الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
105
- "أَدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانك":
قلت: جزم ابن القيم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصوابُ.
وأمّا (الهدَّام)" فقال (1/ 505): "حَدِيثٌ ضعيفٌ، أخرجه أَبُو داود. . . من طريق طَلْق بن غَنّام، عن شَرِيك، وقيس بن الربيّع، عن أبي حُصَين، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيْرَةَ. . . -مرفوعًا-، وشَرِيك وقيس ضعيفان، ولا يصلُحُ قيس للمتابعة، فإِنَّه كان يُدْخَلُ في كتابه".
كذا قال: "يُدْخَلُ"، بالبناء للمجهول، أبهم الفاعل! ليفخِّم الفعل! ! ويُوهم القراء أنّ كتاب قيس كان في متناول أيدي الناس، يُدخِل فيه من يشاء ما يشاء! مِمَّا ليس من حَدِيث قيس! وهذا باطلٌ لا أصلَ له، والذي ذكره العلماء أنَّ ذلك كَان من فعل ابنٍ له، لما تأخرّت به سِنُّهُ.
قال الحافظ: "صدوق، تغير لما كبر، وأَدخل عليه ابنُهُ ما ليس من حديثه".
وقد لاحظتُ أنَّ الحافظَ الذهبيَّ رحمه الله لم يتَعَرَّض لذكر هذا (الإدخال) مطلقًا في ترجمة (قيس) في كلّ كتبه التي ترجم له فيها -مِمَّا وقفت عليه-، مثل:"تذكرة الحفّاظ"، و"السير"، و"الكاشف"، و"المغني"، اللهم إلَّا في "الميزان" الذي يذكر فيه -عادةً- كُلَّ ما قيل في المترجَم من جرح وتوثيق، ومع ذلك، فكأنّه أشار في أوّل ترجمته إلى أَنَّهُ لا يترتّب عليه أكثرُ من قولُه -فيها-:
"صدوقٌ في نفسه، سيِّئ في الحفظ".
وكذلك قال في "المغني"، وهو يُلَخِّص فيه -عادةً- ما ذكره في "الميزان"؛ وكأنّه يعني أنَّه أُتي من قبل ابنهِ لسوء حفظه، وعلى ذلك فقولُ
(الهدَّام) -فيه-: "ولا يصلُح للمتابعة" -مع أنَّه لا سَلَفَ له فيه- مردودٌ، فإِنَّ مِن المقرَّرِ عند العلماء، أن الراويَ الصدوقَ الضعيفَ في حفظه يُستشهد به، ويصلح للمتابعة.
ولعلّه مِن أجل ذا: جوّد سَنَدَ هذا الحديثِ -نفسه- في "تلخيص العِلَل المتناهية"(581)، والحمدُ للَّه.
وهذا أَبُو حاتمٍ الرّازيُّ -المعروفُ بتشدُّده في الجرح- يقولُ في (قيس) هذا:
"محلُّه الصدق، وليس بقوي، يكتب حديثه، ولا يُحتجُّ به، وهو أحبّ إلي من محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى".
قلت: فلم يُضَعِّفه جدًا؛ بل أشار إلى الاستشهادِ به بقوله: "يُكتب حديثه"؛ وهذا مما لا يفهمه (الهدَّام)؛ لجهله بمقاصد أقوال الأئمة.
وقد أشار إلى ذلك ابنُ القَيِّم -فيما يأتي-؛ فانظر الحديث نفسه رقم (124).
وأمّا ابنُ عدي، فقد حَسَّن حديثه، فقال في آخر ترجمته من "الكامل" -بعدما ساق قصّة ابنه-:
"عامّة رواياته مستقيمة، وقد حَدَّث عن شُعبة، وعن ابن عُيينة -وغيرهما-، ويدلّ ذلك على أنَّه صاحبُ حَدِيث، والقولُ فيه ما قاله شعبةُ، وأنَّه لا بأس به".
قلت: فلا غرابةَ -بعد هذا- أن يُحَسِّن التِّرمذي حديثَه هذا، ولا سيّما وقد اقترن معه شَريك بن عبد اللَّه القاضي -وقد استشهد به مسلمٌ-، وأن يُصحِّحه الحاكم، والذهبي، وأن يحتجَّ به العلماء دون خلافٍ معروفٍ بينهم،
كابن القيم هنا، وشيخه ابن تيمية في "فتاواه" -كما يأتي-، وابن كثير في "التفسير"(1/ 515) وغيرهم.
هذا أَوّلًا.
وثانيًا: قولُهُ: "واستنكره أَبُو حاتم -كما في "العلل" لابنه (1/ 375) -، وأعلّه بـ (طَلْق بن غَنَّام) ".
قلت: فهذا حُجَّةٌ على (الهدَّام)؛ لأنّه لم يُعلّه بـ (قيس) -كما سبق بيانه-، وأنَّه صالحٌ للاستشهاد به عند أبي حاتم -كما هو ظاهر-.
