المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المسألة 149: الأدوات الخمس 1 التي ينصب بعدها المضارع "بأن" مضمرة - النحو الوافي - جـ ٤

[عباس حسن]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌المسألة 127: النداء وما يتصل بأحكامه

- ‌مدخل

- ‌المسالة 129: الجمع بين حرف النداء، و"أل

- ‌المسألة 130: أحكام تابع المنادى

- ‌المسألة 131: المنادى المضاف إلى ياء المتكلم

- ‌المسألة 132: الأسماء التي لا تكون إلا منادى

- ‌المادة 133: الاستغاثة

- ‌المسألة 134: النداء المقصود به التعجب

- ‌المسألة 135: الندبة

- ‌المسألة 136: المندوب المضاف لياء المتكلم

- ‌المسألة 137: الترخيم

- ‌المسألة 138: القسم الثاني ترخيم الضرورة الشعرية

- ‌المسألة 139: الاختصاص

- ‌المسألة 140: التحذير والإغراء

- ‌المسألة 141: أسماء الأفعال

- ‌المسألة 143: نونا التوكيد

- ‌المسألة 144: إسناد المضارع والأمر إلى ضمائر الرفع البارزة بغير توكيدها، ومع التوكيد

- ‌المسألة 145: ما لا ينصرف

- ‌مدخل

- ‌المسألة 147:

- ‌المسألة 148: إعراب الفعل المضارع

- ‌المدخل

- ‌المسألة 149:

- ‌المسألة 150:

- ‌المسألة 151:

- ‌المسألة 152:

- ‌المسألة 153: إعراب المضارع

- ‌مدخل

- ‌المسألة 154:

- ‌المسألة 155:

- ‌المسألة 156:

- ‌المسألة 157:

- ‌المسألة 158:

- ‌المسألة 159:

- ‌المسألة 160:

- ‌المسألة 161:

- ‌المسألة 162: أدوات التحضيض، والتوبيخ، والعرض، والامتناع

- ‌المسألة 163: العدد

- ‌مدخل

- ‌المسألة 164: تمييز العدد

- ‌المسألة 165: تذكير العدد وتأنيثه

- ‌المسالة 166: صياغة العدد على وزن "فاعل

- ‌المسألة 168: كنايات العدد

- ‌المسألة 170: المقصور، والممدود

- ‌المسألة 172: جمع التكسير

- ‌مدخل

- ‌المسألة 173:

- ‌المسألة 174: أحكام عامة

- ‌المسألة 175: التصغير

- ‌المسألة 177: النسب

- ‌مدخل

- ‌المسألة 178: النسب إلى ما حذف منه بعض أصوله

- ‌المسألة 179: أحكام عامة في النسب

- ‌المسألة: التصريف

- ‌مدخل

- ‌المسألة 181: الإعلان والإبدال

- ‌المسالة 184: الإعلال بالحذف

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌المسألة 149: الأدوات الخمس 1 التي ينصب بعدها المضارع "بأن" مضمرة

‌المسألة 149:

الأدوات الخمس 1 التي ينصب بعدها المضارع "بأن" مضمرة وجوبا 2:

الأداة الأولى: لام الجحود "أي: النفي" وتمهد لها بالأمثلة التالية:

ما كان الحر ليقبل الضيم.

ما كان الطبيب ليتواني عن المريض.

ما كان العاقل ليسارع في الإتهام.

ما المعنى الدقيق الذي قصده.

لم يكن المتقن ليرضى بالنقص.

الناطق بإحدى هذه الجمل؟

لم يكن الأدب ليقرأ تافه الكلام.

لم يكن ربيب السوء لينسى نشأته.

إن من نطق بالأولى نفى عن الحر نفيا قاطعا أنه قبل في حالة في حالاته

1 وهي: "لام الجحود" في هذه الصفحة" "أو"، في ص326""حتى"، في ص323" "فاء السببية" في ص352 "واو المعية"، في ص375 ويزاد على هذه الخمسة: "ثم" عند نحاة الكوفة -كما سيجيء في ص385، "وكي التعليلية" المحضة عند من يرى أنها لا تنصب بنفسها، وإنما تنصب بأن مضمرة وجوبا، ولا داعي للأخذ بهذا الرأي. "كما سبق عند الكلام عليها في ص303".

هذا ويثور الجدل -ولا سيما اليوم- حول الداعي إلى إضمار "أن" جوازا ووجوبا، وأثرها في نصب المضارع. وسيجيء في ص402 م152 الاعتراض ودفعه، بعد أن تفرغ من مواضع الإضمار، ونفهم حقيقته، وما يتصل به من تأويل المصدر.

2 "ملاحظة هامة": من الأحكام المشتركة بين هذه الأدوات أنه:

أ- لا بد من سبك الجملة المضارعية بعدها بمصدر مؤول يعرب على حسب الحالة.

ب- لا يصح الفصل بين هذه الأدوات والمضارع المنصوب بفاصل مطلقا؛ إلا: "لا" النافية إذا اقتضاها المعنى ولم يمنع من وجودها مانع. وأجاز بعض النحاة الفصل بين: "حتى والمضارع" بفواصل معينة يجيء بيانها "في رقم 2 من هامش ص338".

ج- لا يصح تقديم معمول هذا المضارع على الأداة.

د- لا يصح الفصل بأجنبي بين أجزاء الجملة الفعلية المضارعية.

ص: 317

الضيم، أو سكت عليه، مهما كانت الدواعي. فكأنه قال: ما كان الحر مريدا1 قبول الضيمن راضيا به، أو مهيأ لقبوله في وقت ما. فالنفي منصب على ما قبل اللام وما بعدها معا "أي: واقع على الكلام كله" فهو نفي عام لهذا، ولأنه -أيضا- شامل جميع حالات الحر، دون التقييد بحالة معينة، أو الاقتصار عليها.

ومن نطق بالثانية نفي عن الطبيب نفيا باتا في جميع أحواله أنه تباطأ في إنقاذ مريضه، وأنه رضي ذلك، أو أراده في صورة من الصور؛ فكأنما قال: ما كان الطبيب مريدا2 التواني مطلقا، ولا راضيا به، مهما كانت حالته وصورته. فالنفي عام ينصب على ما قبل اللام وما بعدها، ويشمل كلا حالات الطبيب؛ فهو عام بسبب هذين الأمرين.

والغرض الضمني الذي يرمي إليه الأسلوب من وراء ظاهره هو أن الحر لم يخلق ولم يوجد مطلقا لما نفي عنه، وكذلك الطبيب. ومثل هذا يقال في الصور الأخرى المعروضة. وما يشاكلها؛ فكل منها يرمي إلى نفي شيء نفيا قاطعا ينصب على ما قبل اللام وما بعدها معا، ويشمل جميع الحالات المعنوية التي يتضمنها الكلام -كما يرمي إلى أن الذي نفي عنه ذلك الشيء لم يرض به مطلقا، ولم يهيأ لقبوله، وإنما خلق وهيئ لدفعه ورفضه. فهذا أسلوب يبلغ الغاية في قوة الجحد، إذا اريد به الاتجاه المعنوي السالف.

وبملاحظة كل جملة -مما سلف- نجدها تشتمل على أربعة أمور مجتمعة:

1-

الفعل الناسخ: "كان" أو "يكون" -دون غيرهما من سائر الأفعال الناسخة أو التامة. وكلاهما يسمى: "فعل كون"، لاشتقاقه من المصدر "كون" الذي يدل على الوجود العام "المطلق".

1 إنما قدروا هنا الخبر "مريدا" أو مهيأ، أو مستعدا

، فرارا من تقدير الكلمة الشائعة؛ وهي:"موجود"؛ لكيلا يتسرب منها الوهم إلى أن: "كان" هنا بمعنى: "وجد" وهي "كان" التامة التي لا تصلح قبل "لام الجحود" أما التي تصلح فلا بد أن تكون ناسخة، كما سيجيء.

ولا مانع من تقدير الخبر المحذوف بكلمة: "موجود" مع إدراك أن فعل "الكون" قبلها لا بد أن يكون ناسخا، لا تاما.

2 انظر رقم 1 من هذا الهامش.

ص: 318

2-

وجود حرف نفي1 قبل فعل "الكون" الناسخ؛ وهذا النافي المسموع هو: "ما"2 أو: "لم" وتختص "ما" بالدخول على: "كان"، الماضية الناسخة، وتختص "لم" بالدخول على المضارع المجزوم:"ين" الناسخ، ولا يصلح للدخول عليه غيرها3. والنفي منصب في الحالتين على معنى كل الكلام الذي يليه، فهو شامل ما قبل اللام وما بعدها.

3-

أن فعل "الكون" إما ماض لفظا ومعنى: كالأمثلة الثلاثة الأولى، وإما ماض معنى فقط؛ كالثلاثة الأخيرة التي وقع فيها فعل "الكون" مضارعا مسبوقا بالحرف الجازم "لم"، وهذا الحرف إذا دخل على المضارع قلب زمنه ماضيا -في الغالب- مع ترك صورته اللفظية المجزومة على حالها، فيصير مضارعا في لفظه، ماضيا في زمنه ومعناه.

4-

أن فعل الكون الناسخ يليه -مباشرة- اسمه ظاهرا، لا ضميرا، ثم مضارع منصوب، مبدوء بلام مكسورة. أما خبره فعام محذوف، يجب أن يتعلق به الجار مع مجروره. والجار هو "اللام" التي اشتهرت باسم:"لام الجحود"4 والتي تتصل بالمضارع -كما قلنا- والمضارع بعدها منصوب "بأن" مضمرة وجوبا، والمصدر المكون من "أن" وما دخلت عليه من المضارع وفاعله -في محل جر "بلام الجحود". والجار والمجرور متعلقان بالمحذوف العام المنصوب، لأنه خبر الناسخ. والتقدير ما كان الحر مهيأ أو مريدا لقبول الضيم

أو ما شابه هذا.

1 بشرط بقاء النفي على معناه، وعدم نقضه بشيء مثل "إلا" التي للاستثناء، أو إحدى أخواتها "كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص320 وص325".

2 فلا تصلح: "لن"؛ لأنها لنفي زمن المضارع المستقبل. والمطلوب هنا أن يكون زمنه ماضيا، ولا تصلح:"لا"؛ لكثرة استعمالها في نفي المستقبل. ولا تصح: "لما" الجازمة؛ لأنها لنفي معنى المضارع بعد أن تقلب زمنه للماضي مع اتصاله بالزمن الحالي؛ فلا يكون زمنه للماضي الخالص المطلوب هنا.

3 أو "إن" النافية عند فريق -كما في الصفحة الآتية.

4 في نوع هذه اللام آراء تجيء في ص321، والجحود، هو: النفي -كما تقدم- لأنها تقوي معنى النفي في الجملة كلها؛ "قبلها وبعدها" إذ لا تقع إلا بعد كون منفي عام، والمعنى بعدها منفي أيضا؛ لتعلقها مع مجرورها بالخبر العام المحذوف المنفي؛ فيسري النفي منه إلى المصدر المؤول الذي يليها مباشرة، وهو مجرورها -كما سيجيء في "ج" من ص324.

ص: 319

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فعند إعراب المثال الأول نقول: "ما" نافية -"كان": فعل ماض ناقص- "الحر" اسمها مرفوع -"ليقبل": اللام لام الجحود، حرف أصلي- "يقبل": مضارع منصوب "بأن" مضمرة وجوبا، وفاعله مستتر جوازا تقديره: هو "الضيم" مفعول به. والمصدر المؤول من المضارع وفاعله مجرور باللام، والتقدير: له قبول

والجار مع مجروره متعلقان بمحذوف منصوب خبر "كان" والتقدير: ما كان الحر مهيأ أو مريدا لقبول الضيم

ولا يختلف إعراب "إن" النافية عن إعراب: "ما"، في شيء مطلقا -عند من يبيح دخول "إن"- فكلاهما يصح أن يحل محل الآخر بغير تفاوت بينهما.

ومثل هذا يقال في بقية الأمثلة. مع ملاحظة أن: "لم" حرف نفي جازم، ولا بد بعده من المضارع:"يكن" المجزوم به.

من كل ما سبق يتبين معنى: "لام الجحود". وعملها. وأن المضارع ينصب بعدها "بأن" مضمرة وجوبا، بشرط اجتماع الشروط الأربعة السالفة "وهي: أن يسبقها فعل كون عام ناسخ دون غيره من الأفعال -منفي-1 ماض لفظا ومعنى أو معنى فقط -بعده اسمه ظاهرا، يليه المضارع المنصوب المبدوء باللام مباشرة"؛ فإنه فقد شرط من الأربعة لم تكن اللام لام الجحود، ولم يكن الأسلوب داخلا فما نحن فيه

وجدير بالتنويه أن فاعل المضارع الذي تدخل عليه لام الجحود لا يكون اسما ظاهرا -في الأعم الأغلب- بل يكون ضميرا مستترا جوازا. يعود على اسم الناسخ السابق، ومنع أكثر النحاة أن يكون اسما ظاهرا2

1 مع بقاء معنى النفي وعدم إلغائه بشيء، مثل "إلا" التي للاستثناء، أو إحدى أخواتها -"طبقا لما سبق في رقم 1 من هامش ص319، وكما سيجيء في ص325".

2 اقتصر ابن مالك في الكلام على لام الجحود، وكل ما يتصل بها -بالشطر الثاني من البيت الثامن في باب:"إعراب الفعل" ونصه:

.........................................

وبعد نفي "كان" حتما أضمرا-8

يريد: أضمر الحرف الناصب وهو: "أن" إذا وقع بعد الفعل المنفي: "كان". ولم يوضح شروط هذا الفعل، ولا مضارعه، ولا شيئا من الأحكام والتفصيلات الهامة التي لا تصلح القاعدة إلا بذكرها. وقد عرضناها وافية. أما الشطر الأول من البيت فيتعلق بحكم آخر أوضحناه وذكرنا البيت معه في مواضع إظهار "أن" وإضمارها.

ص: 320

زيادة وتفصيل:

أ- اختلف النحاة في الحكم على نوع "لام الجحود". فمن قائل: إنها حرف زائد، وزيادته غير محضة؛ إذ لا يمكن الاستغناء1 عنه؛ لأنها تفيد "الاختصاص"، وتقوية النفي الذي ينصب على ما قبلها، وما بعدها2 أيضا. ومع زيادتها فهي الناصبة للمضارع بنفسها، والفعل وفاعله خبر الكون.

ومن قائل: هي زائدة زيادة غير محضة أيضا، ولكن المضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعدها، والمصدر المؤول خبر. وقيل

وقيل

وهذه الآراء ضعيفة؛ لأن أكثرها يعارض ويناقض القواعد النحوية العامة. وأقرب الآراء إلى القبول هو الراي البصري، الذي يجعل لام الجحود حرف جر أصلي يفيد تقوية معنى النفي قبلها وبعدها، والمضارع منصوب بعدها "بأن" المضمرة وجوبا. والمصدر المؤول مجرور باللام، والجار والمجور متعلقان بمحذوف عام. وهذا الإعراب هو الشائع بين أكثر النحاة، وهو أقل عيوبا من سواه، ويؤيده بعض الأمثلة الفصيحة التي وردت مشتملة على خبر "الكون" مذكورا كقول القائل:

سموت ولم تكن أهلا لتسمو

ولكن المضيع قد يصيب

فذكر الخبر "أهلا" يمنع أن تكون اللام في هذه الأساليب زائدة محضة أو غير محضة، كما يمنع أن يكون المضارع وفاعله هما الخبر فيها، أو المصدر المؤول هو الخبر

ب- إذا لم يكن الفعل المنفي قبل اللام "فعل كون" لم يصح اعتبارها "لام جحود". ووجب اعتبارها نوعا آخر يناسب السياقن ويساير معنى الأسلوب،

1 سبق -في ج2 م90 ص403 و418 و419- باب: حروف الجر، تفصيل الكلام على زيادة حرف الجر، وعلى زيادة "اللام" زيادة محضة وغير محضة

، وعلى معانيها، ومنها:"الاختصاص"

و

"ص438".

2 حاشية الخضري والصبان في هذا الموضع من باب: "إعراب الفعل".

ص: 321

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كأن تكون زائدة، أو للتعليل1. أو للعاقبة

أو

والأغلب أن تصلح للتعليل في كثير من الأساليب المنفية، فتدل على أنا ما بعدها علة لما قبلها -وقد تسمى في هذه الحالة "لام كي" كما سبق2، نحو: لم يكذب الشاهد ليساعد المتهم؛ فعدم مساعدة المتهم هو العلة في عدم كذب الشاهد، أي: لم يكذب الشاهد كذبا يكون سببه وعلة حدوثه "أي: الغرض منه" هو مساعدة المتهمن فمساعدة المتهم هنا لم تتحقق؛ فهي منفية. وأساس نفيها وعدم تحققها ما قرروه3: من أن النفي الذي قبل لام التعليل ينصب على ما بعدها، دون أن يشمل معه ما قبلها إلا بقرينة، كما في المثال السالف "وتفسير هذا ما قرروه أيضا من أن الجار والمجرور بعد "لام التعليل" المسبوقة بفعل منفي إنما يتعلقان بذلك الفعل المنفي، ويصيران قيدا فيه؛ فلا يكون نفيه مطلقا خاليا من التقييد، ولكنه مقيد بهما، فالنفي ينصب عليه في حالة واحدة فقط، هي حالة تقيده بهما، دون بقية أحواله المطلقة التي لا تخضع للقيد. وفي هذه الحالة الواحدة يسري النفي إلى القيد فيشمله أيضا "أي: يسري على الجار مع مجروره"، ففي المثال السالف يكون الكذب المنفي نوعا معينا محدودا؛ هو الكذب المقيد بأنه المساعدة المتهمن أما الكذب لغير هذه المساعدة فمسكوت عنه؛ لا يمكن الحكم عليه بشيء؛ فقد يكون منفيا أو غير منفي بقرينة أخرى خارجة عن الجملة. والقيد نفسه "وهو: المساعدة" منفي حتما4..

مثال آخر: ما صلى العابد لينافق. أي: ما صلى العابد صلاة يكون سببها. وعلة أدائها هو: النفاق. فالجار والمجرور المكونان من لام التعليل وما دخلت عليه قد انصب عليهما النفي حتما. وأما ما قبلهما -وهو الصلاة غير المقيدة- فمسكوت عنه.

1 انظر "ح" من ص324، حيث الكلام على الفرق بينهما وبين "لام الجحود" وقد سبق كلام على "لام التعليل عند الكلام على:"كي" ص300.

2 في "ب" من ص303.

3 راجع الصبان في هذا الموضع.

4 مما يزيد الأمر وضوحا أن نجعل هذا المثال مثبتا "خاليا من النفي" ونوازن بين معنييه في حالتي الإيجاب والنفي، فيزداد المراد من التعليل والتقييد جلاء، ولا سيما إذا تعددت وتنوعت الأمثلة، ثم انظر "ج" الآتية.

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وإن شئت فقل: هما متعلقان بالفعل المنفي: "صلى" فهما قيد له، وصار بهما مقيدا، فالصلاة المنفية هي الصلاة المقيدة، بأنها للنفاق، وليست مطلق صلاة. أما الصلاة المطلقة التي لست للنفاق فمسكوت عنها، لا يفهم أمرها ولا الحكم عليها من هذا التركيب؛ فقد تكون موجودة أو لا تكون

وتوجيهها لأحد الأمرين يحتاج إلى قرينة أخرى خارجة تعينها لهذا أو لذاك، والقيد في الحالين منفي حتما

1.

وإذ كان الفعل المنفي قبل اللام فعل "كون" غير ناقص لم يصح اعتبارها لام جحود، ووجب توجيهها لشيء آخر، ويكثر أن يكون هو:"العليل" أيضا على الوجه السالف؛ نحو: ما كان الحاكم ليظلم؛ بمعنى: ما وجد الحاكم ليظلم. فالشأن في "كان" هنا كالشأن في كل فعل غير ناسخ يحل محلها من ناحية أن الجار والمجرور منفيان حتما، ويتعلقان به، فيصير مقيدا بهما؛ ويصير معناه بسبب النفي الواقع عليه غير مطلق، وإنما هو مقيد بحالة معينة دون غيرها أما غيرها فمسكوت عنه يحتاج لقرينة خارجة عن الجملة، تبين أمره نفيا وعدم نفي، والقيد "الجار والمجرور المتعلقان به" منفي حتما فكأن الناطق بهذا المثال يقول: ما كان الحاكم "أي: ما وجد وظهر الحاكم" الذي يكون سبب وجوده، وعلة ظهوره: الظلمز فسبب الوجود وعلته هو: الظلم، والظلم منفي، فالمسبب عنه منفي لا محالة أو الجار والمجرور متعلقان بالفعل، فهما قيد له.... و.....

وفي هذا المثال لا يصح اعتبار اللام "للجحود"؛ لأن هذا يؤدي إلى مخالفا الواقع الذي يدل على أن كثيرا من الحكام ظالمون.

ومن الأمثلة السالفة وأشباهها يتبين أن النفي قبل لام التعليل ينصب على الفعل الذي قبلها في حالة واحدة؛ هي التي يكون فيها مقيدا بهذه اللام الجارة ومجرورها، وليس مطلقا من التقييد، وأن هذا النفي ينصب على ما بعدها دائما "أي: على القيد".

فإذا كان الفعل غير مسبوق بنفي لم تكن اللام للجحود.

وإذا كان الفعل ناسخا غير "كون" لم تصلح اللام للجحود -كما تقدم-2

1 انظر رقم 4 من الهامش السابق.

2 في ص320:

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

في أصح الآراء؛ فلا يقال: ما أصبح محمد ليهمل عمله، ولم يصبح محمود ليهين غيره

وما ظننت الأمة الناهضة لتسيء إلى علمائها، ولم أظن الشعوب القوية لتركن إلى الراحة

قال أبو حيان: "كل هذه التراكيب فاسدة؛ إذ لم يسمع لها نظير في كلام العرب، فوجب منعها وردها" اهـ.

ح- يتردد هنا -وفي الأبواب الأخرى- لفظ: "لام التعليل"، و "لام الجحود" فما الفارق الدقيق بينهما؛ بحيث تتميز إحداهما من الأخرى بغير غموض ولا خفاء؟

الفارق بينهما ما أسلفناه من أن لكل واحدة منهما معنى يخالف معنى الأخرى؛ فلام الجحود تفيد النفي العام، ولام التعليل تفيد التعليل "أي: أن ما بعدها علة وسبب فيما قبلها" على الوجه الذي شرحناه في كل منهما".

وشيء آخر؛ هو أن النفي مع لام الجحود مسلطا على ما قبلها وما بعدها معا في كل حالاتهما؛ فهو منصب على الكلام كله؛ لأن ما قبلها كون عام منفي، وخبره المحذوف أمر عام منفي، فيتسر إليهما النفي منه حتما؛ لدخولها فيما يشتمل عليه

، ويؤثر فيه بالنفي؛ كالأمثلة التي في أول البحث؛ حيث يعم النفي ما قبل لام الجحود وما بعدها، ويكون شاملا غير مقيد يخرج بعض الحالات.

