المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة 143: نونا التوكيد - النحو الوافي - جـ ٤

[عباس حسن]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌المسألة 127: النداء وما يتصل بأحكامه

- ‌مدخل

- ‌المسالة 129: الجمع بين حرف النداء، و"أل

- ‌المسألة 130: أحكام تابع المنادى

- ‌المسألة 131: المنادى المضاف إلى ياء المتكلم

- ‌المسألة 132: الأسماء التي لا تكون إلا منادى

- ‌المادة 133: الاستغاثة

- ‌المسألة 134: النداء المقصود به التعجب

- ‌المسألة 135: الندبة

- ‌المسألة 136: المندوب المضاف لياء المتكلم

- ‌المسألة 137: الترخيم

- ‌المسألة 138: القسم الثاني ترخيم الضرورة الشعرية

- ‌المسألة 139: الاختصاص

- ‌المسألة 140: التحذير والإغراء

- ‌المسألة 141: أسماء الأفعال

- ‌المسألة 143: نونا التوكيد

- ‌المسألة 144: إسناد المضارع والأمر إلى ضمائر الرفع البارزة بغير توكيدها، ومع التوكيد

- ‌المسألة 145: ما لا ينصرف

- ‌مدخل

- ‌المسألة 147:

- ‌المسألة 148: إعراب الفعل المضارع

- ‌المدخل

- ‌المسألة 149:

- ‌المسألة 150:

- ‌المسألة 151:

- ‌المسألة 152:

- ‌المسألة 153: إعراب المضارع

- ‌مدخل

- ‌المسألة 154:

- ‌المسألة 155:

- ‌المسألة 156:

- ‌المسألة 157:

- ‌المسألة 158:

- ‌المسألة 159:

- ‌المسألة 160:

- ‌المسألة 161:

- ‌المسألة 162: أدوات التحضيض، والتوبيخ، والعرض، والامتناع

- ‌المسألة 163: العدد

- ‌مدخل

- ‌المسألة 164: تمييز العدد

- ‌المسألة 165: تذكير العدد وتأنيثه

- ‌المسالة 166: صياغة العدد على وزن "فاعل

- ‌المسألة 168: كنايات العدد

- ‌المسألة 170: المقصور، والممدود

- ‌المسألة 172: جمع التكسير

- ‌مدخل

- ‌المسألة 173:

- ‌المسألة 174: أحكام عامة

- ‌المسألة 175: التصغير

- ‌المسألة 177: النسب

- ‌مدخل

- ‌المسألة 178: النسب إلى ما حذف منه بعض أصوله

- ‌المسألة 179: أحكام عامة في النسب

- ‌المسألة: التصريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة 181: الإعلان والإبدال

- ‌المسالة 184: الإعلال بالحذف

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المسألة 143: نونا التوكيد

‌المسألة 143: نونا التوكيد

يراد بهما: نونان، إحداهما مشددة مبنية على الفتح، والثانية مخففة مبنية على السكون؛ كالنونين في قولهم: لا تقعدن عن إغاثة الملهوف، وبادرن بمعاونته.

وهما من أحرف المعاني1، وتتصل كل واحد منهما بآخر المضارع والأمر فتخلصهما للزمن المستقبل2؛ ولا تتصل بهما إن كانا لغيره3، وكذلك لا تتصل بالفعل الماضي، ولا بأسماء الأفعال مطلقا؛ "سواء أكانت طلبية أم خبرية"4 ولا بغيرها من الأسماء والحروف؛ نحو:"لا تحملن حقدا على من ينافسك في الخير، وابذلن جهدك الحميد في سبقه، وإدراك الغاية قبله". فالنون في آخر الفعلين حرف للتوكيد، ويصح تشديدها مع الفتح، أو تخفيفها مع التسكين. وقد اجتمعا في قوله تعالى في قصة يوسف:{لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} .

أثرهما المعنوي:

لو سمعت من يقول: "لا تنفع النصيحة الأحمق. ولا يفيده التأديب"

فقد تتردد في تصديق الكلام، وبداخلك الشك في صحته. ولك العذر في هذا، لأن المتكلم لم يحسن التقدير؛ إذ كان عليه أن يدرك بخبرته وذكائه أن مثل هذا الكلام قد يقابل بالتردد والشك؛ فيعمل على أن يدفعهما، ويمنع تسربهما إلى ذهن السامع، بإحدى الوسائل الكلامية التي عرض لها البلاغون -ومنها: نون التوكيد

فلو أنه قال: لا تنفعن

ولا يفيدنه

لكان مجيء نون التوكيد، بمثابة القسم على صحة الكلام وصدقه، أو بمنزلة تكراره وإعادته بقصد

1 سبق تفصيل الكلام على أحرف المعاني، في ج1 م5 ص62، باب:"الحرف".

2 أو تقويه -كما سيجيء.

3 قد يكون -أحيانا- زمن المضائع والأمر، لغير المستقبل؛ "طبقا للبيان الخاص بهذا في ج1 م54 و61 باب الفعل"؛ فلا تدخلهما في هذه الحالة نون التوكيد -ثم انظر "ا" ص177.

4 كما تقدم في رقم7 من ص159.

ص: 167

تأكيد مضمونه، وصحة ما حواه، فلا يكون هناك مجال للشك والتردد عند من هو مستعد للاقتناع.

ومثل هذا أن يقال لك: "أكثر من الحساد بفضلك"، "ولا تكثر من الأعداء بجهلك". أو:"تجنب شر القتلة؛ شاهد الزور"، "وهل يبرئ القاتل، وهل يقتل البريء سواه؟ "

فقد تزعم أن المتكلم يعرض عليك كل مسألة من هذه المسائل عرضا مجردا، "أي: خاليا من رغبته القوية وتشدده في مطالبتك بالتنفيذ أو بالترك، خاليا من الحرص على تأديتك ما تحدث بشأنه أو عدم تأديتك، وتصديقك به أو عدم التصديق".

