المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النصيحة بالتحذير من تخريب (ابن عبد المنان) لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه - النصيحة بالتحذير من تخريب «ابن عبد المنان» لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: النصيحة بالتحذير من تخريب (ابن عبد المنان) لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه

النصيحة

بالتحذير من تخريب (ابن عبد المنان) لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة

بقلم

محمد ناصر الدين الألباني

دار ابن عفان

للنشر والتوزيع

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الثانية

1421 هـ - 2000 م

دار ابن عفان

للنشر والتوزيع

الجيزة - ت: 3255820 - ص. ب: 8 بين السرايات

هاتف محمول: 0101583626

جمهورية مصر العربية

E.mail: [email protected]

ص: 2

النَّصِيحَة

بالتحذير مِن تخريب (ابن عَبد المنان) لكتب الأئمّة الرّجَيحَة

وتضعيفه لمئَات الأحاديث الصَّحِيحة

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌مُقَدِّمة

إِنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُهُ ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إِله إلا الله - وحده لا شريكَ له -. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه.

أمّا بعد:

فبين يَدَيكَ - أيها القارئُ الكريم - كتابي "النّصيحة

"؛ وهو بحوثٌ علميَّةٌ نقديَّةٌ حديثيةٌ؛ مبنيّةٌ على القواعد الصحيحة، ومُؤسَّسةٌ على الأُصول الصَّريحة؛ سَيْرَاً على ما خَلَّفَهُ أئمّةُ الإسلام - حُفَّاظُ السُّنَّةِ الأعلام - لِمَن بَعْدَهم مِن أَتباعهم؛ السائرين - بحقِّ - على مَنْهَجِهم، والسَّالكينَ - بصدقٍ - دَرْبَهم وطريقَهم.

وأصلُ هذه البُحُوثِ ردودٌ على (غُمْرٍ) من أَغمار الشباب (1)؛ تصدّى لِمَا

(1) وهو المدعوُّ (حسّان عبد المنّان)!

ولقد تحقّق عندي أنّه صارَ ينشرُ كتبَهُ - أخيراً - بعد انكشاف حقيقته، وافتضاح أمره - تحت أسم (أبو صهيب الكرمي)! ! إمعاناً في التمويه والتلبيس! وإغراقاً في التضليل والدليس! ! بل إنّه - بَعْدُ - نَشَرَ كُتُباً فيها مقدّماتُهُ، وعليها تعليقاتُهُ: دونما أيِّ اسمٍ أو كُنية! ! ولكي يقفَ القارئُ على صُوَرٍ مِن (تخريبه) لِكُتُب أهل العلمِ - غير ما في كتابا هذا -: فلينظر صنيعَهُ في "صحيح البخاري" الذي أخرجه في مجلّد واحد! ليرى سوءَ صنيعهِ، وفسادَ عملهِ، وما وقع فيه من سَقْطٍ، وتصحيفٍ، وتحريفٍ، واضطرابٍ

بل إنّني أظن - بعد خِبْرَتي يه، ومعرفتي له - أنَّ (بعضَ) ذلك مقصودٌ منه، فهو =

ص: 5

لا يُحْسِن، و (فَسْلٍ) من جَهَلةِ المُتعالمين؛ تطاول برأْسهِ بين الكُبَراءِ - وعليهم -؛ فحقّق (! ) كُتُباً! وخرّج (! ) أحاديثَ! وسوّد تعليقاتٍ! وتكلّم - بجرأة بالِغَةٍ - فيما لا قِبَلَ له به من دقائق علم المصطلح، وأُصول الجرح والتعديل! ! !

فجاءَ منه فسادٌ كبيرٌ عريض، وَصَدَرَ عنه قولٌ كثيرٌ مريض؛ لا يعلمُ حقيقةَ مُنتهاه إلا ربُّه ومولاه - جلّ في عُلاه -.

ولقد كنتُ رَدَدْتُ عليه - قَبْلُ - في مواضعَ متعدّدةٍ من كُتُبي - وبخاصّة "سلسلة الأحاديث الصحيحة"- لمناسباتٍ تَعْرِضُ؛ كشفتُ فيها جهلَه، وَأَبَنْتُ بها عن حقيقتهِ؛ حيث ظهر لي - بكُلِّ وضوحٍ - أنّه للسُّنَّة (هدّام)، ومُتَعَدٍّ على الحق هجّام.

فهو يتعدّى على الأحاديث الصحيحة بالظَّنِّ والجهلِ والإفسادِ والتخريب؛ بما يُوافقُ هواه، ويلتقي ما يراه - بدعوى التحقيق والتخريج! -

ولقد رأيتُ له - منذ مدّةٍ - تحقيقاً - بل تَخْريباً - لكتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" للإمام ابن قَيِّم الجوزيّة، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيميّة

= - أحياناً - يُسقِطُ التابعيَّ الذي بين الصحابي والراوي عنه! ليظهر الحديثُ - بذلك - أنه منقطعُ

السند! !

كما أنّه يُسقِطُ - أحياناً - بعضَ الكلماتِ من متنٍ ما، ويزيد كلماتٍ أُخرى في متن آخر؛ ممّا يؤدّي إلى إيقاع فساد في معنى الأحاديثِ، واضطراب في دلالتها! ! فإفسادُهُ مُنَوعٌّ: روايةً ودرايةً! !

وَمَعَ هذا كُلِّه؛ فهو يدَّعي التحقيقَ (ويستدركُ على المُحقّقين! )؛ علماً بأنّ مثلَ هذه الأخطاء - بل الخطايا! - لم تقعْ في أيٍّ من مطبوعات "البُخاري" أو غيرهِ! ! فيُقالُ له: ليس هذا بعشِّك فادْرُجي

وللوقوفِ على نماذجَ ممّا ذكرتُ يُراجع ما كَتَبَهُ صاحبُنا الأخ علي الحلبي - في ذلك -

في مجلّة (الأصالة- العدد: 20/ ص 47 - 51).

و{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}

ص: 6

- رحمهما الله تعالى -؛ ظهر فيه - بجلاءٍ بَيِّنٍ - جهلُهُ الواضح، وتعالُمُه الفاضح؛ فرأيتُ أداءً لواجب النَّصيحةِ، وحِرْصاً على مكانة العلم، ومُحافظةً على السُّنَّة النبوية: أنْ أُفردَ بهِ هذا الكتاب؛ ردّاً على جهالاتِه، وكشفاً لسوءِ حالاتِه

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} .

وإنّي لأعلمُ أنَّ بعضاً من إخواننا دُعاة السُّنَّةِ - أو الحريصين عليها - (قد) يقولون في أنفسهم: أليس في هذا الردِّ إشهارٌ لهذا الجاهل، وتعريفٌ بهذا (الهدَّام)؟ ! !

فأقولُ: فكان مَاذَا؟ ! أَلَيْسَ واجباً كشفُ جهلِ الجاهل للتحذير منه؟ ! أليس هذا - نفسُهُ - طريقَ عُلماءِ الإسلام - منذ قديم الزمان - لنقضِ كُلِّ منحرفٍ هَجّام، ونقدِ كُلِّ متطاولٍ هَدّام؟ !

ثم، أليس السكوتُ عن مثلِهِ سبيلاً يُغَرَّرُ بهِ العامّةُ والدَّهْماء، والهَمَجُ الرَّعَاع؟ ! فَلْيَكُن - إذاً - ما كان؛ فالنّصيحةُ أُسُّ الدين، وكشفُ المُبْطِلِ صيانةٌ للحقِّ المُبين؛ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

}؛ ولو بعد حِين

وما حالُ سَلَفِ هذا (الهدّام) - ذاك (السَّقَّاف) - وما آلَ إليهِ - والحمدُ لله - عن عارفي الحقِّ ودُعاتهِ ببعيدٍ

وختاماً؛ فلو كان عند هذا (الهَدّام) شيءٌ من الإنصاف: لكانَ منه - ولو قليلاً - تطبيقٌ وامتثالٌ لِمَا قاله بعضُ كبار أهل العلمِ - نصحاً وتوجيهاً -: "لا ينبغي لرجلٍ أن يرى نفسَه أهلاً لشيءٍ؛ حتّى يَسأل مَن كان أعلمَ منه (1) "!

ولكن؛ هيهات، هيهات؛ فالغُرورُ قتّالٌ، وحُبُّ الظهور يقصمُ الظهور

وَمعَ هذا كُلِّه؛ فإنِّي أسألُ الله - سُبحانه - له الهدايةَ إلى الحقِّ، والرجوعَ

(1)"صفة الفتوى والمفتي والمستفتي"(ص 8) لابن حمدان - بتحقيقي.

ص: 7

الصوابِ، والاستقامةَ على نهج السّنّةِ وأهلِها

وَبَعْدُ:

فإنّ هذا الكتاب قد مضى عليه - اليومَ - مخطوطاً - أكثرُ من خمس سنوات؛ ولقد رأيتُ - بعدَ مُشاورةٍ مع بعض إخواننا مِن طلاّب العلم - لُزومَ نشرهِ على الناس؛ إحقاقاً للحقِّ، ونُصرةً لِحُمَاتِهِ، وردّاً للباطلِ، وكَبْتاً لِدُعاتِهِ.

وجزى الله خيراً كُلَّ مَن كان له يَدٌ في إخراج هذا الكتابِ؛ وبخاصّةٍ ناشِرَهُ (دار ابن عفّان/ القاهرة)، داعِياً الله - سُبحانَه - لهم بمزيدٍ من التوفيقِ.

فالحمدُ لله على نَعْمائِه، وأسألُهُ - سُبحانَه - المزيدَ من عَطائِه. وسُبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهدُ أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

عمان

18/ محرّم/ 1420 هـ

وكتب

محمد ناصر الدين الألباني

أبو عبد الرحمن

ص: 8

‌مَدْخلٌ

النَّاظِر في تَسْويدات هذا الجاهل (الهَدَّام) يلحظُ قضايا كلِّيةً جامعةً؛ ينكشفُ له - بها - (منهجُهُ) الّذي هو في حقيقتهِ ومآلهِ: لا منهج؛ إلاّ الجهلُ! والهَدْمُ والتطاوُلُ بغير علمٍ! !

* فأوّل هذه القضايا الكلية: أنّ تخريجاته - بل تخريباته - في الغالب مختصرةٌ لا تروي؛ وذلك لأنها على ثلاثة أقسام: الأول: ما يَعْزوهُ للشيخين أو أحدهما، فإنَّه لا يلزمُ أَنَّهُ صحيح عنْدَه، فَإِنَّهُ معروفٌ بأَنَّه لا يُقيمُ وَزْناً لهما ولا لغيرهما من عَشَرات الحفاظ؛ إذا خالفوا رأيه! فَكَم من حديثٍ صحيحٍ أخرَجاهُ وصَحَّحاه، ضَعَّفَه هو من عنده بجهلٍ بالغٍ في هذا التخريج، وفي تعليقه على طبعَتِه لِكِتابِ "رياضِ الصَّالِحين"! - وبِخاصةٍ فيما ذَيَّلَهُ عليهِ - أمثلةٌ عِدّةٌ، وقد بينت شيئاً منها في آخرِ المُجَلَّدِ الثَّاني من "الصَّحيحَة" الطَّبْعَةِ الجديدة، فانظر مثلاً: الاستدراك (6).