أما لام التعليل. فالنفي قبلها داخل على فعل خاص، ليس كونا عاما، وغنما هو فعل مقيد بالجار والمجرور "وهما: لام التعليل، وما دخلت عليه"؛ فالنفي منصب على هذا لفعل المقيد؛ أي: منصب عليه في حالة تقيده -وهي حالة واحدة، دون غيرها من الحالات الأخرى الكثيرة التي لا تدخل في التقييد؛ والتي هي مسكوت عنها، كما قدمنا- فلا يحكم على تلك الحالات الأخرى بالنفي أو بعدمه إلا بقرينة خارجة عن الجملة. والقيد "وهو لام التعليل ومجرورها" -منفيان حتما، لتعلقهما بالفعل الخاص المنفي. فالمعنى بعد لام التعليل منفي. أما قبلها فلا يتعين النفي إلا في الصورة الواحدة التي شرحناها وهي التي يكون فيها الفعل مقيدا بالجار مع مجروره؛ فمعنى الفعل فيها ليس عاما1 مطلقا.

1 يقول الصبان: إن النفي مع "لام" التعليل منصب على ما بعدها فقط، فهل هذا يوافق ما يقوله أكثر النحاة من أن ما بعد "لام التعليل" علة لما قبلها، وإذا انتفت العلة انتفى المعلول؟ يبدو أنه لا يوافقه، إلا إذا كان مراده أنه لا يشمل ما قبلها من الصور المتعددة التي لا تدخل في القيد.

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وبناء على ما سبق اشترطوا لصحة "لام الجحود" ألا ينتقض النفي بعدها بشيء؛ مثل "إلا1 الاستثنائية" -أو إحدى أخواتها- فلا يقال: ما كان الحر إلا ليقبل الضيم؛ لأن "إلا" هذه تنقض النفي السابق عليها؛ وتجعل ما بعدها مثبتا. وهذا مخالف لما تتطلبه لام الجحود من نفي ما قبلها وما بعدها معا بالحرف النافي المذكور في صدر جملتها. ولم يشترطوا هذا في لام التعليل فأجازوا: ما حضر المتعلم إلا ليستفيد، فصدر الجملة ينفي الحضور عن المتعلم، وعجزها الواقع بعد "إلا" ينفي ذلك النفي وينقضه، ويثبت الحضور

، وأنه لاستفادة المتعلم؛ فكأن الجملة: حضر المتعلم ليستفيد.

د- هل يصح حذف "لام الجحود"؟ وهل يصح حذف فعل "الكون" قبلها؟ يجيز الحذف بعض النحاة، معتمدا على ظاهر أمثلة واردة عن العرب، وقد تصدى لبحثها بعض المحققين، وانتهى منها إلى أن المحذوف فيها لا يتعين أن يكون أحدهما، بل يستقيم المعنى على تقديره، أو تقدير غيره؛ فلا داعي لإباحة حذف واحد منهما.

1 سبقت الإشارة لهذا "في رقم 1 من هامش ص319 ورقم 1 من هامش ص320".

ص: 325

الأداة الثانية: "أو" العاطفة1 التي بمعنى: "حتى"، أو "إلا" الاستثنائية:

ينصب المضارع بأن مضمرة وجوبا بعد "أو" العاطفة في موضعين:

أحدهما: أن تكون "أو" العاطفة صالحة للحذف، ووضع "حتى" في مكانها من غير أن يتغير المعنى؛ سواء أكانت:"حتى" دالة على الغاية، أم دالة على التعليل.

أ- فالدالة على الغاية: "ويسمونها: "الغائية" أو: التي بمعنى: "إلى"" هي التي ينقضي المعنى قبلها شيئا فشيئا، لا دفعة واحدة، ويتم انقضاؤه بمجرد وقوع ما بعدهان وتحقق معناه؛ فإذا وقع ما بعدها انقطع ما قبلها نهائيا. وذلك بأن يكون لما قبلها نوع امتداد زمني، واستمرار معنوي متلاحق، لا ينقطع ولا يتوقف نهائيا إلا بتحقق ما بعدها وحصوله، فإذا تحقق ما بعدها وحصل انقطع المعنى قبلها بمجرد هذا التحقق والحصول؛ نحو: أقرأ الكتاب، أو أتعب، "أي: حتى أتعب، أو: إلى أن أتعب"، فقراءة الكتاب تتطلب وقتا، يتابع بعضها بعضا فيه، ولا تتم دفعة واحدة بغير استمرار زمني محدد، فإذا حصل التعب -وهو المعنى الذي بعد "أو"- انتهت القراءة وانقضت بمجرد حصول هذا التعب. ونحو: أتناول الطعام أو أشبع. "بمعنى: حتى أشبع، أي: إلى أن أشبع" فتناول الطعام لا يتم دفعة واحدة؛ وإنما يستغرق وقتا يتوالى فيه بعضه وراء بعض، ويستمر هذا حتى يحصل الشبع يتحقق -وهو المعنى الذي بعد: "أو"- فإذا حصل وتحقق انقطع تناول الطعام. ومثل: "أنام الليل أو يطلع الفجر، وأصلي الصبح وأتعبد أو تشرق الشمس2

1 يجري على هذه الأداء الأحكام العامة المشتركة التي سبقت في رقم 2 من هامش ص317، والتي تجري على كل نظائرها التي تنصب المضارع بأن المضمرة وجوبا.

أما: "أو" العاطفة.. التي لا تنصب المضارع بعدها "بأن" -فقد سبق الكلام عليها "في ج3 م118 ص585 من باب: عطف النسق".

2 ومما يصلح لذلك قول امرئ القيس يخاطب رفيقه في السفر: "وكان امرؤ القيس قد صمم على الأخذ بثأر أبيه ممن قتلوه؛ فقصد قيصر الروم ليستعين به على تحقيق غرضه. واستصحب معه في سفرته الطويلة الشاقة عمرو بن قميئة الذي جزع وتوجع مما حاق بهما من المشقات. وهو الذي يقصد امرؤ القيس بقوله:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له: لا تبك عينك إنما

نحاول ملكا، أو نمت فنعذرا

والشطر الأخير هو محل الشاهد.

ص: 326

فالحرف "أو" فيما سبق حرف عطف بمعنى "حتى" الجارة1. ولكنه لا يعرب حرف جر2

ب- والدالة على "التعليل""ويسمونها: "أو التعليلية" أي: "التي بمعنى: "كي التعليلية"، أو "لام التعليل" يكون ما بعدها علة لما قبلها؛ نحو: لأرضين الله أو يغفر لي، بمعنى: حتى يغفر، أو: كي يغفر لي، فما بعد "أو" -وهو: المغفرة- علة فيما قبلها، وهو إرضائي الله. ولا تصح أن تكون "أو" هنا بمعنى:"حتى" الغائية"؛ لفساد المعنى؛ إذ يكون: سأرضي الله إلى أن يغفر لي، فإذا تحقق الغفران انقطع إرضائي له، وأغضبته

ومن الأمثلة: أحاذر العدوة أو أسلم، وأحرص على التوقي أو أنجو من المرض. فأو بمعنى:"حتى التعليلية" ولا تصلح الغائية، لفساد المعنى معها

و"أو" تعرب هنا حرف عطف. ولا يصح إعرابها حرف جر أو شيئا غير العطف، بالرغم من أنها بمعنى "حتى" التعليلية الجارة2..

والآخر: أن تكون "أو" بمعنى: "إلا" الاستثنائية؛ وهذا حين لا يصلح في موضعها "حتى" بنوعيها السالفين؛ "وهما: الغائبة، والتعليلية". فلا بد من الالتجاء أول الأمر إلى: "حتى" ووضعها في مكان: "أو"، فإن لم يستقم المعنى معها قصدنا "إلا" الاستثنائية. نحو: تهوي الطائرة أو تسلم من الخلل، وتسقط أو تبرأ من الفساد

أي: إلا أن تسلم -إلا أن تبرأ

ونحو: يقتل النمر بالرصاص أو تخطئه الرصاصة

ويحرص الصياد

1 "حتى" الجارة حرف بمعنى "إلى" الدالة على الانتهاء، وتعمل الجر مثلها.

2 و2 أما المعطوف عليه فشيء قبلها يغلب أن يكون مصدرا متخيلا متصيدا من الكلام السابق، طبقا لما سيجيء شرحه هنا "في ص329" وانظر "ب"331.

ص: 327

على جلده، أو يعجز عن سلخه. فلفظ "أو" في الأمثلة السالفة بمعنى:"إلا" ولا يصلح غيرها. ومع أنه بمعناها -يعرب حرف عطف، ولا يصح اعتباره حرف استثناء

فإن لم تصلح "أو" العاطفة لأن تكون بمعنى: "حتى" أو: "إلا" لفساد المعنى بوضع أحد هذين في موضعها، كانت لمجرد العطف1؛ فلا ينصب المضارع بعدها، إلا أن اقتضى المعنى بعدها نصب المضارع لسبب آخر غير السالف2

، فإن اقتضى المعنى نصب المضارع لسبب غير ما تقدم: وجب نصه "بأن" أيضا، ولكن يجوز إظهارها وإضمارها، كقول أحد الولاة لشاعر هجاء؛ "لولا شعرك الجيد أو يحرم أولادك عائلهم لقطعت لسانك. فلا عفو بعد اليوم، أو أقبل شفاعة". ويصح إظهار "أن" فنقول: أو أن يحرم أولادك

وأن أن أقبل شفاعة. وفي كلتا الحالتين يعرب المصدر المسبك من "أن""الظاهرة أو المضمرة جوازا" مع ما دخلت عليه معطوفا. أما المعطوف عليه فلا بد أن يكون اسما صريحا قبل "أو"3، وهو هنا:"شعر، وعفو". والتقدير: لولا شعرك، أو حرمان أولادك

فلا عفو أو قبول شفاعة

ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} بمعنى: أو أن يرسل رسولا. فالمضارع "يرسل" منصوب" "بأن" مضمرة جوازا، وفاعله مستتر جوازا، تقديره: هو، والمصدر المؤول معطوف على الاسم الصريح: "وحيا" والتقدير: إلا وحيا أو إرسالته رسولا..

ملاحظة: لما كانت "أو" التي ينصب بعدها المضارع بأن المضمرة وجوبا أو جوازا، حرف عطف -وجب أن يكون المصدر المؤول بعدها معطوفا على

1 وقد سبق الكلام عليها في باب: "عطف النسق "ج3 م118 ص585" كما سبقت الإشارة.

2 سيجيء في "د" من الزيادة والتفصيل "ص329"؛ بيان السبب الذي يقتضي نصب المضارع بعد "أو" العاطفة.

3 عملا بقاعدة نصب المضارع بأن مضمرة جوازا بشروط، منها: أن يكون المصدر المؤول من "أن" وما دخلت عليه معطوفا على اسم صريح خالص مذكور

و

، وقد سبقت في ص287.

ص: 328

شيء قبلها يناسبه1؛ "كمصدر صريح، أو مؤول، وكاسم جامد ليس بمصدر

" فإن وجد في الكلام السابق معطوف عليه مذكور، عطفنا عليه المصدر المؤول الذي بعد "أو" كما في الأمثلة الأولى، وكما في الأمثلة الأخيرة "وهي: لولا شعرك الجيد أو يحرم

-فلا عفو أو أقبل شفاعة

- إلا وحيا أو يرسل رسولا.." وإن لم ذكر في الكلام السابق معطوف عليه تصيدنا من ذلك الكلام اسما جامدا، مصدرا كان أم غير مصدر، وجعلنا المعطوف عليه. والأنسب أن يكون مصدرا -لا اسما جامدا محضا؛ ليكون المعطوف والمعطوف علهي متناسبين، في المصدرية.

ويقول النحاة: إن تصيد هذا المصدر -المعطوف عليه- من الكلام الذي قبل "أو" لا يحتاج في تلمسه إلى ضابط معين، ولا إلى طريق خاصة. وكل ما يشترط فيه أن يكون ملائما المعنى، مسايرا السياق الصحيح2

وفيما يلي بعض الأمثلة السالفة الخالية من ذكر المعطوف عليه صراحة، ثم اشتمالها عليه بعد تصيده:

1 يجب أن يكون المعطوف عليه مذكورا -في الأغلب- وجامدا حين يكون نصب المضارع بأن مضمرة جوازا؛ "طبقات لما تقدم إيضاحه في ص287"، ولا يصح في حالة نصب المضارع أن يكون المعطوف عليه فعلا أو مشتقا يشبهه؛ إذ لو كان المصدر المؤول -وهو بعد التأويل اسم صريح- معطوفا على فعل أو ما يشبهه لاختلف الأمر بين التابع والمتبوع في أمور؛ أهمها الزمن، والذات، ذلك لأن المصدر المؤول بعد إتمام تأويله يدل على المعنى المجرد الخالي من الزمن ومن الذات، في حين يدل الفعل على الزمن، وتدل المشتقات العامة على الزمن، ومعه صاحب المعنى "أي: الذات".

وقد أشرنا إلى صحة وقوع المعطوف عليه اسما جامدا محضا "أي: اسما جامدا غير مصدر" نحو: لولا شعرك الجيد أو يحرم أولادك عائلهم

فالمصدر المؤول من "أن" المضمرة بعد "أو" ومن الجملة المضارعية بعدها معطوف على: "شعر" وهو اسم جامد محض. والتقدير: لولا شعرك، أو حرمان أولادك.. ومثله قول الشاعر:

ولولا رجال من رزام أعزة

وآل سبيع، أو أسوءك -علقما

"رزام: اسم قبيلة. وعلقم: منادى مرخم، وأصله يا علقمة

" فالمصدر المؤول من أن المضمرة بعد "أو" ومن الجملة المضارعية بعدها عطوف على: "رجال" ورجال اسم جامد محض. والتقدير: لولا رجال أو إساءتك

2 اكتفى ابن مالك ببيت واحد في الكلام على "أو" السالفة؛ هو:

كذاك بعد: "أو"، إذا يصلح في

موضعها: "حتى"، أو: الا" -أن خفي

=

ص: 329

_________

= وفي البيت تقديم وتأخير. والأصل: "أن" خفى كذلك بعد "أو" إذا يصلح في موضعها حتى، أو إلا".

يريد: الحرف المصدري "أن" خفي -بمعنى: أضمر ولم يظهر- خفاء بعد "أو" مثل ذاك الذي وقع بعد لام الجحود؛ من ناحية أنه خفاء وإضمار واجب؛ فلا يصح ظهور "أن" فيه بعد "أو" كما لا يصح ظهورها بعد لام الجحود. بشرط أن تكون: "أو" بمعنى: "حتى" أو "إلا"؛ فيصح إحلال أحد هذين الحرفين في موضعها.

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- يجري على المضارع المنصوب بأن المضمرة بعد: "أو" جميع الأحكام الخاصة بالمضارع المنصوب بأن المصدرية1 من السبك، والفصل، وعدمه

ب- صرحنا فيما سبق أن: "أو" التي بمعنى: "حتى" أو" إلا" هي حرف عطف، ولا يصح إعرابها حرف جر، أو حرف استثناء تبعا للحرف الذي يصلح في موضعها؛ فهي بمعناه فقط، وليست مماثلة له في إعرابه؛ فلكل منهما إعرابه الخاص به. وهو يخالف إعراب الآخر. ولهذا السبب وجب إعراب المصدر المؤول بعد "أو" معطوفا على شيء قبلها، ولا يصح إعرابه مجرورا، أو مستثنى، برغم أن "أو" بمعنى:"حتى" الجارة أو "إلا" الاستثنائية.

ح- قد تصلح "أو" السالفة لأن تكون بمعنى: "حتى" أو "إلا" عند عدم قرينة تعينها لأحدهما؛ ولكن يختلف المعنى في كل صورة؛ نحو: لألزمنك أو تسدد لي ديني. فيصح أن تكون "أو" هنا بمعنى "حتى"، أو "إلا" والمعنيان مختلفان.

د- من الملاحظ أن "أو" السالفة تقع بين معنيين مختلفين؛ أحدهما قبلها، والآخر بعدها، والأول محقق الوقوع أو مرجحة حتى يقع ما بعدها، وحصول الثاني ووقوعه مشكوك فيه غالبا؛ فقد يقع أو لا يقع. فإذا أريد الدلالة على أن ما قبلها وما بعدها متساويان في الشك وجب توجيهها للعطف المجرد، ووجب رفع المضارع بعدها؛ ليكون الرفع شارة وعلامة على هذه المساواة في الشك. بخلاف ما لو أريد الدلالة على أن الأول محقق الوقوع أو مرجحه، وأن الثاني وحده هو المشكوك في حصوله؛ فيجب نصب المضارع حتما بأن مضمرة وجوبا بعد "أو"؛ ففي مثل: أسافر يوم الجمعة أو أستريح

-يصح رفع

1 سبقت هذه الأحكام في ص282.

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

المضارع: "أستريح" على إرادة أن السفر والاستراحة متساويان من ناحية وقوعهما أو عدم وقوعهما؛ فكلاهما مشكوك في حصوله، غير مقطوع بواحد منهما. ويصح نصب المضارع "أستريح" على إرادة أن الأول -وهو: السفر- محقق الوقوع والحصول، أو كالمحقق، وأن الراحة مشكوك فيها؛ فقد تحصل أو لا تحصل، وأن المعنى أسافر حتى أستريح، أو لا أن أستريح. فالسفر ليس موضع شك؛ وإنما الشك في الاستراحة؛ إذ لا يدري المتكلم أتتحقق أو لا تتحقين؟

ومثل المساواة في الشك المساواة في غيرها من المعاني الأخرى التي تدل عليها "أو" المتجردة للعطف المحض1.

لهذا كان استعمال: "أو" في معناها الصحيح محتاجا إلى يقظة ودقة فهم

1 تقدمت هذه المعاني عند الكلام على "أو" العاطفة في باب العطف "ج3 م118".

ص: 332

الأداة الثالثة 1: "حتى" الجارة للمصدر المنسبك من "أن" والجملة المضارعية:

1 وتنطبق عليها الأحكام العامة المشتركة بين الأدوات الخمس -وهي الأحكام التي في رقم 2 من هامش ص317.

ولا تتضح "حتى" الجارة على الوجه المحمود إلا بعرضها مع بقية أنواع "حتى" عرضا مناسبا؛ يكفي لتمييز كل نوع من غيره.

أنواع "حتى" ثلاثة؛ أولها: العاطفة؛ وهي حرف عطف يفيد بلوغ الغاية في خمسة، أو شرف، أو قوة، أو ضعف، أو نحو هذا من كل ما يفيد كمالا أو نقصا، حسيين أو معنويين، أو يدل على حسن أو قبح كذلك. ومن أحكام هذا النوع أنه لا يدخل على الحروف، ولا يعطف المصادر المؤولة، ولا الضمائر -في الرأي الراجح- ولا الأفعال، ولا الجمل الفعلية ولا الاسمية، وإنما يعطف الاسم الظاهر الصريح فقط.

"وقد سبق تفصيل الكلام على هذا النوع، وعلى أحكامه في باب العطف ج3 ص562 م118".

ثانيها: "حتى الابتدائية" وتفيد الدلالة على: "الغاية" ولو بتأويل أو تقدير، ولكنها لا تدخل إلا على جملة جديدة؛ مستقلة عن الجملة التي قبلها في الإعراب، مع اتصالهما معنى بنوع من الاتصال؛ كالتي في قول الشاعر:

كريم يميت السر؛ حتى كأنه

إذا استخبروه عن حديثك جاهله

- و"كأن" من الحروف الناسخة التي لها الصدارة في أول جملتها.

وهذا هو المراد من قول "الخضري" عند كلامه عليها في باب العطف ج2: "إنها هي الداخلة على جملة مضمونها غاية لشيء قبلها"؛ أي: نهاية وآخر له؛ فتدخل على الجملة الاسمية نحو: "الصناعة مفيدة، حتى فائدتها الخلقية كبيرة".

وتدخل على الجملة الفعلية الماضوية؛ نحو قول المتنبي يصف جيش الأعداء:

وضاقت الأرض؛ حتى كان هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

ونحو: "ارتفع صوت الحرية في القرآن العشرين حتى ملأ الأسماع، ودوى في المشارق والمغارب حتى زلزل حصون الاستبداد".

وتدخل على الجملة المضارعية بشرط أن يكون زمن المضارع حالا حقيقية، أو مؤولة بالحال، وفي الصورتين يجب رفع المضارع.

فالحال الحقيقية: "هي التي يكون زمنها هو زمن التكلم". وفي أثنائه يتحقق معنى المضارع؛ بحيث يكون الوقت الذي يجري فيه الكلام هو الوقت الذي يقع فيه -أول مرة- معنى هذا المضارع. أي: أن الزمن الحالي يجمع بين كلام المتكلم، وحصول معنى المضارع أول مرة -بالنسبة لهذا الكلام الذي يحوي المضارع، نحو:"أُصغي الآن للخطيب حتى أسمع وأفهم كلامه". "طبقا للبيان الآتي في ج من ص338".

والمؤولة بالحال نوعان: =

ص: 333

والكلام عليها -هنا- يتجه إلى ناحية معناها، وعملها، وحكم المضارع بعدها.

= أ- إما مؤولة عن ماض: وهي التي يكون زمنها قد فات قبل التكلم، ومعنى المضارع قد وقع وانتهى، وتم كل هذا قبل النطق بالجملة المشتملة على "حتى" مع مضارعها. ولكن المتكلم يتخيل أن ذلك الزمن بما يحويه من معنى المضارع لم ينته، وأنه موجود قائم حين النطق بالجملة. وهذه الطريقة تسمى:"حكاية الحال الماضية""وسيجيء تفصيل الكلام عليها هنا، وفي ج من ص338. حيث نعرف الداعي لها، وأثرها النحوي والمعنوي".

أما علامة هذه الحالة الماضية المحكية فصحة الاستغناء عن مضارعها، وإحلال ماضيه محله فلا يتغير المعنى، ولا يفسد التركيب "كما سيجيء في ص348" وكما يوضحه المثال التالي في:"ب".