وقد يكون لك الحق في هذا الزعم؛ فليس في الكلام ما يبعده، فلو رغب المتكلم أن يبعد الزعم، ويشعر السامعين بتمسكه بمضمون كلامه، وتشدده في التنفيذ والتأدية، وحرصه على تصديق ما قال لزاد في الكلام ما يدل على هذه الرغبة؛ كأن يزيد "نون التوكيد"، على آخر الفعل المضارع أو الأمر؛ فإن زيادتها تفيد معنى الجملة قوة. وتكسبه تأكيدا؛ إذ تبعد عنه الاحتمال السابق، وتجعله مقصورا على الحقيقة الواضحة من الألفاظ؛ دون ما وراءها من احتمالات. فلو قيل في الأمثلة السالفة: "أكثرن

، لا تكثرن

، تجبن

، يبرئن،

يقتلن

" لكان مجيء نون التوكيد برغم اختصارها البالغ بمنزلة القسم، وبمنزلة قول المتكلم: إني أؤكد كلامي، وأتشدد في أن تنفذ مضمونه في المستقبل، وأحرص على أن تصدقه. أو: بمنزلة تكرار ذلك الكلام، وإعادته لتحقيق الغرض السالف، ومن أجله سميت: بـ"نون التوكيد". والمشددة أقوى في تأدية التوكيد من المخففة.

وفوق هذا فكلتاهما تخلص المضارع للزمن المستقبل، سواء أكان اتصالها به مباشرا أم غير مباشر1. ومن ثم دخولها على المضارع إذا كان للحال، أو للمضي أحيانا -كما سبق- منعا للتعارض بينهما.

أما الأمر فزمنه مستقبل في الأغلب؛ فتقوي فيه الاستقبال. فإن كان لغيره خلصته للمستقبل المحض.

1 يكون غير مباشر؛ لوجود فاصل بينهما؛ كالضمير.

ص: 168

فالأثر المعنوي لهذه النون هو: توكيد المعنى على الوجه السالف، وتخليص زمن المضارع للاستقبال، وتقوية الاستقبال في فعل الأمر أو إرجاعه إليه.

وقد تفيد النون -مع التوكيد- الدلالة على الإحاطة والشمول إذا كان الكلام لغير الواحد، ففي مثل: يا قومنا احذرن مكايد الأعداء

يكون المراد: يا قومنا كلكم، أو جميعكم، فردا فردا

وخلاصة كل ما تقدم: أنهما حرفان من أحرف المعاني، يلحقان بآخر المضارع وآخر الأمر، لتلخيص هذين الفعلين للزمن المستقبل، ولا يلحقان بهما ولا بغيرها من الأفعال التي لا يراد منها المستقبل الخالص، ولا أسماء الأفعال مطلقا، ولا سائر الأسماء، والحروف. وأن فائدتهما المعنوية هي: تأكيد المعنى وتقويته بأقصر لفظ، وتخليص المضارع للزمن المستقبل، وتقوية الاستقبال في الأمر، أو إرجاعه إليه، وأنهما قد يفيدان -مع التوكيد- الشمول والعموم في بعض الصور.

آرثاهما اللفظية، والأحكام المترتبة على وجودها:

لنوني التوكيد آثار لفظية مشتركة بينهما، تحدث من اتصال إحداهما بآخر المضارع، المتجرد للمستقبل، أو بآخر الأمر كذلك. وتمتاز الخفيفة بأحكام خاصة تنفرد بها دون الثقيلة.

وأهم الآثار المشتركة بينهما هو:

1-

بناء المضارع على الفتح، بشرط أن تتصل به نون التوكيد اتصالا مباشرا؛ بأن يكون خاليا من ضمير رفع بارز1 يفصل بينهما؛ ذلك أن المضارع معرب دائما، إلا إذا اتصلت به اتصالا مباشرا نون التوكيد؛ فيبنى على الفتح، أو نون

1 ضمائر الرفع البارزة التي تتصل بآخر المضارع والأمر وتحدث فيهما تغييرات مختلفة -هي: ألف الاثنين وواو الجماعة، وياء المخاطبة، ونون النسوة. وستجيء التغييرات في ص177 وما بعدها- وقد سبق "في ج1 ص53 م6" تفصيل الكلام على بناء المضارع، ومنه: أن يكون اتصال نون التوكيد به مباشرا عند بنائه على الفتح. أما نون النسوة فاتصالها به لا يكون إلا مباشرا دائما، ويبني معها على السكون -كما في رقم3 من هامش ص185 و1 من هامش ص189.

ص: 169

النسوة؛ فيبنى على الكسون. كقول شوقي في وصف الدنيا:

لا تحفلن ببؤسها ونعيمها

نعمى الحياة وبؤسها تضليل

وكقوله في الأمهات المصريات المجاهدات:

ينفثن في الفتيان من

روح الشجاعة والثبات

يهوين تقبيل المهنـ

ـد، أو معانقة الفتاة1

ويدخل فيما سبق: المضارع المسبوق بلام الأمر أو بغيرها من الجوازم التي يصح الجمع بينهما وبين نون التوكيد؛ فإنه يبنى على الفتح في محل جزم2؛ كقولك للمهمل: لتحترمن عملك. ولتكرمن نفسك بإنجازه على خير الوجوه. ومثل: إما3 تنصرن ضعيفا فإن الله ناصرك

، فالأفعال: "تحترم، وتكرم، وتنصر

" مبنية على الفتح؛ لاتصالها المباشر بنون التوكيد، في محل جزم بلام الأمر. فإن لم يكن الاتصال بين المضارع ونون التوكيد مباشرا نشأت أحكام سنعرضها بعد4

2-

بناء فعل الأمر على الفتح، بشرط اتصاله بنون التوكيد اتصالا مباشرا، فلا يكون متصلا بضمير رفع بارز5 يفصل بينهما؛ نحو: اشكرن من أحسن إليك، وكافئنه بالإحسان إحسانا، واعلمن أن كلمة حمد وثناء قد تكون خير جزاء6.

1 الرمح.

