الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأولى في "صحيح أبي داود"
(17
90).
17 -
"قال عليه السلام لعبد الله بن عُمر: "كن في الدّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وَعُدَّ نفسك من أهل القبور"":
قلت: جزم ابن القيِّم رحمه الله بنسبته إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-كما ترى-، وهو الصواب -بإِذن الله - تعالى -، أمّا (الهدَّام) فجزم بضعف جملة: "وَعُدَّ نفسك
…
"، معاكسًا بذلك -كعادته- تحقيقي الذي أجريته عليها في "الصحيحة"، وقوَّيته بالشواهد، فقال:
"ما أُورد شواهدَ لهذه الزيادة، فلا يصح"!
ثم أحال على "الصحيحة"(474 أو 1475)!
لقد ذكرت هناك لهذه الزيادة في حديث ابن عمر رضي الله عنه أربعة شواهد من طرق مختلفة: عن أبي هريرة، وزيد بن أرقم، ومعاذ بن جبل، ورجل من النَّخَع، وهي سالمة من الضعف الشديد، فهي بمجموعها صالحة لتقوية الزيادة؛ حسب قاعدة العلماء التي هي من القواعد التي أعرض عنها؛ وتفرَعّ منها تضعيفُهُ لعشراتِ الأحاديث الصحيحة التي قوّاها العلماء؛ كما تقدم التنبيهُ على ذلك في المقدمة؛ فلا داعي للإعادة.
18
- "وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنَّ الدنيا قد ترحّلت مُدبرَةً، وإنَّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة
…
فإنَّ اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل":
قال الجاهل في تخريجه (1/ 100):
"ذكره السيوطي في "جامعه الكبير"، ونسبه للدِّينَوَرِيِّ، وابن عساكر، وانظر "كنز العمال" (3/ 719) ".
فأقول: ليسى من خُطَّتي في ردّي -هذا - على هذا الجاهل -الهالك في عُجبه وغروره- تَعَقُّبُهُ فيما يخرجّه من الآثار الموقوفة؛ لأنَّه هو لم يلتزم ذلك -أوّلًا-، ولأنَّه بابٌ واسع جدًا -ثانيًا-، وحَسْبُ الناصح لنفسه القادر على تمييز صحيح حديث نبيه صلى الله عليه وسلم من ضعيفه أن يفعل ذلك، وأن يدُلَّ الآخرين عليه؛ لأنَّ حديثه صلى الله عليه وسلم ليس كحديث أصحابه، فضلًا عَمَّن بعدهم -كما هو معلوم-؛ وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:"إنَّ كذبًا عَلَيَّ ليس ككذبٍ على أحد؛ فمن كذب علَيَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"؛ متّفق عليه.
وإنَّما توجَّهت الهِمّةُ لتتبُّعه في تخريجه لهذا الأثر، تأكيدًا لكونه جاهلًا بهذا العلم الشريف متطفِّلًا عليه، لا عناية له بدراسة السنة وأصولها، إلَاّ بمقدار ما تساعده الفهارس المُقَرِّبةِ للبعيد منها، وبخاصة ما أُلِّف في العصر الحاضر منها، ولهدم السنة، لالنصرها ونشرها بين الناس! فهو ومن يلوذ به -فيما نَعْلَمُ- على خلاف السنة -عقيدةً وفقهًا وسلوكًا-، وإنَّما يكتب ويخرِّج ليباري العلماء، ويصرف وجوه الناس إليه، وهو ليس على شيء سوى (الجعجعة)، وما تقدم -ويأتي- أكبرُ دليلٍ على ذلك، ومنه هذا التخريج؛ فأقول:
أولًا: لو كان الرجل على شيءٍ من العلم؛ لاستحيى من نقل هذا التخريج الضَّحْل؛ وبواسطة كتاب "الكنز"، لا من كدّه ولا من كدّ أبيه! لو أنه كان كما قلتُ لعلا وارتفع، وخرَّج من الأصول والأمَّهات -كما يقال:(ومن وَرَد البحر استقلّ السواقِيا)! - ولكنْ أنّى له ذلك، وليست غايتُه في كل تخريجاته إفادةَ القرّاء؟ ! وإنّما التَّحويش والهدم، حتّى فيما يعزوه إلى الشيخين أو أحدهما؛ فهو يقتصر على التحويش ومجرّد النقل عنهما؛ إلاّ في حالة هدم وتضعيف شيءٍ من أحاديثهما! !
