المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مَدْخلٌ النَّاظِر في تَسْويدات هذا الجاهل (الهَدَّام) يلحظُ قضايا كلِّيةً جامعةً؛ - النصيحة بالتحذير من تخريب «ابن عبد المنان» لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌ ‌مَدْخلٌ النَّاظِر في تَسْويدات هذا الجاهل (الهَدَّام) يلحظُ قضايا كلِّيةً جامعةً؛

‌مَدْخلٌ

النَّاظِر في تَسْويدات هذا الجاهل (الهَدَّام) يلحظُ قضايا كلِّيةً جامعةً؛ ينكشفُ له - بها - (منهجُهُ) الّذي هو في حقيقتهِ ومآلهِ: لا منهج؛ إلاّ الجهلُ! والهَدْمُ والتطاوُلُ بغير علمٍ! !

* فأوّل هذه القضايا الكلية: أنّ تخريجاته - بل تخريباته - في الغالب مختصرةٌ لا تروي؛ وذلك لأنها على ثلاثة أقسام: الأول: ما يَعْزوهُ للشيخين أو أحدهما، فإنَّه لا يلزمُ أَنَّهُ صحيح عنْدَه، فَإِنَّهُ معروفٌ بأَنَّه لا يُقيمُ وَزْناً لهما ولا لغيرهما من عَشَرات الحفاظ؛ إذا خالفوا رأيه! فَكَم من حديثٍ صحيحٍ أخرَجاهُ وصَحَّحاه، ضَعَّفَه هو من عنده بجهلٍ بالغٍ في هذا التخريج، وفي تعليقه على طبعَتِه لِكِتابِ "رياضِ الصَّالِحين"! - وبِخاصةٍ فيما ذَيَّلَهُ عليهِ - أمثلةٌ عِدّةٌ، وقد بينت شيئاً منها في آخرِ المُجَلَّدِ الثَّاني من "الصَّحيحَة" الطَّبْعَةِ الجديدة، فانظر مثلاً: الاستدراك (6).

فإِذا أَطلق العزو إِليْهِما أو إلى أحَدِهِما، فليسَ يَعني بالضَروةِ أنَّهُ صَحيح عنده، فينبغي أَنْ لا يُغتَرَّ به، وقدْ رأَيْته في تعليقه على "مجموعة رسائلِ الشيخ محمد نَسيب الرفاعي رحمه الله" (ص 125) قد عزا حديثاً لمُسْلم مقيَّداً بقوله:"بإِسنادٍ قوي"! وهذا يُلْزِمُهُ أن يُبَيِّن للقراء ما هو الأصل عنده فيما رواه الشيخان أو أحدهما!

الثاني: ما يعزوه لغيرهما من أصحاب "السُّنن" و"المسانيد" وغيرها، فهو

ص: 9

يسكت عنها، ونادراً ما يُصَرِّح بصِحَّةِ شيءٍ منها أو تحسينها، وأحياناً يتقَصَّد تعميَةَ صحَّتها؛ إِما بكتمان بيان من صَحَّحها من الأئمة أو الحفّاظ - وقد يكونون ممَّن خرَّجوا الحديث -، وإما بقوله:"رجاله ثقات"، وهذا ليس نصّاً في التصحيح - كما هو معروف عند العلماء -.

الثالث: ما يُضَعِّفه منها؛ فهنا يختلف أسلوبه من الاختصار المُخِلِّ، إلى البَسْطِ المُضِرِّ، فتجدُهُ يصولُ ويجولُ (! )، ويَتَوَسَّع في الكلام على طرق الحديثا، والطعن في الرّواة، ويطيل النّفَس في ذلك جداً - في عدَّةِ صفحات، وبالحرف الصغير! - متظاهراً بأَنَّهُ بحَّاثٌ محقِّق، وهو في أكثر الأحيان يكون مُبطلاً ومتجنِّياً على العلم، ومضعِّفاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير حُجَّةٍ، ومخالفاً لجَمَاهير الحُفَّاظ والأَئِمَّةِ المتَقَدِّمين، والعلماء المحقِّقين، حتى ليَغلب على الظَّن أنَّه ما قام بالتَّخريج على هذه الصورة - المختصرة من جهة، والمبسوطة من جهة أخرى! - إلا لهدم السُّنَّةِ، وتضعيف أحاديثها، وبخاصَّةٍ ما كان منها في الحضِّ على التَّمسك بالسُّنّة، وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.

وهو في هذا - كُلِّه - إمّا متَّبعٌ لهواه، أو مقَلِّدٌ لأَمثالِه من أهل الأَهواءِ الَّذينَ لا يتبعون أصولَ العُلَماءِ وقَواعِدَهم الحديثيَّة والفِقهِيَّة، كما كنت أظنّ به هذا في أوَّل اطِّلاعي على بعض تخريجاته، ثم عند مناقشتي إياه في داري - في رمضان سنة (1412) - تضعيفَه لحديث العِرْباض بن سارِيَةَ - المرفوع -: "عليكم بسُنّتي وسُنّة الخُلفاء

"، مع كثرة طرُقه، وتصحيح الجَمِّ الغفير من الحفَّاظ والعلماء - له -.

ثم تأَكَّدت من ذلك بعد أن وقفت على تضعيفات أخرى كثيرة - له -

ص: 10

لأحاديثَ صحيحةٍ بطرق ملتوية غير عليية، وبآراء شخصيَّة هزيلة، لا يعجز عنها كلّ مثقف ثقافة عامّة، جاهل بهذا العلم، مغرور! !

* أمّا ثاني قضاياه؛ فإنّه - مع قِلَّةِ في يُصَحِّح أو يحسِّن - فهو يُجمِل الكلام ولا يُفَصِّلُ ولا يبيِّن سبب ذلك؛ بلِ يقول: "صحيح"، أو:"حسن"، ثم يمشي! وعلى القراء أن يُسَلِّموا له تسليماً، لأنَّه (حَذَامِ)!

ولا يخفى أن بيان الحقِّ في ذلك يكون إمّا بالنَّقلِ عن العلماء - إذا كان ليس منهم - كما هو واقِعُهُ -، أو بِبَيانه هو - إذا كان أَهلاً لذلك - كما يدَّعي هذا المغرورُ بنفسهِ لنفسه -.