2 ومن الأمثلة: "تكونن" في قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وكذلك المضارع "تحفل" في البيت السالف و"تضجر" في قول الآخر:

لا تضجرن ولا يدخلك معجزة

فالفوز يهلك بين العجز والضجر

فالأفعال المضارعة السالفة مبنية على الفتح في محل جزم بلا الناهية.

3 أصلها: "إن" الشرطية المدغمة في "ما" الزائدة.

4 في ص185 و195.

5 انظر رقم 1 من هامش الصفحة السابقة.

6 ولا داعي لأن نقول: فعل أمر مبني على سكون مقدر منع من ظهوره الفتحة الآتية لمناسبة النون وإنما نقول -تيسيرا بغير تلك الإطالة: فعل أمر مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد.

ص: 170

فإن كان فعل الأمر متصلا بضمير رفع بارز يفصل بينهما فإنه يجري عليه ما يجري على المضارع المسند لذلك الضمير من غير اختلاف في الأحكام ولا في التغيرات؛ فالمضارع والأمر سيان فيما يجري عليما عند الإسناد لضمائر الرفع البارزة، ح سواء أكان آخرهما صحيحا أم معتلا، مؤكدين أم غير مؤكدين، مع ملاحظة الاختلاف بينهما في ناحتين هامتين:

أولاهما: أن الأمر مبني دائما في كل الأساليب؛ سواء أكان مؤكدا أم غير مؤكد.

وثانيهما: أنه لا تلحقه نون الرفع مطلقا. وسيجيء تفصيل الكلام عليه مع المضارع آخر الباب1.

3-

أن توكيد فعل الأمر بها جائز في كل أحواله2، بغير قيد ولا شرط، وكذلك المضارع المبدوء بلام الأمر.

أما المضارع المرجد من هذه اللام فلتوكيده أحوال أربعة3، هي: وجوب التوكيد، وامتناعه، واستحسانه، وقلته. وإليك البيان:

الأولى والثانية: يجب توكيده، حين يكون مثبتا، مستقبلا، جواب قسم، مبدوءا باللام4 التي تدخل على جواب القسم، ولا يفصل بينه وبين هذه اللام فاصل؛ نحو: والله لأعملن الخير جهدي -بالله لأجتنبن قول السوء قدر استطاعتي- تالله لنحاربن الشر ما وسعتنا المحاربة5

فالأفعال المضارعة: "أعمل، أجتنب، نحارب

" واجبة التوكيد بالنون، لاستيفهائها الشروط

1 في ص185 و199.

2 فتدخل الحالات التي يخرج فيها عن معنى الأمر الخالص إلى غرض آخر مع بقاء صيغته على حالها؛ كخروجه إلى الدعاء في شعر لأحد الأنصار كان يردده النبي عليه السلام يوم غزوة الخندق، ومنه:

فثبت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

3 انظر "ب" من الزيادة والتفصيل ص177.

4 عنه من يرى -كالبصريين- أن هذه اللام لا تعينه للحال -وسيجيء هذا في ص172.

5 أي: مدة اتساع المحاربة لنا، واقتدارنا عليها.

ص: 171

كلها، فهي مثبتة، مستقبلة الزمن1، وقبلها قسم وقعت في جوابه، مصدرة بلام الجواب، بغير فاصل بينهما.

فإذا فقد بعض الشروط نشأت صورة جديدة قد يمتنع فيها توكيده، وقد يصح إذا انطبقت عليها أوصاف المنع أو أوصاف الجواز التالية:

فمن الصور التي يمتنع فيها توكيد المضارع بالنون أن يفقد شرط الثبوت في الحالة السالفة فيكون منفيا، إما لفظا: نحو: إن دعيت للشهادة فوالله لا أكتم الحق، وإما تقديرا، نحو: قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ، لأن حذف "لا" النافية كثير في جواب القسم عند أمن اللبس2.

ومن الصور التي يمتنع فيها توكيدا أيضا أن يفقد شرط الاستقبال في تلك الحالة أيضا؛ فيكون زمنه للحال بقرينة تدل على هذا، كقول الشاعر:

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربي أن بيتي واسع

1 لأن نون التوكيد تخلص زمن المضارع للمستقبل، ولا علامة أو قرينة هنا تمنع تجرده للاستقبال "كما أوضحنا في ص 168، وفي ج1 ص59 م4".

2 تحذف العرب -أحيانا- "لا" النافية في جواب القسم، مع ملاحظتها وتقديرها في المعنى؛ لأن اللبس عندئذ بين المنفى والموجب مأمون؛ إذ لو كان الجواب غير منفي في المعنى والتقدير لوجب أن يكون المضارع مؤكدا باللام والنون معا، جريا على الأغلب في جواب القسم عند البصريين، وبأحدهما عند -أكثر الكوفيين- ومن أمثلة حذف "لا" النافية في الآية السالفة:"تالله تفتأ تذكر يوسف" أي: لا تفتأ ما جاء في أمالي أبي القاسم الزجاجي -ص50- في بيت ليلى الأخيلية ترثي توبة:

فأقسمت أبكي بعد توبة هالكا

وأحفل من دارت عليه الدوائر

أي: لا أبكي ولا أحفل؛ فقد جاء ما نصه: "تريد: لا أبكي

والعرب تضمر "لا النافية" في جواب القسم مع ملاحظتها في المعنى؛ لأن الفرق بينه وبين الموجب قد وقع بلزوم الموجب اللام والنون: كقولك: والله لأخرجن. قال الله عز وجل: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ تذكر يوسف". ا. هـ.

وقال الشاعر:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي: لا أبرح

وقد ذكرنا ما تقدم بمناسبة أخرى في الجزء الأول عند الكلام على: "فتئ" م42 ص510 وفي الجزء الثاني م90 ص383 بمناسبة الكلام على أحرف القسم وجوابها.

ص: 172

وقول الآخر:

يمينا لأبغض كل امرئ

يزخرف قولا، ولا يفعل

لأن المعنى هنا على الحالية، ولأن لام جواب القسم الداخلة على المضارع تخلص زمنه للحال -عند فريق من النحاة-1 ونون التوكيد تخلصه للمستقبل؛ فيتعارضان.