ثانيًا: سكوته عن هذا التخريج يدلّ على أحد شيئين؛ أحلاهما مرّ؛
أحدهما: عدم اهتمامه بالنقد فيما ليس له فيه هوىً، وثانيهما: الجهل بتراجم الرجال، والحقيقةُ أنّ الأمرين مجتمعان هنا، أمّا الأوّل: فظاهرٌ؛ فلو أنّه كان على علم لوقف عند نسبته لـ (الدَّينوريّ)؛ فهذا -واسمُهُ: أحمد بن مروان- قد ضعّفه الإمام الدارقطنيُّ-بل اتّهمه- فيما نقله الذهبيُّ في "الميزان"(1/ 156)، و"المغني"(1/ 60)، و"الديوان"(1/ 36) -، وهو صاحب كتاب "المجالسة" -المشهور-، والأثَرُ -المذكورُ- فيه، برقم (277).
ومن طريق الدِّينَوَري: أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشقَ"(12/ 380): نا محمد بن عبد العزيز الدِّينَوَري: نا أبي، عن وكيعٍ، عن عمرِو بن منبّه -بسند منقطع-، عن عليّ
…
به.
قلت: فهو إسناد ضعيف -إن لم يكن ضعيفًا جدًّا -؛ أبعلمٍ منه كان سكوتُه عنه أم بجهل؟ ! أحلاهما مرّ!
هذا حال إسناد المصدرَيْنِ اللذَيْنِ عزَا إليهما (الهدَّام) تقليدًا لغيره! وهو المجتهد الأكبر (! ) الذي يضعّف المئاتِ من الأحاديث الصحيحة! ! ويردُّ على حفّاظ الأُمّة وأئمّة الدّين تصحيحَهم إيّاها! !
ثالثًا: هل كان صادقًا في قوله: "ذكره السيوطي
…
"؟ !
فأقول: مع الأسف؛ لم يكن صادقًا؛ وهو يرى أنّه ليس عنده الجملة الأخيرة: "فإنّ اليوم عمل
…
" إلخ.
رابعًا: ما فائدةُ إحالة القّراء إلى "كنز العمّال" سوى التزوير والتضليل، وإيهامِهم أنّ الأثر فيه بتمامه -كما هو في كتاب ابن القيِّم -، والواقعُ خلافه؟ !
خامسًا: لقد كان في غِنىً عن أن يقع في مثل هذه المصائب والمخازي؛ لو أنّه كان باحثًا -ولا أقول: حافظاً! ! -مُخْلصًا غيرَ مقلّد؛ إذن
لوجد ما يرتفع به عن ذاك العزو النازل مصادرَ عديدةً، وفيها تلك الجملةُ! ! ولكنْ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} ، وليَتَحَقّقَ ما قيل:(ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلاّ ألبسَه الله رداءَها)(1).
من تلك المصادر: "صحيح البخاري"، فقد ذكره معلَّقًا بصيغة الجزم في أوّل كتاب "الرّقائق" في الباب الرّابع منه، وقد وصله الحافظ برواية بعض المصادر الآتية، مع ذكر ما خفي عليه من حال أحد رواته، فأقول:
قال وكيع في "الزهد"(2/ 191 - 292): حدّثنا ابن أبي خالد، عن زُبيد اليامي، ويزيدَ بن أبي زياد، عن مُهاجر العامِري، عن عليّ؛ قال
…
فذكره بتمامه، وفي أوّله زيادة.
ومن طريق وكيع أخرجه أحمد في "الزُّهد"(ص 130)، و"فضائل الصحابة"(1/ 530)، إلاّ أنّه لم يذكر في سنده (زُبيدًا اليامي)، وقال:(يزيد ابن زياد بن أبي الجعد)، مكان (يزيد بن أبي زياد).
وأخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد"(86/ 255): أخبرنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن زُبيد اليامي، عن رجل من بني عامر؛ قال
…
فذكره.
وكذلك رواه أبن أبي شيبة في "المصنَّف"(13/ 281/ 16342، 16343)، وهنّاد في "الزهد"(1/ 290 - 291) من طرقٍ عن إسماعيل بن أبي خالد
…
به، لكن ابن أبي شيبة في الرواية الثانية سمّاه:(مهاجرًا العامري).
وتابعه أبو مريم، عن زبيد، عن مهاجر بن عُمير، عن عليّ:
(1) وقد رُوي حديثًا، ولا يصحُّ، ولذلك خرجتُهُ في "الضعيفة"(237)، وفي معناه بعض الآثار، ويشهد لمعناه القرآن.