وآكد ما ينبغي بيانه إذا حسَّنه ولم يُصحِّحهُ؛ لأنَّ التَّحسين يعني أن في بعض رواتِه ضعفاً، فينبغي الكَشفُ عنه، وعن سبب الضَّعف، حتّى يكون القارئ على بصيرةٍ من أمره.

وأوجب من ذلك كلّه بيان ما إذا كان صحيحاً لغيره، أو حسناً لغيره، وهذا يستوجب من الباحِث - إِذا كان عالماً حقاً ومخلصاً صدقاً - أن يتتبَّع الطرق والشواهد التي ترفع الحديث إلى درجة الصحَّهِ إذا كثرت، أو الحسن إِذا قلّت، وكلّ هذا مما لا يعرِّجُ عليه الرَّجل!

ولا أجدُ لذلك وجهاً إلاّ أحد أمرين:

أحدهما: أنَّه لا يتبنى - حقيقةً - ما عليه العلماء في علم المصطلح من تقسيم الحديث الثابت إلى قسمين: صحيح وحسن، أي: لذاته، ثم تقسيمهما إلى صحيح وحسن - لغيره -.

والآخر: أنَّه يتبنى ذلك، ولكنّه لا يستطيع القيام به، أو لا يريد القيام به، لأنَّه تخصَّص في تضعيفِ الأحاديحا الصحيحة بأوهى الحُجَجِ، ولا يهتمُّ

ص: 11

لتقوية الأحاديث الضعيفة بالمتابعات والشواهد، التي من ثمارها الحديث الصحيح لغيره والحسن لغيره عند العلماء، - كما سبق -.

وهذا الأخير هو الذي تدُلّ عليه بعض تخريجاته، أي: أَنَّهُ لا يريد تتبّع الأحاديث الصحيحة أو الحسنة لغيرها - كما ذكرت -. يضاف إلى ذلك؛ أن تحقيق ذلك يتطلّب بحثاً وجهداً مُضْنِياً في كثير من الأحاديث، كيف وهو يضِنُّ ويبخل أحياناً بأن يصرِّح بصحَّةِ إِسناد بعض الأحاديث التي لا تُوافِقُ هواه، ويكتفي فيها بقوله:"رجال إِسناده ثقات"! وحقُّهُ أن يقول: "إسناده صحيح، رجاله ثقات ".

أمّا التقسيم الأول: صحيح وحسن، فهو يستعمله في بعض الأحاديث، على قلَّةٍ - كما تقدَّم -، وبدون بيان، لكنَّه يشَكِّكُ في بعضها أحياناً بقرنه ذلك بقوله:"إن شاء الله تعالى"! - كما سترى -؛ فلا تدري أذلك منه تحقيقاً أم تعليقاً؟ ! وهذا الآخر هو الأظهر! !

ويعود سبب عدم بيانه لما ذكرنا - من التصحيح والتحسين - فيما تبيّن لي من تتبُّعي لتخريجاته -؛ أن لا يكشف عن منهجه في ذلك، وأنَّه لو فعل لكان (كالباحث عن حتفه بظِلْفِهِ) كما يقال

وَلْنُقَرِّبْ ذلك للقراء بمثال: ما صَحَّحَه من الأحاديث أو حسَّنه، لو أنَّه بيَّن السبب للزمه تصحيح أو تحسين أحاديث ضعَّفها هو! فقد تقدَّم أن الحديث الحسن إنما نزل من مرتبة الصِّحَّةِ؛ لأن في بعض رواته ضعفاً، فلو أنَه بيَّن الرّاوي الذي يرميه بالضعف للزمه أن يُحَسِّنَ أحاديثه الأخرى، فهو من أجل ذلك يكتم ولا يبيِّن، ولا سيَّما وهو في كثير من الأحاديث التي يضعِّفها لا يزيد في بيان سبب الضعف على قوله:"فيه فلان وفيه ضعف" - وقد لا

ص: 12

يُسَمِّيه! -، فقوله:"فيه ضعف" - وهذا إذا كان يعني ما يقول - يساوي قول القائل: "وإِسناده حسن؛ لأن فلاناً فيه ضعف"، فلو أنَّه سَمّى الراوي الذي حسّن حديثه لانفضح، وتبيَّن أنَّه لا يلتزم القواعد العلميّة الحديثيّة، وهذا عندي يقين؛ {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} !

وكذلك يقال إذا بيّن أن الحديثَ صحيح لغيره، أو حسن لغيره، فإِنَّه يُلْزَمُ بتصحيح أو تحسين كثير من الأحاديث التي ضعَّفها بعد أن ساق طرقها الكثيرة، وأقرب مثال على ذلك حديث العِرباض، ومع ذلك؛ فإِنَّه لمٍ يتوَرَّع من تضعيفه - كما لمشرى في ردّي عليه رقم (2) -، وتجد تحته مثالا آخر؛ وهو تضعيفه لحديثْ "اقتدوا باللَّذين بعدي

"، مع أنَّه خَرَّجَهُ من أربعة طرق، وقد قَوّاه جمع، فلم يلتفت إلى ذلك كلّه! الأمر الذي يُشعر الباحثَ أنَّه لا يعتَدّ بقاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق المعتبرة عند العلماء كافّةً - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله؛ وله بحث عظيم في تأييدها وشرحها، نقلته في رسالتي في "الرّد على ابن حزم في إباحته لآلات الطرب وعلى مقلديه" (1) - ومنهم (الهدّام) هذا، كما سترى تحت الحديث (79) -.

ولذلك لا تكاد تجد له حديثاً يقوّيه اعتماداً على هذه القاعدةِ، ومثله في هذا بعض الناشئين الجهلة، ولعلَّ منهم مؤلف رسالة:"بذل الجهد في تحقيق حديثي السوق والزهد"؛ فإنَّه ضعّف حديث السوق - وقد خرّجه من سبعة طرق، وأكثرها ليس فيها متّهم -، وقد رددت عليه في بعضِها مِمّا حسن إسناده الحافظ في "الصحيحة"(3139).

* وأمّا ثالثُ فواقِرِ هذا (الهدَّام): فإنَّهُ حين يتتبَّعُ طُردا الحديث الذي خطَّط لتضعيفه، ويُخَرِّجها - عازياً إلى المصادر بأرقام أجزائها وصفحاتها -:

(1) وهي مطبوعةٌ - بحمد الله وتوفيقهِ -.