ومن الصور الممنوعة أيضا أن يكون في تلك الحالة السالفة مفصولا من لازم الجواب، إما بمعموله، وإما بغيره؛ كقد، أو سوف، أو السين

؛ نحو: والله لغرضكم تدركون بالسعي الدائب، والعمل الحميد. ومثل: والله لقد تنالون رضا الناس بحسن معاملتهم. ونحو قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} والأصل: والله لسوف

الثالثة: أن يكون توكيده هو الكثير المستحسن؛ لكنه -مع كثرته واستحسانه- لا يبلغ درجة الواجب. وأمارته: أن يكون المضارع فعل شرط للأداة: "إن" الشرطية المدغم فيها "ما" الزائدة للتوكيد "أي: إما"، أو: يكون مسبوقا بأداة طلب تفيد الأمر، أو النهي، أو الدعاء؛ أو العرض2، أو التحضيض، أو التمني، أو الاستفهام

فمثال المضارع المسبوق "بإما": إما تحذرن من العدو تأمن أذاه، وإما تهملن الحذر تتعرض للخطر. والأصل: إن تحذر

وإن تهمل

زيدت "ما" على "إن" الجازمة، وأدغمت فيها، ولا يحسن في النثر ترك هذا

1 غير البصريين -كما أشرنا في رقم 4 من هامش ص171- ومعلوم أن الذي يعين المضارع للحال أمور؛ منها: كلمة: الآن، أو: الساعة

، ومنها: النفي بليس، ومنها: لام الابتداء

، إلى غير هذا مما سردناه في موضعه الأنسب "ج1 ص36 م4" فمن يريد الدلالة على الحال بغير لام القسم في مثل البيتين السالفين فله وسائل؛ منها: أن يقول في النثر: ليعلم الآن. ويمينا لأبغض الساعة.

2 العرض: طلب فيه لين ورفق "ويظهران في اختيار الكلمات الرقيقة، وفي نبرات الصوت" والتخصيص: طلب فيه عنف وشدة "ويظهران في اختيار الكلمات الجزلة، والضخمة، وفي النبرات القوية العنيفة". والأداة الغالبة في العرض هي: "ألا" المخففة. وقد تستعمل قليلا للتحضيض. وأدواته الغالبة هي: لولا، لوما، هلا، ألا، وسيجيء الكلام على هذه الأدوات في بابها الخاص -ص512.

ص: 173

التوكيد بعد: "إما"، لكنه يصح في الشعر للضرورة، كقول القائل:

يا صاح، إما تجدني غير ذي جدة1 فما التخلي عن الإخوان من شيمي

ومثال المسبوق بأداة تفيد الأمر: لتحذرن مديح نفسك، ولتدعن الثناء عليها، وإلا كنت هدفا للسخرية والمهانة.

ومثال المسبوق بالنهي قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} ، وقول الشاعر:

لا تحسبن العلم ينفع وحده

ما لم يتوج ربه بخلاف2

وقول الآخر:

ولا تطمعن من حاسد في مودة

وإن كنت تبديها له وتنيل

ومثال المسبوق بالدعاء قول القائل:

لا يبعدن3 قومي الذين همو

سم العداة وآفة الجزر.........

وبالعرض قولهم: ألا تنسين إساءة من أعتبك4.

وبالتخصيص قول الشاعر:

هلا تمنن بوعد غير مخلفة

كما عهدتك في أيام ذي سلم

وبالتمني قول الشاعر:

فليتك يوم الملتقى ترينني

لكي تعلمي أني امرؤ بك هائم

وبالاستفهام قول الشاعر:

أتهجرن خليلا صان عهدكمو

وأخلص الود في سر وإعلان؟

الرابعة: أن يكون توكيده قليلا5، وهو -قلته- جائز فصيح، لكنه

1 مال وغنى.

2 بنصيب من الخير والصلاح. وكذلك قول الشاعر:

لا يخدعنك من عدو دمعه

وارحم شبابك من عدو ترحم

3 لا يبعدن؛ أي: لا يهلكن "الفعل: بعد يبعد، بمعنى: هلك يهلك". دعاء لقومه ألا يصيبهم الهلاك. ويصفهم بأنهم سم لأعدائهم، آفة لجزرهم "جمع: جزور. والجزور مؤنثة في لفظها. ومعناها الغالب: الناقة، وقد يراد منها الجمل" وإنما كانوا آفة لها لكثرة ذبحهم إياها لأنفسهم، وللضيوف وهذا كناية عن الكرم.

4 أزال سبب عتابك.

5 قلة نسبة "أي: بالنسبة لنوعي التوكيد السالفين -وانظر "ا"، ص177.

ص: 174

لا يرقى في قوته مرقى النوعين السالفين. وعلامته: أن يكون بعد "لا" النافية كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1، أو بعد:"ما" الزائدة التي لم تدغم في "إن" الشرطية؛ كقولهم في المثل: بعين ما رأينك2، وقول الشاعر في المال:

قليلا به3، ما يحمدنك وارث

إذا نال مما كنت تجمع مغنما

ويدخل في هذا "ما" الزائدة بعد "رب"؛ نحو: ربما يقبلن الخير وراء المكروه4، أو بعد:"لم"5 كقول الشاعر:

من جحد الفضل ولم يذكرن

بالحمد مسديه فقد أجرما

أو بعد أداة شرط غير "إن" المدغمة في: "ما" الزائدة، كقول الشاعر:

من تثققن6 منهم فليس بآيب

أبدا، وقتل بني قتيبة شافي

4-

عدم تقديم معمول فعلها على هذا الفعل7 إلا إن كان المعمول شبه

1 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُْ لَا يَشْعُرُونَ} .

2 هذا مثل قديم تقوله لمن يخفي عنك أمرا أنت به بصير، تريد: إني أراك بعين بصيرة. "فا" زائدة. وجاء في الأساس ما معناه: أنك تقول هذا لمن أرسلته واستعجلته؛ فكأنك تقول له: لا تلو على شيء فإني أنظر إليك، أي: لا تقف، ولا تنتظر. وفي هذا المثل تأييد للحكم بصحة تقديم شبه الجملة على متعلقه الفعل المؤكد بالنون -كما سيجيء في الحكم الرابع.