فإِذا أَطلق العزو إِليْهِما أو إلى أحَدِهِما، فليسَ يَعني بالضَروةِ أنَّهُ صَحيح عنده، فينبغي أَنْ لا يُغتَرَّ به، وقدْ رأَيْته في تعليقه على "مجموعة رسائلِ الشيخ محمد نَسيب الرفاعي رحمه الله" (ص 125) قد عزا حديثاً لمُسْلم مقيَّداً بقوله:"بإِسنادٍ قوي"! وهذا يُلْزِمُهُ أن يُبَيِّن للقراء ما هو الأصل عنده فيما رواه الشيخان أو أحدهما!

الثاني: ما يعزوه لغيرهما من أصحاب "السُّنن" و"المسانيد" وغيرها، فهو

ص: 9

يسكت عنها، ونادراً ما يُصَرِّح بصِحَّةِ شيءٍ منها أو تحسينها، وأحياناً يتقَصَّد تعميَةَ صحَّتها؛ إِما بكتمان بيان من صَحَّحها من الأئمة أو الحفّاظ - وقد يكونون ممَّن خرَّجوا الحديث -، وإما بقوله:"رجاله ثقات"، وهذا ليس نصّاً في التصحيح - كما هو معروف عند العلماء -.

الثالث: ما يُضَعِّفه منها؛ فهنا يختلف أسلوبه من الاختصار المُخِلِّ، إلى البَسْطِ المُضِرِّ، فتجدُهُ يصولُ ويجولُ (! )، ويَتَوَسَّع في الكلام على طرق الحديثا، والطعن في الرّواة، ويطيل النّفَس في ذلك جداً - في عدَّةِ صفحات، وبالحرف الصغير! - متظاهراً بأَنَّهُ بحَّاثٌ محقِّق، وهو في أكثر الأحيان يكون مُبطلاً ومتجنِّياً على العلم، ومضعِّفاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير حُجَّةٍ، ومخالفاً لجَمَاهير الحُفَّاظ والأَئِمَّةِ المتَقَدِّمين، والعلماء المحقِّقين، حتى ليَغلب على الظَّن أنَّه ما قام بالتَّخريج على هذه الصورة - المختصرة من جهة، والمبسوطة من جهة أخرى! - إلا لهدم السُّنَّةِ، وتضعيف أحاديثها، وبخاصَّةٍ ما كان منها في الحضِّ على التَّمسك بالسُّنّة، وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.

وهو في هذا - كُلِّه - إمّا متَّبعٌ لهواه، أو مقَلِّدٌ لأَمثالِه من أهل الأَهواءِ الَّذينَ لا يتبعون أصولَ العُلَماءِ وقَواعِدَهم الحديثيَّة والفِقهِيَّة، كما كنت أظنّ به هذا في أوَّل اطِّلاعي على بعض تخريجاته، ثم عند مناقشتي إياه في داري - في رمضان سنة (1412) - تضعيفَه لحديث العِرْباض بن سارِيَةَ - المرفوع -: "عليكم بسُنّتي وسُنّة الخُلفاء

"، مع كثرة طرُقه، وتصحيح الجَمِّ الغفير من الحفَّاظ والعلماء - له -.

ثم تأَكَّدت من ذلك بعد أن وقفت على تضعيفات أخرى كثيرة - له -

ص: 10

لأحاديثَ صحيحةٍ بطرق ملتوية غير عليية، وبآراء شخصيَّة هزيلة، لا يعجز عنها كلّ مثقف ثقافة عامّة، جاهل بهذا العلم، مغرور! !

* أمّا ثاني قضاياه؛ فإنّه - مع قِلَّةِ في يُصَحِّح أو يحسِّن - فهو يُجمِل الكلام ولا يُفَصِّلُ ولا يبيِّن سبب ذلك؛ بلِ يقول: "صحيح"، أو:"حسن"، ثم يمشي! وعلى القراء أن يُسَلِّموا له تسليماً، لأنَّه (حَذَامِ)!

ولا يخفى أن بيان الحقِّ في ذلك يكون إمّا بالنَّقلِ عن العلماء - إذا كان ليس منهم - كما هو واقِعُهُ -، أو بِبَيانه هو - إذا كان أَهلاً لذلك - كما يدَّعي هذا المغرورُ بنفسهِ لنفسه -.

وآكد ما ينبغي بيانه إذا حسَّنه ولم يُصحِّحهُ؛ لأنَّ التَّحسين يعني أن في بعض رواتِه ضعفاً، فينبغي الكَشفُ عنه، وعن سبب الضَّعف، حتّى يكون القارئ على بصيرةٍ من أمره.

وأوجب من ذلك كلّه بيان ما إذا كان صحيحاً لغيره، أو حسناً لغيره، وهذا يستوجب من الباحِث - إِذا كان عالماً حقاً ومخلصاً صدقاً - أن يتتبَّع الطرق والشواهد التي ترفع الحديث إلى درجة الصحَّهِ إذا كثرت، أو الحسن إِذا قلّت، وكلّ هذا مما لا يعرِّجُ عليه الرَّجل!

ولا أجدُ لذلك وجهاً إلاّ أحد أمرين:

أحدهما: أنَّه لا يتبنى - حقيقةً - ما عليه العلماء في علم المصطلح من تقسيم الحديث الثابت إلى قسمين: صحيح وحسن، أي: لذاته، ثم تقسيمهما إلى صحيح وحسن - لغيره -.

والآخر: أنَّه يتبنى ذلك، ولكنّه لا يستطيع القيام به، أو لا يريد القيام به، لأنَّه تخصَّص في تضعيفِ الأحاديحا الصحيحة بأوهى الحُجَجِ، ولا يهتمُّ

ص: 11

لتقوية الأحاديث الضعيفة بالمتابعات والشواهد، التي من ثمارها الحديث الصحيح لغيره والحسن لغيره عند العلماء، - كما سبق -.

وهذا الأخير هو الذي تدُلّ عليه بعض تخريجاته، أي: أَنَّهُ لا يريد تتبّع الأحاديث الصحيحة أو الحسنة لغيرها - كما ذكرت -. يضاف إلى ذلك؛ أن تحقيق ذلك يتطلّب بحثاً وجهداً مُضْنِياً في كثير من الأحاديث، كيف وهو يضِنُّ ويبخل أحياناً بأن يصرِّح بصحَّةِ إِسناد بعض الأحاديث التي لا تُوافِقُ هواه، ويكتفي فيها بقوله:"رجال إِسناده ثقات"! وحقُّهُ أن يقول: "إسناده صحيح، رجاله ثقات ".

أمّا التقسيم الأول: صحيح وحسن، فهو يستعمله في بعض الأحاديث، على قلَّةٍ - كما تقدَّم -، وبدون بيان، لكنَّه يشَكِّكُ في بعضها أحياناً بقرنه ذلك بقوله:"إن شاء الله تعالى"! - كما سترى -؛ فلا تدري أذلك منه تحقيقاً أم تعليقاً؟ ! وهذا الآخر هو الأظهر! !

ويعود سبب عدم بيانه لما ذكرنا - من التصحيح والتحسين - فيما تبيّن لي من تتبُّعي لتخريجاته -؛ أن لا يكشف عن منهجه في ذلك، وأنَّه لو فعل لكان (كالباحث عن حتفه بظِلْفِهِ) كما يقال

وَلْنُقَرِّبْ ذلك للقراء بمثال: ما صَحَّحَه من الأحاديث أو حسَّنه، لو أنَّه بيَّن السبب للزمه تصحيح أو تحسين أحاديث ضعَّفها هو! فقد تقدَّم أن الحديث الحسن إنما نزل من مرتبة الصِّحَّةِ؛ لأن في بعض رواته ضعفاً، فلو أنَه بيَّن الرّاوي الذي يرميه بالضعف للزمه أن يُحَسِّنَ أحاديثه الأخرى، فهو من أجل ذلك يكتم ولا يبيِّن، ولا سيَّما وهو في كثير من الأحاديث التي يضعِّفها لا يزيد في بيان سبب الضعف على قوله:"فيه فلان وفيه ضعف" - وقد لا

ص: 12

يُسَمِّيه! -، فقوله:"فيه ضعف" - وهذا إذا كان يعني ما يقول - يساوي قول القائل: "وإِسناده حسن؛ لأن فلاناً فيه ضعف"، فلو أنَّه سَمّى الراوي الذي حسّن حديثه لانفضح، وتبيَّن أنَّه لا يلتزم القواعد العلميّة الحديثيّة، وهذا عندي يقين؛ {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} !

وكذلك يقال إذا بيّن أن الحديثَ صحيح لغيره، أو حسن لغيره، فإِنَّه يُلْزَمُ بتصحيح أو تحسين كثير من الأحاديث التي ضعَّفها بعد أن ساق طرقها الكثيرة، وأقرب مثال على ذلك حديث العِرباض، ومع ذلك؛ فإِنَّه لمٍ يتوَرَّع من تضعيفه - كما لمشرى في ردّي عليه رقم (2) -، وتجد تحته مثالا آخر؛ وهو تضعيفه لحديثْ "اقتدوا باللَّذين بعدي

"، مع أنَّه خَرَّجَهُ من أربعة طرق، وقد قَوّاه جمع، فلم يلتفت إلى ذلك كلّه! الأمر الذي يُشعر الباحثَ أنَّه لا يعتَدّ بقاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق المعتبرة عند العلماء كافّةً - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله؛ وله بحث عظيم في تأييدها وشرحها، نقلته في رسالتي في "الرّد على ابن حزم في إباحته لآلات الطرب وعلى مقلديه" (1) - ومنهم (الهدّام) هذا، كما سترى تحت الحديث (79) -.

ولذلك لا تكاد تجد له حديثاً يقوّيه اعتماداً على هذه القاعدةِ، ومثله في هذا بعض الناشئين الجهلة، ولعلَّ منهم مؤلف رسالة:"بذل الجهد في تحقيق حديثي السوق والزهد"؛ فإنَّه ضعّف حديث السوق - وقد خرّجه من سبعة طرق، وأكثرها ليس فيها متّهم -، وقد رددت عليه في بعضِها مِمّا حسن إسناده الحافظ في "الصحيحة"(3139).