ص: 13

يتظاهرُ أن ذلك من كدِّه واستخراجِه منها! وإِنَّما هو - حقيقةً - ممن تقدَّمه من المُخَرِّجين من السابقين أو اللاحقين، وقد يضيف شيئاً جديداً - مصدراً، أو رَقْماً - ستراً لسرقته، ولكن الأمر كما قيل:"من أسَرَّ سريرةً أَلبَسَهُ الله رداءها"، وكما قال الشاعر:

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ

وإنْ خالها تخفى على الناسِ تُعلمِ

وأَكثرُ تخاريجه المُطَوَّلة من هذا القَبيل - في هذا الكتاب وغيره -، ثم هو يسلِّط عليها آراءه الخاصّة في نقدها، مخالفاً في ذلك قواعد أهل الحديث والعلم - كما تقدَّمَت الإشارة إلى ذلك -، وترى تفصيل ذلك فيما يأْتي.

وإِن مما يؤكِّد ما ذكرت أمرينِ:

أَحدهما: أَنَّه من النادر جداً أن يستدرك على من أشرنا إليه من المخرِّجين طريقاً أو متابعاً أو شاهداً لم يذكروه، لأنَّ ذلك ينافي تخطيط (الهدَّام) المذكورِ! بل قد يكتم بعض ما ذكروا من الطرق، وبخاصَّةٍ إذا كانت من تخريج الألباني، وبصورةٍ أخصَّ ما كان منها معزوّاً لبعض المخطوطات التي لم ترها عينه، والأمثلة أمامك.

والآخر: أَنَّه قد يقع في نفس الخطإ الذي كنت وقعت أنا فيه - قديماً - سواءً ما كان منه حديثيّاً أو مطبعيّاً - "ركوناً منه إلى السرقةِ، أو التقليد، وتماشياً مع الهدم الذي نذر نفسه له.

والأمثلة في ذلك كثيرة، ويحضرني الآن مثالان:

أ - حديث: "إن كنت تحبني فأَعِدَّ للفقر تِجفافاً

"؛ فقد كنت قديماً ضَعَّفته في مُقَدِّمَة تخريجي لأحاديث "رياض الصالحين" (ص: هـ طبعة

ص: 14

المكتب الإِسلامي الأولى سنة (1399 هـ)(1)، وأَحَلْتُ في بيانه على "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1681) - وقد طُبع في مكتبة المعارف سنة (1408) -، فوجدها (الهدَّام) لقمة سائغة، فتلقّفها، ولخّص كلامي فيه في سطرين - فقط -، وأودع ذلك في "ضعيفته" التي جعلها في آخر طبعته لى "الرياض "! متفاخراً بقوله:"وافقني على تضعيفه الشيخ شعيب"، ودون أن يقول: وسبقنا إلى ذلك الشيخ ناصر! فهل يقول: ولَخّصته من كتاب الشيخ ناصر؟ !

ولكني أحمد الله - تعالى - وأشكره على أن هداني ووفّقني للرجوع عن خَطإِي، وذلك بعد أن يسَّر لي الوقوفَ على بعض الشواهد الصحيحة له، فبادرت، فخرّجته، وأودعته في المجلّد السادس من "الصحيحة" برقم (2827)، وهو مطبوعٌ - بحمد الله تعالى -.

ب- حديث: "اللهم اكْفِني بحلالك عن حرامك

" الحديث، كنت قد خرّجته في "الصحيحة" برقم (266) وعزوته للترمذي والحاكم وأحمد (1/ 153)، فأَخذها لقمة جاهزة - أيضاً -، ويشاء الله - تعالى - أن يفضحه ويكشف سِتْرَه، وسرقته، فقدَّر - سبحانه - علي أن أُخطئ في عزوي إياه

(1) وأما طبعة المكتب سنة (1412 هـ) فهي غير شرعية؛ إذ قد عبث الناشر بتخريجي المشار إليه آنفاً، وزوَّر تعليقات باسم "تحقيق جماعة من العلماء"؛ وهو كذب وزور، وإنَّما هو شخص جاهل وحاقد، زَوَّر ذلك لترويج كتابه، كما فعل (الهدَّام) في طبعتهِ لـ"الرياض" باسمهِ الأصيل؛ ترويجاً له ومضاربةً منه لطبعة اليكتب الإسلامي الأولى، مع أن الواقع الذي عبّر عنه (الهدَّام) نفسه في بعض تعليقاته عليه أنَّه "مختصره"! ولذلك ترى تاريخ طبعته عين تاريخ طبعة المكتب (1412)؛ فلا يُدرى أيهما السابق إلى المضاربة؟ !

ثم إن من عجائب الزمان أن يتفقا على محاربة السنّة" وذلك بتكليف الأوّل لـ (الهدَّامِ) أن يعلّق على "مجموعة رسائل الشيخ نسيب الرفاعي رحمه الله "، فعاث في تعليقه فساداً، وأنكر قول مالك: "الاستواء معلوم

" إِلخ، وغير ذلك من جناياته على السنة، ومع ذلك طبعه صاحب المكتب الإِسلامي، وهدم ما كان بناه في كثيرٍ من مطبوعاته، فسبحان مقلِّب القلوب!

ص: 15

لأحمد، والصواب (عبد الله بن أحمد)

وهذا قُلٌّ من جُلّ من سرقاته وتشبّعه بما لم يُعْطَ، يعرف ذلك كل من له مشاركة في هذا العلم، ومعرفة بطريقة تخريجه للأحاديث - وبخاصَةٍ في "ضعيفته"-.

ومن جنايته على هذا الحديث، وخيانته للعلم، أنَّه ضَعَّفَهُ بادِّعاء أنَّ راويَه (عبد الرحمن بن إسحاق) هو (الواسطي) - المجمع على ضعفه -، والواقع أنَّه (القرشي) - كما وقع في رواية (عبد الله بن أحمد)؛ خلافاً لرواية التِّرمذي فليس فيها هذه النِّسبةُ -، فظنَّ بعض شراحه أنَّه (الواسطي)، وبيَّنت سبب ذلك في "الصحيحة"؛ فتجاهل (الهدَّام) ذلك كلَّه - مشاكسةً ومعاندةً للحق -، كما تجاهل تحسين التِّرمذي للحديث، وتصحيح الحاكم والذهبي إيَّاه.