3 الضمير عائد على المال في بيت قبله هو:

أهن للذي تهوى التلاد؛ فإنه

إذا مت كان المال نهبا مقسما

و"قليلا" نعت لمصدر محذوف، والتقدير: حمدا قليلا يحمدنك وارث.. وفي البيت شاهد آخر يحكم عليه بالضعف هو تقديم كلمة "قليلا" النعت مع منعوته المحذوف، مع أنهما معمولان للمضارع المؤكد بالنون وليسا شبه جملة -إذ شبه الجملة هو الذي قد يباح تقديمه- كما في رقم2 من هذا الهامش، وكما سيجيء في الحكم الرابع.

4 منع بعض النحاة التوكيد بالنون بعد: "ربما" بحجة أنها لا تدخل على الزمن المستقبل أو ما هو في حكمه. ويرى سيبويه صحة هذا التوكيد، بحجة وروده في المأثور.

وقد يكون الأفضل الأخذ بالرأي الأول ليكون حكم "رب" مطردا.

5 انظر "ا" من الزيادة والتفصيل، ص177، حيث الرأي المعارض، ولعله أنسب.

6 تصادف وتقابل.

7 لأن فعلها لا يعمل فيما قبله؛ وهو لذلك لا يفسر عاملا محذوفا قبله. أما تعلق شبه الجملة، إذا كان متقدما على هذا الفعل فالشائع أنه لا يجوز، وهناك رأي آخر يجيزه -طبقا للبيان الذي سبق "في رقم 2 و3 من الهامش السابق وكما في هامش ص100 طبعة3 ج2 م67- باب النائب عن الفاعل" واعتمادا على بعض الشواهد التي تؤيده، ومنها ما تقدم.

ص: 175

التقديم -في الرأي الأرجح؛ ففي مثل: اسمعن النصح

لا يصح أن يقال: النصح اسمعن. بخلاف لا تثقن بمنافق، واحذرنه عند تقلب الأيام، فيصح أن يقال: بمنافق لا تثقن، وعند تقلب الأيام احذرنه1.

5-

وقوع تغيرات أخرى تلحق المضارع صحيح الآخر ومعلته، وكذا الأمر، عند إسنادهما لضمائر الرفع البارزة؛ فقد يحذف حرف العلة عند الإسناد أو يقلب. وقد يحذف الضمير إذا كان واو جماعة، أو ياء مخاطبة، وقد يتحرك بحركة مناسبة له من غير أن يحذف. وقد تحذف نون الرفع، أو تدعم بغير حذف

إلى غير هذا من التغيرات المختلفة المترتبة على التوكيد، والتي سنذكرها آخرها الباب2 تفصيلا -كما قلنا.

1 لهذا صلة بما سبق في رقم 2 و3 من هامش الصفحة السالفة.

2 ص105 وفيما سبق يقول ابن مالك في باب عنوانه: "نونا التوكيد".

"وسنضع جهة اليسار رقما لكل بيت كما ورد في ترتيب بابه بالألفية؛ لأننا لم نلتزم في عرض مسائل هذا الباب ترتيبها في أبيات الناظم".

للفعل توكيد بنونين؛ هما

كنوني: اذهبن، واقصدنهما-1

يريد بالمثال الأول: نون التوكيد المشددة، وبالثاني: المخففة. ثم قال:

يؤكدان "افعل، ويفعل" آتيا

ذا طلب، أو شرطا إما تاليا-2

المراد من "افعل" هو: الأمر. ومن "يفعل""آتيا، المضارع الآتي، أي: الذي زمنه مستقبل، حالة كونه ذا طلب، أو: كونه شرطا تاليا إما. "ففي الجملة تقديم وتأخير":

أو: مثبتا في قسم مستقبلا

وقل بعده، "ما" و"لم" وبعد:"لا"-3

وغير "إما" من طوالب الجزا

وآخر المؤكد افتح؛ كابرزا-4

يريد: أن توكيد المضارع قليل بعد: "ما" و"لم" و"لا" وبعد غير "إن" الشرطية المدغمة في "ما"، من باقي طوالب الجزاء، أي: باقي الأدوات الشرطية التي تطلب جزاء.

ويفهم من كلامه السالف أن توكيد المضارع كثير في غير هذه المواضع التي سردها. ومن الكثير ما ذكره أولا مجملا. ثم قال: إن آخر الفعل المؤكد يبنى على الفتح؛ "كابرزا" وأصله: "ابرزن" بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفا لأجل الوقف. وسرد بعد هذا أبياتا أربعة في أنواع من التغييرات التي تصيب الفعل عند إسناده لضمائر الرفع البارزة، وسنعود إليها عند الكلام على هذه التغييرات، ثم بين الأحكام التي تختص بها "الخفيفة"، وعرضها في خمسة أبيات ختم بها الباب وسنذكرها فيما يلي -ص 179 وما يليها.

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- يرى بعض النحاة -ورأيه سديد- أن توكيد المضارع المنفي بالحرف: "لم" قليل، قلة ذاتية تدخله في حكم النادر الذي لا يصح القياس عليه، وليست قلة نسبية؛ "أي: ليست قلة بالنسبة لغيره، حيث يشترك القليل والكثير معا في الكثرة التي تبيح القياس عليهما، ويمتاز الكثير بزيادة الدرجة فيها". وحجته: أن "لم" حرف يقلب زمن المضارع للمضي، ونون التوكيد حرف يخلص زمنه للمستقبل، فيتعارضان. وهذا رأي يحسن الاقتصار عليه.

ب- جرى بعض النحاة على تقسيم حالات المضارع -من ناحية توكيده بالنون- خمسة أقسام، غير الحالة التي يمتنع فيها توكيده.

الأولى: وجوب توكيده

وهي الحالة التي أوضحناها.

والثانية: أن يكون توكيده قريبا من الواجب، وذلك حين يكون مسبوقا "بإن" الشرطية المدغم فيها:"ما" الزائدة.