* وأمّا ثالثُ فواقِرِ هذا (الهدَّام): فإنَّهُ حين يتتبَّعُ طُردا الحديث الذي خطَّط لتضعيفه، ويُخَرِّجها - عازياً إلى المصادر بأرقام أجزائها وصفحاتها -:

(1) وهي مطبوعةٌ - بحمد الله وتوفيقهِ -.

ص: 13

يتظاهرُ أن ذلك من كدِّه واستخراجِه منها! وإِنَّما هو - حقيقةً - ممن تقدَّمه من المُخَرِّجين من السابقين أو اللاحقين، وقد يضيف شيئاً جديداً - مصدراً، أو رَقْماً - ستراً لسرقته، ولكن الأمر كما قيل:"من أسَرَّ سريرةً أَلبَسَهُ الله رداءها"، وكما قال الشاعر:

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ

وإنْ خالها تخفى على الناسِ تُعلمِ

وأَكثرُ تخاريجه المُطَوَّلة من هذا القَبيل - في هذا الكتاب وغيره -، ثم هو يسلِّط عليها آراءه الخاصّة في نقدها، مخالفاً في ذلك قواعد أهل الحديث والعلم - كما تقدَّمَت الإشارة إلى ذلك -، وترى تفصيل ذلك فيما يأْتي.

وإِن مما يؤكِّد ما ذكرت أمرينِ:

أَحدهما: أَنَّه من النادر جداً أن يستدرك على من أشرنا إليه من المخرِّجين طريقاً أو متابعاً أو شاهداً لم يذكروه، لأنَّ ذلك ينافي تخطيط (الهدَّام) المذكورِ! بل قد يكتم بعض ما ذكروا من الطرق، وبخاصَّةٍ إذا كانت من تخريج الألباني، وبصورةٍ أخصَّ ما كان منها معزوّاً لبعض المخطوطات التي لم ترها عينه، والأمثلة أمامك.

والآخر: أَنَّه قد يقع في نفس الخطإ الذي كنت وقعت أنا فيه - قديماً - سواءً ما كان منه حديثيّاً أو مطبعيّاً - "ركوناً منه إلى السرقةِ، أو التقليد، وتماشياً مع الهدم الذي نذر نفسه له.

والأمثلة في ذلك كثيرة، ويحضرني الآن مثالان:

أ - حديث: "إن كنت تحبني فأَعِدَّ للفقر تِجفافاً

"؛ فقد كنت قديماً ضَعَّفته في مُقَدِّمَة تخريجي لأحاديث "رياض الصالحين" (ص: هـ طبعة

ص: 14

المكتب الإِسلامي الأولى سنة (1399 هـ)(1)، وأَحَلْتُ في بيانه على "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1681) - وقد طُبع في مكتبة المعارف سنة (1408) -، فوجدها (الهدَّام) لقمة سائغة، فتلقّفها، ولخّص كلامي فيه في سطرين - فقط -، وأودع ذلك في "ضعيفته" التي جعلها في آخر طبعته لى "الرياض "! متفاخراً بقوله:"وافقني على تضعيفه الشيخ شعيب"، ودون أن يقول: وسبقنا إلى ذلك الشيخ ناصر! فهل يقول: ولَخّصته من كتاب الشيخ ناصر؟ !

ولكني أحمد الله - تعالى - وأشكره على أن هداني ووفّقني للرجوع عن خَطإِي، وذلك بعد أن يسَّر لي الوقوفَ على بعض الشواهد الصحيحة له، فبادرت، فخرّجته، وأودعته في المجلّد السادس من "الصحيحة" برقم (2827)، وهو مطبوعٌ - بحمد الله تعالى -.

ب- حديث: "اللهم اكْفِني بحلالك عن حرامك

" الحديث، كنت قد خرّجته في "الصحيحة" برقم (266) وعزوته للترمذي والحاكم وأحمد (1/ 153)، فأَخذها لقمة جاهزة - أيضاً -، ويشاء الله - تعالى - أن يفضحه ويكشف سِتْرَه، وسرقته، فقدَّر - سبحانه - علي أن أُخطئ في عزوي إياه

(1) وأما طبعة المكتب سنة (1412 هـ) فهي غير شرعية؛ إذ قد عبث الناشر بتخريجي المشار إليه آنفاً، وزوَّر تعليقات باسم "تحقيق جماعة من العلماء"؛ وهو كذب وزور، وإنَّما هو شخص جاهل وحاقد، زَوَّر ذلك لترويج كتابه، كما فعل (الهدَّام) في طبعتهِ لـ"الرياض" باسمهِ الأصيل؛ ترويجاً له ومضاربةً منه لطبعة اليكتب الإسلامي الأولى، مع أن الواقع الذي عبّر عنه (الهدَّام) نفسه في بعض تعليقاته عليه أنَّه "مختصره"! ولذلك ترى تاريخ طبعته عين تاريخ طبعة المكتب (1412)؛ فلا يُدرى أيهما السابق إلى المضاربة؟ !

ثم إن من عجائب الزمان أن يتفقا على محاربة السنّة" وذلك بتكليف الأوّل لـ (الهدَّامِ) أن يعلّق على "مجموعة رسائل الشيخ نسيب الرفاعي رحمه الله "، فعاث في تعليقه فساداً، وأنكر قول مالك: "الاستواء معلوم

" إِلخ، وغير ذلك من جناياته على السنة، ومع ذلك طبعه صاحب المكتب الإِسلامي، وهدم ما كان بناه في كثيرٍ من مطبوعاته، فسبحان مقلِّب القلوب!

ص: 15

لأحمد، والصواب (عبد الله بن أحمد)

وهذا قُلٌّ من جُلّ من سرقاته وتشبّعه بما لم يُعْطَ، يعرف ذلك كل من له مشاركة في هذا العلم، ومعرفة بطريقة تخريجه للأحاديث - وبخاصَةٍ في "ضعيفته"-.

ومن جنايته على هذا الحديث، وخيانته للعلم، أنَّه ضَعَّفَهُ بادِّعاء أنَّ راويَه (عبد الرحمن بن إسحاق) هو (الواسطي) - المجمع على ضعفه -، والواقع أنَّه (القرشي) - كما وقع في رواية (عبد الله بن أحمد)؛ خلافاً لرواية التِّرمذي فليس فيها هذه النِّسبةُ -، فظنَّ بعض شراحه أنَّه (الواسطي)، وبيَّنت سبب ذلك في "الصحيحة"؛ فتجاهل (الهدَّام) ذلك كلَّه - مشاكسةً ومعاندةً للحق -، كما تجاهل تحسين التِّرمذي للحديث، وتصحيح الحاكم والذهبي إيَّاه.

ثم رأَيت نسبة (القرشي) قد وقعت في رواية البيهقي- أيضاً- في "الدعوات الكبير"(134/ 177)، كما رأيت إقرار الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(1/ 324) التِّرمذي على تحسينه، والحاكم على تصحيحه.

وقد شرحت الرَّد عليه وعلى من سبقه إلى هذا التضعيفِ والتوهّم - كالشيخ شعيب وتلامذته - في الاستدراك (8) في ذيل المجلّد الأوّل من "الصحيحة"(ص 927 - 932).

* أمّا ملحظُنا الرابعُ؛ فإنَّ الرجل لا يحمل العِلْمَ ولا يدريه، ولا أدَلَّ على ذلك من عزوه بعض الأحاديث إلى غير مصادرها من الأمهات المعروفة، وقد يكون في "الصحيحين" أو أحدهما، بل قد يعتمد في العزو على بعض المتأخرين؛ كصاحب "كنز العمال" والأمثلة كثيرة، تأتي، فانظُر مثالين برقم (18)، وانظر (رقم 21 و 32 و، و 56 و 58 و 59).

ص: 16

* وأمّا خامسُ طامّاتهِ؛ فإنّه يتبنى بعض الأقوال التي يظن هو أنَّها (قاعدة) - أو يتظاهر بذلك -؛ لأنَّها تساعده في المخالفة لسبيل المؤمنين، وتضعيف الأحاديث الصحيحة، وهي في الواقع تُنافي القاعدة الحقيقيَّة التي عليها استقر قول العلماء، وجرى العمل بها، وهي: الاكتفاء بالمعاصرة في إثبات الاتصال من غير المدلّس:

قال الرجل في رسالته "الحوار"(ص 66):

"وقاعدة جمهور المتقدمين من النقَّاد أن الرّواية تقتضي الاتصال وتدلُّ عليه، إِذا ثبت اللقاء بين المعنعِن والمعنعَن عنه، ولو مرَّة واحدة، وكان الرّاوي بريئاً من تهمة التدليس، وهذا هو الذي عليه رأي الحذَّاق كابن المديني، والإمام البخاري، وأكثر الأئمة".

والرَّد عليه من وجوه:

الأول: قوله: "قاعدة"، و"أكثر الأئمة"! من مبالغاته وتدليساته التي لا تنفكُّ عنه - أو لا ينفكُّ هو عنها -! فليس هناك (قاعدة) بالمعنى المعروف، وإنما هو (رأي) - كما قال أخيراً - لبعض من ذكر، خولف فيه - كما يأتي -، ومن أكثر الأئمة، - خلافاً لزعمه! -، فقد استقر رأي جماهيرهم - كما سيأتي في نص الإمام النووي - على ما قدّمت من الاكتفاءِ بالمعاصَرةِ بالشرط المذكور.

وكانت الأقوال قبل الاستقرار أربعة:

1 -

المعاصرة.

2 -

اللقاء.

3 -

السماع.

4 -

طول الصحبة.

ص: 17

وهي مذكورةٌ في كتب المصطلح، وبخاصة الشروح منها، وقد بَسط الكلامَ عليها الحافظُ السيوطيُّ في "تدريب الراوي"(1/ 216)، فمن شاء التفصيل رجع إليه.

ولكنْ؛ لا بُدّ من ذكر نص الإمام النووي؛ لأهميّتهِ وكثرة فائدته؛ ليكون القرَّاء على بيّنة من الأمر: قال رحمه الله في "التقريب"(1/ 214 - 215 - بشرح "التدريب")، وأصلِهِ "إرشاد طلاب الحقائق" (1/ 185 - 186):

"الإسناد المعنعن - وهو فلان عن فلان -، قيل: إِنه مرسل؛ والصحيح الذي عليه العمل - وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول -: أنَّه متصل بشرط أن لايكون المعنعِن مدلِّساً، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضاً.

وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف؛ منهم من لم يشترط شيئاً من ذلك - وهو مذهب مسلم بن الحجاج؛ وادّعى الإجماع فيه -".

وفي هذا النصِّ من الإمام النووي ما يُشعر أنَّه كان هناك اختلاف شديد بين العلماء في شرط الاتصال بين الراويين، ثم استقرَّ رأيهم وعملهم على الاكتفاء بالمعاصرة، وأنَّه شرط أساس، وأنَّ ما سوى ذلك شرط كمال، فإِن وجد فالحمد لله، وإلاّ ففي (المعاصرة) بشرطها خيرٌ وبركةٌ؛ وعلى هذا أصحاب "الصحاح" و"السنن" وغيرهم.

