياه ومعاونة الظالم؛ لأن المتكلم لا يحذر نفسه، ولا يحذر الغائب. وقد وردت أمثلة نادرة من هذا النوع الممنوع، لا يصح القياس عليها.
لكن يصح أن يكون "المحذر منه" ضميرا غائبا معطوفا على "المحذر"؛ نحو: لا تصاحب الأحمق، وإياك وإياه. فالضمير "إياه" في حكم كلمة "النميمة" في مثال: "إياك والنميمة
…
" ومن هذا قول الشاعر القديم:
فلا تصحب أخا الجهل
…
وإياك وإياه
وعلى هذا لا يكون التحذير بضميري الغائب والمتكلم شاذا إلا إذا كان محذرا لا محذرا منه2
…
يمكن تلخيص الأحكام السابقة كلها فيما يأتي:
1-
إن كان أسلوب التحذير مصدرا بالضمير "إياك وفروعه -وجب في كل الأحوال نصب هذا الضمير بعامل محذوف مع مرفوعه وجوبا. سواء في هذا أن يكون الضمير مكررا أم غير مكرر، عطف عليه، أم لم يعطف عليه، جر بعده المحذر منه" أم نصب
…
2-
إن كان أسلوب التحذير غير مصدر بالضمير "إياك" وفروعه وجب نصب الاسم الظاهر بعامل محذوف مع مرفوعه وجوبا؛ بشرط العطف أو التكرار3. فإن لم يوجد عطف ولا تكرار جاز النصب بعامل محذوف مع مرفوعه جوازا؛ فيصح إظهارها، كما يصح ضبط الاسم بغير النصب. وفي حالة إظهارهما، أو ضبط الاسم بغير النصب -حيث لا عطف ولا تكرار فيهما- لا يتعين الأسلوب للتحذير
…
1 غيرها هو علامة التكلم، أو الغياب.
2 راجع الخضري.
3 انظر " د وهـ" -ص134 و135- في الزيادة والتفصيل التاليين، حيث ترى إيضاحا وتكميلا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ- تضمنت المراجع المطولة جدلا يصدع الرأس في تقدير عامل النصب المحذوف في التحذير -ولا سيما ناصب الضمير "إياك وفروعه"- أهو الفعل: أحذر، أم باعد، أم اجتنب، أم احذر؟
…
أينصب مباشرة أم لا ينصب إلا على تأويل آخر
…
و
…
والأمر لا يحتاج لكل هذا. وخير ما يقال في شأن المحذوف هو ما سجله بعض المحققين، ونصه1:"الحق أني قال: لا يقتصر على تقدير: "باعد"، ولا على تقدير: "احذر"
…
؛ بل الواجب تقدير ما يؤدي الغرض؛ إذ المقدر ليس أمرا متعبدا به لا يعدل عنه"1.
وهذا رأي نفيس، صادق، يجب اتخاذه دستورا عند تقدير المحذوف في التحذير، وفي الإغراء، وفي غيرهما من كل ما يحتاج إلى تقدير.
ب- يقول بعض النحاة إن الضمير: "إياك" وفروعه منصوب بفعل محذوف مع فاعله، وأن فاعله الضمير عاد فاستتر في الضمير "إياك" وصار "إياك" مغنيا عن التلفظ بالفعل المحذوف، ففي مثل قولهم: "إياك والحسد، فإنه يؤثر فيك أسوأ الأثر، ولا يؤثر في عدوك
…
" نجد في لفظ إياك ضميرين:
أحدهما: هذا البارز المنفصل المنصوب، وهو:"إياك".