والثالثة: أن يكون توكيده كثيرا؛ وذلك إذا وقع بعد أداة طلب: "أمر، نهي، دعاء، عرض، حض، تمن، استفهام".

والرابعة: أن يكون توكيده قليلا، وذلك بعد:"لا" النافية، أو "ما" الزائدة غير المسبوقة بإن الشرطية.

والخامسة: أن يكون توكيده أقل، وذلك بعد:"لم" الجازمة، أو أداة شرط أخرى.

وذكروا لهذا التقسيم تعليلات مصنوعة لا يعرفها العرب، ولم تخطر ببالهم، والتعليل الحق في التقسيم يجب أن يقتصر على كثرة الاستعمال وقلته بين العرب.

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فما الحاجة إلى هذا التقسيم الخماسي والسداسي

، مع أن القسم الثاني والثالث لا يختلفان في الأثر؟ فحكمها واحد؛ هو: شدة الحاجة معهما إلى التوكيد، وإن كانت هذه الحاجة لا تبلغ مرتبة الوجوب؛ إذ لا أهمية لزيادة أحدهما على الآخر في درجة الكثرة والنوع؛ لأنهما -معا- مشتركان عند العرب في الكثرة التي تفيد شدة الحاجة للتوكيد، وتجعل استعماله قياسيا قويا، وما يزيد على هذا القدر المشترك يصير زيادة في الدرجة البلاغية؛ لا في صحة الاستعمال وقوته، وهذه الزيادة متروكة لتقدير المتكلمين في العصور المختلفة -بعد عصور الاحتجاج- ولرغبتهم في محاكاة هذا أو ذاك على حسب مقتضيات الأحوال. فهي متنقلة بينهما؛ فإن لم تتجه الرغبة إلى محاكاة الزائد -لغرض بلاغي، وشاع الاستعمال الأدبي على إهمالها، اكتسبها الآخر وصار هو الشائع، وانتقل إليه درجة الزيادة، ولا عيب في هذا؛ فكلاهما كثير، لكنه قد يحتفظ لنفسه دون الآخر بمرتبة الزيادة في الاستعمال زمنا مؤقتا، ينتقل بعده إلى نظيره.

ومثل هذا يقال في القليل والأقل. فما الحاجة إلى تفريقهما، وعدم إدماجهما في قسم واحد ما دامت قلتهما ليست مانعة من القياس عليهما؛ لأنها قلة نسبية عددية "أي: على حسب نسبة أحدهما للآخر". ليست قلة ذاتية تمنع القياس.

ص: 178

الأحكام التي تختص بها نون التوكيد الخفيفة دون الثقيلة:

تنفرد المخففة بأمور أربعة:

الأول: عدم وقوعها -في الرأي الأرجح- بعد ألف اثنين، أو غيرها من أنواع1 الألف؛ نحو:"أيها الشابان، عاملان زملاءكما بكريم المعاملة، واجتنبان كثرة العتاب؛ فإنه يفضي إلى القطعية". فتتعين المشددة هنا مع بنائها على الكسر، ولا يصح مجيء الخفيفة؛ لأن المنع هو الأعم الأغلب في الكلام المأثور.

ويجيز بعض النحاة مجيء الخفيفة ساكنة، أو متحركة بالكسر؛ متابعة لبعض العرب، والأنسب الاقتصار على الأغلب؛ منعا للتشعيب، وابتعادا عما فيه من إلباس وخفاء2

الثاني: عدم وقوعها -في الرأي الأحسن- بعد نون النسوة مباشرة. فإذا كان الفعل المضارع أو الأمر مسندا لنون النسوة وأريد توكيده بالنون، وجب -في هذا الرأي الأعلى- أن تكون نون التوكيد مشددة، مبنية على الكسر، ووجب أن يفصل بينهما وبين نون النسوة ألف زائدة، لا مهمة لها إلا الفصل بينهما؛ نحو:"أيتها السيدات: لا تقصرنان في واجبكن القومي، وفي مقدمته حسن تربية الأولاد، والإشراف على شئون البيت، واعلمنان ما في تقصيركن من ضرر شامل، وإساءة عامة". فلا يصح مجيء الخفيفة هنا -في الرأي الأحسن الذي يحتم الاقتصار على المشددة المكسورة، بعد الألف الفاصلة؛ كهذا المثال، وبعد ألف الاثنين؛ كالمثال السابق في القسم الأول، وبعد غيرهما من كل أنواع الألف3:

1 كالألف الفاصلة التي في النوع التالي.

2 في هذا الأمر يقول ابن مالك:

ولم تقع خفيفة بعد الألف

لكن شديدة، وكسرها ألف-10

3 وفيه ابتعاد أيضا عن اللبس، وعن صور خيالية تنشأ عند الوقف. ومن هذه الصور الخيالية المتعددة قلب نون التوكيد الخفيفة ألفا عند الوقف بعد ألف الاثنين، أو الألف الفاصلة بين النونين -في رأي من يجيز وقومها بعدهما- في مثل يا لاعبان دحرجان كرتكما، يا لاعبات دحرجنان كرتكن؛ فتصير: دحرجا1 - ودحرجنا1. ثم تقلب الألف الثانية همزة؛ فيقال فيهما: دحرجاه، ودحرجناه؛ لوقوع الألف الثانية متطرفة بعد الألف؛ فتقلب الأخيرة همزة -تطبيقا للقواعد الصرفية في كل ذلك.

ص: 179

وفي الاكتفاء بهذا الرأي، ابتعاد عن اللبس والخفاء1.

الثالث: وجوب حذفها -في الرأي الشائع- لفظا لا خطا إذا وليها، مباشرة، ساكن، ولم يوقف عليها. وسبب حذفها الفرار من أن يتلاقى ساكنان في غير الموضع الذي يصح فيه تلاقيهما2؛ نحو: لا تتعودن الحلف، ولا تصدقن الحلاف، فتحذف النون الخفيفة عند النطق، وتبقى الفتحة التي قبلها دليلا عليها؛ فلا يلتبس الأمر على السامع؛ إذ لا مسوغ لوجود الفتحة في هذا الباب إلا وجود نون التوكيد، مذكورة أو محذوفة. ومنه قول الشاعر:

1 وفي الأمر الثاني الذي تنفرد به الخفيفة يقول ابن مالك:

وألفا زد قبلها مؤكدا

فعلا إلى نون الإناث أسندا-11

أي: زد قبلها مباشرة ألفا حين يكون الفعل المؤكد مسندا إلى نون النسوة.