وأمّا إعلالُه إياه بـ (طَلْق بن غَنّام)؛ فذلك لأنَّه غيرُ معروفٍ عنده، ولذلك لم يذكر في ترجمته توثيقًا ولا تجريحًا، وحينئدٍ؛ فالعلّة غير قادحةٍ عندنا، لأنَّه قد وثَّقه جمع، واحتجّ به البخاري في "صحيحه"، على أنَّه يمكن أن يكون مراده بالاستنكار مجرّد التفرّد، وليس التضعيف، وهذا استعمالٌ معروفٌ عند بعض المحدّثين - كما في "مقدّمة ابن الصلاح" -وغيره-، وتمام عبارة ابن أبي حاتم مِمَّا يُؤَيِّدُ هذا الحملَ، ولعلّه -لذلك- بترها (الهدَّام) ولم يذكرها بتمامها؛ تضليلًا -على عادته-!
فقال ابن أبي حاتم، عن أبيه في (طَلْق):
"وروى حديثًا منكرًا عن شَرِيك وقيس"؛ فساقه، وقال:"قال أَبي: ولم يروِ هذا الحديثَ غَيْرُهُ".
فهذا صريحٌ جدًّا في أنَّه عنى التفرُّد، وإلى هذا أشار البخاريُّ -أيضًا- بذكره هذا الحديثَ في ترجمة (طَلْق) من "التاريخ"(2/ 2/ 360)؛ فعادت عبارةُ أبي حاتم هدمًا على رأس (الهدَّام)؛ والحمد للَّه على الدوام.
ثالثًا -وأخيرًا-: قولُه: "وشواهده كلُّها لا تصحُّ، وهذا أحسنُها؛ وانظر
"تلخيص الحبير"(3/ 97) ".
فأقول: هذه مغالطةٌ من مغالطاتهِ الكثيرةِ، أو تعبيرٌ ركيكٌ، فإنَّ من المعلوم -بداهةً- أنَّه لا يُشترط في الشواهد الصحة، وإنَّما السلامةُ من الضعف الشديد، وهذا متحقِّقٌ هنا، فالشواهد المذكورة في "التلخيص" أربعة:
الأوّل: فيه أيوب بن سُوَيد، قال الحافظ:"مختلَف فيه".
الثاني: فيه مجهولٌ، وقد صحَّحه ابن السكن.
الثالث: سنده ضعيفٌ.
الرابع: عن الحسن -مرسلًا-.
قلت: وقد كنتُ خرّجتُ هذه الشواهد -إلَّا الرابع منها- في "الصحيحة"(423)، وختمتُها ردًّا على ابن الجوزي -الذي قلّده (الهدَّام) - بقولي:
"قلت: وهذا من مُبالغاتهِ، فالحديثُ من الطريق الأولى حَسَنٌ، وهذه الشواهدُ والطرقُ تُرَقِّيه إلى درجة الصِّحَّة، لاختلاف مخارجها، ولِخُلُوِّها من متهم".
فكان الواجبُ على (الهدَّام) أن يُجِيبَ على هذا الرّد جوابًا علميًّا، ولكنَّه -كعادتهِ- تهرَّب إلى الإحالةِ المضلِّلة! عملًا بالمثل العامي:(عنزة ولو طارت)!
على أنَّ هناك متابعاتٍ أُخرى، تزيد الحديثَ قوَّةً على قوة، ولذلك كتمها.
مِن ذلك؛ أن أيوب بن سُويد له متابعٌ قويٌّ في "معجم الطبراني"(1/ 234/ 760) بسندٍ جيدٍ، وقد وثَّق الهيثمي في "المجمع"(4/ 145) رجاله، وأخرجه -أيضًا- الضياء المقدسي في "المختارة".
ومُرْسَلُ الحسن البصري علّقه البيهقيُّ، ووصله الطبري في "تفسيره"(5/ 93) بسند صحيح عنه.
وله شاهدٌ -في المعنى-؛ ذكره ابن القيِّم في "الإغاثة"(2/ 89)؛ وصحّحه (الهدَّام)!
وأمّا ما نقل ابنُ الجوزيِّ عن الإِمام أحمد أنَّه قال:
"هذا حديثٌ باطلٌ، لا أعرفه من وجهٍ يصحُّ":
فما أظنُّه يصحُّ عن الإِمام، ولا عزاه لكتابٍ يمكن الرجوع إليه (1)؛ ولئن صحّ: فالجواب ما تقدّم.
والشطرُ الأوّلُ من الحديث في نَصِّ القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا} .
وللشطر الآخر منه شاهدٌ بمعناه، ذكره ابن تيميّة رحمه الله في "الفتاوى"(30/ 371 - 375) في كلامٍ له حول هذا الحديث، وفيه فوائدُ هامّةٌ
جدًا من الناحية الفقهية؛ التي لا يهتمُّ بها (الهدَّام) مطلقًا! فقال رحمه الله عَقِبَهُ-:
"وفي "المسند" عن بَشِير ابن الْخَصَاصيَة، أنَّه قال: يا رسول اللَّه! إن لنا جيرانًا لا يَدَعُون لنا شَاذَّةً ولا فَاذَّةً إلَّا أخذوها، فإِذا قَدَرْنا لهم على شيء أنأخذُهُ؟ قال: "لا! أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُن من خانك"، وفي "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قيل له: إنَّ أهل الصدقة يعتدُون علينا، أفنكتُمُ من أموالنا بقدر ما يعتدُون علينا؟ قال: "لا"، رواه أَبُو داود".
(1) وليس هو في مطبوعة "العلل المتناهية"(2/ 103 - الهندية) لابن الجوزي.