ب- وإما مؤولة عن مستقبل؛ وهي التي يقع الكلام ويتحقق دون أن يقع ويتحقق زمنها وزمن مضارعها في أثنائه، أو قبل النطق به. ولكن المتكلم يتخيل أن زمنها قائم وقت الكلام. وعلى هذا لا يصح اعتبار:"حتى" ابتدائية إذا كان معنى المضارع الذي بعدها قد تحقق في زمن انتهى حقيقة، أو أنه سيتحقق في زمن مستقبل حقيقة، بغير تخيل الحال وحكايتها في كل واحدة منهما. فمثال حكاية الحال الماضية التي يتخيل المتكلم وقوعها وقت كلامه -على الرغم من أن زمنها قد فات حقا، وانتهى قبل أن يتكلم- قول المؤرخ:"يقيم الفراعنة المصريون القدماء مسلات ضخمة، حتى يكتبون على جوانبها تاريخهم، ومآثرهم". أي: حتى كتبوا. ومثال الحال المؤولة عن المستقبل: "يأتي الشتاء في الشهر القادم؛ وها هو ذا المطر ينهمر. ويشتد البرد حتى ترتجف منه أعضائي". ومثال الحال الحقيقة: "أقف الآن على شاطئ البحر والشمس منحدرة إلى مغربها حتى أتابع منظر غروبها -هذه الوردة في يدي أرقبها وأشمها، حتى أتمتع بلونها وبطيب رائحتها"- فمتابعة الغروب تتحقق في الزمن الذي ينطبق فيه المتكلم بالجملة المشتملة على "حتى"؛ فزمنهما واحد هو: الحال. كذلك التمتع بطيب الوردة ولونها؛ يقع في الزمن الذي يقع فيه النطق بالجملة المشتملة على "حتى" وهو الزمن الحالي. وفي هذه الأمثلة وأشباهها تعرب "حتى" حرف ابتداء يدل على "الغاية" والجملة بعدها مستقلة في إعرابها لا في معناها -وقد شرحنا في الصفحة التالية المراد من الغاية.

ثالثها: "حتى" الجارة، وهي نوعان:

1-

نوع يجر الاسم الظاهر الصريح "والظاهر: ما ليس ضميرا، والصريح: ما ليس مصدرا مؤولا" ومعناها: الدلالة على الغاية، نحو: قرأت الكتاب حتى الخاتمة. ولا شأن لنا بهذا النوع هنا -"فقد سبق تفصيل الكلام عليه في الجزء الثاني، باب حروف الجر، م90 ص445".

2-

ونوع يجر المصدر المؤول من "أن" المضمرة وجوبا وما دخلت عليه من جملة مضارعية. ومعنى "حتى" إما الدلالة على الغاية، وإما الدلالة على التعليل، وإما الدلالة على الاستثناء، والنوع الجار للمصدر المؤول -وإن سبق مجملا في الموضع السالف- هو موضوع التفصيل في كلامنا الآن. لكن الكوفيين يعتبرون "حتى" حرفا مصدريا ينصب المضارع بنفسه مباشرة، ويجيزون ظهور "أن" المصدرية بعده فتكون للتوكيد اللفظي.

"انظر البيان في "ب" ص350"، "ملاحظة": يصح حذف ما دخلت عليه "حتى" مهما كان نوعها بشرط ألا يكون اسما صريحا مجرورا بها. ومن الأمثلة قول الشاعر وقد ذهب لزيارة شخص:

فلما لم أجدك -فدتك نفسي-

رجعت بحسرة وصبرت حتى

يريد: حتى يأذن الله -مثلا.

ص: 334

أ- فأما معناها فالدلالة على "الغاية"، أو: على "التعليل"، أو: على "الاستثناء".

فتدل على الغاية إذا كان المعنى بعدها نهاية حقيقة لمعنى قبلها ينقضي تدريجا لا دفعة واحدة، ولا سريعا، ويترتب على تحقق المعنى الذي بعدها أن ينقطع المعنى السابق فورا، وأن يتوقف بمجرد تحقق اللاحق وحصوله؛ نحو:"يمتد الليل حتى يطلع الفجر" -"يزداد الحر نهار الصيف حتى تغيب الشمس، ويزداد البرد ليل الشتاء حتى تشرق"- "يسرع القطار حتى يدخل المحطة، والطائرة حتى تدخل حظيرتها"

فامتداد الليل يستمر تدريجا إلى أن يظهر الفجر، وعند ظهوره ينقطع الامتداد ويختفي. وازدياد الحر يدوم إلى أن تختفي الشمس، ومتى اختفت انقطع الازدياد وتوقف

وهكذا بقية الأمثلة ونظائرها مما تقع فيه: "حتى" دالة على الغاية "أي: على نهاية المعنى الذي قبلها، وانقطاعه، بسبب ظهور معنى جديد بعدها، وابتداء حصوله وتحققه"، ولذا يسمونها:"حتى الغائية" أو: "حتى التي بمعنى: إلى": لدلالة كل واحدة منهما على انتهاء ما قبلها بمجرد حصول ما بعدها. ولا بد أن يكون المعنى السابق من الأمور التي تنقضي شيئا فشيئا -كما نرى- فلا ينقضي مرة واحدة، ولا ينقطع بغير تمهل.

والضابط الذي تتميز به "حتى الغائية" من غيرها هو صحة حذفها، وإحلال "إلى"1 محلها من غير أن يفسد المعنى، أو التركيب.

1 إنما تدل "إلى" على الغاية بالتفصيل الذي سبق عنها في حروف الجر -ج2 م90 ص366- وعند التقدير نقول: "إلى أن

" فيزاد بعدها الحرف "أن"؛ لمجرد الإيضاح والتفسير؛ لأنه الناصب للمضارع. ويوضح هذا ما يجيء -تحت عنوان: "ثالثها"، في هامش ص337- خاصا بالكلام على "حتى" بمعنى "إلا" فكأن الذي يحل محل "حتى" هو: "إلى أن". لكن لا يصح إظهار "أن" بعد "حتى" مطلقا.

ص: 335

وتدل على "التعليل" إذا كان ما قبلها سببا وعلة فيما بعدها1؛ نحو: "نقرأ الصحف حتى نعرف الشئون الداخلية والخارجية، ونستمع إلى الإذاعة حتى نعلم ما يدور في البلاد المختلفة"؛ فقراءة الصحف هي السبب في معرفة الشؤون الداخلية والخارجية، والاستماع إلى الإذاعة هو السبب في العلم بما يدور في البلاد المختلفة. فما قبل:"حتى" هو العلة والسبب فيما بعدها2؛ ولهذا، تسمى:"التعليلية".

ومن الأمثلة أيضا؛ "تحرص الأمم على نشر التعليم حتى تنهض وتقوى، وتتنافس في ميادين الصناعة حتى تفوز بأكبر قسط من مزاياها، وتتسابق إلى كشف الكواكب حتى تستأثر بما فيها"

وتدل على "الاستثناء" -كإلا- إذا لم تصلح للدلالة على الغاية أو على التعليل؛ فلا بد من القطع بعدم صلاحتها "للغاية، أو للتعليل" قبل جعلها للاستثناء الخالص. نحو: "لا يصلح الوالي للحكم حتى يلتزم العدل، ويحرص عليه"

والتقدير: لا يصلح الوالي للحكم إلا أن يلزم العدل". "فحتى" هنا بمعنى: "إلا" -وعند التقدير نقول معناها: "إلا أن"، فتظهر "أن" بعد "إلا" في حالة التقدير فقط، لمجرد الإيضاح، ولا يصح إظهار بعد "حتى"- ولا تصلح أن تكون "غائية" ولا "تعليلية"؛ إذ لو كانت "غائية" لوجب أن ينقضي المعنى قبلها تدريجيا -كما سبق- والنفي من المعاني التي تنقضي دفعة واحدة؛ لأنه حكم بالسلب على أمر، والحكم بالسلب ينصب سريعا، دفعة واحدة؛ لا تدريجا -في الصحيح3

1 أهذا يوافق قولهم: إن "حتى التعليلية" بمعنى "كي التعليلية" التي يكون ما بعدها علة فيما قبلها؟ أم أن المسألة اعتبارية؟ المراجع في هذا مضطربة.

2 لأن السبب متقدم في زمنه على المسبب حتما.

3 وهنا اعتبار آخر؛ هو أن الكلام قبل "حتى" منفي في هذه الصورة؛ والمنفي لا يزول معنى نفيه إذا كانت "حتى" للغاية وتحققت الغاية. فعند تحققها يبقى معنى النفي قبل "حتى" على حاله. ويترتب على بقائه فساد المعنى؛ إذ يكون التقدير: لا يصلح الوالي للحكم إلى أن يلتزم العدل، فإذا تحقق التزامه العدل لا يصلح للحكم. =

ص: 336

ولو كانت "تعليلية" لوجب أن يكون ما قبلها سببا وعلة فيما بعدها. وهذا لا ينطبق على ما نحن فيه؛ إذ ليس عدم صلاح الوالي للحكم هو السبب في أنه يلتزم العدل.

ومن أمثلة "حتى" التي بمعنى: "إلا" قول علي رضي الله عنه: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"1.

وكذلك قول شوقي:

وما السلاح لقوم كل عدتهم

حتى يكونوا من الأخلاق في أهب2

...........................................3

.....................................

= وبهذه المناسبة نشير على أهم الأحكام الخاصة "بحتى الاستثنائية"؛ وقد نبه العلماء إليها؛ لدقتها، وخفائها على كثير:

"أولها" أن "حتى" الاستثنائية تسبق -كثيرا- بنفي؛ يجعل معنى الجملة التي قبلها منفيا.

"ثانيها" أن معنى الجملة المشتملة على هذا النفي يظل على حاله عند التقدير مستمرا ومنفيا لا ينقطع استمراره ونفيه بوقوع ما بعدها، مهما كانت الأحوال. والسبب في هذا أن الاستثناء الذي تتضمن معناه، وتدل عليه "هو استثناء منقطع" -في الأعم الأغلب- "أي: لا يكون فيه المستثنى. من جنس المستثنى منه، فهي بمعنى:"لكن" ساكنة النون". كالذي هنا، وقد يكون متصلا أحيانا كالذي في يقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فهي للاستثناء المتصل من عموم الأحوال.

"ثالثها" أن "حتى" تتضمن معنى "إلا" الخالية من "أن" بعدها. أما "أن" التي تظهر في تأويل الجملة فهي "أن" المصدرية المضمرة وجوبا بعد "حتى". فإذا وضعنا "إلا" مكان "حتى" ظهرت "أن" المضمرة؛ إذ لو كانت "حتى" بمعنى: "إلا" و"أن" معا لتكررت "أن" عند التأويل، وصار الكلام: لا يصلح الوالي للحكم، "إلا أن أن" يلتزم العدل، بذكر "أن" مرتين؛ إحداهما التي كانت مضمرة وجوبا مع "حتى" والأخرى هي المزعومة خطأ بعد "إلا".

1 استقامة اللسان: ترك الغيبة والنميمة، وكل لفظ يؤذي.

2 جمع: إهاب، بمعنى: جلد.

3 ومن الأمثلة أيضا قول المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراقَ على جوانبه الدم

وقول الآخر:

ولا ألين لغير الحق أتبعه

حتى يلينَ لضرس الماضغ الحجر

=

ص: 337

ب- وأما عملها: فالجر باعتبارها حرف جر أصلين بشرط أن يكون المضارع بعدها منصوبا بأن المصدرية، المضمرة وجوبا.

وهذا النوع الجار من أنواع "حتى""وهو الذي يعنينا هنا" لا يجر إلا المصدر المنسبك من "أن" المصدرية مع صلتها الجملة المضاريعة. ففي مثل: "الصبر يحمي النفس الحزينة، حتى تفيء إلى السكينة، يكون الإعراب: "حتى" حرف جر "تفيء" فعل مضارع، منصوب "بأن" المضمرة وجوبا بعد "حتى". والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره: "هي". والمصدر المسؤول من "أن" وما دخلت علهي من الجملة المضارعية مجرور "بحتى". والتقدير: حتى إفاءتها

وهذا الجار ومجروره متعلقان بالمضارع: "يحمي"

وهي تعمل الجر دائما ولو كان معناها: "الاستثناء"؛ فشأنها في الاستثناء والجر معا كشأن "خلا، وعدا، وحاشا"، وهذه الثلاثة حروف جر، ومعناها: الاستثناء.

ح- وأما حكم المضارع بعدها: فتارة يجب رفعه؛ فتكون ابتدائية1، وتارة يجب نصبه بأن مضمرة وجوبا، فتكون جارة للمصدر المؤول بالطريقة التي أوضحناها، وتارة يجوز فيه الأمران؛ فتكون ابتدائية عند رفعه، وجارة عند نصبه بالحرف المصدري "أن". وفي كل أحوال المضارع لا يجوز أن يفصل بينه وبين "حتى" فاصل مذكور أو مقدر إلا "أن" المضمر وجوبا2 في حالة نصبه.

1-

فيجب رفعه في كل حالة تستوفي ثلاثة شروط مجتمعة3:

= وكذلك:

لا تسدين إلى عارفة

حتى أقوم بشكر ما سلفا

"والعارفة: المعروف، وإسداؤها: تقديمها وبذلها".

1 سبق معنى "الابتدائية" في هامش ص314.

2 ويجيز النحاة "كما أشرنا في رقم 2 من هامش ص317" الفصل بينهما بالظرف، أو الجار مع مجروره، أو بالقسم، أو بالمفعول، أو بالشرط الذي فعله ماض. وهذا الرأي حسن؛ إذ فيه تيسير.

3 فيما يلي الشرط الأول، أما الثاني والثالث ففي ص343.

ص: 338

الشرط الأول: أن يكون زمن المضارع للحال حقيقة أو تأويلا، والحال الحقيقية -كما سلف-1 هي التي يقع فيها الكلام؛ فزمنها زمن النطق بالكلام المشتمل على "حتى". أي: أن الزمن الذي يحصل فيه الكلام هو نفسه الزمن الذي يجري فيه -أول مرة-2 معنى المضارع التالي لها. فلا بد أن تجمع الحال الحقيقية بين الأمرين؛ وهما: الكلام المشتمل على "حتى"، وحصول معنى المضارع الذي يتلوها؛ بحيث يتكلم الناطق بها وبجملتها في وقت تحقق معنى المضارع وحصوله أول مرة؛ نحو:"ينساب هذا الماء بين الزروع حتى تشرب" فالشرب -وهو معنى المضارع التالي: "حتى"- يتحقق ويحصل فعلا أول مرة في الوقت الذي يتكلم فيه المتكلم بالجملة؛ فزمن النطق والشرب واحد؛ هو: الزمن الحالي، وهو الذي يجمع بينهما. ومثل:"يسمع الطبيب دقات القلب الآن حتى يعرف أمره. ويجس نبض المريض حتى يسترشد به في معرفة الداء". بشرط أن يقال هذا في وقت استماع الطبيب للدق، وجس النبض. ومثل:"أشاهد العواصف تشتد الساعة حتى تقتلع الأشجار، وتزداد شدة وعنفا حتى تهدم البيوت، وتغرق السفن، وتسقط الطائرات"

بشرط أن يكون الزمن الذي يتحقق فيه معنى الأفعال المضارعة التالية "حتى" في كل ما سبق هو زمن النطق بالكلام، فكأن الناطق بالمضارع الحالي الزمن يقول: الأمر الآن كذا وكذا، أي: شأنه في الحال القائمة كذا وكذا

فالمضارع في الأمثلة السالفة -وأشباهها- مرفوع وجوبا3. و"حتى" حرف ابتداء، يدل على أن الجملة بعده جديدة مستقلة عما قبلها في الإعراب دون المعنى؛ إذ لا بد من اتصالها فيه -كما عرفنا.

ولا مانع أن يستمر معنى المضارع الحالي الزمن؛ فيمتد وقته بعد انتهاء

1 في هامش ص333.

2 أوضحنا في هامش ص333 المراد من أنه "أول مرة"، بأن يتحقق المعنى وقت الكلام فعلا، وأنه لم يكن قد تحقق قبله، أما إذا تحقق قبله وأريد إنزاله منزلة ما يتحقق وقت الكلام فإنه يكن حالا مؤولة -كما سيجيء في الصفحة التالية.

3 سيجيء في ص349 أنه لا يصح نصبه بأنه المضمر؛ لأنها تخلص زمن المضارع للاستقبال، والاستقبال يعارض الحال..

ص: 339

النطق بالجملة المشتملة على: "حتى" وإنما الممنوع أن ينقضي معناه قبل النطق بكلمة "حتى"؛ فيكون ماضي المعنى. أو أن يتأخر بدء تحققه إلى ما بعد النطق بها والفراغ منها؛ فيكون تحققه في زمن مستقبل حقيقي بالنسبة لها؛ إذ يتحقق بعد الانتهاء من التكلم بجملتها.

أما الحال المؤولة "أو: المحكية" فلها صورتان، لا بد في كل منهما من قرينة تدل على حكايتها.

الصورة الأولى: الزمن الماضي المؤول بالحال، وهو الذي يكون فيه معنى المضارع قد تحقق وانتهى فعلا قبل النطق بالجملة، وكان المناسب أن يذكر الفعل بصيغة الماضي، ولكنه يعاد ذكره بصيغة المضارع بقصد حكاية الحال1 لماضية التي ترشد إليها القرينة -بالطريقة التي شرحناها2..

وفي هذه الصورة التي يكون فيها زمن المضارع حالا1 ماضية ولكنها مؤولة -يجب رفعه، وتكون "حتى" ابتدائية؛ كما وجب رفعه في الزمن الحالي حقيقة وكانت فيه "حتى" ابتدائية أيضا.

ومن أمثلة الحال الماضية المؤولة أن يقول أحدنا اليوم "هذا زهير الشاعر الجاهلية، يراجع قصيدته حتى تجود بعد حول في مراجعتها؛ فيذيعها، ولذا تسمى قصائده: "الحوليات"

". فمعنى المضارع -وهو الجودة بعد الحول- أمر فات حقا قبل النطق بكلمة: "حتى" وبجملتها. كفوات المراجعة. وزمن الأمرين في حقيقته ماض، ولكن التحدث عنهما بصورة المضارع -قصد به حكاية ما مضى، وإرجاع ما فات، على تخيل أنه يقع الآن -في وقت الكلام- أو على تخيل أن المتكلم قد ترك زمانه الذي يعيش فيه، ورجع إلى الزمن السالف الذي يتحقق فيه المعنى أمامه ساعة النطق، وكأنه من أهل ذلك العصر القديم. ووجود الرفع هنا يعتبر الدليل على الحكاية3، وعلى ما يترتب عليها من أثر معنوي.

1 و1 أي: الحالة، أو: الحادثة.

2 في هامش ص333. وهناك -وكذا في ص348- العلامة التي تدل على أن الماضي محكي الدلالة الزمنية.

3 في هامش الصفحة التالية ما يزيد "حكاية الحال الماضية" وضوحا. أما أثرها المعنوية الذي ذكرناه فيزداد بيانا بما في رقم 1 من هامش ص347.

ص: 340

ويسمى هذا الاتجاه: "حكاية الحال الماضية"، أي: إعادة حالة سبقت وحادثة وقعت، وترديد قصتها وقت الكلام، وكأنها تحصل أول مرة ساعة النطق بها، مع أنها -في حقيقة الأمر- قد حصلت من قبل، وانتهى أمرها قبل ترديدها. وهذه الصورة الغالبة في الحكاية.

والغرض من "حكاية الحال الماضية" هو الإشعار بأهمية القصة، وبصحة ما تضمنته من معنى قبل "حتى" وبعدها؛ لادعاء أنها تقع الآن -في وقت الكلام- وأن ما بعد "حتى" مسبب عما قبلها، وغاية له، فيثور الشوق إلى سماعها ويمتزج السامع بجوها.

ومن الأمثلة أيضا: "انظر إلى الفراعين يبنون قبورهم في حياتهم منحوته في الصخر الأصم حتى تستريح نفوسهم لصلابتها وقوتها، وربما أخفوها حتى يأمنون الأيدي الغابثة بها

" فزمن بناء القبور قد انتهى وانقضى، وكذلك الاستراحة، والإخفاء، والأمن

فكان المناسب ذكر هذه المعاني بصيغة الماضي لا المضارع، ولكن جيء بالمضارع على سبيل "حكاية الحال الماضية"؛ ليكون من وراء ذلك توجيه الأنظار إلى القصة الهامة العجيبة، وأنها صحيحة؛ كأنها تقع الآن أمامنا ساعة التكلم بما يلابسها من غرائب؛ وكأن التكلم يطلب إلى السامع التنبه إلى ما يحيط بها، وأن يستعيد صورتها كاملة ويعيش -ساعة سماعها- في جو يشابه الجو الحقيقي الذي ولدت فيه أول أمرها، دون الاكتفاء بالسماع المجرد. أو يريد منه أن ينتقل بخياله إلى العصر الحقيقي الذي وجدت فيه، ليشاهد وقت الكلام نشأتها، وتحققها هناك. فالتعبير عن القصة الماضية بصيغة المضارع و"الحال المحكية" يجعل القصة الماضية بمنزلة ما يحصل أمامنا الآن، أو يجعلنا بمنزلة من تقدم بهم الزمان فشاهدوها في وقتها الحقيقي السالف. والأمران على سبيل التخيل المحض، ولهذا يعتبر زمن المضارع حاليا تأويلا1، لا حقيقة، ويجب

1 راجع ج2 من الصبان والخضري، باب:"إعمال اسم الفاعل"؛ حيث بيان الأمرين، وطريقتي الحال الماضية. ونزيدهما وضوحا؛ فنقول: إذا كان المعنى الذي بعد "حتى" قد وقع وانتهى زمنه قبل النطق بالجملة التي تشتمل عليها، وأريد التعبير عنه فالتعبير بالفعل الماضي هو المناسب له، والأليق. غير أن هناك بعض دواع بلاغية ومعنوية أوضحناها تدعو -أحيانا- إلى ترك التعبير بالماضي وإلى العدول=

ص: 341

رفعه مراعاة لهذه الحالية التأويلية. ولا بد في حكاية الحالة هذه من قرينة تدل على الحكاية.

والصورة الثانية: -وهي صورة أقل استعمالا من الأولى- ويراد بها حكاية الحالة المستقبلة التي لم تقع بعد، والتعبير عنها بما يدل على أنها تقع الساعة، وتحصل الآن "أي: وقت الكلام" مع أنها لم تقع ولم تتحقق قبل الكلام، ولا في أثنائه.

والغرض منها: إفادة القطع بمجيئها، وأنها آتية لا محالة، فهي بمنزلة ما وقع وتحقق، أو يقع ويتحقق في أثناء الكلام. ولا بد في هذه الحكاية من قرينة تدل عليها. ومن أمثلتها قول أحدهم:"ويل للمشرك يوم القيامة، إني أراه الآن يتلفت حتى يجد الشفيع ولا شفيع يومئذ، وأمعه يصرخ حتى يسمع النصير، ولا نصير".

= عنه للمضارع الذي يقوم -مع القرينة- مقامه تأويلا وتنزيلا. وهذا يسمى: "حكاية الحال الماضية". وتقوم على أحد اعتبارين.

أولهما: تخيل المتكلم أن المعنى الماضي الذي حصل وتحقق قبل النطق بالكلام -لم يحصل ولم يتحقق فيما مضى، وإنما يحصل ويتحقق وقت الكلام، أي: في الزمن الحالي؛ فكأن هذا المعنى يحصل ويتحقق أمامه الآن؛ لهذا يعبر عنه بفعل مضارع يدل على الحال.