2 يصح تلاقي الساكنين عند الوقف، وعند قصد النطق ببعض ألفاظ التهجي وذكر أسمائها؛ نحو: كاف - جيم - لام، وفي غير هذين لا يصح تلاقي الساكنين إلا إذا تحققت شروط ثلاثة، فمتى تحققت جاز الالتقاء، ووصف بأنه "على حده" أي: على النمط المشروع المحدد لصحة التلاقي.

"أولها: أن يكون الساكن الأول حرف لين "أي: حرف علة ساكنا" "ثانيها": أن يكون بعده حرف صحيح ساكن، مدغم في مثله. ثالثها": أن يكون التلاقي في كلمة واحدة.

ومن الأمثلة للألف: "شابة، عامة، ضالون، صادون" وللواو: تمود الثوب "الأصل: ماددت البائع الثوب -أي: مد كل منا الثوب؛ فتماد الثوب، وهذه التاء هي تاء المطاوعة. فإذا بني الفعل "تماد" للمجهول صار: تمود". وللياء: خويصة؛ تصغير: "خاصة"، و"أصيم" تصغير "أصم".

وبناء على الشرط الثالث لا يكون التقاء للساكنين مع نون التوكيد الخفيفة جاريا على حده، وبالرغم من هذا يحذف أول الساكنين كما سنعرف.

ويرى بعض النحاة -ورأيه أحسن: أن التلاقي المباح ليس مقصورا على كلمة واحدة، فقد يكون فيها وفيما يشبه الكلمة الواحدة أيضا، كالكلمات التي يتصل بآخرها فاعلها الذي هو واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، أو ألف الاثنين، وبعد كل ضمير من هذه الضمائر نون التوكيد "انظر ما يتصل بهذا ويوضحه في ج1 ص33 م4 وص97 م7 ولا سيما رأي الصبان الذي قال إن الصحيح عدم اشتراط التلاقي في كلمة واحدة

" وكما يتضح في هذا الباب.

وللمجمع اللغوي القاهري قرار يتصل بهذا -سجله في ص59 من كتابه المسمى: "مجموعة القرارات العلمية، من الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين" تحت عنوان: إباحة المد عند التقاء الساكنين، أو زيادة موضع لاغتفار التقاء الساكنين -ونص القرار:

"لا حرج على من يدفع اللبس بمد عند التقاء الساكنين في مثل قولهم: اجتمع منوبو العراق بمندونبي الأردن

". ا. هـ.

ص: 180

ولا تهين1 الفقير؛ علك أن

تركع يوما، والدهر قد رفعه

فالمضارع مجزوم بلا الناهية، فلا مسوغ لوجود الفتحة على النون، وبقاء الياء قبلها إلا ملاحظة نون التوكيد الخفيفة المحذوفة.

ولا داعي في هذه الصورة لحذفها كتابة -في غير الضرورة- كما يرى بعض النحاة، وحجته الاكتفاء بوجود الفتحة الدالة عليها لأن هذا الحذف الخطي قد يوقع في لبس أو احتمال، يحسن الفرار منهما.

وأفضل من كل ما سبق تحريكها بالكسر إذا وليها ساكن. وهذا رأي فريق آخر من النجاة، وحجته: أن الأصل في التخلص من التقاء الساكنين هو الكسر2، وأن الكسر هنا أخف وأبعد من اللبس؛ فوق أنه مسموع في بعض

1 البيت من بحر المنسرح -كما قال الصبان، والخضري، وليس من الخفيف- وهو للأضبط بن قريع الجاهلية، فهو ممن يحتج بكلامهم. وقد حذفت فيه نون التوكيد.

2 قال شارح المفصل "ج9 ص127" ما نصه: "اعلم أن الأصل في كل ساكنين التقيا أن يحرك الأول منهما بالكسر؛ نحو: بغت وقامت الجارية، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا لعلة

".

ولم يذكر هو ولا غيره من المتمسكين بحذفها تعليلا مقبولا لحذف نون التوكيد التي يليها ساكن، ولا لخروجها على الأصل العام. بل إن حذفها قد يؤدي إلى لبس محقق في حالات متعددة؛ منها: المضارع المؤكد بالنون، المعطوف على مضارع آخر كذلك، مسبوق بلا الناهية، مثل: لا تهملن وتلعب الساعة. فما نوع الفتحة التي على المضارع "تلعب"؟ أهي فتحة بناء بسبب نون التوكيد المحذوفة، والواو للعطف المجرد الذي لا أثر له في المعية، ولا في البناء أيضا -من باب أولى، لما هو معروف من أن العطف على المبني لا يجلب البناء للمعطوف مطلقا- أم هي فتحة إعراب، والواو للعطف والمعية معا؟ لا قرينة تمنع أحد الاحتمالين بالرغم من اختلاف المعنى اختلافا واسعا بينهما.

حالة أخرى: هي الفعل المضارع المعتل الآخر بالألف إذا أريد توكيده بالنون الخفيفة مع جزمه بلا الناهية، في مثل: "لا تخشين الأذى في سبيل الحق

" فلو حذفنا النون لالتقاء الساكنين وتركنا الفتحة قبلها دليلا عليها، لصار الكلام: لا تخشى الأذى في سبيل الحق. وترك هذه الياء -المتطرفة، المتحركة، التي قبلها فتحة، -من غير قبلها ألفا، مخالف للضوابط اللغوية الأساسية. كما أن قلبها ألفا، عملا بتلك الضوابط يؤدي إلى أن نقول: لا تخشى الأذى "بألف مكتوبة ياء" فنقع في محذور؛ هو تلاقي الساكنين الذي يقتضينا أن نتخلص منه بحذف ألف العلة من آخر الفعل، وهذا الحذف يؤدي إلى لبس لا دليل معه على أن الفعل مؤكد في أصله. وعدم التخلص يؤدي أيضا إلى لبس؛ هو: اعتبار "لا" نافية، وليست ناهية.