انظر تفسير سورة (محمد)، وسورة (الفتح) في "تفسير ابن كثير".
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 76)، وقال:"رواه الثوري وجماعة؛ عن زُبيد مثله، عن علي، مرسلًا، لم يذكروا (مُهاجر بن عُمير) ".
قلت: هي روايةٌ لوكيع، وعنه: أحمد، عن إسماعيل بن أبي خالد.
وتابعه عليها عبد الله بن موسى؛ عند أبن عساكر (12/ 382).
لكنْ؛ لعلّ رواية إسماعيل المتصلة أولى لرواية جمعٍ لها -كما رأيت-؛ ولأنّها زيادة ثقة، وبخاصة أن ابن أبي شيبة قد قرن به سفيان، وهو الثوري.
إذا عرفت هذا؛ فالإسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير (مهاجر العامري) وهو ثقة، وهو (مهاجر بن شَمَّاس)، قال ابن أبي حاتم في ترجمته (8/ 261/ 1189):"وهو مهاجر العامري، كوفي، روى عن عمر، وعنه فُضيل بن غزوان".
وكذا في "تاريخ البخاري"، دون قوله:"وهو مهاجر العامري".
ثم روى ابن أبي حاتم عن ابن معين أنه قال: "مهاجر العامري ثقة".
قلت: وخفي هذا على الحافظ، فقال في "الفتح" (11/ 236):
"وما عرفت حاله"!
واغترّ به الأخ الفاضل المعلّق على "زهد وكيع"، فإنه بعد أن فسّر (مهاجرًا العامري) بقوله:"هو ابن عُمير كما في "الحلية
…
"، وذكر قول الحافظ هذا، قال:
"وبعد تعيينه أنه (مهاجر العامري) فقول محقّق "فضائل الصحابة" لأحمد: إنّه (مهاجر بن شمّاس الكوفي) ثقة؛ ليس على الصواب، والله أعلم".
وأقول: بل هو الصواب؛ لأنه مُتابعٌ لقول ابن أبي حاتم مق حيث تعيينُ أنه (مهاجر بن شمَّاس)، ولابن معين من حيث التوتيقُ، ولا ينافي ذلك روايةُ
"الحلية" -لو صحّت- أنه (مهاجر بن عمير العامري)؛ لأن غايةَ ما فيها تسميه والد (مهاجر) بـ (عُمَير)، ولكنّها لا تصحّ؛ لأن فيها (أبا مريم) وهو (عبد الغفّار ابن قاسم الأنصاري)، وليس بثقة؛ كما قال الذهبي.
وأستغرب سكوتَ الحافظ عنه؛ فإنّه الذي حمل الأخَ المشارَ إليه على التّعيين المذكور!
على أن لمهاجر العامريّ متابعًا قويًا من طريق وكيع -أيضًا- عن سفيانَ، عن عطاءِ بن السّائب، عن أبي عبد الرّحمن السُّلَمي، قال:
خطب عليّ بن أبي طالب على مِنبر الكوفة؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وقال
…
فذكره.
أخرجد البيهقيُّ في "الزُّهد الكبير"(192 - 193)، وابن عساكر (12/ 381). قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وعطاءُ بن السّائب؛ وإن كان اختلط؛ فسفيانُ -وهو الثوري- سمع منه قبل الاختلاط.
على أنّ هذا الأثر قد رُوي مرفوعًا عن علي وجابر بإسنادين ضعيفين؛ كما تراه في "العلل المتناهية"(2/ 328 - 329)، و"الفتح".
وختامًا أقول: قد يقول قائل: إن ما وصفتَ به (الهدَّام) حقٌّ لاريب فيه؛ مع إغفاله عَزْوَ هذا الأثر إلى البخاري وغيره من الأئمة، ولكن، لعلّ ذلك كان منه لكونه أثرًا غيرَ مرفوعٍ؟ فأقول: كلَاّ، ولكنّه قضاء الله وحكمته -كما سبق بيانه-.
ومع ذلك؛ فليس هذا بالمثال الوحيد على ما وصفت؛ فهناك ما هو أنكرُ منه، وأدلّ على جهله، وعدم معرفته بما في كتب السّنة، فسيأتي قريبًا عَزْوُهُ لما في "الصحيحين" إلى غيرهما؛ تقليدًا منه لـ "الكنز" -أيضًا! ! -، انظرِ الحديثَ رقم (21).