وهذا التفصيل هو الذي قال به الحفاظ من بعدهم؛ فهذا الإمام الذهبي يقوِّي مذهب مسلم حين تعرّض لذكر الخلاف بينَه وبين البخاري بقوله في "السير"(12/ 573): "وقول الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني؛ هو الأصوب الأقوى".

ص: 18

فهذا - منه - كالنِّصِّ على مذهب مسلم صواب وقوي، كما لا يخفى. ونحوه قول خاتمة الحفاظ الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى - في "النكت على ابن الصلاح" (1/ 289):

"لأنَّا وإن سلّمنا بما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال؛ فلا يخفى أنَّ شرط للبخاري أوضح في الاتصال".

ونحوه في كتبه الأخرى، مثل "مقدِّمة الفتح" و"نزهة النظر"، وعلى ذلك كتب التخريج قاطبةً، لايكاد الباحث يجد فيها حافظاً إلاّ مكتفياً في التصحيح بالمعاصرة؛ كما سترى فيما يأتي من الأحاديث التي صَحَّحُوها، وعاكسهم (الهدَّام) فضعَّفها - بناءً على قاعدته التي ادَّعاها! -.

على أنني كنت وقفت على قولٍ لبعضهم في شروح المصطلح: أنَّ شرط اللقاء عند البخاري إنَّما هو في "صحيحه" فقط، وكنت متوقِّفاً عنه بُرهةً من الزمن؛ حتى رأيت التِّرمذي قد نقل عنه في "سُنَنِه"(128) تحسينَ سند حديثٍ؛ فيه مَنْ لا يمكن إثبات لقائه للراوي عنه.

تم رأيتُهُ في "العِلَل الكبير"(1/ 188 - بترتيب القاضي)؛ وفيه قوله: "هو حديثٌ حسنٌ، إلا أنّ إبرأهيم بن محمد بن طلحة هو قديمٌ، ولا أدري: سمع منه عبد الله بن محمد بن عَقِيل، أم لا؟ ! وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديثٌ صحيحٌ".

وفي ظنِّي أنَّه من الممكن أن يجد الباحث فيه أمثلةً أخرى عند التتبُّع، لكثرة الأحاديث التي يذكر فيه عنه تحسينها أو تصحيحها؛ فَقَوِيَ الظنّ. عندي أنَّه شرط كمال عنده، وليس شرط صِحَّةٍ.

وازداد ظنِّي قوَّةً حين رأيت (أبا حاتم الرّازي) في "العلل" يحسِّن إسناد

ص: 19

حديث تابعيٍّ عن صحابي بحجَّةِ أنَّه أدركه ولم يَلْقَهُ، ولذلك لم يُصَحِّحْهُ، فكان هذا منبِّهاً قويّاً على أنَّ إعلاله - هو وأمثاله - لبعض الأحاديثِ لعدم اللقاء؛ إنَّما هو لنفي الصِّحَّةِ، لا الحُسْنِ، فثبت بذلك عندي أن (اللقاء) شرط كمال، في بحثٍ أودعتُهُ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(6546).

ولهذا؛ فإِني أسأل (الهدَّام): لِمَ تَبنَّيْتَ شرط (اللقاء) كشرط أساس تُضَعِّفُ به الأحاديث؛ لجهلك بتحقُّقِه فيها؟ !

فإِن قال: لأنَّه أحوط وأقوى!

قلنا: هذا قد يُسَلَّم، ولكن ذلك لا ينفي قوَّة شرط (المعاصرة) - كما تقدّم بيانه من نصوص الحفّاظ - هذا أوّلاً -.

وثانياً: يلزمك أن تتبَنّى - أيضاً - الشرطين الآخرين: (السماع) و (طول الصحبة)، فإِنَّهما - بلا شك - "أحوط وأقوى"! !

أما نحن: فنلتزم هذه الشروط كُلَّها، مع التفريق بين ما هو شرط صِحَّةٍ - وهو (المعاصرة) -، وما سواه - وهو شرطُ كمالٍ -، ممّا قد تفيد ملاحظتها عند التعارض والترجيح.

ومن حُجَّتنا على هذا (الهدَّام) أمران هامّان جداً:

أحدهما: أن من المتفق عليه بين علماء المسلمين كافّةً لثبوت الحديث

- شرطيّة (المعاصرة وإمكان اللقاء) مع السلامة من التدليس - كما تقدم -؛ فمن

زاد على هذا شرطاً آخر؛ قيل له: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

و(الهدَّام) حين تبنّى شرط اللقاء، وضعّف به حديث:"عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين" - الذي اتَّفق العلماء قاطبةً على صحَّته، مع تعدُّد طرقه - ضعَّفها هو كُلّها بأساليبه الملتوية؛ منها زعمه أنَّه لم يتَحقَّق فيه شرط

ص: 20

اللقاء! مع أنَّ في بعض طرقه تصريحَ الرّواي بالتحديث؛ فكابر وأعلّه به -.

والمقصود أنَّه حين تبنَّى (اللقاء) لم يذكر أي دليل على أنَّه شرط صِحَّةٍ، إلاّ تقليده لبعض الأقوال، ثُمَّ هو يتّهم غيرَه بالتقليد!

والأمثلة الكثيرة التي ذكرها في رُسيِّلته "حوار

" (ص 66 - 75)، كان أكثرها مُعَلاًّ بالإرسال والانقطاع؛ لأسباب أخرى غير عدم الاعتداد بشرط (المعاصرة) - كالتدليس في (حبيب بن أبي ثابت)(ص 67)، و (الحسن البصري)(68، 5)، و (زيد بن أسلم)(69/ 7) و (قتادة)(69/ 11)، و (أبي قلابة)(70/ 14) -، فهؤلاء إنَّما أُعلّت رواياتهم بسبب التدليس، وليس لعدم الاعتداد بالمعاصرة؛ فتنبّه.

فهكذا الرجل يتشبَّع بما لم يُعْطَ، ويدلِّس على القراء، ويقلِبُ عليهم الحقائق.

ومن هذا القبيل مثاله (8): "أبو حاتم قال في خالد بن مَعدان: أدرك أبا هريرة، ولا يُذكر له سماع"؛ فهذا لا يدُلّ على شرط اللقاء، وإنَّما على عدم إمكان اللقاء، وذلك لاختلاف البلد، فأبو هريرة مدني، وخالد حمصي.

ومثله المثال (6)؛ فإنَّه من رواية كوفي عن شامي.

وقد أفصح الإمام أحمد رحمه الله عن هذا السبب في بعض التراجم؛ فقال - كما في "مراسيل العلائي"(213/ 196) -: "ما أحسب لقي (زُرارة) (تميماً)، تميم كان بالشام، وزرارة بصريٌّ كان قاضياً".

وإذا كان أحمد يحتجُّ بالمرسَل في بعض الروايات عنه، موافقاً في ذلك لمالك وغيره - كما في "جامع التحصيل"-؛ فكيف لا يحتجّ بالمسند من

ص: 21

معاصر لصحابي، والمعاصر غير مُدَلس؟ (1) فما نسبه (الهدَّام) لأحمد في المثال (5) هو من تدليسه وتضليله للقراء! لأنّه في المدلِّس! ومثل قول أحمد - المتقدم - قول أبي حاتم في (ابن سيرين):"ما أظنّهُ سمع من أبي الدرداء، ذاك بالشام وهذا بالبصرة"(2).

ولم يكتف (الهدَّام) بهذه الأمثلة المضلِّلة التي لا علاقة لها بدعواه، بل ذكر أمثلَةً أخرى تدور على بعض التابعين المجهولين - كما في رقم (6) -؛ فعبدُ الحميد بن سالم، عن أبي هريرة؛ فهذا مجهولٌ، - ومثله:(12) - وفيه عن بعضهم: "لا يعرف سماع سلامة الكِندي عن علي، والحديث مرسل".

قلت: فسلامة هذا مجهول، وله حديث ضعيفط خَرَّجته في "الضعيفة" تحت الحديث (6545).

ولم يقف عند هذا التضليل؛ بل ذكر في المثال (3) عن الواقدي؛ قال: "عبد الرحمن بن صبيحة التميمي، لم يُذكر له سماع ولا صحبة".

والواقدي متروك متّهم؛ وليس من أئمَّة الجرح والتعديل، ولكن المضلِّل يتعلَّقُ - كالغريق - ولو بخيوط القمر، ولو كان الواقديُّ ثقةً ومن الأئمة؛ فهو كتلك الأمثلة المتقدمة؛ ليس لها علاقةٌ مطلقاً بموضوع اللقاء والمعاصرة، وإنَّما بـ (المراسيل).

(1) ثم رأيت الحافظ ابن رجب سبقني إلى هذا، فقِال في "شرح علل الترمذي" (1/ 374) - بعد أن ذكر أَنَّه يلزم من شرط اللقاء طرح أكثر الأحاديث وترك الاحتجاج بها -:"من ههنا عَظُمَ ذلك على مسلم رحمه الله، والصواب أَنَّ ما لم يَرِدْ فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله (! )، ويُحْتَجُّ به مع إمكان اللُّقِيِّ، كما يُحْتَجُّ بمرسل أكابر التابعين - كما نص عليه الإمام أحمد -، وقد سبق ذكر ذلك في (المرسل) ".

(2)

"مراسيل ابن أبي حاتم"(ص 116)، و"العلائي" (324/ 683). وقوله: "ذاك

" إلخ " هكذا وقع فيهما على القلب، والجادّة: "هذا

وذاك

".

ص: 22

ولهذا لا يجوز نسبة القول إلى هؤلاء الحفّاظ أنَّهم يشترطون اللقاء ولا يكتفون بالمعاصرة، ولو لم يوجد سببٌ مانعٌ من ذلك من تلك الأسباب ونحوها، فإن لهم - لسعة حفظهم وقوّة إدراكهم - ملاحظاتٍ وتعليلاتٍ قد تخفى على الكثيرين؛ وبخاصّةٍ المتأخِّرين من أمثالنا، فتكون ملاحظاتهم سبباً مانعاً من الاحتجاج بالمعاصرة أحياناً، كما هو الشأن عند القائلين بها، الذين اشترطوا إمكان اللقاء مع السلامة من التدليس، فإِذا انتفى سببٌ من الأسباب المانعة، احتجَّ المحققون بالمعاصرة مع إمكان اللقاء، وإليك بعضَ الأمثلة:

1 -

مجاهد عن عائشة: أنكر غير واحد سماعه منها، كما رواه ابن أبي حاتم في "المراسيل"(ص 125)، وأجاب العلائي (336/ 736) بقولِهِ:"قلت: وحديثه عنها في "الصحيحين"، وقد صرَّح في غير حديث بسماعه منها"(1).