وثانيهما: أن يتخيل -أيضا- أنه لا يعيش في الزمن الذي يتكلم فيه، إنما رجع به زمنه إلى الوراء؛ ونقله من عصره الحاضر القائم إلى عصر مضى، ووقع فيه ذلك المعنى، فكأن المعنى يقع أمامه ويتحقق في الزمن الذي ينطق ويتكلم فيه بذلك المعنى؛ وهو:"الحال" ويجيء بالمضارع ليعبر عن هذا المعنى، وزمنه، بدلا من الماضي.

فحكاية الحال الماضية قائمة تخيلا؛ إما: على تقديم المتكلم ونقله من زمنه الذي يعيش فيه إلى زمن سبق، وتحقق فيه المعنى، وإما: على تأخير زمن المعنى إلى عصر المتكلم. وفي الحالتين يستعمل المضارع بدل الماضي؛ للدلالة على أن زمن المعنى وزمن التكلم واحد؛ هو: الزمن الحالي. وكل هذا على سبيل التخيل، والتأول، والحكاية؛ فتحدث الآثار المشار إليها هنا وفي ص346. ويوضح الاعتبارين السالفين المثال الآتي يقوله أحدنا اليوم.

دعا الرسول عليه السلام قومه إلى طاعة ربه، وإلى ترك المرذول من عادات الجاهلية، فبذل الجهد في هذا السبيل، واحتمل الأذى من قومه، وصبر على ما لقيه من العنت والاضطهاد.

فهذه قصة وقع معناها، وتحقق فعلا قبل النطق هنا؛ فالتعبير عنها بالفعل الماضي هو المناسب لها. لكن المتكلم قد يعدل عنه إلى التعبير بالمضارع؛ لسبب بلاغي ومعنوي -كما أشرنا- فيقول:"وهو يتخيل أن الزمن تقدم به إلى عصر النبي، فهو يشاهدها فيه، أو أنها تأخرت إلى عصره فهو يشاهدها كذلك، وفي الحالتين يكون زمن مشاهدتها والتكلم بها واحدا، هو: الزمن الحالي": إن رسولنا يدعو قومه

ويبذل الجهد

ويحتمل الأذى

ويصبر

ص: 342

الشرط الثاني: من شروط رفع المضارع بعد "حتى"1

: أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها؛ كالأمثلة السالفة -ليقع الربط بين ما قبلها وما بعدها-2 فإن لم يكن مسببا عما قبلها لم يصح رفع المضارع، ووجب اعتبارها جارة ينصب بعدها "بأن" مضمرة؛ وجوبا -نحو:"يقضي هؤلاء الزراع نهارهم في العمل حتى تغرب الشمس". فغروب الشمس ليس مسببا عن قضاء النها رفي العمل، فيجب نصب المضارع:"تغرب"، ولا يجوز رفعه

؛ ونحو: "يحرص هذا البخيل على ماله حتى يموت"، فالموت ليس مسبا عن البخل؛ ولهذا يجب نصب المضارع

الشرط الثالث: أن يكون ما بعد "حتى" فضله "أي: تم الكلام قبله من الناحية الإعرابية كالأمثلة المتقدمة" لا جزءا أساسيا في جملة لا تستغني عنه في إتمام ركنيها الأصليين؛ "فلا يكون خبرا لمبتدأ3، أو خبرا لناسخ4

،

" فإن لم يكن فضلة لم يصح الرفع، ووجب النصب بأن مضمرة وجوبا بعد "حتى"، نحو: "عملي حتى تغرب الشمس -كان عملي حتى تغرب الشمس- إن عملي حتى تغرب"

فالمصدر المنسبك من "أن" المضمرة وما دخلت عليه مجرور بـ"حتى" والجار والمجرور خبر المبتدأ، أو خبر الناسخ

"ملاحظة": علامة كونه حالا أو مؤولا به صحة الاستغناء عن "حتى" مع وضع "الفاء" الداخلة على كلمة: "الآن" مكانها؛ فلا يتأثر المعنى، ولا الأسلوب5

ويجب حينئذ أن يكون ما بعدها فضلة. ومسببا عما قبلها.

1 سبق الشرط الأول في ص339.

2 وهذا الربط معنوي بين الجملتين، يقوم على أساس السببية والمسببية؛ لعدم وجود رابط لفظي بينهما. أما في حالة نصب المضارع فإن الربط اللفظي موجود؛ وهو تعلق الجار والمجرور "أي: حتى وما دخلت عليه" بالعامل قبلها.

3 لأن الجار مع مجروره "كحتى مع مجرورها" لا يكون جزءا أساسيا في جملة إلا حين يكون خبرا لمبتدأ، أو: لناسخ، أو: بمنزلة الخبر، أو: يكون نائب فاعل.

4 الناسخ يشمل: "ظن وأخواتها" مما ينصب مفعولي أصلهما المبتدأ والخبر. وإنما وجب أن يكون ما بعدها فضلة؛ لأن "حتى" الابتدائية لا تدخل إلا على جملة مستقلة في إعرابها عما قبلها -كما أوضحنا- فإذا جاء ما بعدها غير فضلة كان جزءا أساسيا مما قبلها فلا تكون ابتدائية.

5 بأن نحذف كلمة "حتى" ونضع مكانها كلمتان: هما "الفاء""والآن" أي: فالآن.

ص: 343

2-

ويجب نصب المضارع في كل حالة من الحالات الثلاث السالفة التي لا تصلح للرفع؛ وهي:

أ- أن يكون زمنه -وقت التكلم- ليس حالا، حقيقة ولا تأويلا، بأن كون زمنه ماضيا1 خالصا، أو مستقبلا خالصا، فمثال الماضي المحض؛ "في سنة عشرين من الهجرة تم فتح مصر على يد العرب حتى ينقدوها من ظلم الرومان"

فالفتح والإنقاذ وقعا في زمن خالص المضي، وبقيا هنا على حالهما من غير تأويل زمنهما بالحال. ومثل:"بنى العباسيون مقياسا للنيل بجزيرة الروضة2 حتى يعرفوا زيادته ونقصه".

ومثال المستقبل الحقيقي: "في الشهر القادم يزور بلادنا وفود من العلماء الأجانب حتى يطلعوا على مظاهر الحضارة والتقدم عندنا، وسننتهز فرصة وجودهم للانتفاع بعلمهم وتجربتهم حتى تقوم مشروعاتنا العمرانية الجديدة على أسس علمية وفنية صحيحة"؛ فالمراد: لكي يطلعوا في المستقبل "الشهر القادم" على مظاهر الحاضرة، ولكي تقوم مشروعاتنا في المستقبل على أسس علمية بعد زيارتهم، وكذلك بعد انتهاز الفرصة للانتفاع بهم. والزمن المستقبل هنا هو الزمن الاتي حقا، ولا يكون مجيئهم إلا بعد انتهاء الكلام، وقول الشاعر:

يا ليت من يمنع المعروف يمنعه

حتى يذوق رجال غب ما صنعوا

أي: لأجل أن يذوق أولئك الرجال في المستقبل غب ما صنعوه. والمستقبل

1 الفرق بين المضارع الذي يكون زمنه خالص المضي "أي: باقيا على مضي زمنه" والمضارع الذي كان أصله زمنه ماضيا ثم صار للحال حكاية وتأويلا -وهو أن الأول حكمه النصب، وأن الكلام قبل "حتى" يفيد الإخبار بوقوع معناه وتحققه، وأن معنى الكلام بعدها مترقب الحصول في المستقبل، ينتظر تحققه ووقوعه، من غير أن يفيد الجزم بتحققه ووقوعه. أما الثاني فحكمه الرفع، والمعنى بعد "حتى" مسبب عن المعنى قبلها، وغاية له، وكلاهما واقع متحقق، غير أن المعنى قبلها واقع متحقق على سبيل الحقيقة، والمعنى بعدها واقع على سبيل حكاية الحال، مع إفادة أنه مسبب عن الأول "ولهذا إيضاح في ص348".

وعلى المتكلم أن يلاحظ عند ضبط المضارع بالرفع أو النصب ما يترتب على نوع الضبط من الآثار المعنوية؛ فيختار النوع الذي يؤدى للمعنى المراد.

2 في الجنوب الغربي من مدينة القاهرة الحالية.

ص: 344

هو الزمن الذي يأتي بعد أن يذوقوا المنع1

ب- أن يكون ما بعد "حتى" غير مسبب عما قبلها؛ فينصب المضارع وجوبا في هذه الصورة؛ نحو: "أصوم يومي هذا حتى يجيء المغرب"، فمجيء المغرب ليس مسببا عن الصيام. ونحو:"يتسابق السباحون حتى ينتهي الوقت"، فانتهاء الوقت ليس مسببا عن التسابق

ح- أن يكون ما بعد "حتى" غير فضلة. فينصب المضارع وجوبا إذا كان ما بعدها جزءا أساسيا في الإعراب من جملة قبلها

؛ نحو: سهري حتى أنجز عملي. أو: كان سهري حتى أنجز عملي

أو: إن سهري حتى أنجز عملي

فكلمة: "حتى" في الحالات الثلاث حرف جر أصلي، والمضارع بعدها واجب النصب "بأن" مضمرة وجوبا. و"أن" وما دخلت عليه من المضارع وفاعله في تأويله مصدر مجرور "بحتى"، والجار والمجرور متعلقان بعامل مناصب في الكلام.

أما معناها في هذه الحالات فخاضع لما يناسب كل حالة؛ فقد يكون الدلالة على الغاية، أو الدلالة على التعليل. أو على الاستثناء، طبقا لما شرحناه2، ولا مانع أن تجيء "حتى" صالحة للدلالة على أكثر من معنى واحد، عند فقد القرينة التي تعين معنى دون غيره.

3-

ويجوز رفع المضارع ونصبه إذا كان معناه مستقبلا بالنسبة للمعنى الذي قبل: "حتى" بأن يكون المعنى بعدها قد تحقق قبل الزمن الحالي كما تحقق المعنى قبلها؛ فكلاهما قد وقع وتحقق فعلا قبل النطق بالكلام الذي قبلها والذي بعدها

غير أن تحقق معنى المضارع تأخر عن تحقق المعنى السابق عليها؛

1 ومما يصلح للمستقبل الحقيقي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

2 في ص335 وما بعدها.

ص: 345

فهو مستقبل بالنسبة للسابق، أي: أن المعنيين قد وقعا وحصلا قبل النطق بالكلام، ولكن أحدهما وهو الذي قبل "حتى" -أسبق في زمن تحققه وحصوله من المتأخر عنها؛ ولهذا يعتبر المتأخر في زمنه "وهو ما يلي "حتى" مستقبلا بالنسبة لما قبلها1؛ لتحقق معناه بعد ذلك المتقدم عليها. وكل هذا بغير:"حكاية الحال الماضية" ويغير تخيل أنها قائمة الآن2 بطريق الحكاية.

ومن الأمثلة ما قاله أحد المؤرخين: "بنى المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة حتى تكون مقرا لحكمه، ومأوى يتسع لأعوانه وجنده. ولما تم بناؤها عرت عليه أسماء كثيرة حتى يختار منها اسما؛ فاختار لها: "القاهرة"

" فالمعنى قبل "حتى" -وهو بناء القاهرة- قد تحقق وفات. وكذلك اتخاذها مقرا للحكم ومأوى. إلا أن البناء تحقق أولا، ثم تحقق بعد المقر. فالمقر معنى متأخر في زمن حصوله على زمن البناء، ولهذا يعتبر مستقبلا بالنسبة لزمن البناء

وكذلك تمام بنائها أمر فات وانتهى، ومثله اختيار اسم لها. فالمعنيان قد فاتا وانقضى زمنهما. غير أن اختيار الاسم متأخر عن تمام البناء، فهو مستقبل بالنسبة لتمام البناء، بالرغم من أن كلا منهما قد انتهى وانقضى. ولكن أحدهما "وهو ما يلي "حتى" متأخر في زمنه عما سبقها

؛ وبسبب هذا التأخر كان مستقبلا بالنسبة للسابق، من غير حكاية حال ماضية، ولا تخيل إرجاعها.

ومن الأمثلة أيضا قول مؤرخ آخر: "استطاع المسلمون الأوائل فتح فارس. والشام، ومصر، في شهور قلائل؛ لأن سلطان العقيدة غلب كل سلطان آخر، فوجب الرجل منهم نفسه للقتال حتى ينتهر أو يموت شهيدا، لا يعرف التردد، ولا الفرار، ولا الخيانة. وخاض المعركة حتى يبلغ أمنيته في النصر أو الاستشهاد

؛ فالمعنى قبل "حتى" -وهو: الهبة للقتال- قد مضى وانتهى. وكذلك المعنى بعدها؛ وهو: النصر، أو الموت. إلا أن الهبة أسبق في مضي زمنها؛ ولذا يعد الثاني -وهو المتأخر في زمن انقضائه- مستقبلا بالنسبة للأسبق.

1 يجب التنبه إلى أن استقباله إنما هو بالنسبة للمعنى الذي قبل "حتى" فلو كان زمنه مستقبلا أو حاليا بالنسبة لزمن التكلم لوجب تغيير الحكم بما يوافق هذا ويناسبه.

2 لأن تخيل الحال الماضية وحكايتها، يجعل زمن المضارع للحال تأويلا كما سبق. فيرفع وجوبا ويترتب على الرفع الآثار المعنوية التي شرحناها، "في رقم 1 من هامش ص344".

ص: 346

ومثل هذا يقال في خوض المعركة، وفي بلوغ الأمنية، فكلاهما ماضي المعنى قد فات وقته حقا، إلا أن خوض المعركة أسبق في المضي من بلوغ الأمنية، فكان بلوغ الأمنية -بسبب تأخر زمنه- مستقبلا بالنسبة لخوض المعركة.

وجواز الفرع والنصب في هذه الحالة وأشباهها قائم على أساس التأويل؛ فالرفع على تخيل زمن المضارع حالا مؤولة افتراضا، من غير حكاية؛ لأن المضارع الذي للحال المحكية يجب رفعه -كما تقدم-1 والنصب إما على اعتباره مستقبلا بالنسبة للمعنى الذي قبل "حتى"، لا بالنسبة لزمن التكلم. وإما على اعتبار العزم والنية على تحقيق معنى المضارع قبل وقوع معناه.

وفي صورة رفعه تكون "حتى" ابتدائية، وفي صورة نصبه تكون جارة والمضارع بعدها منصوب بأن المضمرة وجوبا -كما أسلفنا.

ومن الخير عدم استعمال هذه الصورة القليلة التي يصح فيها الأمران1، وإهمالها قدر الاستطاعة.

فملخص الحالات الثلاث الخاصة بالمضارع الواقع بعد "حتى"، هي:

أ- وجوب رفعه واعتبار "حتى" ابتدائية -إذا كان زمنه للحال حقيقة أو تأويلا2، وكان مسببا عما قبله، وفضله. فوجوب الرفع لا يتحقق إلا باجتماع هذه الشروط الثلاثة.

ب- وجوب نصبه بأن مضمرة وجوبا بعد "حتى" مع اعتبار "حتى" حرف جر، إذا كان زمن المضارع ماضيا حقا، أو مستقبلا استقبالا حقيقيا

1 و1 التفرقة دقيقة بين هذه الصورة والحال المؤولة، ولهذا اعتبرهما -بحق- فريق من النحاة شيئا واحدا، وخالف بعض المحققين: بأن حكاية الحال المؤولة توجب الرفع، وتفيد معنى هاما لا يستفاد من غيرها، وقد شرحناه في الصفحات الماضية "كالذي في رقم 1 من هامش ص344".

أما تأويل المضارع الذي ليس للحال بالحال من غير قصد حكاية فيجيز الأمرين ويفيد المعنى نوع تقوية يجعله قريبا من المحكي في أنه بمنزلة الأمر المحقق الآن. وفي كل هذا تشعيب وتكلف يجعل الرأي الذي يرفض هذا النوع هو الرأي الأنسب، بالرغم من صحة الرأي الآخر.

2 وكلاهما بمعنى: الآن "أي: الحال ووقت الكلام".

ص: 347

بغير تأويل فيهما، أو كان زمنه للحال، ولكنه فقط شرط "السببية"، أو شرط "الفضلة"1

ح- جواز رفعه ونصبه إن كان زمنه مستقبلا بالنسبة لزمن المعنى الذي قبل "حتى" لا بالنسبة لزمن الكلام. وكلا الزمنين -قبلها وبعدها- قد مضى وانتهى حقيقة. وتكون "حتى" ابتدائية عند رفعه، وجارة عند نصبه؛ مراعاة للاعتبار الخاص بكل نوع

والأحسن عدم محاكاة هذا النوع قدر الاستطاعة.

بقيت أمور جديرة بالتنويه:

أولها: علامة المضارع بعد "حتى" إذا كان معناه ماضيا حقا، ولكن زمنه إما للحال تأويلا، وإما للمستقبل بالنسبة للمعنى الذي قبل "حتى" -هي صحة الاستغناء عنه؛ بوضع فعله الماضي موضعه فيظل المعنى مستقيما، والتركيب صحيحا -كما أسلفنا2.

ثانيها: أوضحنا3 أن الرفع -بالشروط التي تقتضيه بعد "حتى"- يفيد الإخبار بوقوع معنى الكلام وحصوله قبل "حتى" وبعدها، كما يفيد أن الثاني مسبب عن الأول. أما النصب في الحالات التي ينصب فيها المضارع بعدها فيفيد الإخبار بوقوع شيء واحد وحصوله هو معنى الكلام الذي قبل "حتى"

1 لم يذكر ابن مالك في الكلام على "حتى" التي ينصب بعدهما المضارع "بأن" مضمرة وجوبا -إلا البيتين التاليين:

وبعد: "حتى" هكذا إضمار "أن"

حتم؛ كجد حتى تسر ذا حزن-10

"تقدير البيت: وإضمار "أن" حتم بعد "حتى" هكذا، بمعنى: "كذا"، أي: كالإضمار السابق الواجب، في المشار إليه

" وساق مثلا لما تضمنه هذا البيت -وهو مثال للتعليلية- ثم قال بعده:

وتلو "حتى" حالا، أو مؤولا

به ارفعن وانصب المستقبلا-11

يريد: أن المضارع التالي: "حتى" إذا كان معناه حالا أو مؤولا بالحال -يرفع. وإن كان مستقبل المعنى ينصب. ولم ينص على بقية الحالات المختلفة.

2 في هامش ص333.

3 في رقم 1 من هامش ص344.

ص: 348

وأن معنى الكلام الذي بعدها مترقب الحصول في المستقبل، ينتظهر تحققه من غير أن يفيد هذا الكلام القطع بأنه سيقع ويتحقق؛ واو كان وقوعه معلوما، من قرينة أخرى

ثالثها: أن وجوب رفع المضارع الحالي الزمن حقيقة أو تأويلا هو -كما أشرنا-1 لمنع التعارض بين دلالته على الحالية وما تد عليه "أن" الناصبة له؛ إذ لو نصبته لجعلت زمنه للمستقبل المحض، كشأن كل النواصب، مع أن المراد أن يكون زمنه للحال الحقيقية أو المؤولة، ومن ثم يقع التعارض بين الحال والاستقبال؛ أي: بين الحالية المطلوبة هنا، والاستقبال الخالص الذي يحتمه وجود "أن الناصبة" للمضارع، وهذا التعارض لا يوجود مع الرفع.

1 في رقم 3 من هامش ص339.

ص: 349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- من الأحكام السابقة يسهل ضبط المضارع في الأمثلة الآتية التي عرضها بعض النحاة لبيان ضبطه. ومنها: ومنها: "سرت حتى تطلع الشمس"، فيجب النصب؛ لعدم تسبب الطلوع عن السير. وكذلك:"ما سرت حتى أدخل البلد"؛ لعدم وقوع شيء يصلح أن يكون سببا في الدخول؛ إذ أن الدخول لا يتسبب -عادة- عن عدم السير، ومثله:"قلما سرت حتى أدخلها"، إذا كان معنى "قلما" هو النفي

وكذلك في: "أسرت حتى تدخلها؟ " لأن السبب لم يتحقق؛ بسبب الاستفهام عنه؛ فلو رفع الفعل لزم تحقق وقوع المسبب1. مع الشك في وقوع السبب، وهذا لا يصح

ففي الأمثلة السالفة ونظائرها يجب النصب، ولا يصح الرفع. بخلاف: أيهم سار حتى يدخلها الآن؟ ومتى سرت حتى تدخلها الآن؟ فيجوز الرفع، لأن السير محقق. وإنما الشك في معرفة من فعل الفعل، أو في زمن الفعل.

ب- يرى الكوفيون أن "حتى" حرف ناصب بنفسه، ويجوز وقوع "أن" المصدرية بعده فتكون مؤكدة توكيدا لفظيا لحتى. أما البصريون فيوجبون أن يكون الناصب هو:"أن" المضمرة وجوبا بعد "حتى" الجارة، ولا يجيزون ظهور "أن" بعدها. ويجيزون ظهور "أن" بعد التابع2، مستدلين بقول القائل يمدح بني شبيان:

ومن تكرمهم في المحل3 أنهمو

لا يعرف الجار فيهم أنه جار

حتى يكون عزيزا من نفوسهمو

أو أن يبين جميعا وهو مختار

وموضع الشاهد ظهور "أن" قبل المضارع: "يبين" وبعد "حتى"

1 طبقا لما تقرر في ص348 تحت عنوان: ثانيها.

2 لهذا إشارة في هامش ص334.

3 الجدب والقحط

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الملحوظة المعطوفة على أخرى قبلها. والتقدير عند البصريين: حتى يكون عزيزا من نفوسهم أو حتى أن يبين

ح- يتساءل بعض النحاة عن معنى "حتى" في قول العرب: "ما سلم فلان حتى ودع"، وفي قول الشاعر:

ركب الأهوال في زورته

ثم ما سلم حتى ودعا

فقيل إنها ابتدائية تفيد الاستثناء هنا "فهي بمعنى: "إلا" التي تليها "أن" والاستثناء مفرغ في الظرف. والتقدير؛ ما سلم في وقت إلا وقت ودع الناس فيه.

وقيل إنها ابتدائية؛ بمعنى: لكن -ساكنة النون كالمألوف الكثير فيها- ومن شأن الابتدائية ألا تقطع الصلة المعنوية بين ما بعدها وما قبلها1، برغم أن ما بعدها لا بد أن يكون جملة مستقلة في إعرابها -فيكون المعنى ما سلم في وقت لكن ردع فيه. والمعنيان متقاربان.

د- إذا دخلت "حتى" الابتدائية على جملة لم يصح وقوع هذه الجملة خبرا عن مبتدأ أو عن ناسخ

أو2

1 أين هذه الصلة المعنوية بين ما قبلها وما بعدها في قول الفرزدق يذم "كليبا" قبيلة الشاعر جرير:

فواعجبا. حتى كليب تسبني

كأن أباها نهشل أو مجاشع

-نهشل- ومجاشع من آباء الفرزدق.