ثم رأَيت نسبة (القرشي) قد وقعت في رواية البيهقي- أيضاً- في "الدعوات الكبير"(134/ 177)، كما رأيت إقرار الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(1/ 324) التِّرمذي على تحسينه، والحاكم على تصحيحه.

وقد شرحت الرَّد عليه وعلى من سبقه إلى هذا التضعيفِ والتوهّم - كالشيخ شعيب وتلامذته - في الاستدراك (8) في ذيل المجلّد الأوّل من "الصحيحة"(ص 927 - 932).

* أمّا ملحظُنا الرابعُ؛ فإنَّ الرجل لا يحمل العِلْمَ ولا يدريه، ولا أدَلَّ على ذلك من عزوه بعض الأحاديث إلى غير مصادرها من الأمهات المعروفة، وقد يكون في "الصحيحين" أو أحدهما، بل قد يعتمد في العزو على بعض المتأخرين؛ كصاحب "كنز العمال" والأمثلة كثيرة، تأتي، فانظُر مثالين برقم (18)، وانظر (رقم 21 و 32 و، و 56 و 58 و 59).

ص: 16

* وأمّا خامسُ طامّاتهِ؛ فإنّه يتبنى بعض الأقوال التي يظن هو أنَّها (قاعدة) - أو يتظاهر بذلك -؛ لأنَّها تساعده في المخالفة لسبيل المؤمنين، وتضعيف الأحاديث الصحيحة، وهي في الواقع تُنافي القاعدة الحقيقيَّة التي عليها استقر قول العلماء، وجرى العمل بها، وهي: الاكتفاء بالمعاصرة في إثبات الاتصال من غير المدلّس:

قال الرجل في رسالته "الحوار"(ص 66):

"وقاعدة جمهور المتقدمين من النقَّاد أن الرّواية تقتضي الاتصال وتدلُّ عليه، إِذا ثبت اللقاء بين المعنعِن والمعنعَن عنه، ولو مرَّة واحدة، وكان الرّاوي بريئاً من تهمة التدليس، وهذا هو الذي عليه رأي الحذَّاق كابن المديني، والإمام البخاري، وأكثر الأئمة".

والرَّد عليه من وجوه:

الأول: قوله: "قاعدة"، و"أكثر الأئمة"! من مبالغاته وتدليساته التي لا تنفكُّ عنه - أو لا ينفكُّ هو عنها -! فليس هناك (قاعدة) بالمعنى المعروف، وإنما هو (رأي) - كما قال أخيراً - لبعض من ذكر، خولف فيه - كما يأتي -، ومن أكثر الأئمة، - خلافاً لزعمه! -، فقد استقر رأي جماهيرهم - كما سيأتي في نص الإمام النووي - على ما قدّمت من الاكتفاءِ بالمعاصَرةِ بالشرط المذكور.

وكانت الأقوال قبل الاستقرار أربعة:

1 -

المعاصرة.

2 -

اللقاء.

3 -

السماع.

4 -

طول الصحبة.

ص: 17

وهي مذكورةٌ في كتب المصطلح، وبخاصة الشروح منها، وقد بَسط الكلامَ عليها الحافظُ السيوطيُّ في "تدريب الراوي"(1/ 216)، فمن شاء التفصيل رجع إليه.

ولكنْ؛ لا بُدّ من ذكر نص الإمام النووي؛ لأهميّتهِ وكثرة فائدته؛ ليكون القرَّاء على بيّنة من الأمر: قال رحمه الله في "التقريب"(1/ 214 - 215 - بشرح "التدريب")، وأصلِهِ "إرشاد طلاب الحقائق" (1/ 185 - 186):

"الإسناد المعنعن - وهو فلان عن فلان -، قيل: إِنه مرسل؛ والصحيح الذي عليه العمل - وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول -: أنَّه متصل بشرط أن لايكون المعنعِن مدلِّساً، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضاً.

وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف؛ منهم من لم يشترط شيئاً من ذلك - وهو مذهب مسلم بن الحجاج؛ وادّعى الإجماع فيه -".

وفي هذا النصِّ من الإمام النووي ما يُشعر أنَّه كان هناك اختلاف شديد بين العلماء في شرط الاتصال بين الراويين، ثم استقرَّ رأيهم وعملهم على الاكتفاء بالمعاصرة، وأنَّه شرط أساس، وأنَّ ما سوى ذلك شرط كمال، فإِن وجد فالحمد لله، وإلاّ ففي (المعاصرة) بشرطها خيرٌ وبركةٌ؛ وعلى هذا أصحاب "الصحاح" و"السنن" وغيرهم.

وهذا التفصيل هو الذي قال به الحفاظ من بعدهم؛ فهذا الإمام الذهبي يقوِّي مذهب مسلم حين تعرّض لذكر الخلاف بينَه وبين البخاري بقوله في "السير"(12/ 573): "وقول الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني؛ هو الأصوب الأقوى".

ص: 18

فهذا - منه - كالنِّصِّ على مذهب مسلم صواب وقوي، كما لا يخفى. ونحوه قول خاتمة الحفاظ الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى - في "النكت على ابن الصلاح" (1/ 289):

"لأنَّا وإن سلّمنا بما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال؛ فلا يخفى أنَّ شرط للبخاري أوضح في الاتصال".

ونحوه في كتبه الأخرى، مثل "مقدِّمة الفتح" و"نزهة النظر"، وعلى ذلك كتب التخريج قاطبةً، لايكاد الباحث يجد فيها حافظاً إلاّ مكتفياً في التصحيح بالمعاصرة؛ كما سترى فيما يأتي من الأحاديث التي صَحَّحُوها، وعاكسهم (الهدَّام) فضعَّفها - بناءً على قاعدته التي ادَّعاها! -.

على أنني كنت وقفت على قولٍ لبعضهم في شروح المصطلح: أنَّ شرط اللقاء عند البخاري إنَّما هو في "صحيحه" فقط، وكنت متوقِّفاً عنه بُرهةً من الزمن؛ حتى رأيت التِّرمذي قد نقل عنه في "سُنَنِه"(128) تحسينَ سند حديثٍ؛ فيه مَنْ لا يمكن إثبات لقائه للراوي عنه.