وأقول: أحدها في "الصحيحّين"(1776 - خ)، (4/ 61 - م)، وليس هذا هو اليقصودَ هنا، وإِنَّما هو قول ابن حبّان عَقِبَ حديثما مجاهد عن عائشة مرفوعاً:"لا تسبّوا الأموات، فإِنَّهم أفضَوا إلى ما قدَّموا" - ورواه البخاري (1393 و 6516) -، قال ابن حبان (7/ 291):

"ماتت عائشة سنة سبع وخمسين، وولد مجاهد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، فَدَلّك هذا على أنَّ من زعم أنَّ مجاهداً لم يسمع من عائشة؛ كان واهياً في قوله ذلك".

2 -

يعقوب مولى الحُرَقة، قال: قال عمر بن الخطاب

فذكر أثراً له أخرجه التِّرمذي، وقالما (487):

"حسن غريب

، ويعقوب - جد العلاء -؛ من كبار التابعين، قد أدرك عمر بن الخطاب، وروى عنه".

(1) وانظر "السير"(4/ 451).

ص: 23

3 -

سعيد بن المسيَّب، قال: قال أنس

فذكر حديثاً مرفوعاً، أخرجه التِّرمذي (2685)، وقال:

"حديث حسن غريب من هذا الوجه (1)، قال شعبة: "ولا نعرف لسعيد عن أنس إلاّ هذا"، ومات أنس سنة (93)، وسعيد (95) "(2).

قلت: وهذا اعتدادٌ صريحٌ بالمعاصرة، خلافاً لما يُعزى لشيخه البخاري، وليس كذلك إذا تذكَّرت التفصيل - المتقدم - في شرط البخاري، وأنَّه خاصٌّ بـ"صحيحه"، وأنَّه شيخه في مثل هذا التحسين، فتذكّر.

4 -

حُميد بن عبد الرحمن، قال أبو زُرعة:"عن علي وأبي بكر: مرسل". ذكره ابن أبي حاتم في "المراسيل"(37)، وَالعلائي (202/ 145)، إِلاّ أن هذا تعقّبه بقوله:

"قلت: قد سمع من أبيه وعثمان رضي الله عنهما؛ فكيف يكون عن علي مرسلاً وهو معه في المدينة؟ ! نعم، روى عن عمر رضي الله عنه، وكأنَّه مرسل".

وأقول: ليت أبا زُرعة وغيره من حُفَّاظنا كانوا يتحفَّظون في نفيهم السماع والجزم بالإرسال كما تحفّظ العلائي بقوله: "كأنَّه مرسل"؛ فإِنَّ النفي في الغالب يكون مساوياً لقوله: "لا أعلم"؛ فيكون هذا التعبيرُ أقربَ إلى الصواب

(1) قلت: وكذا قال في حديث آخر من هذا الوجه (589)، والتخريج في "المشكاة"(175 و 997 و 4652).

(2)

قلت: وهما مدنيان، وسعيد أبعد الناس عن التدليس؛ فهو محمولٌ على السماع، وقد أشار ابن رجب إلى هذا - كما في رسالة "حسم النزاع في مسألة السماع"(ص 27) لأحد الطلَبةِ المعاصرين -، إلاّ أنَّه استدرك فقال:"لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال"! قلت: ولا بالانقطاع؛ بل الاتصال هو المناسب لقوله: "حسن غريب من هذا الوجه"؛ فتأمل!

ص: 24

من الجزم المذكور؛ لما يترتَّب عليه من إعلال الأحاديث بغير حُجَّةٍ بيِّنة، ثم

استغلال ذلك من أهل الأهواء والجهلة.

لقد أعجبني تحفّظ العلائي؛ لأنَّه ثبت أنه لقي عمر أيضاً، فقد روى ابن سعد (5/ 154) بسنده الصحيح عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: رأيت عمر وعثمان يُصَلِّيان المغرب في رمضان إِذانظرا إلى الليل الأسود، ثم يُفطران بعد.

ولذلك ذكرهما الحافظ المزي في جملة من روى عنهم حميد، وإن كان يحتمل أن يكون يومئذٍ صغيراً، ويقوِّي هذا الاحتمالَ - إن صَحَّ - ما ذكروه في تاريخ وفاته، وعلى كلّ حال فليس المقصودُ الآن تحقيقَ سماعه عن الخليفتين، وإِنَّما بيان اعتماد العلائي على (المعاصرة) في ردّه على أبي زرعة؛ فتنبَّه.

ومن هذا القَبيلِ المثالُ الآتي:

5 -

قيس بن أبي حاتم، ذكر العلائي أنَّه سمع من العشرة المبشَّرين بالجنَّة، إلَّا عبد الرحمن بن عوف، ولم يعز الاستثناء لأحد، وهو لأبي داود وغيره، وذكر عن ابن المديني أنه: "لم يسمع من أبي الدرداء وسلمان، وروى عن بلال ولم يلقه

"، ثم تعقَّبه بقوله:

"في هذا القول نظر، فإِن قيساً لم يكن مدلِّساً، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فيها مجتمعون، فإِذا روى عن أحدٍ [منهم، فـ] الظاهر سماعه منه"

وإن في هذه الأمثلة لَغايةَ البيان على أنَّ عمل حفّاظ الأُمَّة قد جرى على الاحتجاج بالمعاصرة - إذا لم يكن هناك مانعٌ من تدليس، أو عدم إمكان اللقاء -، على أنَّ هذا غير مُطَّرِد، فقد تكون الرواية أحياناً مراسلةً ومكاتبةً بين

ص: 25

اثنين لم يلتقيا، ومع ذلك فهي حُجَّةٌ محمولةٌ على الاتصال عند العلماء كافّةً، فانظر "مراسيل العلائي"(ص 199 و 218 و 320 و 372).

وبهذا ينتهي بنا الكلام في حُجَّتنا الأولى على ذاك (الهدَّام).

وأمَّا الحُجّة الأخرى عليه، فهي:

أنَّ أهل الأهواء وأعداء السنَّة قد يتَّخذون اشتراط اللقاء سُلَّماً للطعن في الأحاديث الصحيحة، حتى ما كان منها متَّفَقاً عليه بين الشيخين وغيرهما، وبخاصَّةٍ إِذا كان هناك (قِيلٌ) بعدم السماع من الرّاوي عن المروي عنه - كما تقدم في المثال الأوّل -، ولذلك؛ فإِنَّه يجب تبنّي قول جماهير العلماء بالاكتفاء بالمعاصرة؛ من باب (سدِّ الذريعة) - أيضاً -؛ الذي هو من القواعد الهامّة في الشريعة.

وما لنا نذهب بعيداً، فهذا هو (الهدَّام) قد استغلَّ هذا الشرط استغلالاً سيِّئاً جداً وتوسَّع فيه؛ حتى فيما ثبت فيه اللقاء، ولم يصرِّح الرّاوي بالسماع وليس مُدَلِّساً، فضعَّف في "ضعيفته - "رياض الصالحين"" حديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً:"صدقك وهو كذوب"، فقد خرّجه من طريق ابن سيرين عنه، وأعلَّه بقوله: "لعلَّ البخاري

ولعلّ البخاري

"! ! بما لا مجال الآن للرّد عليه، ثم عزَاه للنسائي من طريق أبي المتوكّل الناجي، عن أبي هريرة، بقوله في "ضعيفتِه" (ص 535):

"أرى أن أبا المتوكِّل لم يسمع من أبي هريرة"!

وهذا ممّا لم يقله عالمٌ من قبل؛ كما يشير هو إلى ذلك بقوله: "أرى" دونما أي خجل! وقد رددت عليه في "الصحيحة" تحت الحديث (3162). وكذلك ضَعَّف - فيها - (ص 559 - 560) حديثين من رواية عبد الله بن

ص: 26

بريدة، عن أبيه - مرفوعاً -، أعلَّهما أيضاً بالانقطاع بين عبد الله وأبيه، مع أنَّ سماعه عنه ثابت في عِدَّةِ أحاديث، واحتجَّ الشيخان أيضاً بروايَته عن أبيه! ! والحديث الأوّل مخرَّج في "الصحيحة"(94)، والآخر في "الإرواء"(2576)، وصحَّحهما جَمْعٌ من العلماء، فراجعهما إن شئت.

وعلى هذا النَّمَط من الاستغلال السيِّئ والانحراف عن الحق؛ جرى (الهدَّام) في تخرِيجه لأحاديثَ كثيرةٍ في الكتب التي سوّد عليها تعليقاتهِ! ! وحسبك الآن مثالاً الحديثُ الآتي برقم (30)؛ فإِنَّه ضعَّف إسناده بقوله: "

فإِنَّ سالماً لم يصرح بالسماع منه".

وانظر الرَّدَّ عليه هناك.

وإنَّ من لوازم هذا عدمَ الاعتماد على الأسانيد الصحيحة المعنعنة مطلقاً، حتى التي يصحِّحُها الذين اشترطوا اللقاء مع السلامة من التدليس، فإِنَّهم لم يشترطوا السماع.

ولعلَّه مِن أجلِ هذا: لَمّا ذَكَرَ المحقق ابن دقيق العيد شرطَ السلامة من التدليس استصعبه جداً؛ حيثُ قال في كتابه القيم "الاقتراح"(ص 208) معقباً عليه:

"إلاّ إن الجَرْيَ عليه في تصرُّفات المحدِّثين وتخريجاتهم صعب عسير، يوجب اطِّراح كثير من الأحاديث التي صحَّحوها؛ إذ يتعَذَّر علينا إثبات سماع المدَلِّس فيها من شيخه، اللهم إلاّ أن يَدَّعيَ مُدَّعٍ أن الأوَّلين اطَّلعوا على ذلك ولم نطَّلِع نحن عليه! وفي ذلك نَظَرُ".

قلت: ولعلَّه من أجل تفادي الطرح المذكور؛ جعلوا المدَلِّسين طبقات، منهم من يُعْتفَرُ تدليسه لِقِلَّتِهِ، وتُقبل عنعنتهم كالثقات الذين في حفظهم

ص: 27

ضعف؛ فهؤلاء يُقبل حديثهم، على تفصيلٍ ذكره الحافظ العلائي في "مراسيله"(129 - 131)، ولبيان ذلك أَلَّفَ الحافظ ابنُ حَجَرٍ كتابه "طبقات المدَلِّسين"؛ وهو معروفٌ.

إذا عُرف هذا؛ فما عسى أن تكون نسبة الأحاديث الصحيحة التي سيطرحها هذا الأفينُ إِذا التزم إعلالها بعدم السماع؛ فضلاً عن غيره من العلل التي يختلقها، ويتجاهل موقف العلماء منها، وتصحيحهم للأحاديث التي يضعِّفها هو بها؟ !