يقول المعنى ج1 عند الكلام على "حتى" ما نصه: "لا بد من تقدير محذوف قبل "حتى" في هذا البيت، يكون ما بعد "حتى" غاية له. أي: فواعجبا. يسبني الناس حتى كليب تسبني

". ا. هـ. وقد سبقت إشارة لهذا في ج3 باب: "العطف" عند الكلام على "حتى" م118 ص562.

2 راجع البيان الخاص بهذا عند الكلام على الشرط الثالث، ص343.

ص: 351

الأداة الرابعة: فاء السببية الجوابية1:

معناها: يتضح من الأمثلة التالية:

1-

لا يغضب العاقل فيفقد صواب الرأي، ولا يتبلد فيفقد كريم الشعور.

2-

لست أنكر الفضل فأتهم بالجحود أو بالحقد، ولست أبالغ في الثناء، فأتهم بالغفلة أو الرياء.

3-

لا تصاحب غادرا فينالك غدره، ولا تأتمن خائنا فتصيبك خيانته.

4-

أتعرف لنفسك حقها فتصونها عن الهوان؟ وهل تدرك أن الكبر كالضعة؛ كلاهما بلا فتحذره؟.

فإن الناطق بمثل: "لا يغضب العاقل؛ فيفقد صواب الرأي"

يريد أمرين معا، هما: نفي الغضب عن العاقل، وبيان ما يترتب على نفيه من عدم فقد الرأي الصائب؛ فكأنه يقول: العاقل لا يغضب؛ فيترتب على عدم غضبه أنه لا يفقد صواب الرأي، أي: لا يغضب، فلا يفقد سديد الرأي. فما بعد "الفاء" مسبب عما قبلها، وكلاهما منفي، هنا2.

والناطق بمثل: "لا يتبلد فيفقد كريم الشعور. يريد أمرين معا؛ هما:

1 تجري عليها الأحكام العامة المشتركة التي سبقت في رقم 2 من هامش ص317.

2 لكي يكون المعنى -في هذا المثال وأشباهه- غاية في الوضوح نلاحظ عند استخلاصه الأمور الآتية التي تشترك في تكوينه، والتي سيجيء تفصيل الكلام عليها بعد قليل، وأهمها:

أ- أن فاء السببية هي للعطف أيضا؛ فتفيد الترتيب والتعقيب مع السببية.

ب- أن المعطوف بها هو المصدر المؤول من "أن" المضمرة وجوبا وما دخلت عليه.

ج- أن المعطوف عليه لا بد أن يكون مصدرا مؤولا كذلك. ولا بد أن يكون موجودا، ولو من طريق التصيد.

د- أنها إذا وقعت بعد نفي فقد يكون المنفي هو ما قبل الفاء وما بعدها معا؛ كما في المثال الأول

، وقد يكون أحدهما وحده؛ "طبقا للبيان الهام الأساسي الذي يأتي في ص359" والاهتداء إلى المنفي أمر ضروري لسلامة المعنى. وتطبيقا لهذه الأمور نقول في المثال الأول لاستخلاص معناه: لا يكون من العاقل غضب ففقد صواب الرأي -أي: لا يكون من العاقل غضب يعقبه ويتسبب عنه فقد صواب الرأي. ولما كان السبب "العلة" وهو: غضب العاقل منفيا وجب أن يكون المسبب عنه منفيا كذلك، وهو فقده صواب الرأي: وبهذا يكون النفي منصبا على ما قبل الفاء وما بعدها معا، وينتهي الأمر إلى المعنى المراد هو: لا يغضب العاقل؛ فلا يفقد صواب الرأي. وهكذا الباقي.

ص: 352

عدم التبلد، وما يترتب عليه من عدم فقد الشعور الكريم؛ فكأنه يقول: لا يتبلد، وعدم تبلده يؤدي إلى عدم فقده الشعور الكريم، أي: لا يتبلد فلا يفقد كريم الشعور

فما بعد الفاء مسبب عما قبلها. وكلاهما منفي هنا أيضا.

والناطق بمثل: لست أنكر الفضل فأتهم بالجحود

يريد الأمرين، عدم إنكار الفضل، وما يؤدي إليه من عدم الاتهام بالجحود. ومثل هذا يقال في الشطر الثاني من المثال.

والناطق بمثل: لا تصاحب غادرا فينالك غدره

يريد أمرين معا؛ النهي عن مصاحبة الغادر، وبيان ما يترتب على مصاحبته من الإصابة بغدره. ومثل هذا يقال في بقية المثال.

والناطق بمثل: أتعرف لنفسك حقها؛ فتصونها عن الهوان؛ يريد أمرين؛ سؤال المخاطب عن معرفته حق نفسه، وبيان ما تؤدي إليه هذه المعرفة. كما يسأله عن إدراكه حقيقة الكبر والضعة، وبيان ما يترتب على هذا الإدراك

فنلحظ في كل الأمثلة السالفة -وأشباهها- أن "الفاء" تتوسط أمرين السابق منهما، هو "العلة" أو "السبب" في المتأخر الذي يليها، ولهذا سميت:"فاء السببية"، أي:"الفاء" التي معناها الدلالة على أن ما بعدها مسبب عما قبلها، ولا بد -هنا- أن يليها مضارع منصوب.

كما نلحظ شيئا آخر؛ هو: دلالتها على "الجواب"1. والمراد من دلالتها على الجواب: أن ما بعدها مترتب على ما قبلها ترتب الجواب على السؤال؛ سواء أكان ما قبلها مشتملا على استفهام: كالمثال الرابع، أم غير مشتمل عليه، كبقية الأمثلة. ولهذا توصف بأنها: "الجوابية"1 أي: التي تدل على أن ما بعدها

1 و1 سبق الإيضاح الوافي لمعنى: "الجواب"، وتحديد الغرض منه عند الكلام على "إذن" الناصبة، ص308؛ فأمر الجواب هنا وهناك واحد. أما المعنى والعمل فمختلفان من نواح متعددة. ويزيد النحاة هنا: أن "فاء السببية" لا بد أن يسقبها نفي محض أو طلب "أو ملحق بهما، كما هو مبين في عملها في الصفحة التالية" وكلاهما يشبه الشرط في أن مضمونه غير محقق الوقوع ولا مقطوع بحصوله، وما بعد الفاء مسبب عما قبلها؛ كتسبب جواب الشرط على فعل الشرط.

هذا، والعدول عن العطف المحض بالفاء إلى العطف بها أيضا ولكن مع نصب المضارع بأن المضمرة وجوبا، هو الرمز القاطع الذي يدل على التسبب.

"انظر رقم 1 من الهامش الآتي".

ص: 353

بمنزلة الجواب لما قبلها؛ فمعناها هو: "الدلالة على السببية والجوابية" معا.

ولما كان معناها الدلالة على "السببية والجوابية" معا سميت: "فاء السببية الجوابية". لكن شاع الاكتفاء بتسميتها: "فاء السببية"؛ اختصارا، مع إرادة أنها تدل على:"الجواب" أيضا، فهي عند الاختصار اللفظي أو عدمه يراد منها الدلالة على الأمرين مجتمعين. وبهذا جرى العرف بين النحاة وغيرهم فإذا ذكرت "فاء السببية" مطلقة من التقييد كان المراد منها:"فاء السببية الجوابية" التي ينصب بعدها المضارع "بأن" مضمرة وجوبا بالشرط الذي سنعرفه

وقد صار هذا الاسم المختصر خاصا بها مقصورا عليها1

ومع دلالتها على "السببية الجوابية" تدل معهما كذلك على "الترتيب والتعقيب"؛ لأنها "فاء عطف" أيضا؛ فالترتيب يوجب أن يتأخر ما بعدها عما قبلها في زمن تحققه؛ إذ المسبب متأخر في الوجود عن السبب حتما. والتعقيب يوجب أن يكون زمن التأخر قصيرا، لا مهلة فيه؛ كما هو الشأن في الفاء العاطفة.

من كل ما تقدم يتبين أنها تفيد "السببية الجوابية"، مع الدلالة على "الترتيب والتعقيب".

عملها:

فاء السببية حرف عطف يفيد الترتيب والتعقيب، مع دلالته على "السببية. الجوابية" -طبقا لما شرحنا- ويختص بالدخول على المضارع المنصوب "بأن" المضمرة وجوبا. وهو يعطف المصدر المؤول من "أن" وما دخلت عليه من الجملة المضارعية، على مصدر قبله2، وعملها مقصور على هذا العطف. ولا يجوز

1 قد تدل الفاء التي للعطف المحض "وهي: التي لا ينصب بعدها المضارع "بأن" المضمرة وجوبا" على السببية، وتفيد ترتب أمر على أمر، ولكنها -بالرغم من هذا- لا تسمى اصطلاحا "فاء السببية"؛ نحو: يتغذى النبات فينمو - يشرب المريض الدواء فيبرؤ - عطش الزرع فجف - اشتدت للريح فأسقطت الثمار الناضجة

وعلى هذا، كل "فاء" ينصب بعدها المضارع بأن مضمرة وجوبا لا بد أن تكون "للسببية" ولا عكس -وقد أشرنا لما تقدم في "باب العطف" عند الكلام على فائه، ج3 م118 ص464.

2 فالعطف بها عطف مفرد على مفرد. والبيان في ص378 وما بعدها.

ص: 354

الفصل بين فاء السببية والمضارع بغير "لا" النافية، إن اقتضى المعنى وجودها.

ولا تكون هذه "الفاء" للسببية الجوابية إلا بشرط أن يسبقها -في الأغلب-1 أحد شيئين؛ "إما النفي المحض، أو ما ألحق به"، "وإما الطلب المحض، أو ما ألحق به"1. فإن لم يسبقها شيء مما تقدم لم يصح -في الأغلب-2 اعتبارها سببية جوابية. وفيما يلي التفصيل الخاص بهذا الشرط:

النفي المحض، وما ألحق به:

أ- المراد من النفي: سلب الحكم عن شيء بأداة معينة3. وهذه الأداة النافية قد تكون حرفا؛ "مثل: لا، ما، لم، لن

" وقد تكون فعلا، "مثل: ليس، زال"

وقد تكون اسما؛ "مثل: غير

" نحو: لا يهمل الصانع فيقبل على صناعته الناس - ليس الأحمق مأمونا فتصاحبه - الأديب الظريف غير حاضر فيؤنسنا.

ويلحق بالنفي: التشبيه المراد به النفي بقرينة دالة عليه، كقول الجندي لزميله المتكبر:"كأنك القائد فنطيعك"

وكذا التقليل المراد به النفي -أحيانا- بقرينة؛ ومن ألفاظه: "قلما" و"قد"؛ نحو: "قلما يشبع الظلم والخلاف في أمه فتنهض. بهذا خبرنا التاريخ، وقطع به" - "أيها المتحدث

1 و1 قد يلحق به "تقديرا" بعض صور أخرى يجيء الكلام عنها في ص372.

2 هذا الشرط واجب في أغلب الحالات؛ لأن هناك ست حالات أخرى يجوز في كل منها اعتبار الفاء سببية مع فقد الشرط. وستجيء في ص372. ولا بد -مع تحقق هذا الشرط- من تحقق الأحكام العامة أيضا؛ وهي التي سبقت في رقم 2 من هامش ص317.

3 المراد من النفي معروف شائع. ولكن الشراح -كعادتهم- يتناولونه بالتعريف والتحديد: فيقولون عنه: إنه سلب الحكم عن الشيء، أو: رفع النسبة الثابتة بين شيئين، أو إزالة الإسناد الموجب بينهما

أو.. وكل هذه التعريفات -وغيرها- يرمي إلى غرض واحد؛ هو سلب الحكم الموجب ويوضحونها بما يأتي: من قال: "محمود عادل" فقد أثبت له العدل، أو: نسب له العدل، أو أسند إليه العدل، أو حكم عليه بالعدل

وكلها عبارات متحدة المدلول. فإذا قال: ما محمود عادلا. فقد سلب عنه ما ثبت له، أو أزال ما نسب إليه، أي: أزال النسبة السابقة، أو ما أسند إليه، أو رفع الحكم السابق

هذا، وفي الأمثلة التالية توضيح ما سبقت الإشارة الهامة إليه؛ "في. "د" من هامش ص352" وهو أن النفي قد يكون منصبا على ما قبل الفاء وما بعدها معا، وقد يكون منصبا على أحدهما فقط.

ص: 355

عن الشجاعة في الحروب، وما حملت سيفا، ولا اقتحمت معركة؛ قد كنت في معركة فتصفها"

فالمعنى في الأمثلة السالفة منفي؛ أي: ما أنت بالقائد فنطيعك -لا يشيع الظلم والخلاف في أمة فتنهض- ما كنت في معركة فتصفها1..

ب- والمراد بالمحض؛ الخالص من معنى الإثبات؛ فلا يوجد في الكلام ما ينقض معناه، مثل:"إلا الاستثنائية" التي تنقض النفي1، ومثل نفي آخر بعده يزيل أثره، ويجعل الكلام مثبتا؛ لأن نفي النفي إثبات، كما هو معروف. ومن أمثلة النفي المحض: لا يسقط المطر في الصحراء فينبت الكلأ

، وكذا الأمثلة التي تقدمت في أول البحث.

فإن نقض النفي بإلا الاستثنائية، وكانت قبل فاء السببية، لم يصح نصب المضارع ووجب رفعه، على اعتبار هذه الفاء للاستئناف، أو للعطف المجرد2، وليست للسببية؛ نحو: لا يشاهد الخبير أعمالا إلا المشروعات العظيمة؛ فيعلن رأيه فيها -لم أشتر مطبوعات إلا الكتب النافعة؛ فأستوعبها- ما اكتسبت مالا إلا المال الحلال فأنفقه.

أما إن نقض النفي "بإلا" الاستثنائية، وكانت بعد الفاء والمضارع

فيجوز في المضارع الرفع والنصب3؛ نحو: لا يشاهد الخبير أعمالا فيعلن رأيه فيها إلا المشروعات العظيمة -لم أشتر مطبوعات فأستوعبها إلا الكتب النافعة- ما اكتسبت مالا فأنفقه إلا المال الحلال. وقول الشاعر:

وما قام منا قائم في ندينا

فينطق إلا بالتي هي أعرف4

فيجوز في كل هذه الأفعال المضارعة -ونظائرها- الرفع والنصب5

1 و1 وهي تنقض النهي أيضا -كما سيجيء عند الكلام عليه في ص367.

2 وكلاهما يعينه المقام، وما يقتضيه المعنى.

3 هذا عند سيبويه ومن وافقه. أما ابن مالك وموافقوه، فيوجبون الرفع. وفي رأي سيبويه تيسير يدعو لتفضيله.

4 أحسن وأفضل.

5 وينبني على نقض النفي "بإلا" قبل "الفاء"، أو بعدها ما يأتي: إذا قلت: ما زارني أحد إلا الوالد فأكرمه

فإن كان الضمير "الهاء" عائدا على: "أحد" جاز رفع المضارع أو نصبه؛ لوقوع النقض بعد "الفاء" وما دخلت عليه، والأصل: ما زارني أحد فأكرمه إلا الوالد. وإن كان الضمير عائدا على "الوالد" وجب الرفع: لوقوع النقض قبل "الفاء" وما دخلت عليه.

ص: 356

مثال نقض النفي بنفي آخر يتلوه فيزيل أثره: ما تزال تحسن المعاملة فتكتسب حب الناس؛ فقد وقع بعد "ما" النافية نفي آخر هو "تزال" فانقلب المعنى مثبتا بسببه، وفي هذه الصورة يجب رفع المضارع، ولا يصح نصبه.

وهل من النفي المحض النفي الواقع بعد: "الاستفهام التقريري"1؛ كقول الوالد يعاتب ابنه العاق: ألم أتعهد شؤونك صغيرا؛ فتتذكر فضلى؟ ألم أجاهد في سبيل إسعادك فتحمد جهادي؟

الصحيح جواز الأمرين، النصب على اعتبار النفي محضا، والرفع على اعتباره منقوضا وغير قائم؛ بسبب همزة التقرير، وبهما جاء القرآن. قال تعالى عن الكافرين: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ

بِهَا} بنصب المضارع: "تكون". وقال في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} ، برفع المضارع:"تصبح"2..

وإذا كانت فاء السببية حرف عطف دائما، -كما تقدم-3 والمعطوف بها هو المصدر المؤول بعدها -فأين المعطوف عليه؟

يقول النحاة: لا بد أن يكون المعطوف عليه مصدرا أيضا، ليتشابه المعطوف

1 الاستفهام الحقيقي هو: طلب معرفة شيء مجهول -حقا- للمتكلم. فهو يريد أن يعرفه. أما الاستفهام التقريري فيراد به -غالبا- ثبوت مدلول الشيء المسئول عنه، المعلوم للمتكلم؛ وتقريره في نفس المخاطب، والسامع، أي: طلب الاعتراف بوقوعه والموافقة على حصول مدلوله. فإن كان الاستفهام عن شيء منفي صار المعنى -غالبا- مثبتا بسبب الاستفهام المراد منه التقرير؛ نحو: ألم تحضر فأحسن إليك. فالمعنى: أنك حضرت فعلا، فأحسنت إليك. ومنه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} -انظر ما يتصل بهذا في رقم 3 من هامش ص413- وبسبب أنه يتضمن ثبوت المعنى، غالبا، وتقرير حصوله بغير نفي، قال بعض النحاة: إن المضارع لا ينصب معه بعد الفاء، وأن ما ورد منه منصوبا، كالآية الأولى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ} فلمراعاة صورة النفي، ومظهره اللفظي، لا معناه، أو لمراعاة الاستفهام في الكلام، فما بعد الفاء -في هذه الصورة التي يراعى فيها الاستفهام- يكون جوابا للاستفهام؛ لا للنفي.

ولا يعنينا هذا الخلاف وما تفرع عنه من فروع كثيرة. إنما الذي يعنينا هو جواز الرفع والنصب مع ملاحظة أن المعنى على أحدهما يخالف المعنى على الآخر حتما. ولهذا تكملة هامة في رقم 3 من هامش ص362 "وتجيء إشارة موجزة -في رقم 1 من ص372- لبعض ما سبق".

2 انظر رقم 1 من ص372 وقيل: إن كان ما بعد الفاء مسببا عما قبلها نصب المضارع؛ كالآية الأولى. وإلا رفع كالثانية؛ لأن رؤية نزول المال ليست سبب الخضرة.

3 في ص354 و357.

ص: 357

والمعطوف عليه في المعنى المجرد1. وفي هذه الحالة يتحتم أن يكون العطف عطف مفردات لا عطف جمل. فإن وجد مصدر في الكلام قبلها فهو المعطوف عليه، وإن لم يوجد وجب تصيده من ذلك الكلام السابق، وليس لهذا التصيد ضابط أو قاعدة، وإنما المراد الوصول بطريقة -أي طريقة- إلى مصدر لا يفسد به المعنى مع العطف. فمثال المصدر الصريح المذكور قبل الفاء، الصالح لأن يكون معطوفا عليه:"ما هذا إسرافا؛ فتخاف الفقر" - "ما الشجاعة تهورا فتهمل الحذر". والتقدير: ما هذا إسرافا فخوفك الفقر، وما الشجاعة تهورا فإهمالك الحذر، أي: ما هذا إسرافا يترتب عليه خوفك الفقر. وما هذه شجاعة يترتب عليها إهمالك الحذر

ومثال المصدر المتصيد: لا يتواني المجد فتفوته الفرصة، لا تزهد في المعروف فتخسر أنفس الذخائر

، التقدير: لا يكون من المجد توان ففوات الفرصة إياه، لا يكن منك زهد في المعروف فخسارتك أنفس الذخائر. أي: لا يكون من المجد توان يترتب عليه فوات الفرصة إياه، لا يكن منك زهد في المعروف يترتب عليه خسارتك أنفس الذخائر.

فإن لم يوجد قبلها مصدر صريح، ولا ما يصلح أن يتصيد منه المصدر، كالجملة الاسمية التي يكون فيها الخبر جامدا، نحو: ما أنت عمر فنهابك، فنصب المضارع ممنوع عند بعض النحاة؛ لفقد المعطوف عليه. وتكون الفاء للاستئناف، والجملة بعدها مستقلة في إعرابها عما قبلها، أو الفاء المجرد العطف الخالي من "السببية" والجملة بعدها معطوفة على الجملة قبلها، ويكون الكلام عطف جملة على جملة، ويجيز آخرون في تلك الجملة وأشباهها تصيد مصدر من مضمون الجملة الجامدة، ومن لازم معناها، كأن يقال في المثال السالف: ما يثبت كونك عمر هيبتنا إياك

أي: ما يثبت كونك عمر ثبوتا يترتب عليه أن نهابك

والأخذ بهذا الرأي أنسب، لتكون القاعدة مطردة.

والنحاة يسمون العطف على المصدر المتصيد: العطف على المعنى والتوهم2.

1 مما يوضح هذا ما سبق في ص328 و329.

2 سبق الكلام على عطف: "التوهم" لمناسبة أخرى في ج1 م49 عند الكلام على زيادة بـ"باء الجر". ص552 وكذلك في ج3 م122 ص484 باب "العطف" وأوضحنا في الموضعين رأينا فيه، وحكمنا عليه.

ص: 358

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- يعرض النحاة هنا لمسألة هامة دقيقة، ويعطونها من العناية والتوفيه ما يناسبها؛ وهي مسألة النفي1 الذي قبل الفاء المسبوقة بجملة؛ أينصب على ما قبل الفاء وما بعدها معا، أم ينصب على أحدهما فقط؛ وما نوع الفاء وضبط المضارع في الصور المختلفة؟ ويجيبون: إن الأمر يتوقف على المعنى، وما يقتضيه السياق؛ فقد يستدعيان تسليط النفي على ما قبلها وما بعدها معا، وقد يستدعيان تسلطه على أحدهما دون الآخر

، ثم هما قد يقتضيان اعتبار الفاء للاستئناف الخالص، أو للعطف المحض وحده. أو للعطف مع إفادة "السببية الجوابية"2

والقرينة وحدها هي التي توجه إلى المراد؛ فلا بد منها، وإلا وجب العدول عن هذا الأسلوب إلى غيره مما لا يثير مشكلات في الضبط أو المعنى. وفيما يلي البيان:

.... إذا قلت: "ما تحضر فتحدثنا"

جاز رفع الفعل: "تحدث" على أحد اعتبارات ثلاثة؛ وجاز نصبه على أحد اعتبارين. ولكل واحد من الخمسة أثره الإعرابي والمعنوي الذي يخالف الآخر، واختيار واحد منها دون غيره متوقف على مناسبته المعنى والسياق، ولا يصح اختيار واحد ون التقيد بهذه المناسبة، وإلا كانت اللغة عبثا وفوضى. فأوجه الرفع الثلاثة هي:

1-

الرفع؛ على اعتبار الجملة الأولى منفية المعنى، و"الفاء" للاستئناف الخالص، فما بعدها جملة مستقلة في إعرابها عن الأولى، فلا تتأثر بنفي الأولى. فكأنك تقول: أنت ما تحضر في المستقبل، ولهذا أنت تحدثنا الآن. إنما قلنا في "المستقبل" مع أن المضارع يصلح للحال والاستقبال إن لم يوجد مانع لوجود ما يمنع الاستقبال هنا؛ وهو التخاطب مع شخص معين؛ فلا يصح أن تنفي عنه الحضور في الزمن الحالي مع أنك تخاطبه فيه خلال حضوره. وقلنا:"الآن"؛ لأن الزيادة في المستقبل منفية؛ فلا يقع في المستقبل حديث؛ إذ هو منفي تبعا لها؛ فلم يبق إلا أن يكون وقت الحديث هو الآن، أي: وقت الكلام.