تم رأيتُهُ في "العِلَل الكبير"(1/ 188 - بترتيب القاضي)؛ وفيه قوله: "هو حديثٌ حسنٌ، إلا أنّ إبرأهيم بن محمد بن طلحة هو قديمٌ، ولا أدري: سمع منه عبد الله بن محمد بن عَقِيل، أم لا؟ ! وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديثٌ صحيحٌ".

وفي ظنِّي أنَّه من الممكن أن يجد الباحث فيه أمثلةً أخرى عند التتبُّع، لكثرة الأحاديث التي يذكر فيه عنه تحسينها أو تصحيحها؛ فَقَوِيَ الظنّ. عندي أنَّه شرط كمال عنده، وليس شرط صِحَّةٍ.

وازداد ظنِّي قوَّةً حين رأيت (أبا حاتم الرّازي) في "العلل" يحسِّن إسناد

ص: 19

حديث تابعيٍّ عن صحابي بحجَّةِ أنَّه أدركه ولم يَلْقَهُ، ولذلك لم يُصَحِّحْهُ، فكان هذا منبِّهاً قويّاً على أنَّ إعلاله - هو وأمثاله - لبعض الأحاديثِ لعدم اللقاء؛ إنَّما هو لنفي الصِّحَّةِ، لا الحُسْنِ، فثبت بذلك عندي أن (اللقاء) شرط كمال، في بحثٍ أودعتُهُ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(6546).

ولهذا؛ فإِني أسأل (الهدَّام): لِمَ تَبنَّيْتَ شرط (اللقاء) كشرط أساس تُضَعِّفُ به الأحاديث؛ لجهلك بتحقُّقِه فيها؟ !

فإِن قال: لأنَّه أحوط وأقوى!

قلنا: هذا قد يُسَلَّم، ولكن ذلك لا ينفي قوَّة شرط (المعاصرة) - كما تقدّم بيانه من نصوص الحفّاظ - هذا أوّلاً -.

وثانياً: يلزمك أن تتبَنّى - أيضاً - الشرطين الآخرين: (السماع) و (طول الصحبة)، فإِنَّهما - بلا شك - "أحوط وأقوى"! !

أما نحن: فنلتزم هذه الشروط كُلَّها، مع التفريق بين ما هو شرط صِحَّةٍ - وهو (المعاصرة) -، وما سواه - وهو شرطُ كمالٍ -، ممّا قد تفيد ملاحظتها عند التعارض والترجيح.

ومن حُجَّتنا على هذا (الهدَّام) أمران هامّان جداً:

أحدهما: أن من المتفق عليه بين علماء المسلمين كافّةً لثبوت الحديث

- شرطيّة (المعاصرة وإمكان اللقاء) مع السلامة من التدليس - كما تقدم -؛ فمن

زاد على هذا شرطاً آخر؛ قيل له: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

و(الهدَّام) حين تبنّى شرط اللقاء، وضعّف به حديث:"عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين" - الذي اتَّفق العلماء قاطبةً على صحَّته، مع تعدُّد طرقه - ضعَّفها هو كُلّها بأساليبه الملتوية؛ منها زعمه أنَّه لم يتَحقَّق فيه شرط

ص: 20

اللقاء! مع أنَّ في بعض طرقه تصريحَ الرّواي بالتحديث؛ فكابر وأعلّه به -.

والمقصود أنَّه حين تبنَّى (اللقاء) لم يذكر أي دليل على أنَّه شرط صِحَّةٍ، إلاّ تقليده لبعض الأقوال، ثُمَّ هو يتّهم غيرَه بالتقليد!

والأمثلة الكثيرة التي ذكرها في رُسيِّلته "حوار

" (ص 66 - 75)، كان أكثرها مُعَلاًّ بالإرسال والانقطاع؛ لأسباب أخرى غير عدم الاعتداد بشرط (المعاصرة) - كالتدليس في (حبيب بن أبي ثابت)(ص 67)، و (الحسن البصري)(68، 5)، و (زيد بن أسلم)(69/ 7) و (قتادة)(69/ 11)، و (أبي قلابة)(70/ 14) -، فهؤلاء إنَّما أُعلّت رواياتهم بسبب التدليس، وليس لعدم الاعتداد بالمعاصرة؛ فتنبّه.

فهكذا الرجل يتشبَّع بما لم يُعْطَ، ويدلِّس على القراء، ويقلِبُ عليهم الحقائق.

ومن هذا القبيل مثاله (8): "أبو حاتم قال في خالد بن مَعدان: أدرك أبا هريرة، ولا يُذكر له سماع"؛ فهذا لا يدُلّ على شرط اللقاء، وإنَّما على عدم إمكان اللقاء، وذلك لاختلاف البلد، فأبو هريرة مدني، وخالد حمصي.

ومثله المثال (6)؛ فإنَّه من رواية كوفي عن شامي.

وقد أفصح الإمام أحمد رحمه الله عن هذا السبب في بعض التراجم؛ فقال - كما في "مراسيل العلائي"(213/ 196) -: "ما أحسب لقي (زُرارة) (تميماً)، تميم كان بالشام، وزرارة بصريٌّ كان قاضياً".

وإذا كان أحمد يحتجُّ بالمرسَل في بعض الروايات عنه، موافقاً في ذلك لمالك وغيره - كما في "جامع التحصيل"-؛ فكيف لا يحتجّ بالمسند من

ص: 21

معاصر لصحابي، والمعاصر غير مُدَلس؟ (1) فما نسبه (الهدَّام) لأحمد في المثال (5) هو من تدليسه وتضليله للقراء! لأنّه في المدلِّس! ومثل قول أحمد - المتقدم - قول أبي حاتم في (ابن سيرين):"ما أظنّهُ سمع من أبي الدرداء، ذاك بالشام وهذا بالبصرة"(2).

ولم يكتف (الهدَّام) بهذه الأمثلة المضلِّلة التي لا علاقة لها بدعواه، بل ذكر أمثلَةً أخرى تدور على بعض التابعين المجهولين - كما في رقم (6) -؛ فعبدُ الحميد بن سالم، عن أبي هريرة؛ فهذا مجهولٌ، - ومثله:(12) - وفيه عن بعضهم: "لا يعرف سماع سلامة الكِندي عن علي، والحديث مرسل".

قلت: فسلامة هذا مجهول، وله حديث ضعيفط خَرَّجته في "الضعيفة" تحت الحديث (6545).