والآخر: ضمير رفع، مستكن فيه، منتقل إليه من الفعل الناصب له، ويترتب على هذا أنك إذا أكدت:"إياك: توكيدا معنويا بالنفس، أو بالعين، قلت: إياك نفسك، أو إياك أنت نفسك، بفصل أو بغير فصل؛ طبقا لقواعد التوكيد المعنوي بالنفس والعين. أما إذا أكدت ضمير الرفع المستكن فيه فإنك تقول مراعاة لتلك القواعد: إياك أنت نفسك، بالفصل بالضمير المنصوب "إياك": فتقول إياك والصديق، والسفهاء. أو إياك أنت والصديق، والسفهاء؛
1 و1 راجع حاشية الصبان ج3 أول باب: "التحذير".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بفصل أو بغير فصل، ومن الأول الذي لا فصل فيه قولهم1:"إياكم والكبر، والسخف، والعظمة2، فإنها عداوة مجتلبة3 من غير إحنة"4. وتقول عند العطف على الضمير المرفوع وحده: إياك أنت والصديق، بالفصل.
وكل ما تقدم مبني على أن الضمير الفاعل ينتقل من الفعل المحذوف. ويستتر في "إياك" وإخوانه. وهو رأي لا يأخذ به فريق آخر يقرر أن الفعل وفاعله حذفا معا، ولم يرجع الفاعل المحذوف ليستكن في "إياك" وفروعه. فليس معنا إلا ضمير واحد هو الضمير المنصوب البارز "إياك وفروعه".
والأخذ بهذا الرأي أولى؛ لبعده من التكلف والعقيد؛ ولأن الفريق الأول لم يؤيد رأيه -فيما رجعت إليه- بأمثلة من الكلام الفصيح يكون لها وحدها القول الفصل.
ج- يقول الرضي: "إن "المحذر منه" المكرر يكون اسما ظاهرا؛ نحو: الأسد الأسد، وسيفك سيفك. ويكون مضمرا؛ كإياك إياك، وإياه إياه: وإياي إياي".
والأحسن العدول عن المضمر لندرة الأمثلة الواردة نه قدرة لا تبيح القياس عليه، ولا سيما ضمير غير المخاطب.
د- قد يرفع، المكرر والمعطوف في أسلوب التحذير -وفي أسلوب الإغراء، وسيأتي قريبا-5 وفي هه الحالة لا يكون الأسلوب تحذيرا اصطلاحيا. قال الفراء في قوله تعالى:{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}
…
، نصبت كلمة:"ناقة" على التحذير6. ولو رفعت على إضمار مبتدأ مثل كلمة: "هذه" لجاز. وكان التقدير: هذه ناقة الله؛
1 ما يأتي بعض وصية طويلة لعبد الحميد الكاتب ينصح فيها الكتاب "وهم: الأدباء" ويوضح آداب الكتابة بعد أن صار زعيم الكتاب في عصره، والكاتب الخاص لمروان بن محمد، آخر خلفاء الأمويين. وقد قتل عبد الحميد سنة 132 هـ وهي السنة التي قامت فيها الدولة العباسية بعد أن أبادت الدولة الأموية.
2 المراد بها: الكبر.
3 مجلوبة، يجرها صاحبها على نفسه بعمله، وليس البد منها أمرا خارجا عن اختياره.
4 الإحنة: العداوة، يريد: أن المرء يجلب لنفسه العداوة بسبب تلك الصفات. لا بسبب عداوة وإساءة سبقت إليه؛ فهو يدفع ضررها عنه.
5 في ص136.
6 ويجوز أن تكون منصوبة على الإغراء -كما سيجئ في رقم3 من هامش ص136.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأن العرب قد ترفع ما فيه معنى التحذير.
هـ- يصح في كثير من أمثلة التحذير المشتملة على الواو أن تكون هذه الواو للمعية إذا استقام المعنى عليها؛ نحو: يدك والسيف -أصابعك والحبر
…
فلا مانع هنا أن تكون الواو للمعية، والمراد: راقب يدك مع السيف -باعد أصابعك مع الحبر
…
أو نحو هذا التقدير؛ فالاعتبار الأول دائما هو للمعنى وصحة التركيب. فإن اقتضى العطف وحده، أو المعية وحدها، أو جوازها
…
، نزلنا على حكمه؛ كما سبق1.
و ألحق بالتحذير والإغراء ألفاظ سنعرضها في آخر الإغراء في: "ب" قسم الزيادة2.