ومثله قولك للمسافر: لن أراك عدة أشهر؛ فأودعك داعيا لك، حزينا

1 ومثله النهي -وسيجئ أيضا.

2 انظر "ج" من ص363.

ص: 359

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لغيابك. تريد: لن أراك في المستقبل1

فأنا أودعك الآن. فالنفي في المثالين السالفين مقصور على الجملة الأولى وحدها، والفاء فيهما للاستئناف المجرد.

2-

الرفع على اعتبار "الفاء" متجردة للعطف المحض، تعطف المضارع بعدها على المضارع المنفي قبلها، وفي هذه الصورة يتحتم أن يكون المعطوف كالمعطوف عليه في الإعراب "رفعا، ونصبا، وجزما" وأن يكون مثله في النفي الذي يقع عليه، ففي المثال السابق يكون التقدير: ما تحضر فما تحدثنا، أي: ما يحصل منك حضور في المستقبل، فما يحصل منك تحديث فيه، فالفعلان مرفوعان، ومنفيان، وزمنهما مستقبل محض؛ للسبب الذي في الوجه السالف. ولو قلنا: لن تحضر فتحدثنا

لكان المضارعان منصوبين ومنفيين، ومستقبلين كذلك1. ولو قلنا: ألم تحضر فتحدثنا

لكانا مجزومين ومنفيين أيضا2؛ فالثاني تابع للأول في إعرابه، وفي نفيه؛ كما نرى3. والعطف هنا عطف الفعل مضارع وحده -دون فاعله- فالعطف عطف مفردات. لا عطف جمل4

3-

الرفع على اعتبار الجملة الأولى كلها منفية و "الفاء" متجردة للعطف المحض -كما سبق- ولكنها تعطف الجملة المضارعية كلها على الجملة المضارعية السابقة -ولا تعطف المضارع وحده على نظيره السابق- وفي هذه الصورة يستقل المضارع بعد الفاء بإعرابه وضبطه، ولا يتبع فيه الأول، وتكون الجملة الثانية معطوفة على الأولى، منفية مثلها أو غير منفية على حسب ما يقتضيه المعنى، وتدل عليه القرائن فيصح أن يكون المعنى في المثال السالف: ما تحضر في المستقبل فما تحدثنا في المستقبل؛ لأن الحضور لن يحصل. فلن يحصل الحديث. ويصح أن يكون المراد: ما تحضر في المستقبل؛ فأنت تحدثنا الآن؛ ليكون تحديثك الحالي تعويضا عن فقده في المستقبل. وفي هذه الصورة يتمحض العطف للربط المجرد بين الجملتين حتما. ولكنه لا يقتضي تسرب النفي من الأولى إلى الثانية اقتضاء واجبا، فقد يتسرب منها إلى الثانية، أو لا يتسرب، على حسب القرائن.

1 و1 لأن الحرف "لن" ينفي معنى المضارع في المستقبل

2 كما سيجيء في "ج" و"د" من ص363.

3 سبق "في ج3 ص474 م121" الكلام على عطف الفعل على الفعل، وعطف الجملة على الجملة، والفرق بينهما، وآثار كل.

4 انظر ما يتصل بهذا في "ج" من ص363.

ص: 360

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أما الوجهان الخاصان بالنصب فهما:

1-

النصب على اعتبار "الفاء" سببية جوابية؛ فالمضارع بعدها منصوب بأن المضمرة وجوبا، وما بعدها مسبب عما قبلها وجواب للنفي -كما شرحناه1 آنفا- وهي في الوقت نفسه عاطفة؛ فالمصدر المؤول بعدها منفي؛ لأنه معطوف على مصدر قبلها منفي أيضا فالعطف عطف مفردات. والنفي مسلط على ما قبلها وما بعدها، فمعنى المثال السابق لا يكون منك حضور في المستقبل؛ فلا يكون منك تحديث2 فيه؛ أي: لا يكون منكم في المستقبل حضور يترتب عليه ويقع فيه تحديث

فالثاني منفي بنفي الأول؛ لأن زوال السبب مؤذن بزوال المسبب أي: أن المعنيين منفيان.

وقد يخطر بالبال السؤال التالي: أليس المعنى في هذه الصورة كالمعنى في الصورتين الثانية والثالثة من المضارع المرفوع: حين يعطف وحده على الفعل السابق، أو تعطف جملته على الجملة السابقة؟

الجواب: لا: فإن المضارع حين يكون منصوبا بأن المضمرة وجوبا بعد الفاء، تكون هذه الفاء "للسببية الجوابية" فتدل -حتما- على أن المعنى بعدها مسبب عما قبلها، وجواب للنفي، مع دلالتها فوق ذلك -على العطف وإفادتها الترتيب والتعقيب. أما في جملة عطف الفعل المضارع على المضارع أو عطف جملته على الجملة التي قبل الفاء- فإن الفاء تكون للعطف المجرد الذي تدل معه على مجرد الترتيب والتعقيب، فلا سببية، ولا جوابية، هذا إلى أن عطف الجملة الفعلية بالفاء التي للعطف المجرد على جملة أخرى منفية لا يوجب أن تكون المعطوفة منفية كالمعطوف عليها، فقد تتبعها في النفي أو لا تتبعها على حسب القرائن -كما أسلفنا.

2-

النصب على اعتبار أن ما بعد الفاء "قيد" فيما قبلها، وأن النفي منصب على "القيد" حتما، أما "المقيد" وحده مجردا -أي: بغير نظر إلى قيده- ففي الرأي الراجح قد يقع عليه النفي أو لا يقع؛ تبعا للسياق والقرينة، فليس من

1 في ص352 و353.

2 لا يصح أن يكون المضارع للحال هنا، لما تقدم أن النواصب كلها تخلص المضارع المستقبل المحض.

ص: 361

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اللازم أن يشمله النفي الذي يقع على "القيد" لا محالة1، فإذا قلت: ما جاء محمد راكبا. "فالركوب""قيد" في المجيء. وهذا القيد "الركوب" منفي قطعا. أما حكم المقيد وحده2، وهو "المجيء" المطلق فقد يكون منفيا "أي: لم يقع"، وقد يكون غير منفي. فعدم الركوب مقطوع به؛ سواء أوقع المجيء أم لم يقع. والحكم بوقوع المجيء أو عدم وقوعه محتاج إلى قرينة أخرى تعينه

وعلى هذا الأساس يصح أن يتجه الفهم في المثال الأسبق، "وهو: ما تحضر فتحدثنا". إلى أن التحديث "قيد" للحضور. والقيد منفي -لا محالة- في حالتي الحضور وعدمه3. أما الحضور نفسه بغير تحديث فقد يكون منفيا أو غير منفي. فهو مسكوت عنه، يحتاج إلى ما يعين أحد الأمرين؛ شأنه شأن التقييد بالحال؛ فكأنك تقول: ما تحضر متحدثا. فالتحديث هو القيد المنفي دائما. والحضور هو المقيد المسكوت عنه، إذا نظرنا إليه وحده بغير قيده، أو: كأنك تقول: ما يكون منك حضور يعقبه ويترتب عليه تحديث. فالتحديث هو المقطوع بنفيه. أما الحضور المطلق وعدمه فأمرهما للقرينة؛ تعين أحدهما دون الآخر. وعلى هذا فالفاء للسببية والمصدر المؤول بعدها معطوف على مصدر قبلها والنفي منصب على القيد وحده، كما شرحنا. ومن هذا قول الشاعر:

ومن لا يقدم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى الأرض يزلق

فكأنه قال: من لا يقدم رجله مثبتا يزلق.

ب- ويقول النحاة: إن المعنى قبل "فاء السببية" قد يكون مثبتا؛ بأن يتخطاه النفي إلى أن بعدها. بالرغم من وجود النفي قبلها -كما يفهم من بعض الحالات السابقة-4 فإن تسلط النفي على ما قبلها فالفاء تفيد معنى التسبب الذي

1 قد يعبرون عما سبق بقول أدق؛ هو: أن المقيد لا ينصب عليه النفي إلا في حالة واحدة هي التي يتقيد فيها، ويتحقق فيها وجود القيد دون غيرها من بقية الحالات التي لا تدخل في دائرة القيد؛ فقد يشملها النفي أو لا يشملها؛ على حسب القرائن. ويزيد الأمر وضوحا إذا رجعنا إلى "ب" ص321.

2 وهو غير المقيد بالركوب.

3 وهو في حالة العدم أحق وأولى؛ إذ لا يمكن أن يحدثنا مع عدم مجيئه، وانتفاء حضوره.

4 الحالة الثانية من حالات النصب.

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ينصب بعده المضارع بأن مضمرة وجوبا. وإن لم يتسلط على ما قبلهان وبقي معناه مثبتا، ومدلوله حاصلا موجبا، فالفاء لا تفيد التسبب1 وإنما ينصب المضارع بعدها تشبيها لها بفاء السببية.

ح- عرفنا أن الرفع جائز في ثلاث حالات، وأن النصب جائز في حالتين، وهذا الجواز في الحالات الخمس مشروط بألا يكون المضارع قبل فاء السببية مجزوما؛ مثل: ألم تحضر فأكرمك؟ فإن وجد جازم واقتضى المعنى عطف المضارع الذي بعد الفاء على المضارع الذي قبلها وجب أن يكون المعطوف مجزوما ومنفيا كالمعطوف عليه؛ لأن هذا هو ما يقتضيه عطف المضارع على المضارع عطف مفردات2، ولا يصح إلا الجزم مع نفي المعنى عن المعطوف، ما دام السياق يقتضي هذا العطف الذي يؤدي إلى النفي وإلى الجزم معا3.

وربما لا يوجد قبل الفاء فعل، مثل: غير موجود أخوك فأكرمه.. وفي هذه الصورة يمتنع عطف الفعل على الفعل لعدم وجود فعل معطوف عليه

د- تطبيقا على ما سبق من تسلط النفي على ما قبل الفاء وما بعدها معا؛ أو على أحدهما وحده يتعين تسليطه عليهما معا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} . ولا يصح تسليطه على القيد وحده دون المقيد "وهو الجملة الأولى" لاستحالة أن يقضي الله عليهم بالموت فلا يموتوا؛ فلا بد أن تكون الأولى منفية كذلك، والفاء للسببية. ويصح:"لا يقضى عليهم فيموتون" فتكون الفاء للعطف المجرد، والمضارع بعدها مرفوع "إذ ليست للسببية" فالفعل الثاني معطوف على الأول، تابع له في إعرابه وفي نفيه -كما قدمنا أول البحث- فالتقدير: لا يقضي عليهم؛ فلا يموتون والمعنى في الحالتين واحد. مع ملاحظة ما أشرنا إليه من الفرق بين فاء السببية والفاء المتجردة للعطف المحض. ولا مانع أن يكون العطف في هذا المثال عطف جمل.

ومثل الآية قولهم: "ما يليق بالله الظلم فيظلمنا" فيصح اعتبار "الفاء" للسببية

1 سماها بعض النحاة -كالخضري- فاء المعية.

2 طبقا للحكم الخاص بعطف المضارع وحده على نظيره، "وقد سبق في ج3، باب العطف، م121 ص474".

3 كما سبق، في رقم 2 من ص360.

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ينصب النفي علىما قبلها، وما بعدها معا؛ والمضارع منصوب. أو: للعطف الخالص1 بدون سببية؛ فيرفع المضارع، والنفي عام أيضا ينصب على ما قبلها وما بعدها معا.

بخلاف نحو: "ما يحكم الله بحكم فيجوز" حيث يتعين أن يكون النفي منصبا على الثاني وحده، باعتباره قيدا للأول، أي: ما يكون منه حكم يترتب عليه جور2. ولا يصح نفي الأول لما يترتب عليه من أن يكون معناه: ما يحكم الله بحكم.. وهذا فاسد؛ لأن الله يحكم في كل وقت

ومن الأمثلة لنفي الفعلين معا: لا يحب الريفي الأسفار؛ فيشاهد عجائب البلاد الأجنبية، ما ينظم فلان الشعر البليغ، فينتفع به الأديب -لم ينتبه السائق فينجو من الخطر- لا يسرف العربي في الطعام؛ فيشكو البطنة3، ولا يهمله؛ فيشكو المخمصة4.

والضابط الذي يدل في الأمثلة السالفة -وأشباهها- على أن النفي منصب على الفعلين معا هو إعادة حرف النفي بعد فاء السببية، وتكراره بينها وبين المضارع فلا يفسد المعنى المراد.

ومن الأمثلة لنفي الثاني وحده: "أي: لنفي القيد".

ما يسرق اللص فيسلم، لا يطول السهر فيستريح الجسم، لا يسيء التاجر المعاملة فينجح

هذا لا يهمل التعلم فينتفع، ولا يترك العلماء فيستفيد. والضابط الذي يدل في هذه الأمثلة -وأشباهها- على أن النفي منصب على الثاني وحده "أي: على القيد" هو نقل حرف النفي من مكانه في صدر الجملة الأولى، ووضعه بعد الفاء مباشرة وقبل المضارع الذي يليها، فلا يفسد المعنى الأصلي بهذا الفعل.

هـ- يجري مع أداة النهي ما جرى مع أداة النفي ما ناحية عطف الفعل على الفعل، وعطف الجملة على الجملةن وتسلط النهي على ما قبل الفاء وما بعدها معا أو على أحدهما فقط

و

مع ملاحظة أن "لا" الناهية تجزم المضارع حتما، أما حروف النفي فلا تجزمه5

1 سواء أكان عطف جملة على جملة، أم عطف فعل على فعل.

2 التقدير: يحكم الله بحكم فما يجوز -كما سيجيء.

3 امتلاء البطن.

4 الجوع.

5 انظر "ب" من ص356 وص367.

ص: 364

ب- الطلب بنوعية؛ المحض وغير المحض1

الطلب المقصود هنا ثمانية أنواع؛ لكل منها معناه وحكمه، ويكفي وجود نوع واحد منها قبل "الفاء"؛ فتكون سببية، ينصب بعدها المضارع بأن مضمرة وجوبا إن لم يوجد مانع آخر. وهذه الثمانية هي:

1-

الأمر.

2-

النهي.

3-

الدعاء.

4-

الاستفهام.

5-

العرض.

6-

التحضيض.

7-

التمني.

8-

الترجي....

ولا خلاف في أن السبعة الأولى هي من أنواع الطلب المقصود؛ وإنما الخلاف في الثامن: "الترجي" والصحيح أنه منها. وهذه الأنواع الثمانية قسمان:

قسم يدل على الطلب المحض، بأن يدل بلفظه نصا وصراحة على الطلب مباشرة، من غير أن تجيء دلالته على الطلب تابعه لمعنى آخر يتضمنه، ومن غير أن يكون محمولا في أدائه على غيره. وينحصر هذا في الأنواع الثلاثة الأوائل:"الأمر، النهي، الدعاء"2.

وقسم يدل على الطلب دلالة غير محضة، بأن يجيء معنى الطلب تابعا لمعنى آخر يتضمنه3. ويدخل في هذا القسم بقية الأنواع الطلبية، فإنها محمولة على الثلاثة المحضة.

وفيما يلي معنى كل واحد من الثمانية4، وحكمه:

1 انظر المراد عندهم من الطلب غير المحض، أي:"تقديرا" -في ص372.

2 ومثل هذا يجري على المضارع بعد واو المعية المسبوقة بطلب -كما سيجيء عند الكلام عليها في ص375.

3 كما سيجيء البيان في آخر ص370.

4 عرفنا في ص354 و357 أن فاء "السببية" التي ينصب بعدها المضارع هي في جميع أحوالها للعطف أيضا؛ فتعطف المصدر المؤول بعدها على مصدر قبلها، أي: أنها تعطف مفردا على مفرد، ولا شأن لها بعطف الجمل مطلقا. وعلى هذا لا تعطف جملة خبرية بعدها على جملة طلبية قبلها، ولا غير هذا من عطف الجمل أو سواها مما لا تعطفه.

ص: 365

1-

الأمر، ومعناه: طلب فعل شيء. ولا يسمى أمرا إلا إن كان صادرا ممن هو أعلى درجة إلى من هو أقل منه. فإن كان من أدنى لأعلى سمي: "دعاء". وإن كان من مساو إلى نظيره سمي: "التماسا".

وله صيغتان: صيغة فعل الأمر الصريح، وهذه هي الأصيلة، وصيغة:"لام الطلب" الجازمة المختصة بالدخول على المضارع، وهذه ملحقة بتلك، وتسمى:"لام الأمر" إن كان الأمر بها ممن هو أعلى درجة إلى من هو أدنى، و"لام الدعاء" إن كان من أدنى لأعلى، و"لام الالتماس" إن كان من مساو لنظيره. فتسميتها "لام الطلب" أدق من تسميتها:"لام الأمر" لأن الطلب -والمقصود به هنا: طلب فعل شيء- يشمل الصور الثلاث.

فمثال الأمر الصريح: اغفر هفوة الصديق فيحمدك، وانصحه في السر فيتقبل نصحك، وجامل الناس فيما لا يضر فتستريح، ويدوم لكم ودهم. ومثل:"خذ، وهات" في قول الشاعر:

من لي يسوق في الحيا

ة يقال فيها: خذ وهات

فأبيع عمرا في الهمو

م بساعة في الطيبات

ومثال لام الطلب: لتكن طاعة الله أولى الأمور لديك فتسعد، وليكن حرصك على أداء الواجب عقيدة فتنهض وينهض وطنك، ولتبتعد عن مواطن الشبهات فيرتفع قدرك.

فإن كان الأمر بصيغة اسم الفعل، فالأحسن التيسير بقبول الرأي الذي يجعل الفاء بعده للسببية؛ نحو: صه فيهدأ النائم، وتراك الشر؛ فتأمن عواقبه، ونزعا إلى ميدان الإصلاح فتحب. "والمعنى: اسكت، واترك، وانزل

" وكذلك إن كان الأمر بصيغة المصدر الواقع بدلا من التلفظ بفعله؛ نحو: سكوتا فنسمع الخطباء، أو بصيغة الخبر1

ولكن الأبلغ والأشهر في الحالتين -عند

ص: 366

كثرة النحاة- ألا تكون الفاء للسببية.

2-

النهي، ومعناه: طلب الكف عن شيء. وأداته واحدة؛ هي: "لا الطلبية" وتسمى: "لا الناهية" إن كان النهي صادرا من أعلى لأدنى؛ فإن كان من أدنى لأعلى سميت: "لا الدعائية". وإن كان من مساو إلى نظيره سميت: "لا، التي للالتماس" فتسميتها: "لا الطلبية" أولى؛ لأن طلب الكف بها يشمل حالاتها الثلاث.

وإنما ينصب المضارع بعد فاء السببية في جواب النهي بشرط ألا ينتقض النهي بإلا الاستثنائية على الوجه الذي سبق إيضاحه في النفي ونقضه1؛ ومن الأمثلة: لا تقل الخطأ فيشتهر جهلك، ولا تخف العلم فتتهم في مروءتك. ومثل قوله تعالى:{لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} 2 وقولهم: لا تكثر مقاطعة الإخوان فيهون عليهم سخطك. ولا تبالغ في وعد أو وعيد فتعجز، ويستخف الناس بك3

فإن كان النهي بصيغة الاسم فالأنسب الأخذ بالرأي الذي يجعل الفاء بعده

= المقصود بها الأمر، والتقدير: آمنوا بالله.. وجاهدوا

يغفر لكم.. وليس الجزم راجعا لوقوعهما جوابا للاستفهام: {هَلْ أَدُلُّكُمْ}

لفساد المعنى على هذا؛ لأن السؤال عن مجرد الدلالة والإرشاد بدون عمل آخر لمن اتجه إليهم السؤال، لا يؤدي إلى أن يغفر الله ذنوبهم، وأن يدخلهم الجنة، فغفران ذنوب الناس لا يكون مسببا عن مجرد دلالتهم إلى ما ينجيهم وتوجيه الإرشاد إليهم. وإنما يتسبب عن الإيمان نفسه، وعن الجهاد. وكثير من الأساليب الناصعة يجري على نسق الآية -وسيعاد ذكرها لمناسبة أخرى في ص396- ولا يزال الناس يقول أحدهم للآخر: تهتم بعملك وتجيده، وتحرص عليه، تفلح، ويكثر رزقك. وينصح الوالد ابنه الطالب فيقول: تذاكر وتلتفت إلى دروسك تنجح. التقدير: اهتم بعملك وأجده. واحرص عليه، تفلح، ذاكر والتفت تنجح

، وهكذا يجزم المضارع في جواب الفاء فالأيسر اعتبارها للسببية ونصب المضارع بعدها، وإن كان الأبلغ والأكثر رفعه، وعدم اعتبارها للسببية -كما قلنا- انظر الصفحة الآتية:

1 سبقت الإشارة -في رقم 1 من هامش ص356 وفي "هـ" من ص364- إلى أن النهي يجري عليه ما يجري على النفي عند نقضه "بإلا". وعلى هذا إن كان نقض النهي قبل الفاء فلا ينصب المضارع بعدها. أما إن كان النقض بعدها فالرفع والنصب جائزان.

2 فيستأصلكم ويبيدكم.

3 ومن الأمثلة قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} .

ص: 367

للسببية؛ نحو سيرًا لا قعودا فتكسل، وعملا لا بطالة، فتفقد رزقك.

3-

الدعاء. ومعناه: طلب فعل شيء، أو الكف عنه، بشرط أن يكون في الحالتين من أدنى لأعلى. وإلا فهو أمر أو نهي إن كان من أعلى لأدنى، والتماس إن كان بين متساويين -كما سبق.