عامله الله بما يستحقُّ.

* وأمّا سادسُ جهالاتهِ؛ فإنّك تراه كثيراً ما يضعّف بعض الأحاديث الصحيحة بناءً على الطرق الضعيفة التي وجدها مخرَّجة عند غيره وبخاصةٍ الألباني، ثم يعمل فيها هدماً، مُعْرِضاً عن قاعدةِ تقويةِ الحديث بكثرةِ الطرق - كما تقدم -، ولا يبحث مطلقاً عن طريق آخر له، أو شاهدٍ يقوّيه به، قد يكون فات من قبله لسبب أو آخر، وهذا أمثلته كثيرة.

* سابعاً: يتجاهل بعض الطرق والشواهد الصحيحة، ويتشبَّث بالطريق المرسل، وهي بين يديه! كما سترى في الحديث (49) - وغيره -.

* ثامناً: يعمّي على القراء صِحَّةَ إسناد الحديث الذي لا غبار عليه بقوله. "رجاله ثقات"! مكان قوله: "إِسناده صحيح"؛ معاكسةً منه للألباني!

وقد يذكر أحياناً عن بعض الحفّاظ تقويته، بعد أن يكون هو أعلَّه بما لا يقدح، وفي الغالب يكتم التقوية!

وقد يصحِّح متن الحديث دون السند، ولايبيّن السبب! ! وكثيراً ما يضَعِّف ولا يبيِّن السبب، ويُحيل به إلى موضع لا يسمِّيه! !

ص: 28

* تاسعاً: تعميته على القراء كونَ الراوي ثقةً عند الأئمة بقوله فيه: "وليس بالمشهور" ونحوه؛ انظر الحديث (89 و 81 و 83 و 96 و 100).

* عاشراً: تجاوزه تخريج جملة من الأحاديث الصحيحة الّتي يذكرها - أو يُشير إليها - مصنِّفو الكتب التي يسوّد عليها تعليقاتهِ؛ كمثل ما أورده الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابهِ "إغاثة اللهفان" من أحاديثِ النهي عن التشبُّهِ بالكفار، وخروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام؛ ولا وجه لإعراضه عنها، إلاّ أنَّه قد لا يؤمن بها! أو أنَّه - على الأقلّ - بشكِّكُ في

صحَّتها! ! فانظر الحديث (0103 و 153).

وقد يتجاوز الحديث لجهله به أنَّه في حكم المرفوع - إِذا أحسنَّا الظَّن به -؛ وإلاّ فالظاهر أنَّه لا يعرفه مطلقاً، مع أنَّه في "صحيح البخاري"! لأنّه قد خرَّج بعض الأحاديث الموقوفة، كحديث ابن مسعود الآتي عنده (1/ 30)، وحديث عثمان (1/ 79)، وهما خارج "الكتب السِّتَّة"، فما باله لا يخَرِّج حديث البخاري الآتي برقم (59) وهو في أم "الستة":"البخاري"، لولا الجهل بما فيه من الكنوز؟ !

وله أمثلةٌ أخرى تدُلُّ على جهله بما في "الصحيحين"، تقدّم الإشارة إِلى بعضها في (المقدِّمة) فقرة (4)، بل إنَّه عزا حديث علي الموقوف - الآتي برقم (18) - للدِّينَوَرِيِّ وغيره بواسطة "الكنز"! وفي هذا العزو بلايا تدلّ على جهله - كما سترى -؛ منها ضعف سنده، وإهماله عزوه للبخاري!

* حادي عَشَرَ: وله أساليب عجيبة غريبة في التمويه وتضليل القرّاء عن الاستفادة مما يعزوه لـ"للصحيحين" أو أحدهما، فمثلاً الحديث (154)؛ فإِنَّه عزا طرفه الأول للشيخين، وبيَّض للأخير منه! وعزا ما بينهما للطبري وضعّفه، والحديث بتمامه عند الشيخين؛ وقد صوّرت الصَّفحة التي فيها هذا

ص: 29

الخلط؛ ليكون القرّاء على بيِّنةٍ مما فعل، لأنَّه - لغرابته - لا يكاد يُصَدَّق.

وكذلك فعل بالحديث الذي بعده - (155) -؛ فإِنَّه عزَاه للطبري - أيضاً -، وتَعَمَّدَ تحريف اسم أحد رواته؛ ليتوصَّل منه إلى ادِّعاء أنَّهُ لا يُعرف، وبالتالي إلى تضعيف الحديث، وهو نفس الحديث الذي قبله، وروايةٌ لمسلم فيه، ولم يَكْتَفِ بهذا التضليل، بل زاد في الطين بِلَّة؛ فأوهم القرّاء أنَّ الطبري روى من طريق الرّاوي الذي حرَّف اسمه رواية مسلم هذه الصحيحة؛ والواقع أنَّه إنَّما روى من طريقه حديثاً آخر موقوفاً - كما ستراه مصوَّراً أيضاً -.

وله أُمورٌ أُخرى - كثيرةٌ - لا يخفى بلاؤهُ - فيها - على الفَطِنِ من القُرَّاءِ، ولا يَغِيبُ جهلُهُ - بها - عن الألِبَّاء

فإلى نَقْدِنا المُفَصّلِ على تعليقهِ وتخريجهِ؛ بل إفسادهِ وتخريبهِ؛ فأقولُ - وبالله التوفيقُ -:

ص: 30

‌1

- قال ابنُ القَيِّم رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان"(1/ 17): "صَحَّ عن حذيفة بن الييان: "القلوب أربعة

"": قلت: أعلَّه (الهدَّام) - المعَلِّق عليه - بالانقطاع بين أبي البَختري وحذيفة، وهو كما قال، ولكنَّه أخطأ في نسبة الانقطاع إلى أبي حاتم، فإِنَّه لم يقله! كما أخطأ في تفسير قولي في تعليقي على كتاب "الإِيمان" (17/ 46):"حديث موقوف صحيح" بأَنَّه: "سبق قلم"! فأقول: ليس كذلك؛ بل هو بقصدٍ مني كما فعل ابن القيِّم من قبلي، وبيان هذا وذاك في "الأحاديث الضعيفة"(5158).

‌2

- قال ابن القيِّم (1/ 21): "ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم خلفاءه بضدِّها

(يعني: الجهل والغَيَّ)، فقال:

"عليكم بسنتي وسنَّةِ الخلفاء الرّاشدين المهديين من بعدي":

قلت: جزم رحمه الله بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الحق الذي أجمع عليه علماء المسلمين سلفاً وخلفاً، دون خلاف معروف بينهم، حتى جاء هذا (الهدَّام) المغرور، فخالفهم جميعاً، متشبِّثاً بتجهيل ابن القطان الفاسي لأحد رواته، فيما علَّقه على طبعته لـ"رياض الصالحين"(ص 79/ 105)(1)، ونسب إليه أنَّه ضعّف الحديث! وهذا من جهالاته أو مغالطاته؛ إذ لا يلزم منه أنَّه ضعَّف الحديث من جميع طرقه، كما فعل (الهدَّام) هنا وقي غيره، وهذا يقال على فرض

(1) وهي طبعة مزوّرة غير شرعيّة؛ لأنَّه بدّل فيها وغيَّر، وزاد عليها واختصر! وقد سمّاه - بحق - في بعض تعليقاته بـ"المختصر"(ص 422)، ولكنَّه نشره باسمه الأوّل:"رياض الصالحين" كذباً وزوراً، ومضاربة منه لطبعات الكتاب السابقة، وبخاصةٍ منها التي عليها تعليقاتي وتحقيقاتي، وقد استفاد منها ترويجاً لمختصره هذا! والله المستعان.

ص: 31

التسليم بالجهالة، وهو مرفوض - كما كنت بيّنته في "الصحيحة"(937) -.

ثم نشر رسالة صغيرة سنة (1413) ينتصر فيها لعدم قناعته مني بصحة الحديث في اللقاء والمناقشة التي سبقت الإشارة إليها في المقطع (الثالث) من المقدمة؛ تتبّع فيها طرق الحديث الئي أوصلها إلى سبعة عشر طريقاً! وأعلَّها كلها وأرجعها - بقدرة قادر - كما يقال! - إلى طريق واحدة! هي طريق ذلك الرّاوي المجهول عنده! مع أنَّ في بعضها تصريحَ غيرِه من الثقات بسماعه للحديث من العرباض، وقد كنت خرَّجت في "الإِرواء" - وغيره - كثيراً من طرقه الأخرى، ولخَّصت الكلام عليها في الاستدراك رقم (13) الذي ألحقته بالطبعة الجديدة للمجلد الثاني من كتابي "الأحاديث الصحيحة"؛ وفي بعضها التصريح المشار إليه، فلا داعي للإعادة، فإِنَّه منشورٌ مشهورٌ - بحمد الله تعالى -.

ولكن لا بُدّ من استرعاءِ النظر إلى شيء من تدليساته وتناقضاته وكتمانه للحقائق في كلامه على هذا الحديث فضلاً عن غيره، فأَقول:

يرى القارئ الكريم أنَّ الرجل ختم بحثه هذا بقوله (1/ 23).

"وجميع هذه الطوق مدارها على عبد الرحمن بن عمرو السُّلَمي؛ كما فصَّلت هذا في رسالةٍ مستقلَّةٍ "مع الألباني في مناقشة لحديث العرباض بن سارية"؛ فانظرها إن أردت تَوَسُّعاً".

قلت: فهو يؤكِّد بذلك تضعيف الحديث لجهالة السُّلَمي عنده، وقد سبق ردّه آنفاً.

والمقصود؛ أنَّ القارئ إذا رجع إلى تلك الرسالة، وجد أنَّه ختمها بأمرين هامَّين جداً، يقضيان على رسالته ويجتثَّانها من أصلها، ويكشفان عن بَطَرِه للحق، ومعاندته، واستعلائه على أئِمَّة المسلمين، ونسبتهم إلى التقليد

ص: 32

والجهل، وإعجابه برأيه المُرْدي المهلك:

الأمر الأوَّل: ذكر (ص 120 - 133) عشرة من كبار الحفّاظ والعلماء - من المتقدِّمين والمتأخرين - من الذي صَحَّحوا هذا الحديث، ثم طعن فيهم واحداً بعد واحد، نابزاً إيَّاهم بالتساهل أو التقليد، وهم على ترتيبه إياهم:

"التِّرمذي، ابن حِبّان، البزّار، الحاكم، ابن عبد البر، أبو نُعيم الأصبهاني، أبوالعباس الدَّغُوليّ، البغَوي، ابن العَرَبي، الضياء المقدسي".

ويعلق تحت اسم كل واحدٍ منهم بما أملاه عليه هواه من المطاعن، ثم شملهم جميعاً بقوله:

"وهذا منهم تقليد"! !