لما سبق -وغيره- كان "ياسين" في حاشيته على التصريح محقا حين قال ما نصه على التقاء نون =

ص: 181

أمثلة قليلة؛ لكنها على قلتها مسايرة للأصل العام السالف.

وهذا الراي -على قلة أنصاره- أفضل كما قلنا، لبعده عن شائبة اللبس والغموض، وخلوه من التفريق بين حالتي النطق والكتابة. فإن وجد من يعارض في أنه الأفضل فلا أقل أن يكون في منزلة الرأي الشائع الذي يوجب الحذف.

أما عند الوقف عليها فلها حكم خاص يذكر في الأمر الرابع التالي:

الرابع: وجوب قلبها ألفا عند الوقف عليها، بشرط أن تكون النون الخفيفة بعد فتحة؛ ففي مثل: احذرن قول السوء، وتعودن حبس اللسان عن منكر القول نقول عند الوقف على الفعلين المؤكدين: احذرا - تعودا

والقرائن كفيلة بأن تدل على نوع هذه الألف. وأن أصلها نون التوكيد الخفيفة

فإن لم تكن النون الخفيفة بعد فتحة، بأن كانت بعد ضمة، أو كثرة وجب أمران: حذف النون، نطقا لا كتابة، وإرجاع ما حذف من آخر الفعل بسبب وجودها عند وصل الكلام وعدم الوقف. ففي مثل:"أيها الفتيان، لا تهابن مقابلة الشدائد، ولا تخافن ملاقاة الصعاب في سبيل إدراك الغايات النبيلة. وفي مثل: يا فتاتي: لا تحجمن عن احتمال العناء في شريف المقاصد، وسني1 الأغراض"

نقول عند الوقوف على الأفعال المؤكدة مع أمن اللبس: لا تهابوا - لا تخافوا

- لا تحجمي

، بحذف نون التوكيد الخفيفة. وإرجاع واو الجماعة وياء المخاطبة اللتين حذفتا نطقا فقط عند وجود النون الخفيفة للتخلص من التقاء الساكنين. أما عند حذفها فلا التقاء لساكنين فلا يحذف الضمير، ويعود إن كان محذوفا نطقا بسبب وجودها.

= التوكيد الخفيفة بساكن في الصورة السالفة: "هلا حركت وأبقيت كغيرها من الحروف إذا كانت ساكنة، ولقيت ساكنا؟. قلت: أشار السعد في شرح التصريف إلى أن السبب أن تحريكها خلاف وضعها من السكون. وأقول: فحينئذ ما الفرق بينها وبين غيرها مما وضع ساكنا؛ كمن، وعن؟ فتأمل". ا. هـ. فموضوع سؤاله صحيح دقيق لمسايرته للأصل العام في التقاء الساكنين، والإجابة عنه جدلية محضة. وكان حقها أن تؤيد بالسماع الذي له القول الفصل؛ ولهذا جاءت واهية متداعية، وقد دفعها بسؤال آخر هدمها وأبادها.

1 شريف.

ص: 182

ومن الأمرين الثالث والرابع يتبين أنها تحذف وجوبا في حالتين:

الأولى: حذفها في النطق دون الكتابة إن وقع بعدها ساكن، ولم يوقف عليها، وهذا الرأي هو الشائع، كان غير الأنسب اليوم.

والأخرى: حذفها في النطق دون الكتابة إن وقف عليها بعد ضم أو كسر. مع إرجاع ما حذف لأجل وجودها عند عدم الوقف.

وكل ما سبق جار على أشهر الآراء المستنبطة من أكثر اللغات شيوعا، وقد أهملنا الآراء الضعيفة المتعددة التي لا خير في نقلها، وليس من ورائها اليوم إلا البلبلة والاضطراب1

1 وفي الأمرين الثالث والرابع يقول ابن مالك:

واحذر خفيفة لساكن ردف

وبعد غير فتحة إذا تقف-12

أي: احذف نون التوكيد الخفيفة إذا ردفها "وليها وجاء بعدها" ساكن. وكذلك إذا وقعت عند الوقوف عليها، بعد غير الفتحة. وغير الفتحة هو الكسرة والضمة. ثم قال:

واردد إذا حذفتها في الوقف ما

من أجلها في الوصل كان عدما-13

يريد: إذا وقفت عليها وجب أن ترجع إلى الفعل ما عدم منه "أي: حذف منه" في وصل الكلام بسببها، وعند وجودها. وختم الباب بقوله:

وأبدلنها بعد فتح ألفا

وقفًا؛ كما تقول في قفن: قفا-14

أي: أن نون التوكيد إذا وقف عليها بعد حرف مفتوح وجب قلبها ألفا. وساق لهذا مثلا؛ وهو: "قفن" حيث وقعت النون بعد الفاء المفتوحة. فعند الوقف يقال: قفا.

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

ارتضى بعض النحاة تسمية الأمور الأربعة السالفة: "خصائص تمتاز بها نون التوكيد الخفيفة"، أو:"أمور تنفرد بها". ولا مانع من هذا على اعتبار تلك الخصائص أو الأمور أحكاما بعضها عدمي "أي: سلبي" كالأول والثاني، وبعضها حذف -طبقا للشائع- كالثالث، أو: قلب؛ كالرابع في بعض حالاته.

ولا مانع في الوقت نفسه من اعتبار تلك الأمور الأربعة خصائص تمتاز بها التوكيد الشديدة دون الخفيفة، ولكن على أساس آخر: هو أنها أمور إيجابية؛ لا عدم فيها ولا تغيير. فالأول: وقوعها بعد ألف الاثنين، والثاني: وقوعها بعد الألف الفاصلة، والثالث: بقاؤها إذا وليها ساكن. والرابع: بقاؤها على حالها من غير حذف أو قلب عند الوقف

ص: 184