وصيغته: فعل الأمر الأصيل المراد منه الدعاء، وكذا المضارع المسبوق بلام الطلب "لام الأمر"، أو بلا الطلبية "الناهية" مع إرادة الدعاء بهما

ومن الأمثلة قول الشاعر:

رب، وفقني فلا أعدل عن

سنن الساعين في خير سنن

وقول الآخر:

فيا رب عجل ما أؤمل منهمو

فيدفأ مقرور1 ويشبع مرمل2

ومثل: رب: لتكن طاعتي لك على قدر فضلك؛ فأفوز فوزا عظيما، ولتكن أعمالي مقصورة على ما يرضيك، فأنال أسمى الغايات، ولا تتركني لنفسي فأضل ضلالا عظيما

فإن كان الدعاء بصيغة أخرى لم ينصب المضارع -إلا في الراي الذي قصد به التيسير؛ كصيغة الاسم في قولهم: سقيا لك فتسلم، ورعيا لمن معك فتتجنبهم المخاوف

وكصيغة الخبر المراد منه الدعاء3؛ نحو: يرزقني الله الغني فأنفق المال في سبل الخير. وبعض الكوفيين يجيز النصب في هذا الصور. ورأيه مقبول، وفيه التوسعة التي أشرنا إليها، وإن كان الأبلغ متابعة الأكثر.

4-

الاستفهام "سواء أكان حقيقيا؛ وهو طلب معرفة شيء مجهول حلقا للمتكلم، أم إنكاريا، أم توبيخيا"4 ويشترط هنا ألا يكون عن معنى قد

1 من أصابه البرد الشديد.

2 شديد الفقر.

3 وقد يكون مرادا منه غير الدعاء كالآية التي في هامش ص366.

4 سبق إيضاح الاستفهام الإنكاري والتوبيخي "في ج2 ص235 م81".

هذا، وشرط عدم المضي يتمسك به أكثر النحاة، ولا يتمسك به آخرون. وسجيء البيان في "ب" من الزيادة والتفصيل "ص374" ومن التيسير المقبول عدم التمسك به. ويتمسك الأولون أيضا بشرط آخر هو: ألا يكون استفهام بجملة اسمية فيها الخبر جامد. وقد سبق أنه لا داعي للتمسك به -في ص358.

أما بيان الاستفهام الحقيقي والتقريري ففي رقم 1 من هامش ص357.

ص: 368

وقع قبل الكلام. ومن أمثلته قوله -تعالى بلسان أصحاب النار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} ، وقول الشاعر:

هل تعرفون لباناتي؟ فأرجو أن

تُقضى، فيرتد بعض الروح للجسد

5-

العرض1؛ وهو الطلب برفق ولين. ويظهران -غالبا- في صوت المتكلم، وفي اختيار كلماته رقيقة دالة على الرفق. ومن أدواته:"ألا"؛ كقول الشاعر:

يابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك؛ فما راء كمن سمعا

ومن أدواته -أحيانا- "لو"2؛ نحو: لو أوفق للكمال المستطاع فأبلغ غاية المنى

6-

التخضيض، وهو الطلب بشدة وعنف. ويظهران -غالبا- في صوت المتكلم، وفي اختيار كلماته جزلة قوية. ومن أدواته:"هلا"؛ نحو. هلا حطمت قيود الاستبداد فتعز، وهلا قوضت حصون الاستعباد فتسود.

ومن أدواته أيضا: "لولا"؛ نحو: لولا تدفع الظلم فيخاف الظالم

وقول الشاعر:

لولا تعوجين يا سلمى على دنف

فتخمدي نار وجد كاد يفنيه3

ومن أدواته -أحيانا- "لو"2؛ نحو: لو تحترم القانون فتأمن العقوبة.

7-

التمني، وهو الرغبة في تحقق أمر محبوب؛ سواء أكان تحققه ممكنا،

1 سيجيء تفصيل الكلام على "العرض والتحضيض" في باب: "لولا ولوما

" ص512، وما بعدها.

2 و2 لهذا النوع إشارة في ص512.

3 ومن الأمثلة -وستجيء في رقم 3 من هامش ص514- أيضا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: لولا تؤخرني: أما المضارع: "أصدق" فمنصوب بأن مضمرة وجوبا بعد "فاء السببية" وأما المضارع: "أكن" فمجزوم على اعتبار عدم وجود "فاء السببية" وأنه مجزوم في جواب الطلب، وأن الكلام يتضمن شرطا مقدرا؛ أي: إن تؤخرني أكن.. -وسيجئ الكلام على سقوط الفاء في ص387.

ص: 369

أم غير ممكن. ولا يصح أن يكون في أمر محتوم الوقوع1. وأشهر أدواته: "ليت" وهي الأصل؛ كقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} . ونحو: يا ليت من يمنع المعروف يحرم المعروف، فيذوق مرارة الحرمان. وقول الشاعر:

يا ليت أم خليد واعدت فوفت

ودام لي ولها عمر فنصطحبا

ومن أدواته -أحيانا- "لو" كقراءة من قرأ قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بنصب المضارع2

وكذا "ألا"3 نحو: ألا صديق مخلصا فينصحنا.

8-

الترجي، وهو: انتظار حصول شيء مرغوب فيه، ميسور التحقق، ولا يكون إلا في الأمر الممكن، ومثله التوقع4. والكوفيون هم الذي يعتبرون الفاء بعده للسببية، والشواهد -ومنها القرآن- تؤيدهم5. نحو: لعلك تحسن اختيار الكلام، فتفوز بإعجاب السامعين، ولعل إعجابهم يبرأ من التزيد والتحيف؛ فتدرك مبلغ توفيقك، وحقيقة أمرك

تلك هي أنواع الطلب بنوعيه؛ المحض وغير المحض. وقد عرفنا6 أن المحض منها ثلاثة، وأنها سميت محضة لدلالة صيغتها اللفظية -نصا وأصالة- على الطلب الصريح مباشرة؛ لا عن طريق تبعي أو ضمني، غير مباشر: كدلالة التمني

1 فلا يصح أن يقال: ليت غدا يجيء

وقد سبق الكلام على التمني -في رقم 6 ص503.

2 سيجيء بيان خاص بالأداة: "لو" التي تفيد التمني -في رقم 6 ص503.

3 سبق الكلام على "ألا" المفيدة للتمني وإعرابها وحاجتها أو عدم حاجتها للخبر في ج1 ص540 م58.

4 سبق الكلام على الترجي والتوقع والإشفاق، ومعنى كل، في الجزء الأول ص473 م51.

5 ومنها قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} بنصب "تنفع" ومنه قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} بنصب: "أطلع" ولا داعي للتأول في الآيتين -وأشباههما- بقصد إبعاد الفاء عن السببية.

6 في ص365.

ص: 370

على الطلب، فإن الطلب معه يجيء من طريق تبعي؛ أي: من طريق غير مباشر، إذ يلزم من تمنى الشيء طلب مجيئه

، وكذلك العرض والحض وغيرهما من بقية أنواع غير المحض؛ فإنها تدل على الطلب من ذلك الطريق الضمني، غير المباشر، بخلاف الثلاثة المحضة:"الأمر، والنهي، والدعاء" فإنها صيغها صريحة فيه؛ كما أسلفنا1

"ملاحظة": إذا لم توجد "فاء السببية" قبل المضارع الذي يستحق النصب بها، إما لأنها لم توجد أصلا، وإما لسقوها وزوالها بعد وجودها

، فإن حكم هذا المضارع يتغير؛ فيجزم على حسب البيان الخاص الذي سيجيء كاملا في بحث مستقل2.

1 وفي الكلام على "فاء السببية" يكتفي ابن مالك ببيت واحد هو:

وبعد "فا" جواب نفي أو طلب

محضين "أن" وسترها حتم نصب

وتقدير البيت: و"أن"، نصب بعد "فا" جواب نفي أو طلب محضين. وسترها حتم. "ويلاحظ أنه -كعادته- استعمل "أن" بمعنى "الحرف" أولا، ثم عاد فاستعملها بمعنى الكلمة، وأعاد الضمير عليها في الأولى مذكرا، وفي الثانية مؤنثا. والأمران صحيحان -انظر آخر هامش ص289 ورقم 1 من هامش ص281. والمعنى: "أن" مستترة "حتما بعد فاء السببية التي في صدر كلام يقع جوابا لنفي محض، أو طلب محض. وفي هذا الكلام نقص واضح؛ إذ لم يتعرض لأنواع النفي، وأحكامها، وشبه النفي. واقتصر في الطلب على المحض من غير تفصيل ولا إبانة، ثم عرض أبياتا تتعلق بحرف آخر غير فاء السببية؛ هو:"واو المعية" ثم رجع للكلام على فاء السببية بعد الرجاء فقال البيت السابع عشر:

والفعل بعد "الفاء" في الرجا نصب

كنصب ما إلى التمني ينتسب-17

يريد: أن المضارع بعد فاء السببية الواقعة في جواب الرجاء ينصب بأن مضمرة وجوبا؛ كنصب المضارع بها إذا كان منتسبا للتمني؛ أي: جوابا للتمني؛ بأن كان بعد الفاء المسبوقة بالتمني، فكما ينصب بعد هذا ينصب بعد ذاك. "وستجيء إشارة لهذا البيت بمناسبة أخرى في هامش ص397".

2 في ص387.

ص: 371

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- تقدم1 أن "الفاء" لا تكون سببية ينصب بعدها المضارع "بأن" المضمرة وجوبا إلا بشرط أن يسبقها إما النفي المحض أو شبهه، وإما الطلب المحض أو غير المحض أي: التقديري

لكن هذا الشرط هو الأغلب في أكثر الحالات، فهناك حالات ست يصح اعتبار الفاء في كل منها سببية مع فقد هذا الشرط، فعند اعتبارها سببية ينصب المضارع حتما، بأن مضمرة وجوبا، وعند عدم اعتبارها لا ينصب. والأربعة الأولى تكون في حالتي الاختيار والضرورة الشعرية، والأخيرتان خاصتان بالضرورة الشعرية.

1-

الفاء الواقعة بعد نفي مسبوق باستفهام تقريري، نحو: ألم تشهد بدائع الأزاهير في مطلع الربيع فتنعم بها؟ فيجوز رفع المضارع: "تنعم" ونصبه على أحد الاعتبارين "وقد سبق2 الكلام الجلي على هذا في موضعه المناسب".

2-

الفاء الواقعة بعد نفي قد نقض "بإلا الاستثنائية" وكان النقض بعد الفاء والمضارع؛ نحو: ما تزورونا فتحدثنا إلا تسرنا بطرائفك الأدبية3.

3-

الفاء الداخلة على المضارع المتوسط بين فعل الشرط وجواب الشرط، أو بعدهما. نحو: من يهن فيقبل يسهل الهوان عليه؛ ومن يسهل الهوان عليه يفقد كرامته؛ فيحرم سعادة الحياة. فالفعلان: "يقبل، ويحرم"، يجوز نصبهما على اعتبار الفاء للسببية، ويجوز عدم النصب على اعتبارها ليست سببية4

ويقول النحاة: إن السبب في جواز النصب هنا -حيث لا نفي ولا طلب- أن فاء السببية تعطف المصدر بعدها على مصدر قبلها5، وفعل الشرط قبلها غير

1 في ص355 وما بعدها.

2 في رقم 1 من هامش ص357 وفيها بيان المراد من الاستفهام التقريري.

3 وقد سبق شرح هذا عند الكلام على النفي، في "ب" من ص356.

4 سيجيء في الجوازم "ص478" الأوجه الأخرى الجائزة في المضارع المتوسط بين جملة الشرط وجملة الجواب. ومن هذه الأوجه الجائزة الرفع؛ فهناك الموضع المناسب.

5 من المفيد الرجوع إلى ص357 حيث البيان الهام الذي يوضح المعطوف والمعطوف عليه هنا؛ مصدرين معا أو أحدهما

أو.... -ثم "ب" ص374.

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

محتوم الوقوع؛ فأشبه الاستفهام والأمر وغيرهما من أنواع الطلب التي ليست محققة الوقوع. وأن علة جواز نصبه بعد فعلى الشرط والجواب معا هو أن الجزاء غير محقق الوقوع، ولا محتم الحصول، فالواقع بعده كالواقع بعد الاستفهام ونحوه

هذا كلامهم، وكأنهم يرجعون هاتين الصورتين إلى "الطلب" تقديرا. ولا محل للتقدير؛ فالعلة الصحيحة هي محاكاة كلام العرب في استعمالهم، ليس غير

4-

الفاء الداخلة على المضارع المسبوق بأداة الحصر: "إنما"؛ نحو: إنما أنت العالم فتفيد؛ فيجوز نصب المضارع: "تفيد" على اعتبار الفاء سببية، وعدم نصبه على اعتبارها غير سببية1.

وإلى هنا انتهت الحالات الأربع التي تقع في النثر والشعر، أي: في حالتي الاختيار والضرورة. ويليها الحالتان المقصورتان على الضرورة الشعرية؛ وهما:

5-

الفاء الداخلية على المضارع المسبوق بأداة الحصر: "إلا"، نحو: ما تتكلم إلا فتحسن الكلام2.

6-

الخبر المثبت الخالي من النفي ومن الطلب ومن الحصر "بإلا" كقول الشاعر:

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

فالمضارع: "أستريح" منصوب على اعتبار الفاء -للضرورة- سببية، كما

1 يذكر النحاة لهذه الحالة مثالا هو قوله تعالى: "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكونَ" في قراءة من نصب: "يكون" باعتناء الحصر منزلا منزلة الطلب تأويلا. ولم يجعل المضارع منصوبا بعد الفاء في جواب "كن" -كما يرى بعضهم- لعدم وجود قول: "كن" حقيقة؛ إذ لا ينطق بها الله حين يريد خلق شيء من العدم، وإنما هي كناية عما يسمى "تعلق القدرة تنجيزا بوجود شيء". هذا إلى أنه لا يجوز توافق الجواب والمجاب عنه في صيغة الفعل والفاعل؛ فلا بد من اختلافهما فيهما، أو في أحدهما؛ فلا يقال قم تقم. ويقول ابن هشام -فيما نقله عن الصبان: إن الجواب لا بد أن يخالف المجاب: إما في الفعل والفاعل؛ نحو: جئني أكرمك، أو في الفعل، نحو: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم، أو في الفاعل، نحو قم أقم. ولا يجوز أن يتوافقا فيهما.

2 لم أجد فيما رأيته من المراجع النحوية مثالا من الشعر؛ كي تتحقق فيه الضرورة. فأمثلتهم المعروضة نثرية. ولعلم يريدون ما يكون مثلهم في النظم.

ص: 373

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يقول كثير من النحاة1.

ب- قلنا2 إن أكثر النحاة يشترط في فاء السببية بعد الاستفهام ألا يكون الاستفهام عن أمر قد حصل في الزمن الماضي حقيقة؛ فيخرج نحو: لم أسأت إلى الصديق فيقاطعك؟ فلا ينصب المضارع: لأن الإساءة وقعت فعلا. وحجته أنه إذا سبك المصدر المؤول بعد الفاء كان هذا المصدر المؤول مستقبلا، يجب عطفه على مصدر قبل الفاء، ويجب أن يكون مستقبلا أيضا؛ ليتحد "المعطوف والمعطوف عليه" في الزمن -عملا بالرأي الراجح- فلو كان ما قبل الفاء ماضي الزمن لجاء المصدر "المعطوف عليه" ماضي الزمن أيضا؛ فيختلف في زمنه عن زمن المعطوف المستقبل.

أما الذين لم يشترطوا عدم المضي فحجتهم ما ورد من مثل: أين ذهب الرسول فتتبعه، بنصب:"نتبع" من أن المعنى في ذلك قد وقع في زمن مضى. ثم قال: إن لم يمكن الوصول إلى مصدر مستقبل من الكلام الذي قبل "الفاء" مباشرة فمن الممكن تصيده والوصول إليه من مضمون ذلك ولازمه؛ كأن نقول: ليكن منك إعلام بذهاب الرسول، فاتباع منا.

مع أن الرأي الأول دقيق محكم، وله الأفضلية، والاعتبار الأقوى -فالأنسب الأخذ بالرأي الثاني ليكون الحكم مطردا، فيقل التشعيب والتفريع، ولأن التقدير فيه روعي مثله في أحوال أخرى مع فاء السببية. كما يتبين مما سبق3

1 لا داعي لهذا، فخير منه أن تكون للعطف المجرد والمضارع بعدها مرفوع، لعطفه على مثله المرفوع، وإنما حرك بالفتحة للضرورة؛ وهي مراعاة القافية. ومثله المضارع "يعصم" في قول شاعرهم:

لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها

ويأوى إليها المستجير فيعصما

والمراد بالهضبة هنا: صولة قومه، وعزتهم، ومنعتهم.

2 في رقم 4 من ص368.

3 في ص357.

ص: 374

الأداة الخامسة: واو المعية1

فائدتها:

الدلالة على أن المعنى الذي قبلها والمعنى الذي بعدها مصطحبان معا عند حصول مدلولهما وتحققه؛ لا يسبق أحدهما الآخر ولا ينفرد، أي: أنهما متلازمان عند التحقق؛ ويحصلان معا في زمن واحد يجمعهما؛ ففي مثل: أتبتسم وتصافح الزائر؟ بنصب المضارع: "تصافح" يكون الاستفهام منصبا على تحقق الابتسهام والمصافحة معا في وقت واحد للزائر، ولا يتجه إلى تحقيق أحدهما دون الآخر، ولا يتجه كذلك إلى تحققهما في زمنين مختلفين. فكأن من ينطق بهذه العبارة، وينصب فيها المضارع بعد الواو -يقول: أنا أسأل عن تحقق الأمرين معا في وقت واحد. ولا أسأل عن غير هذار.

ومثل: لا يتكلم الخطيب ويقعد. بنصب المضارع: "يقعد" فإن النفي مسلط على اجتماع القعود والتكلم معا في وقت واحد؛ فكأن المتكلم يقول: إنها لا يحصلان معا في وقت واحد. أما نفي حصول أحدهما فقط أو نفي حصولهما في زمنين مختلفين فلا يفهم من هذه الجملة. ومثله: لا يترك العاقل عمله ويلعب. ولا يقعد عن السيئ وينتظر الرزق؛ بنصب: "يلعب"، و"ينتظر" فيكون المراد نفي الجمع في وقت واحد بين الترك واللعب. وكذا نفي اجتماع القعود عن السعي وانتظار الرزق في زمن واحد. ونحو: لا تأكل والكلام في وقت واحد.

ولما كانت هذه الواو دالة على اجتماع المعنيين واصطحابهما معا وقت تحققهما -سميت لذلك: "واو المعية" أي: "الواو" التي بمعنى: "مع"2؛ فهي تدل على الجمع والمصاحبة بين أمرين في وقت واحد.

1 وتجري عليها الأحكام العامة المشتركة التي سبقت في رقم 2 من هامش ص317.

2 المعنى لا يتغير مع كل منهما، ولكن الإعراب يختلف. فواو المعية حرف عطف -على الأشهر، كما سيأتي- والمضارع بعدها منصوب بأن مضمرة وجوبا، والمصدر المؤول معطوف على مصدر سابق

، أما كلمة:"مع" فظرف منصوب، وهو مضاف -غالبا- فبعده اسم مضاف إليه، ولا يقع بعده المضارع مباشرة

، واو المعية التي هنا تختلف عن واو المعية التي يليها المفعول معه؛ فإن التي يليها المفعول معه حرف مجرد للدلالة على المعية وليس عاطفا أو غير عاطف. أما التي هنا فحرف عطف، مع =

ص: 375

عملها:

واو المعية -هنا- حرف عطف في المشهور، مع إفادته المصاحبة1 والاجتماع والمضارع بعده منصوب بأن المضمرة وجوبا، ومنه كما عرفنا: متجرد للاستقبال الخالص، والمصدر المؤول بعده معطوف بالواو على مصدر مذكور في الكلام السابق. فإن لم يوجد في الكلام السابق مصدر وجب تصيده بالطريقة التي سلفت في العطف بفاء السببية2.

ويشترط لنصب المضارع بأن المضمرة وجوبا بعد "واو المعية" أن تكون واو المعية مسبوقة إما بنفي محض، أو بما يلحق به. وقد شرحناهما3 وإما بنوع من أنواع الطلب الثمانية التي سبق بيانها وشرحها في "فاء السببية"4. غير أن بعض النحاة يمنع وقوع "واو المعية" بعد أربعة أنواع من الطلب؛ هي:"الدعاء، والعرض، والتخصيص، والترجي". وحجته: أن السماع الكثير لم يرد بواحد منها، والسماع الكثير هو الأساس للقياس؛ فلا يصح الإقدام على نصب المضارع بعدها ما دام هذا الأساس مفقودا. ولا يصح عنده النصب حملا لواو المعية على "فاء السببية"؛ لأن الحمل -برغم التشابه بينهما في كثير من الأمور- لا داعي له. ورأيه وجيه.

= دلالته -دائما- على المعية نصا، ولا يليه إلا المضارع بالشروط التي سنعرفها. وإما قلنا مع دلالته الدائمة على المعية نصا؛ لأن الواو العاطفة لا تدل على المعية نصا، وإنما تدل عليها بقرينة أخرى خارجة عنها، فمن يقول: دعوت الضيف والشريك لزيارتي -قد يقصد أنه دعاهما مع في وقت واحد، وقد يقصد أنه دعاهما في وقتين مختلفين؛ فليس في الكلام ما يعين أحدهما نصا؛ لأن الواو العاطفة تدل على مجرد التشريك في المعنى، ولا تدل على المصاحبة الزمنية والاجتماع في أثناء تحققه إلا بقرينة. وهذا هو المراد من قوله: إنها لمجرد الجمع، أي: للتشريك في المعنى من غير دلالة حتمية على ترتيب، أو تعقيب، أو مصاحبة

بخلاف الدالة على العطف والمعية معا، فإنها تجمع بين الأمرين في وقت واحد، ووقوع المضارع بعدها منصوبا دليل على أن المتكلم يريد الأمرين معا.

"وقد سبق بيان هذا في باب العطف، ج3 ص412 م118 وفي المفعول معه ج2 ص226 م80".

1 والكوفيون يمنعون العطف بها -كما سيجيء في ص379- وهامشها.

2 ص358.

3 ص355.

4 في ص365 ويلحق بالطلب أداة الشرط إذا وقع المضارع المسبوق بالواو متوسطا بين شرطها وجوابها، أو متأخرا عنهما، ففي حالة التوسط أو التأخر يجوز اعتبار الواو للمعية، ونصب المضارع بعدها بأن المضمرة وجوبا، كما يجوز عدم اعتبارها للمعية فلا ينصب المضارع. وكل هذا على حسب الاعتبارات المعنوية التي تقدمت في فاء السببية، في رقم 3 من ص372، والتي ستجيء في الجزم، ص477.

ص: 376

ويخالف فريق آخر، بحجة التشابه القوي بين الحرفين في نواح متعددة فلا عيب في حمل واو المعية على فاء السببية. وفي هذا الرأي تيسير، ولكن فيه إهدار لأهم الأسس التي تراعى؛ وهو السماع الكثير الوارد، ولهذا يحسن عدم الأخذ به قدر الاستطاعة: احتراما للأساس الأهم السابق.

أ- فمن أمثلة واو المعية المعية بعد النفي قول أعرابي يجري إلى ساحة القتال: لا ألزم داري وأشهد الأبطال يمضون للجهاد سراعا، ولا أموت على فراشي كالبعير المهزول، وأبصر الرجالات في حومة الوغي شهداء.