وتحفَّظ الرجل بالنسبة للحافظ الذهبي، فإجلالاً منه له (! ) لم يُلحقه بأولئك المقلِّدين! ! فأفرده عنهم مع كونه معهم في تصحيح الحديث في موافقته للحاكم، وذلك لأنه شك في نسبة موافقاته للحاكم، وإن كان من جهة أخرى قد مال (1) في الحاشية إلى قول من قال من المعاصرين: إن تلك الموافقات كانت في مقتبل عُمُرِ الذهبي! وهذا من تناقضاته الكثيرة، وسواء استقر رأيه على هذا أو ذاك، فإِنّا نضعه أمام نص الذّهبي، ونصوص أخرى عن غيره من الأئمّة، مِمَّا لا يمكنه الشَّكُّ في ثبوتها، أو اللفّ والدوران عليها - إلاّ أن يخرج عن عقله أو دينه -:

(1) وهذا هو الرَّاجح عندي، ولعلِّي صَرَّحت بذلك في بعض كتاباتي، ثم رإيته في تعليقه على "مجموعَة رسائل" للشيخ نسيب الرِّفاعي رحمه الله" (ص 76) يجزم بنفي الموافقة المذكورة! ويأمر بالنظر في رسالته المذكورة! ولا يشير إلى ميله المذكور في الحاشية، والرِّسالة من طبع المكتب الإسلامي، فسبحان مقلِّب القلوب! كيف يطبع لعدوِّ السنة، وهو يطبع كتب السنة؟ !

ص: 33

الأوّل: قال الذهبي في كتابه العظيم "سير أعلام النبلاء"(17/ 483): "هذا حديث عالٍ صالح الإسناد".

الثاني: وقال أيضاً (18/ 195):

"وصَحَّ عنه أنَّه قال. "عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء

" الحديث".

الثالث: قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في فتوى له (4/ 399 - "الفتاوى"):

"وفي "السنن" - عنه - أنَّه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر"؛ ولم يجعل هذا لغيرهما، بل ثبت عنه أنَّه قال: "عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي

" الحديث بتمامه. والرابع: الحافظ ابن الملقِّن في "تذكرة المحتاج"؛ فإِنَّه بعد أن أقرَّ تصحيحَ مَن صححه ردَّ على ابن القطان تجهيله لراويه، فقال (66/ 67): "وأمّا ابن القطان فأعلّه بجهالةِ بعض رواته، وقد بأن توثيقه".

ويُلْحَقُ بهؤلاء كلّ الذين احتجّوا به أو شرحوه، وهم جَمٌّ غفير لا يمكن حصرهم، ومنهم الخطيب البغدادي، والإمام الشاطبي، والمحقق ابن القيم في "إغاثة اللهفان" - وغيره -، وأبو حامد، والماوردي، والحافظ ابن حجر الذي حكاه عنهما في "الفتح"(10/ 339) وأقره، وهو ظاهر كلامه في "التلخيص"(4/ 190)، فإنَّه أقَرَّ الذين صحَّحوه، ولم يتعقَّبهم بشيء البتّة.

فيا أيها القراء الكرام! هل يدخل في عقل عاقل مسلم أنَّ هؤلاء العلماء الأجلَاّء كلّهم متساهلون، أو مقلدون، أو على الأقل مخطئون، وذاك (الهدَّام - الفَسْل) هو الإمام المجتهد المصيب؟ ! وهو - والله - لا يصلح أن يكون تلميذاً لأحد تلامذتهم

ووالله إننا لفي زمانِ تَكَلُّمِ (الرُّويبضة) - كما أخبر الصادق

ص: 34

المصدوق صلى الله عليه وسلم (1) -.

والأمر الآخر أنَّ الرجل هدم - والحمد لله - جُلَّ رسالته - بقلمه -، في فصل أخير عقده فيها بعنوان:"هل لحديث العرباض شواهد؟ "، ثم أفاض في ذكر الشواهد الصحيحة لأكثر فقرات الحديث (ص 140 - 157)، وانتهى إلى التسليم بصحة الحديث؟ إلاّ فقرتين، إِحداهما:"فعليكم بسنتي"، والأُخرى:"عَضُّوا عليها بالنواجذ"؛ وهي التي احتجَّ بها ابن القيم، وعلّق عليها (الهدَّام) هذا التعليق الأسود، واحتجَّ بها - أيضاً - بعض العلماء على حجيّة إجماع الخلفاء، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيميّة، وأيَّده بهذا الحديث، فقال في "مجموع الفتاوى" (28/ 493):

"وهذا حديث صحيح في "السنن"

".

وإِنَّ من جَنَفِ هذا (الهدّام)، وَبَغْيهِ على السُّنَّة المطهّرة: أنَّه لما رأى أنَّه يشهد لها قولُه صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر" ضعَّفه أيضاً، مع أنَّه خرَجه (ص 147 - 153) عن أربعة من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وحذيفة، وأنس رضي الله عنهم، وضَعَّفها كلّها بأسلوبه (الفذّ)! ولو أنَّه كان على علم بالسنّةِ وانتصار لَهَا؛ لعلم أنَّه لو سُلِّم له بضعْف مفرداتها، فإِنَّ مجموعها يدل على أنَّ للحديث أصلاً أصيلاً، فكيف وبعضها قويٌّ لذاته - كما بينته في "الصحيحة"(1233) -، ومنه استفاد أحاديثهم، ولكنه كعادته قد نصب نفسه للمعاكسة والمعاندة، فضعَّفه.

ثم زاد - ضِغثاً على إبّالة - فنقل (ص 153) عن الحافظ ابن حجر أنَّه ذكر في "التلخيص"(4/ 190) للحديث عِلَة أخرى، وهي أن رِبعياً لم يسمع

(1) انظره - مخرّجاً - في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(1887).

ص: 35

هذا الحديث من حذيفة!

وفي هذا النقل تدليس خبيث نعرفه عنه كثيراً، فإِنَّه يوهم أنَّ الحافظ ذكره وأقرَّه؛ وهو خلاف الواقع، فقد تعقَّبَه بقوله:

"قلت: أمَّا مولى رِبعي فاسمه (هلال)، وقد وُثِّق، وقد صرَّح رِبعي بسماعه من حذيفة في رواية، وأخرج له الحاكم شاهداً من حديث ابن مسعود

".

ولم يقتصر كتمانُه لهذه الفقرة من كلام الحافظ، بل كتم ما هو أبلغُ في الرَّد عليه، وبيان خطإِه في التضعيف، وعدم اعتداده بأقوال الحفّاظ، فقال الحافظ:

"وقال العقيلي - بعد أن أخرجه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر: لا أصل له من حديث مالك، وهو يُروى عن حذيفة بأسانيد جياد تثبت"(1).

بل إن خيانته للعلم لَتزداد وضوحاً حينما يَعلم القراء أنَّه هو نفسَه قد ذكر الحديث (ص 148) من رواية العقيلي (4/ 94 - 95)، ونقل الشطر الأوَّل من قول العقيلي، ولم ينقل الشطر الآخر الصريح في تقويته للحديث!

فماذا يقال عمن يفعل هذا؟ ! وبخاصةٍ أنَّه يتكرّر ذلك منه كثيراً، فقد كتم - أيضاً - تحسين التِّرمذي لحديث حذيفة هذا، وقد حَسَّنه في ثلاثة مواضع من "السُّنن"، وهذه أرقامها (3663 و 3801 و 3807).

وله من مثل هذا الشيء الكثير والكثير جداً، مما سيأتي التنبيه عليه - إن شاء الله وأعانني عليه -، الأمر الذي أرجو أن يكون سبباً لهدايته إن كان مخلصاً، أو قطعاً لدابره إن كان مغرضاً، كما قطع دابر من قبله من ذوي

(1) كذا بصيغة الجمع، وفي مطبوعة "العقيلي":"بإِسنادِ جيد ثابت" بصيغة المفرد.

ص: 36

الأهواء من الأموات، أو الأحياء الأموات!

ولعلّ من ذلك القبيل - أيضاً - كتمانَه تصريح ابن تيميّة بثبوت حديث حذيفة في "الفتاوى"(35/ 48)، فضلاً عن احتجاجه به - كما تقدّم نقله عنه (ص 21) - وانظر - أيضاً - (35/ 23) -، وكذلك احتجَّ به الحافظ ابن كثير في "التفسير"(1/ 171)، وصرح بتحسينه الحافظ ابن حجر في "تخريج المختصر"(ق 32/ 2).

وإنَّما قلت: "ولعله

"؛ لأنَّه لا جزم عندي بذلك - أولاً -، ولعلمي أنَّه لا يبحث إلاّ عن الهدم - ثانياً -! فيحتمل الأمر هذا وذاك.

ومن الشواهد الصحيحة التي وقف عليها ولم يتجرأ على الطعن في إسنادها - خلافاً لعادته -: ما رواه البخاري (11/ 198) أن عبد الرحمن بن عوف بايع عثمان على خلافته، فقال:

"أبايعك على سنّة الله، وسنّة رسوله والخليفتين من بعده".

ولكنه ردَّ دلالته وشهادته بقوله (ص 153):

"هذا من قبيل التأكيد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا التغاير، ثم إنَّه موقوف"!

وهذا من بالغ جهله، وقلّة فقهه، فإِن كونه موقوفاً مما لايفسح المجال لمسلم أن لا يأخذَه - كما هو الشأن في كثير من الموقوفات -؛ لأنَّه قيل في حضرة كبار الصحابة من العشرة المبشرين بالجنّة، وغيرهم.

ثم إن قوله: "لا التغاير" قد كشف النقاب عن السبب الذي حمل هذا (الهدَّام) على تضعيف الحديث ككلٍّ - أولاً -، ثم انحطَّ إلى تضعيف فقرة:"سنة الخلفاء الراشدين" منه - ثانياً -، وهو فهمه (التغاير) بينها وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم! وهو فهم سقيم بمرّة.

ص: 37

والحقيقة، أنَّ هذا الحديث الصحيح يلتقي - تمام اللقاء - قولَه - تعالى -: {

سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} في الآية الكريمة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فهل {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هو غير سبيل الرسول وما دعا إليه؟ ! كلاّ ثمّ كلاّ، فإن المعنى:"ويسلك منهاجاً غير منهاجهم" كما قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري في "تفسيره"(5/ 178).

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وسنَّة الخلفاء الراشدين" أي: طريقتهم ومنهاجهم الذي تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، وفعلاً، وتقريراً، وما ذلك إلا لأنهم أعلم أصحابه بسنته صلى الله عليه وسلم، فسنَتهم من سنَّته صلى الله عليه وسلم، ولذلك احتجَّ من سبقت الإشارة إليهم بهذا الحديث على حجيَّة إجماعهم؛ كما احتجَّ الإمام الشافعي بالآية المتقدِّمة على حجيَّة إجماع المسلمين - على ما هو مبيَّنٌ في "رسالته"، وكتب الأصول والتفسير -.