ولم يقف عند هذا التضليل؛ بل ذكر في المثال (3) عن الواقدي؛ قال: "عبد الرحمن بن صبيحة التميمي، لم يُذكر له سماع ولا صحبة".

والواقدي متروك متّهم؛ وليس من أئمَّة الجرح والتعديل، ولكن المضلِّل يتعلَّقُ - كالغريق - ولو بخيوط القمر، ولو كان الواقديُّ ثقةً ومن الأئمة؛ فهو كتلك الأمثلة المتقدمة؛ ليس لها علاقةٌ مطلقاً بموضوع اللقاء والمعاصرة، وإنَّما بـ (المراسيل).

(1) ثم رأيت الحافظ ابن رجب سبقني إلى هذا، فقِال في "شرح علل الترمذي" (1/ 374) - بعد أن ذكر أَنَّه يلزم من شرط اللقاء طرح أكثر الأحاديث وترك الاحتجاج بها -:"من ههنا عَظُمَ ذلك على مسلم رحمه الله، والصواب أَنَّ ما لم يَرِدْ فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله (! )، ويُحْتَجُّ به مع إمكان اللُّقِيِّ، كما يُحْتَجُّ بمرسل أكابر التابعين - كما نص عليه الإمام أحمد -، وقد سبق ذكر ذلك في (المرسل) ".

(2)

"مراسيل ابن أبي حاتم"(ص 116)، و"العلائي" (324/ 683). وقوله: "ذاك

" إلخ " هكذا وقع فيهما على القلب، والجادّة: "هذا

وذاك

".

ص: 22

ولهذا لا يجوز نسبة القول إلى هؤلاء الحفّاظ أنَّهم يشترطون اللقاء ولا يكتفون بالمعاصرة، ولو لم يوجد سببٌ مانعٌ من ذلك من تلك الأسباب ونحوها، فإن لهم - لسعة حفظهم وقوّة إدراكهم - ملاحظاتٍ وتعليلاتٍ قد تخفى على الكثيرين؛ وبخاصّةٍ المتأخِّرين من أمثالنا، فتكون ملاحظاتهم سبباً مانعاً من الاحتجاج بالمعاصرة أحياناً، كما هو الشأن عند القائلين بها، الذين اشترطوا إمكان اللقاء مع السلامة من التدليس، فإِذا انتفى سببٌ من الأسباب المانعة، احتجَّ المحققون بالمعاصرة مع إمكان اللقاء، وإليك بعضَ الأمثلة:

1 -

مجاهد عن عائشة: أنكر غير واحد سماعه منها، كما رواه ابن أبي حاتم في "المراسيل"(ص 125)، وأجاب العلائي (336/ 736) بقولِهِ:"قلت: وحديثه عنها في "الصحيحين"، وقد صرَّح في غير حديث بسماعه منها"(1).

وأقول: أحدها في "الصحيحّين"(1776 - خ)، (4/ 61 - م)، وليس هذا هو اليقصودَ هنا، وإِنَّما هو قول ابن حبّان عَقِبَ حديثما مجاهد عن عائشة مرفوعاً:"لا تسبّوا الأموات، فإِنَّهم أفضَوا إلى ما قدَّموا" - ورواه البخاري (1393 و 6516) -، قال ابن حبان (7/ 291):

"ماتت عائشة سنة سبع وخمسين، وولد مجاهد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، فَدَلّك هذا على أنَّ من زعم أنَّ مجاهداً لم يسمع من عائشة؛ كان واهياً في قوله ذلك".

2 -

يعقوب مولى الحُرَقة، قال: قال عمر بن الخطاب

فذكر أثراً له أخرجه التِّرمذي، وقالما (487):

"حسن غريب

، ويعقوب - جد العلاء -؛ من كبار التابعين، قد أدرك عمر بن الخطاب، وروى عنه".

(1) وانظر "السير"(4/ 451).

ص: 23

3 -

سعيد بن المسيَّب، قال: قال أنس

فذكر حديثاً مرفوعاً، أخرجه التِّرمذي (2685)، وقال:

"حديث حسن غريب من هذا الوجه (1)، قال شعبة: "ولا نعرف لسعيد عن أنس إلاّ هذا"، ومات أنس سنة (93)، وسعيد (95) "(2).

قلت: وهذا اعتدادٌ صريحٌ بالمعاصرة، خلافاً لما يُعزى لشيخه البخاري، وليس كذلك إذا تذكَّرت التفصيل - المتقدم - في شرط البخاري، وأنَّه خاصٌّ بـ"صحيحه"، وأنَّه شيخه في مثل هذا التحسين، فتذكّر.

4 -

حُميد بن عبد الرحمن، قال أبو زُرعة:"عن علي وأبي بكر: مرسل". ذكره ابن أبي حاتم في "المراسيل"(37)، وَالعلائي (202/ 145)، إِلاّ أن هذا تعقّبه بقوله:

"قلت: قد سمع من أبيه وعثمان رضي الله عنهما؛ فكيف يكون عن علي مرسلاً وهو معه في المدينة؟ ! نعم، روى عن عمر رضي الله عنه، وكأنَّه مرسل".

وأقول: ليت أبا زُرعة وغيره من حُفَّاظنا كانوا يتحفَّظون في نفيهم السماع والجزم بالإرسال كما تحفّظ العلائي بقوله: "كأنَّه مرسل"؛ فإِنَّ النفي في الغالب يكون مساوياً لقوله: "لا أعلم"؛ فيكون هذا التعبيرُ أقربَ إلى الصواب

(1) قلت: وكذا قال في حديث آخر من هذا الوجه (589)، والتخريج في "المشكاة"(175 و 997 و 4652).

(2)

قلت: وهما مدنيان، وسعيد أبعد الناس عن التدليس؛ فهو محمولٌ على السماع، وقد أشار ابن رجب إلى هذا - كما في رسالة "حسم النزاع في مسألة السماع"(ص 27) لأحد الطلَبةِ المعاصرين -، إلاّ أنَّه استدرك فقال:"لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال"! قلت: ولا بالانقطاع؛ بل الاتصال هو المناسب لقوله: "حسن غريب من هذا الوجه"؛ فتأمل!

ص: 24

من الجزم المذكور؛ لما يترتَّب عليه من إعلال الأحاديث بغير حُجَّةٍ بيِّنة، ثم

استغلال ذلك من أهل الأهواء والجهلة.