ب- ومن أمثلتها بعد أنواع الطلب ما يأتي1:

1-

بعد الأمر: أيها الصديق: اغفر هفوتي وأغفر هفوتك؛ لتدوم صداقتنا، وساعدني وأساعدك لتتغلب على المشقات، ولتحذر وأحذر دسائس الأعداء؛ لنعيش في سلام.

ولا خلاف في نصب المضارع "بأن" المضمرة وجوبا بعد واو المعية إذا كانت الواو مسبوقة بإحدى صيغتي الأمر المحض2. أما الدلالة على الأمر بغيرها "كالدلالة عليه باسم الفعل، أو بصيغة اسم، أو بجملة خبرية"

فالحكم هنا كالحكم في فاء السببية3.

2-

بعد النهي:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك -إذا فعلت- عظيم

3-

بعد الاستفهام:

ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكمو المودة والإخاء

ومثل:

أتبيت ريان الجفود من الكرى

وأبيت منك بليلة الملسوع

1 مع ملاحظة أن المعطوف بواو المعية والمعطوف عليه مصدران -كما شرحنا- فليس في الكلام عطف جملة خبرية بعد الواو على جملة طلبية قبلها مما يمنعه النحاة، ولا عطف فعل على فعل. وكل هذا بشرط نصب المضارع بعد الواو.

2 وهما: فعل الأمر الصريح، ولام الطلب الجازمة الداخلية على المضارع -وبيانهما في ص366.

3 ص366.

ص: 377

4-

بعد التمني: قوله تعالى حكاية لقول الكفار يوم القيامة: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} .

وقول الشاعر:

ألا ليت الجواب يكون خيرا

ويطفئ ما أحاط من الجوى بي

5-

بعد الدعاء "على الرأي القائل به

" رباه، ما أسعدني بطاعتك؛ فوجهني إليها، ويعيني فضلك على ملازمتها. وما أشد حاجتي إلى برك؛ فأسبغ على ثوب العافية، وتحرسه برحمتك، وأغدق علي النعم، وتوفقني إلى صيانتها، رباه، لتدخلني في عداد المقربين، وترفع مقامي بينهم، ولا تدع للتواني سبيلا إلي وتتركني بعيدا عن المدى الذي يرضيك.

6-

بعد العروض "على الرأي القائل به

": ألا تزور المريض وتقدم له هدية. ألا تساله عن حاله وتدعو له بالشفاء.

7-

بعد التحضيض "على الرأي القائل به

": هلا تتعرض لأشعة الشمس وقت الضحا أو قبل الغروب وتحذر حرارتها، وطول التعرض لها. وهلا تعرف رأي الأطباء في فائدة التعرض وضرره، وتعمل برأيهم

8-

الترجي "على الرأي القائل به

" لعل العالم يدرك أنه قدوة، ويترك ما لا يليق به، ولعله يعرف أن فساده أشد ضررا وأعظم خطرا من كل فساد آخر، ويجنب الناس أثره....

يتبين مما سبق أن بين فاء السببية وواو المعية تشابها واختلافا؛ فيتشابهان في أمرين:

أولهما: نصب المضارع بعدها بأن مضمرة وجوبا؛ بشرط أن يسبقهما -غالبا- نفي أو طلب، وما يلحق بهما، بالتفصيل الذي عرفناه.

ثانيهما: اعتبار كل منهما حرف عطف أيضا فوق دلالته الخاصة "وهي: دلالة الفاء على "السببية الجوابية" فوق دلالتها على الترتيب والتعقيب. ودلالة الواو على "المعية". والمصدر المنسبك بعدهما من أن المضمرة وجواب وما دخلت

ص: 378

عليه من الجملة المضارعية -معطوف على مصدر مذكور أو متصيد قبلهما. وهذا على الرأي الشائع الذي يخالف فيه بعض المحققين1 ويقول: إن هذه الواو التي تفيد المعية ليست عاطفة، وهو بهذا يوافق الكوفيين "ويسمونها: واو الصرف" وحجته: أن العرب إذا أرادوا بالواو معنى المعية والمصاحبة أتوا بالمضارع بعدها منصوبا ليصرفوه عن المألوف؛ فيكون صرفه هذا قليلا على أنها للمعية والمصاحبة، ومرشدا من أول الأمر إلى أنها لإفادة اجتماع أمرين في زمن واحد، وليست للعطف2.

ويختلفان في خمسة أمور:

أولها: أن نصب المضارع بعد فاء السببية متفق عليه بعد أنواع الطلب السبعة، لورود السماع بأمثلة كثيرة لكل نوع تبيح القياس عليها. وأما الثامن "وهو الترجي" فيقع فيه وحده الخلاف، والصحيح أنه كبقية الأنواع في وجوب نصب المضارع الواقع في جوابه بعد فاء السببية، وأن ناصبه هو "أن" المضمرة وجوبا.

في حين يخالف بعض المحققين يف أن يكون وقوع "الدعاء، والعرض، والتحضيض، والترجي"، قبل واو المعية موجبا للنصب، فهو يمنع اعتبارها للمعية كما يمنع نصب المضارع إذا سبقه واحدا من الأربعة المذكورة؛ بحجة عدم ورود السماع بأمثلة متعددة لكل منها تكفي للقياس عليها.

ثانيها: الأصح في فاء السببية أنها حرف عطف يفيد الترتيب والتعقيب مع

1 كالرضي.

2 ومع أنها عنده للمعية الخالصة وليست للعطف -يعتبرها إما واوا للحال، وأكثر دخولها على الجملة الاسمية: فالمصدر المؤول بعدها في تقدير مبتدأ خبره محذوف وجوبا، فمعنى: قم وأقوم، قم وقيامي ثابت. أي: قم في حال ثبوت قيامي. وإما بمعنى: "مع"، أي: قم مع قيامي. وذلك كما قصدوا في المفعول معه مصاحبة الاسم للاسم، فنصبوا ما بعد الواو. ولو جعلت الواو عاطفة للمصدر على مصدر سابق لزال التنصيص على معنى الجمع

وقد قامت على هذا الراي اعتراضات كثيرة، واجهتها ردود كثيرة أيضا. ولا حاجة بنا إلى شيء من هذه أو تلك؛ لاعتمادها -في الغالب- على الجدل المجرد. وغاية ما نقوله: إن اعتبار الواو لمجرد المعية هنا يريح من العطف وما يقتضيه -أحيانا- من تصيد المصدر المعطوف عليه حين لا يكون في الكلام السابق مصدر مذكور. ولولا اعتبارات أخرى قوية "كالتي سنذكرها في "ب" من ص403" لكان هذا الرأي وحده هو المستحسن في جميع حالات فاء السببية أيضا فلا نعدها حرف عطف، طبقا للمذهب الكوفي الذي يقصرها على السببية، ويمنع أن تكون عاطفة.

ص: 379

دلالتها -في الغالب- على السببية الجوابية في الوقت نفسه. على حين يشتد الخلاف في جعل الواو -هننا- للأمرين مجتمعين؛ وهما: العطف والمعية؛ إذا الرأي القوي أنها تفيد المعية دائما بغير أن تكون عاطفة.

ثالثها: وهذا مهم أن فاء السببية لا بد أن تقع -غالبا- في جواب نفي أو طلب أو ملحقاتهما

؛ فما بعدها مسبب عما قبلها وجواب له. أما واو المعية فتقتضي مصاحبة ما قبلها وما بعدها مصاحبة حقيقية عند وقوعهما؛ أي: تستلزم تلاقيهما واجتماعهما في زمن واحد عند تحقق معناهما وحصوله، وهذه المصاحبة تمنع أن يكون ما بعد الواو مسببا عما قبلها، وجوابا له؛ لأن المسبب والجواب لا بد أن يتأخرا -حتما- في وجودهما عن السبب، وعما يحتاج إلى إجابة. وهذا التأخر يناقض المصاحبة ويعارضها. ولهذا يقول النحاة: إن صحة الفهم ودقة التعبير يقضيان بتخطئة من يقول عند الإعراب1: "واو المعية الواقعة في جواب النفي، أو الأمر، أو النهي، أو غيرهما من بقية الأنواع السالفة

" وبتصويب من يقول: "واو المعية" الواقعة بعد النفي أو الطلب من غير ذكر لكلمة جواب؛ لأن وقوع الجملة المشتملة على هذه الواو جوابا عما قبلها يقتضي -كما تقدم- أن يكون تحقق معناها متأخرا عن تحقق معنى التي قبلها، وهذا يعارض ما تفيده واو المعية من تحقق معنى السابق عليها واللاحق في زمن واحد.

رابعها: أن واو المعية -هنا- لا بد أن يسبقها نفي محض، أو طلب، أو ملحقاتهما، ولا بد كذلك أن تدل على المصاحبة الزمنية الحقيقية عند تحقق معنى ما قبلها وما بعدها. وهذه المصحابة تقتضي أن ينصب النفي والنهي وغيرهما من بقية الأنواع، على ما قبل الواو وما بعدها معا، أي: أن النفي والنهي نظائرهما يشملان ما قبل الواو وما بعدها، لا محالة، ولا يقتصران على أحدهما دون الآخر "بشرط أن تكون الواو للمعية، والمضارع بعدها منصوبا" فمن يقول لا آكل وأتكلم، فالنفي مسلط على ما قبل الواو وما بعدها مجتمعين. أما شأنهما عند عدم مصاحبتهما فمسكوت عنه، والحكم عليه متروك، لا دخل للنفي -وغيره- به؛ فقد يقع الأكل

1 على سبيل الحقيقة، لا على ضرب من المجاز البعيد.

ص: 380

وحده أو لا يقع. وقد يحصل التكلم وحده أو لا يحصل، وقد يقع الأكل والتكلم ولكن في وقتين مختلفين، أو لا يقعان مطلقا

فلا يمكن القطع بأحد هذه الأشياء إلا بقرينة خارجة عن الجملة.

ومن يقول: لا أكتب وألوث أصابعي "بنصب: "ألوث" فإنما ينفي اجتماع الأمرين معا في وقت واحد، وهما الكتابة، وتلويث الأصابع. فالنفي شامل ما قبل واو المعية وما بعدها مجتمعين، يسلط عليهما في زمن اصطحابهما وتلاقيهما، ولا ينصب على أحدهما دون الآخر. أما المعنى عند عدم اصطحابهما فمسكوت عنه، متروك حكمه، لا صلة للنفي به، فقد تكون الكتابة وحدها منفية أو غير منفية، وقد يكون تلوث الأصابع وحده حاصلا أو غير حاصل.. وقد يكون الاثنان غير حاصلين، وقد يحصلان في زمنين مختلفين

فكل هذه أمور يعرض لها الاحتمال، ولا سبيل للقطع بأحدهما إلا بقرينة أخرى.

وكذلك من يقول: لا تمش وتكتب

-أو لا تخطب وتجلس

- أو: لا تظلم الضعيف وتخاف القوي

بنصب المضارع بعد الواو المسبوقة بالنهي في هذه الأمثلة وأشباهها فإن النهي فيها مسلط على ما قبل الواو وما بعدها مجتمعين في وقت واحد، ولا ينصب على أحدهما دون الآخر، فكلاهما وحده مسكوت عنه، مهمل أمره؛ لا دليل للقطع بأنه منهي عنه وحده أو غير منهي عنه، ولا منهي عنه مع الآخر في زمنين مختلفعين.. فالقطع بأحد هذا الأمور متوقف على قرينة خارجة عن الجملة؛ توجه لأحدهما دون الآخر.

أما النهي والنهي قبل فاء السببية فقد بسلطان على ما قبلها وما بعدها معا، أو على ثانيها فقط -كما سلف1.

هذا، وما قيل عن النفي والنهي يقال في محلقات الني وفي سائر أنواع الطلب بنوعيه؛ حيث يسري -في وقت واحد- على ما قبل الواو وما بعدها معنى النفي أو الطلب، ويشملهما هذا المعنى مصطحبين مجتمعين في زمن واحد2

1 في ص359.

2 في الكلام على "واو المعية" يكتفي ابن مالك ببيت واحد؛ هو:=

ص: 381

خامسها: أن فاء السببية قد تسقط جوازا بعد الطلب -لا النفي- سواء أكانت موجودة من الأصل ثم سقطت، أم لم تكن موجودة؛ فيصح في المضارع بعد غيابها الجزم في جواب الطلب، ففي مثل: شارك في ميادين الإصلاح، فينهض بلدك

يصح أن يقال: شارك في ميادين الإصلاح ينهض بلدك

بجزم المضارع: "ينهض". ولا يصح هذا في واو المعية؛ -كما سيجيء قريبا1.

=

والواو كألفا، إن تفد مفهوم مع

كلاتكن جلدا، وتظهر الجزع-3

يريد أن "الواو" كفاء السببية في كثير من الأحكام -وفي مقدمتها وقوعها بعد النفي وما ألحق به، وبعد الطلب بنوعيه- مع نصب المضارع بأن المضمرة وجوبا، وعطف المصدر المؤول بعدها على مصدر قبلها

وقد اشترطوا في هذه الواو أن تكون بمعنى "مع" أي: دالة على المعية، ومصاحبة معنى ما قبلها وما بعدها في زمن وقوع النهي -وغيره- وتحققه. وساق مثالا معناه: لا تكن جلدا في وقت إظهار الجزع. وفي المثال عيب معنوي؛ إذ كيف يكون جلدا مع إظهاره الجزع.

1 في 387 ولهذا الحكم مسألة مستقلة تشمل تفصيله وشروطه تجيء في الصفحة المذكورة.

ص: 382

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- لبعض النحاة كلام مفيد في "واو المعية"، يتضمن ما قلناه. وملخص كلامه:

أن المضارع ينصب بعد "واو المعية" في سائر المواضع التي ينصب فيها بعد "فاء السببية"؛ وهي المواضع التي تكون مسبوقة فيها بالنفي وملحقاته، والطلب المحض وما حمل عليه.

وإنما يصح النصب إذا أردت المصحابة الحقيقية والاجتماع بين المعنى الذي قبل الواو، والمعنى الذي بعدها وقت حصولهما وتحققهما، والدلالة على أنهما يحصلان متحققان معا في وقت واحد، ولم ترد مجرد الاشتراك المطلق بين المعنيين اشتراكا لا مصاحبة فيه ولا اجتماع عند وقوعهما. وإذا نصبت المضارع بعد الواو فهي للعطف أيضا؛ فتعطف المصدر المنسبك بعدها على مصدر قبلها، لأنها مع إفادتها المعية والمصحابة تفيد العطف أيضا، وليست مقصورة على مجرد التشريك بين المعنيين كالذي تقتضيه واو العطف المحضة. أي: أن واو المعية هنا تقتضي التشريك والمصحابة الحتمية معا، وهما من خصائصها دون الواو المجردة للعطف وحده.

ثم يتكلم: نعم، إن الواو العاطفة قد تحتمل المصاحبة أحيانا كما في قولك: جاء محمد وعلي، ويتكلم محمود، ويصرح؛ وينظر

، ولكن هذا مجرد احتمالا لا يقين معه. وليست المصاحبة أمرا مقطوعا فيه، ولا منصوصا عليه؛ إذ معنى العطف بالواو الدلالة على مجرد الاشتراك، دون زيادة على ذلك؛ من ترتيب، أو تعقيب، أو إمهال. أو مصاحبة، أو غيرها، وهذه هي مهمتها الأصيلة، وما عداها يكون أمرا محتملا؛ يحتاج في القطع به إلى قرينة أخرى حالية، أو مقالية. فإن لم توجد القرينة بقي الاشتراك المجرد على حاله مقطوعا به، وما عداه فموضع الاحتمال، بخلاف الواو الدالة على المعية والمضارع بعدها منصوب؛ فإنها شاملة للأمرين مجتمعين؛ فهي للعطف، وللمعية معا، ولا مجال للاحتمال في أحدهما؛

ص: 383

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إذ المعية مقطوع بها1 هنا كالعطف.

ومتى ثبت أن المضارع لا ينصب إلا بعد الواو التي للمعية -بالشروط التي عرفناها- ثبت كذلك أنه لا يصح نصبه بعد "واو" غيرها؛ كالواو التي للاستئناف والجملة المضارعية بعدها مستأنفة. وكالواو التي للحال، والجملة المضارعية بعدها خبر لمبتدأ محذوف، والجملة من هذا المبتدأ وخبره في محل نصب حال، وكغيرها من أنواع الواو التي ليست للمعية

وعلى أساس الاعتبارات السالفة يجوز في الأمثلة التالية -وأشباهها- ضبط المضارع بعد الواو ضبوطا مختلفة؛ كل ضبط منها يؤدي معنى غير الذي يؤديه الآخر؛ فالضبط خاضع للاعتبار المعنوي، وإن شئت فالضبط خاضع للمعنى، ومتى تم الضبط صار هو المرشد للمعنى:

لا تقرأ وتأكل، لا تمش وتكتب، لا تغضب وتترك الحاضرين، لا تنتقل في الحديقة وتأكل ثمارها.. فيجوز في المضارع بعد الواو ما يأتي:

1-

نصبه على اعتبار الواو للمعية؛ فيتعين أن يكون النهي مسلطا على الأمرين مصطحبين معا، فالكلام نص في النهي عن الجمع بين هذين الأمرين؛ فهو بمعنى: لا تجمع في وقت واحد بين هذين الأمرين.

2-

جزمه على اعتبار الواو لمجرد العطف وحده من غير معية، فالمضارع بعدها بدون فاعله معطوف على المضارع السابق المجزوم، عطف فعل على نظيره الفعل. ويكون النهي منصبا على الأمرين أيضا، ولكن على سبيل التشريك الذي لا دلالة معه على مصاحبة، أو عدم مصاحبة. فالنهي مسلط على هذا وذاك سواء أكانا مصطحبين أم غير مصطحبين: فالاصطحاب وعدمه أمران محتملان، لا سبيل للقطع بأحدهما إلا بقرينة أخرى.

3-

رفعه على اعتبار الواو للاستئاف، فالمضارع بعدها مرفوع، والجملة المضارعية مستقلة في إعرابها عما قبلها. ولذا يتعين أن يكون النهي منصبا على ما قبله الواو دون ما بعدها، فما بعدها مباح لا يسري إليه النهي.

1 في الرأي الشائع.

ص: 384

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

4-

رفعه على اعتبار الواو للحال، والجملة المضارعية بعدها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف -في الرأي الراجح-1 والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب حال والنهي في هذه الصورة منصب على ما قبل الواو بشرط تقييده بما بعدها، أي: أنه ينصب على ما قبل الواو في صورة واحدة، هي التي يكون فيها مقيدا بالحال، ويتحقق فيها حصول القيد؛ ففي مثل: لا تقرأ وتأكل

، يكون المراد: لا تقرأ وأنت تأكل.. أي: لا تقرأ في الحالة التي تأكل فيها. أما في غير هذه الحالة فالأمر مسكوت عنه، لا دليل على النهي عنه أو إباحته، فلا بد من قرينة أخرى تعين أحدهما، وتزيل الاحتمال.

ب- ألحق الكوفيون "ثم" العاطفة بواو المعية في المعنى بشرط استقامة المعنى على المعية، وأن يسبقها النفي أو الطلب كما يسبقان واو المعية، فكلا الحرفين عندهم يؤدي العطف والمعية معا بالشرطين السالفين؛ مستدلين بأمثلة مسموعة، منها قوله عليه السلام:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم2 ثم يغتسل منه"؛ بنصب: "يغتسل" على اعتبار "ثم" للعطف وللمعية "معا"، والمضارع بعدها منصوب "بأن" المضمرة وجوبا.

وقد عورض رأيهم بأنه يلزم عليه أن يصير معنى الحديث -في حالة النصب- النهي عن الجمع بين البول في الماء والاغتسال منه، أي: النهي عن اجتماع الأمرين معا، ومصاحبتهما. ويترتب على هذا أن البول في الماء الدائم من غير اغتسال منه مباح؛ كما هو مفهوم الكلام السابق، مع أن هذا المفهوم مخالف للمراد من الحديث؛ إذ المراد منه -كما تدل قرائن متعددة- النهي المطلق عن البول في الماء الدائم، سواء أصحبة اغتسال أم لم يصحبه.

وشيء آخر؛ كيف تدل "ثم" على المعية والعطف معا ومعناها في العطف هو الترتيب والتمهل وهما ينافيان المعية؟ فهل المراد مطلق الاشتراك ولو بغير معية؟ قال بعض المحققين يناقش الكلام السابق كله بما معناه: "إن الإشكال نشأ من قول بعض النحاة: "الفعل: يغتسل" في الحديث السابق يجوز نصبه بإعطاء: "ثم" حكم واو الجمع

"3 فوقع في الوهم أن المراد إعطاؤها حكمها في

1 الذي يبيح ربط الجملة الحالية المثبتة بالواو وحدها.

2 الراكد.

3 مراده: حكمها في أن المضارع بعدها منصوب بأن المضمرة وجوبا.

ص: 385

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

المعية، مع أن أولئك النحاة لم يقصدوها. أما المفهوم والأخذ بما يقتضيه فإنما يكون حين لا يمنع منه مانع، ولا يصد عنه دليل؛ كالشأن في هذا الحديث الشريف فإن الأخذ بمفهومه غير جائز؛ لوجود ما يعارضه ويمنع الأخذ به؛ وهو ثبوت النهي عن البول في الماء الراكد مطلقا؛ سواء أكان معه استحمام فيه أم لم يكن.

وبناء على ما تقدم -من المذهب الكوفي وأنصاره- يكون نصب المضارع؛ "يغتسل" قائما على أساس إلحاق "ثم" بواو المعية في النصب مطلقا؛ أي: سواء اقتضى المعنى النهي عن المصاحبة والاجتماع أم لم يقتض.

ويصح جزمه على إرادة العطف المجرد الذي يفيد مطلق التشريك دون إفادة المصاحبة والمعية. ويصح رفعه عند ابن مالك وآخرين على اعتبار "ثم" حرف استئناف1 يرفع بعدها المضارع، كما يرفع بعد الواو والفاء الاستئنافيين1. ولا يجيز ابن مالك ومن معه العطف، لما يترتب عليه من عطف الخبر على الإنشاء، وهذا ممنوع على الأرجح"

وإلى هنا انتهى المراد من كلامه ملخصا2.

والأنسب ترك المذهب الكوفي هنا، وعدم القياس عليه؛ لقلة شواهده، ولما فيه من تكلف وتعقيد، والاقتصار في استعماله على المسموع الذي وردت فيه "ثم" بمعنى واو التشريك، المفيدة للمعية أو غير المفيدة لها.

1 و1 سبق -في ج3 م118 ص466 عند الكلام على "ثم" ما يؤيد وقوعها للاستئناف، ويزيد هذا الحكم وضوحا.

2 وقد عرض الصبان لهذه المسالة عند الكلام على "واو المعية"، وكذلك "المعنى" عند الكلام على "ثم" ج1.

ص: 386