ز- الأغلب في أساليب التحذير أن تكون من نوع الإنشاء الطلبي؛ تبعا لعاملها الدال على هذا النوع. فإن لم يكن دالا على الإنشاء الطلبي فهي خبرية.
1 في "أ" ص133
…
2 في ص138.
ب- الإغراء:
هو: تنبيه الخاطب على أمر محبوب ليفعله1: نحو: "العمل العمل، فإنه مفتاح الغنى، والطريق إلى المجد". فالمتكلم به، هو:"المغري" المخاطب هو: "المغرى"
…
والأمر المحبوب هو: "المغرى به". وعلى هذه الثلاثة مجتمعة يقوم أسلوب: "الإغراء".
وحكم الاسم المحبوب "وهو" المغرى به" وجوب نصبه باعتباره مفعولا به لعامل مناسب للسياق، محذوف مع مرفوعه وجوبا. بشرط أن يكون هذا الاسم مكررا -كالمثال السابق- أو: معطوفا عليه مثيله، "أي: أمر محبوب آخر" كقولهم: الفرار والهرب من اللئيم الأحمق؛ فإنه كالحية لا يكون منها غير اللدغ. أي: الزم الفرار والهرب2
…
فإن لم يكن الاسم مكررا ولا معطوفا عليه مثله جاز نصبه مفعولا به لعامل مذكور أو محذوف، وجاز أيضا أن يضبط ضبطا آخر غير النصب -كالرفع- تقول:"الاعتدال، فإنه أمان من سوء العاقبة"، أي: الزم الاعتدال، فيصح حذف العامل ويصح ذكره، ويصح الرفع فيقال:"الاعتدال"
…
على اعتباره -مثلا- مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: الاعتدال مطلوب، فإنه2
…
وفي حالة ظهور العامل. وكذا في حالة ضبط الاسم ضبطا غير النصب على المفعول به، لا يسمى الأسلوب3 إغراء اصطلاحيا4....
1 يقال في هذا التعريف إنه: لغوي، كما قيل في التحذير "في رقم 1 من هامش ص126".
2 و2 ومثل هذا يقال في ضبط كلمتي: "عمل، وكد" في الحكمة المأثورة: "عملك لا أملك، وكداك لا جدك
…
".
3 فإن لم نعتبره في حالتي التكرار والعطف مفعولا به جاز ضبطه بغير النصب، كالرفع -مثلا- على الابتداء. وقد سبقت الإشارة في د ص134 من الزيادة والتفصيل إلى أن المكرر والمعطوف، في الإغراء قد يرفع فلا يسمى إغراء اصطلاحيا. ومن أمثلة المرفوع.
إن قوما منهم: عمير، وأشبا
…
هـ عمير، ومنهم: السفاح
…
لجديرون بالوفاء إذا قا
…
ل أخو النجدة: السلاح السلاح
وأما كلمة: "ناقة" في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} فتصلح إغراء وتحذيرا كما سبق في "د" ص134.
4 فيما سبق يقول ابن مالك في باب عنوانه: "التحذير والإغراء":
والأكثر في أساليب الإغراء أنها إنشائية طلبية؛ تبعا لنوع عاملها الدال على هذا النوع. فإن لم يكن دالا على الإنشاء الطلبي فهي خبرية.
=
إياك والشر ونحوه نصب
…
محذر بما استتاره وجب
يقول: المحذر -وهو المتكلم- نصب أسلوب: "إياك والشر" ونحو هذا الأسلوب
…
نصبه بما وجب استتاره؛ "أي: بعامل محذوف وجوبا". هذا إن اشتمل الأسلوب على عاطف؛ كالمثال الذي عرضه. فإن لم يكن مشتملا على عاطف فقد قال فيه:
ودون عطف ذا لإيا انسب، وما
…
سواه ستر فعله لن يلزما
إلا مع العطف أو التكرار
…
كالضيغم الضيغم، يا ذا الساري
"الضيغم= الأسد. الساري: المسافر ليلا".