لقد أعجبني تحفّظ العلائي؛ لأنَّه ثبت أنه لقي عمر أيضاً، فقد روى ابن سعد (5/ 154) بسنده الصحيح عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: رأيت عمر وعثمان يُصَلِّيان المغرب في رمضان إِذانظرا إلى الليل الأسود، ثم يُفطران بعد.

ولذلك ذكرهما الحافظ المزي في جملة من روى عنهم حميد، وإن كان يحتمل أن يكون يومئذٍ صغيراً، ويقوِّي هذا الاحتمالَ - إن صَحَّ - ما ذكروه في تاريخ وفاته، وعلى كلّ حال فليس المقصودُ الآن تحقيقَ سماعه عن الخليفتين، وإِنَّما بيان اعتماد العلائي على (المعاصرة) في ردّه على أبي زرعة؛ فتنبَّه.

ومن هذا القَبيلِ المثالُ الآتي:

5 -

قيس بن أبي حاتم، ذكر العلائي أنَّه سمع من العشرة المبشَّرين بالجنَّة، إلَّا عبد الرحمن بن عوف، ولم يعز الاستثناء لأحد، وهو لأبي داود وغيره، وذكر عن ابن المديني أنه: "لم يسمع من أبي الدرداء وسلمان، وروى عن بلال ولم يلقه

"، ثم تعقَّبه بقوله:

"في هذا القول نظر، فإِن قيساً لم يكن مدلِّساً، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فيها مجتمعون، فإِذا روى عن أحدٍ [منهم، فـ] الظاهر سماعه منه"

وإن في هذه الأمثلة لَغايةَ البيان على أنَّ عمل حفّاظ الأُمَّة قد جرى على الاحتجاج بالمعاصرة - إذا لم يكن هناك مانعٌ من تدليس، أو عدم إمكان اللقاء -، على أنَّ هذا غير مُطَّرِد، فقد تكون الرواية أحياناً مراسلةً ومكاتبةً بين

ص: 25

اثنين لم يلتقيا، ومع ذلك فهي حُجَّةٌ محمولةٌ على الاتصال عند العلماء كافّةً، فانظر "مراسيل العلائي"(ص 199 و 218 و 320 و 372).

وبهذا ينتهي بنا الكلام في حُجَّتنا الأولى على ذاك (الهدَّام).

وأمَّا الحُجّة الأخرى عليه، فهي:

أنَّ أهل الأهواء وأعداء السنَّة قد يتَّخذون اشتراط اللقاء سُلَّماً للطعن في الأحاديث الصحيحة، حتى ما كان منها متَّفَقاً عليه بين الشيخين وغيرهما، وبخاصَّةٍ إِذا كان هناك (قِيلٌ) بعدم السماع من الرّاوي عن المروي عنه - كما تقدم في المثال الأوّل -، ولذلك؛ فإِنَّه يجب تبنّي قول جماهير العلماء بالاكتفاء بالمعاصرة؛ من باب (سدِّ الذريعة) - أيضاً -؛ الذي هو من القواعد الهامّة في الشريعة.

وما لنا نذهب بعيداً، فهذا هو (الهدَّام) قد استغلَّ هذا الشرط استغلالاً سيِّئاً جداً وتوسَّع فيه؛ حتى فيما ثبت فيه اللقاء، ولم يصرِّح الرّاوي بالسماع وليس مُدَلِّساً، فضعَّف في "ضعيفته - "رياض الصالحين"" حديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً:"صدقك وهو كذوب"، فقد خرّجه من طريق ابن سيرين عنه، وأعلَّه بقوله: "لعلَّ البخاري

ولعلّ البخاري

"! ! بما لا مجال الآن للرّد عليه، ثم عزَاه للنسائي من طريق أبي المتوكّل الناجي، عن أبي هريرة، بقوله في "ضعيفتِه" (ص 535):

"أرى أن أبا المتوكِّل لم يسمع من أبي هريرة"!

وهذا ممّا لم يقله عالمٌ من قبل؛ كما يشير هو إلى ذلك بقوله: "أرى" دونما أي خجل! وقد رددت عليه في "الصحيحة" تحت الحديث (3162). وكذلك ضَعَّف - فيها - (ص 559 - 560) حديثين من رواية عبد الله بن

ص: 26

بريدة، عن أبيه - مرفوعاً -، أعلَّهما أيضاً بالانقطاع بين عبد الله وأبيه، مع أنَّ سماعه عنه ثابت في عِدَّةِ أحاديث، واحتجَّ الشيخان أيضاً بروايَته عن أبيه! ! والحديث الأوّل مخرَّج في "الصحيحة"(94)، والآخر في "الإرواء"(2576)، وصحَّحهما جَمْعٌ من العلماء، فراجعهما إن شئت.

وعلى هذا النَّمَط من الاستغلال السيِّئ والانحراف عن الحق؛ جرى (الهدَّام) في تخرِيجه لأحاديثَ كثيرةٍ في الكتب التي سوّد عليها تعليقاتهِ! ! وحسبك الآن مثالاً الحديثُ الآتي برقم (30)؛ فإِنَّه ضعَّف إسناده بقوله: "

فإِنَّ سالماً لم يصرح بالسماع منه".

وانظر الرَّدَّ عليه هناك.

وإنَّ من لوازم هذا عدمَ الاعتماد على الأسانيد الصحيحة المعنعنة مطلقاً، حتى التي يصحِّحُها الذين اشترطوا اللقاء مع السلامة من التدليس، فإِنَّهم لم يشترطوا السماع.

ولعلَّه مِن أجلِ هذا: لَمّا ذَكَرَ المحقق ابن دقيق العيد شرطَ السلامة من التدليس استصعبه جداً؛ حيثُ قال في كتابه القيم "الاقتراح"(ص 208) معقباً عليه:

"إلاّ إن الجَرْيَ عليه في تصرُّفات المحدِّثين وتخريجاتهم صعب عسير، يوجب اطِّراح كثير من الأحاديث التي صحَّحوها؛ إذ يتعَذَّر علينا إثبات سماع المدَلِّس فيها من شيخه، اللهم إلاّ أن يَدَّعيَ مُدَّعٍ أن الأوَّلين اطَّلعوا على ذلك ولم نطَّلِع نحن عليه! وفي ذلك نَظَرُ".

قلت: ولعلَّه من أجل تفادي الطرح المذكور؛ جعلوا المدَلِّسين طبقات، منهم من يُعْتفَرُ تدليسه لِقِلَّتِهِ، وتُقبل عنعنتهم كالثقات الذين في حفظهم

ص: 27

ضعف؛ فهؤلاء يُقبل حديثهم، على تفصيلٍ ذكره الحافظ العلائي في "مراسيله"(129 - 131)، ولبيان ذلك أَلَّفَ الحافظ ابنُ حَجَرٍ كتابه "طبقات المدَلِّسين"؛ وهو معروفٌ.

إذا عُرف هذا؛ فما عسى أن تكون نسبة الأحاديث الصحيحة التي سيطرحها هذا الأفينُ إِذا التزم إعلالها بعدم السماع؛ فضلاً عن غيره من العلل التي يختلقها، ويتجاهل موقف العلماء منها، وتصحيحهم للأحاديث التي يضعِّفها هو بها؟ !

عامله الله بما يستحقُّ.

* وأمّا سادسُ جهالاتهِ؛ فإنّك تراه كثيراً ما يضعّف بعض الأحاديث الصحيحة بناءً على الطرق الضعيفة التي وجدها مخرَّجة عند غيره وبخاصةٍ الألباني، ثم يعمل فيها هدماً، مُعْرِضاً عن قاعدةِ تقويةِ الحديث بكثرةِ الطرق - كما تقدم -، ولا يبحث مطلقاً عن طريق آخر له، أو شاهدٍ يقوّيه به، قد يكون فات من قبله لسبب أو آخر، وهذا أمثلته كثيرة.

* سابعاً: يتجاهل بعض الطرق والشواهد الصحيحة، ويتشبَّث بالطريق المرسل، وهي بين يديه! كما سترى في الحديث (49) - وغيره -.

* ثامناً: يعمّي على القراء صِحَّةَ إسناد الحديث الذي لا غبار عليه بقوله. "رجاله ثقات"! مكان قوله: "إِسناده صحيح"؛ معاكسةً منه للألباني!

وقد يذكر أحياناً عن بعض الحفّاظ تقويته، بعد أن يكون هو أعلَّه بما لا يقدح، وفي الغالب يكتم التقوية!

وقد يصحِّح متن الحديث دون السند، ولايبيّن السبب! ! وكثيراً ما يضَعِّف ولا يبيِّن السبب، ويُحيل به إلى موضع لا يسمِّيه! !

ص: 28

* تاسعاً: تعميته على القراء كونَ الراوي ثقةً عند الأئمة بقوله فيه: "وليس بالمشهور" ونحوه؛ انظر الحديث (89 و 81 و 83 و 96 و 100).

* عاشراً: تجاوزه تخريج جملة من الأحاديث الصحيحة الّتي يذكرها - أو يُشير إليها - مصنِّفو الكتب التي يسوّد عليها تعليقاتهِ؛ كمثل ما أورده الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابهِ "إغاثة اللهفان" من أحاديثِ النهي عن التشبُّهِ بالكفار، وخروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام؛ ولا وجه لإعراضه عنها، إلاّ أنَّه قد لا يؤمن بها! أو أنَّه - على الأقلّ - بشكِّكُ في

صحَّتها! ! فانظر الحديث (0103 و 153).

وقد يتجاوز الحديث لجهله به أنَّه في حكم المرفوع - إِذا أحسنَّا الظَّن به -؛ وإلاّ فالظاهر أنَّه لا يعرفه مطلقاً، مع أنَّه في "صحيح البخاري"! لأنّه قد خرَّج بعض الأحاديث الموقوفة، كحديث ابن مسعود الآتي عنده (1/ 30)، وحديث عثمان (1/ 79)، وهما خارج "الكتب السِّتَّة"، فما باله لا يخَرِّج حديث البخاري الآتي برقم (59) وهو في أم "الستة":"البخاري"، لولا الجهل بما فيه من الكنوز؟ !

وله أمثلةٌ أخرى تدُلُّ على جهله بما في "الصحيحين"، تقدّم الإشارة إِلى بعضها في (المقدِّمة) فقرة (4)، بل إنَّه عزا حديث علي الموقوف - الآتي برقم (18) - للدِّينَوَرِيِّ وغيره بواسطة "الكنز"! وفي هذا العزو بلايا تدلّ على جهله - كما سترى -؛ منها ضعف سنده، وإهماله عزوه للبخاري!

* حادي عَشَرَ: وله أساليب عجيبة غريبة في التمويه وتضليل القرّاء عن الاستفادة مما يعزوه لـ"للصحيحين" أو أحدهما، فمثلاً الحديث (154)؛ فإِنَّه عزا طرفه الأول للشيخين، وبيَّض للأخير منه! وعزا ما بينهما للطبري وضعّفه، والحديث بتمامه عند الشيخين؛ وقد صوّرت الصَّفحة التي فيها هذا

ص: 29

الخلط؛ ليكون القرّاء على بيِّنةٍ مما فعل، لأنَّه - لغرابته - لا يكاد يُصَدَّق.

وكذلك فعل بالحديث الذي بعده - (155) -؛ فإِنَّه عزَاه للطبري - أيضاً -، وتَعَمَّدَ تحريف اسم أحد رواته؛ ليتوصَّل منه إلى ادِّعاء أنَّهُ لا يُعرف، وبالتالي إلى تضعيف الحديث، وهو نفس الحديث الذي قبله، وروايةٌ لمسلم فيه، ولم يَكْتَفِ بهذا التضليل، بل زاد في الطين بِلَّة؛ فأوهم القرّاء أنَّ الطبري روى من طريق الرّاوي الذي حرَّف اسمه رواية مسلم هذه الصحيحة؛ والواقع أنَّه إنَّما روى من طريقه حديثاً آخر موقوفاً - كما ستراه مصوَّراً أيضاً -.

وله أُمورٌ أُخرى - كثيرةٌ - لا يخفى بلاؤهُ - فيها - على الفَطِنِ من القُرَّاءِ، ولا يَغِيبُ جهلُهُ - بها - عن الألِبَّاء

فإلى نَقْدِنا المُفَصّلِ على تعليقهِ وتخريجهِ؛ بل إفسادهِ وتخريبهِ؛ فأقولُ - وبالله التوفيقُ -:

ص: 30