يريد: أنسب هذا الحكم لـ"إيا" أيضا عند عدم العطف عليها. بأن تقول: إياك الشر، أو: إياك من الشر. أما في جميع الحالات الأخرى -غير السالفتين. فحذف الفعل الناصب ليس واجبا إلا مع العطف أو التكرار. ثم بين بعد ذلك أن اشتمال أسلوب التحذير على محذر منه يكون هو الضمير: "إياي" المتكلم، و"إياك" للمخاطب، وفروعهما
…
أمر شاذ وللغائب أكثر شذوذا ومن قاس عليه فقد أنتبذ، أي: ابتعد عن الصواب. يقول:
وشذ إياي، وإياه أشذ
…
وعن سبيل القصد من قاس انتبذ
ثم انتقل إلى الإغراء واكتفى فيه ببيت واحد هو:
وكمحار بلا إيا: اجعلا
…
مغرى به في كل ما قد فصلا
أي: أن حكم الاسم المغرى به كحكم المحذر الذي يغير "إياك" في كل الأحكام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ- ليس من اللازم أن تكون الواو في الإغراء للعطف؛ فقد يقتضي المعنى أن تكون للمعية؛ نحو: المشي والاعتدال؛ فتقوى -الإجادة والمثابرة؛ كي تفوز بما تهوى. وقد يقتضي المعنى العطف وحده، أو يتسع للأمرين، فيراعى دائما ما يقتضيه المعنى.
ب- ألحق بالتحذير والإغراء في وجوب إضمار الناصب -لا في معناهما- بعض الأمثال المأثورة المسموعة بالنصب، وبعض العبارات الأخرى المسموعة بالنصب أيضا، والتي يسمونها:"شبه الأمثال"؛ لأنها لا تبلغ مبلغ المثل في الشهرة. وكثرة الاستعمال والتعميم، وقد تشتمل على قيد تخاطب، أو حالة معينة.
أ- فمن الأمثال:
1-
كليهما1 وتمرا -وهو مثل يقال لمن خير بين شيئين، فطلبهما معا، وطلب الزيادة عليهما. التقدير: أعطني كليهما. وزدني تمرا.
2-
الكلاب على البقر؛ مثل يضرب حين يريد المرء ترك الخير والشر يصطرعان، وأن يغنتم السلامة لنفسه. والتقدير: اترك الكلاب على البقر، يتصرف كل منهما مع الآخر كما يشاء، وانج بنفسك.
3-
أحشفا2 وسوء كيلة، يضرب لمن يجمع بين إساءتين لغيره، ويظلم الناس من ناحتين. والتقدير: أتبيع حشفا، وتزيد سوء كيلة.
ب- ومما يشبه المثل:
1-
قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي: انتهوا واصنعوا خيرا لكم.
2-
من أنت؟ عليا. التقدير: من أنت؟ تذكر عليا. يقال لمن يذكر عظيما جليل القدر بسوء.
1 وورد قليلا: كلاهما - بالألف.
2 الحشف: أردأ النمر، وسوء الكيلة -بكسر الكاف: قبح الطريقة والهيئة التي تستخدم في الكيل
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3-
كل شيء ولا هذا. والتقدير: اصنع كل شيء، ولا تصنع هذا.
4-
هذا ولا زعماتك. التقدير: أرتضي هذا، ولا أتوهم زعماتك.
5-
إن تأت فأهل الليل وأهل النهار. والتقدير: إن تأت فسوف تجد أهل الليل وأهل النهار في خدمتك بدل أهلك.
6-
مرحبا، وأهلا، وسهلا، والتقدير: وجدت مرحبا، وأتيت أهلا، ونزلت سهلا.
7-
عذيرك. أي: أظهر عذرك، أو أظهر عاذرك "عذير: بمعنى: عذر، أو عاذر".
8-
ديار الأحباب. أي: اذكر ديار الأحباب
…
وهكذا:
ويصح -كما عرفنا- تقدير أفعال مناسبة غير التي عرضناها، ويصح اعتبار الواو للمعية في بعض مما سلف. والمهم استقامة المعنى.