وإنَّ مِن المؤيِّدات للحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إن يطع الناس أبا بكَر وعمرَ يرشُدوا" رواه أبو عَوانة في "صحيحه"(2/ 282)، وأصله في "مسلم"(2/ 139 - 140)، وإليه عزَاه ابن تيميَّة (4/ 400)، وفيه بحثٌ لا مجال لذكره الآن، وصحَّحه ابن المنذر - كما في "الفتح"(1/ 309) -، وهو من حديث أبي قتادة الأنصاري.

وجملة القول في هذه الفقرة - مع صحَّتها في ذاتها عند العلماء - أنَّه يشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا

"، وما ذُكر بعده من الموقوف والمرفوع - لاشتراكها كلها في الحضّ على الاقتداء بالخليفتين وإطاعتهم - فمِن باب أولى أن يحضّ على الاقتداء بأربعتهم واتباع سنَّتهم، كما هو ظاهرٌ لا يخفى.

ص: 38

وخلاصةُ ما تقدّم من البيان حول هذا الحديث الصحيح:

أوَّلاً: أن (الهدَّام) بتضعيفه إِيَّاه قد خالف {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} .

ثانياً: لقد هدم بحثَهُ - هذا - الَّذي لَخَّصَه من رسالته، كما هَدَمها هي - أيضاً - بتراجعه عن تضعيف أكثره، وقد يتراجع - فيما بعد - تحت مطارق الحق عن باقيه، ولكن بمكرٍ ودهاءٍ لا يُحمد عليه.

ثالثاً: لقد كتم هنا تراجعَه المذكور هناك، فأوهم القراء أنَّه لا يزال مُصِرّاً على تضعيفه إيّاه - تضعيفاً مطلقاً - وذلك بما كان علَّقهُ على طبعته لـ"رياض الصالحين"(1)؛ هداه الله! ولا حول ولا قوَّةَ إلاّ بالله!

‌3

- "قال النبي صلى الله عليه وسلم في الَّذين أفتَوا بالجهل، فهلك المستفتي بفتواهم: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ ! فإِنَّما شفاء العِيِّ السؤال"":

صَدَّره المضعِّف بقوله: "ضعيف"! ثم خَرَّجَه (1/ 28) من حديث جابر، ومن حديث ابن عباس وضعّف إسناديهما، وقد استفاد ذلك من "الإرواء"(1/ 142/ 142) وغيره، لكنَّه عاكسني في تقويتي للحديث بمجموع الطريقين في بعض كتاباتي - مثل "المشكاة"(1/ 166) -، فحسَّنته هناك، وفي "صحيح أبي داود"(364 - 365).

أقول: عاكسني؛ لأنَّه لا يأخذ بقاعدة التقوية بكثرة الطرق، كما تقدم بيانه في المقدمة (المؤاخذة/ 2)؛ وذلك من أسباب خروجه عن {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وكثرة مخالفته لعلمائهم - كما رأيتَ ويأتي -، ومن ذلك هذا الحديث، فقد رأيت جَزْمَ ابن القيم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسبقه إلى ذلك

(1) وكذلك فعل في تعليقه على "مجموعة رسائل للشيخ نسيب الرفاعي - رحمه

الله -" (ص 53 - 54) طبع المكتب الإسلامي - في ختام حياته -؛ نسأل الله حسن الخاتمة!

ص: 39

جَمْعٌ منهم شيخ الإسلام ابن تيميَّة في مواضع من كتبه وفتاويه، فانظر مثلاً "مجموع الفتاوى"(21/ 358) و (25/ 279 - 280).

ووقع هنا - أيضاً - في كتمانه العلمَ الذي هو حُجَّةٌ عليه، فإنَّ من المصادر - التي عزا الإسنادين المشار إليهما -: الحاكم (1/ 178) والبيهقي (1/ 227)، ومع ذلك؛ فإِنَّه كتم الطريق الأخرى السالمة من الانقطاع، فأخرجه الحاكم (1/ 165) والبيهقي (1/ 226 - 227) من طريق الوليد بن عبيد الله ابن أبي رباح، أنَّ عطاءً حَدَّثهُ، عن ابن عباسٍ

به، ببعض اختصارٍ، وقال البيهقي:"هذا حديث موصول"، وصحَّحه الحاكم والذهبي.

كما كتم - أيضاً - تصحيح ابن خزيمة، وابن حبّان، وابن الجارود، وقد رأى ذلك - على الأقل - بواسطة "الإحسان"

‌(4

/ 140 - 142)؛ الذي كثيراً ما يُحيل إليه إذا كان تعليق شيخه شُعيب عليه موافقاً لهواه! ولمّا كان الشيخ وفِّق - والحمد لله - للصواب؛ فقوّى الحديث لطرقه، لم يُحِلْ عليه! فهو شيخه عند الموافقة! وأمّا عند المخالفة فلا هو ولا أحدٌ من الأئِمّة والحفّاظ المعروفين! ! ولسان حاله يقول عن شخصه وعلمه:(لا هو إلَّا هو)! نعوذ بالله من العُجْبِ والغرور! !

4 -

"وفي "المسند" و"الترمذي" من حديث عَدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالّون"": أقول: لم يكشف (الهدَّام) عن حكمه عليه بصحَّةٍ أو ضعفٍ، ولكنَّه أعلَّه بالجهالة والإرسال، وترك الحكم عليه معلَّقاً، لا يهمُّهُ: أَفَهِمَ القراءُ منه صحته أو ضعفه؟ ! وهو مما يؤكِّد أنَّه لا يغار على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنَّه كان على {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} لأفصح - أوّلاً عن صحة إسناد المرسل، ولقوّاه بالمتَّصل الذي فيه الجهالة - ثانياً -، ولكنَّ الأمر أخطر من سكوته هذا،

ص: 40

وهو كتمانه لحقائق علمية هامّة تؤكد أن الحديث صحيحٌ يقيناً؛ وهاك البيان:

أولاً: كتم تحسين التِّرمذي إياه، وقد عزاه إليه! وتصحيح ابن حبّان إيّاه، ولم يعزه إليه!

ثانياً: كتم توثيق ابن معين لـ"مُرَيِّ بن قَطَرِيٍّ"(1)؛ الذي قد يساعد على الاستشهاد بحديثه، وهو مسند متصل.

ثالثاً: طريق آخرى كتمها، ولم يتعَرَّض لذكرها مع أنَّه رآها عند الطبري الذي عزا ما خرَّجه إليه! وهو من رواية الشعبي عن عدي رضي الله عنه، وإسناده صحيح؛ كما قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "تفسير الطبري" (1/ 18‌

‌5)

.

رابعاً: جهل أو تجاهل شاهداً قويّاً له من حديث أبي ذرٍّ، حسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح"(8/ 179).

خامساً: جهل - أو تجاهل - تتابعَ العُلماءِ على تصحيحه أو الاحتجاج به، فهذا شيخ الإسلام ابن تيميّة يحتج به في "الفتاوى"(3/ 127)، وفي مكان آخر منه (1/ 64) يُصَحِّحُهُ، وصرَّح ابن أبي العزّ الحنفي بثبوته في آخر "شرحه على العقيدة الطحاوية".

والحديث قد خرَّجته في "الصحيحة" برقم (3263).

5 -

"قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء حارث وهمّام"": جزم ابن القيم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعاكسه (الهدَّام) على عادته! فقال بعد ما ساقه من حديث أبي وهب الجُشَمي مسنداً، ومن حديث تابعيَّيْنِ ثقتين - أحدهما شامي والآخر مكي - مرسلاً:"ولست أراه يصح بهما"!

(1) كما في "تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي عنه"(ترجمة 766).

ص: 41

وهذا - منه - على ما جرى عليه في كل تخريجاته من إعراضه عن تقوية الضعيف بكثرة طرقه - كما نبَّهت عليه في المقدِّمة -؛ ولذلك سكت عنه الحافظ في "الفتح"(10/ 578)، واحتج به شيخ الإسلام ابن تيميّة، وجزم - أيضاً - بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في "الفتاوى"(20/ 122) و (28/ 135)، وأورده عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الشرعية الصغرى"(2/ 818) التي خصها بالأحاديث الصحيحة.

والحديث مخرّج في "الصحيحة"(1040)، و"الإرواء"(1178).

‌6

- "في "صحيح مسلم" عن صُهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"إذا دخل أهل الجنة الجنّة، نادى منادٍ: يا أهل الجنّة! إنَّ لكم موعداً

فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه"":

قلت: هو من رواية حماد بن سلمة: ثنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب.

وقد قال ابن المديني وغيره: "لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة"؛ كما في "السير" للذهبي، وقال (7/ 446):

"ومسلم روى له في الأصول عن ثابت وحميد، لكونه خبيراً بهما".

ولذلك قال الحافظ في "التقريب": "ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت".

قلت: من أجل ذلك كنت صحَّحته في "الظلال"(472) وغيره، ولا سيّما تَتَابَعَ حفاظُ الأمّة، وأئمَّةُ الإسلام على تخريج حديثه هذا - مع الإمام مسلم - في كتب الصحاح، والاحتجاج به في كتب السّنة وأصولها، منهم أبو عَوانة، وابن خُزيمة، وابن حِبان في "صِحاحهم"، وصحَّحه البغوي في "شرح السنة"، واحتج به ابن خزيمة في "التوحيد"، واللالَكائي في "أصول الاعتقاد"،

ص: 42

والبيهقي في "الأسماء والصفات"، و"الاعتقاد"، وابن تيميّة في "الفتاوى"(8/ 356)، وابن القيم - كما ترى -، وابن أبي العزّ في "شرح العقيدة الطّحاوية"، والحافظ ابن حَجَر في "الفتح"(13/ 432) - وغيرهم مِمّن يصعب استقصاؤهم، دون أي خلاف سالف من غيرهم -.

ورغم هذا تطاول هذا (الفَسْل القميء) عليهم، وخالف سبيلَهم، زاعماً أنَّ:"إسناد هذا الحديث إلى صهيب غلط، مَنْشَأُهُ من حماد بن سلمة، فقد خالف جمعاً من الثقات بزيادته صحابيَّ الحديث صهيباً، ورفعِه، ولا تحتمل زيادته الصحة".

ثم خرّجه من رواية الطبري من طريق حماد بن زيد، وسليمان بن المغيرة، ومَعْمَر، عن ثابت

به دون ذكر صهيب؛ موقوفاً على ابن أبي ليلى، وقال.

"وهو الصواب".

فأقول: هذا مُنتهى الصَّفَاقةِ من هذا الأفِين، فإِنَّه - فوق تجرُّئه على تخطئته لأولئك الفحول - يستدل على ذلك برواية الثلاثة الذي خالفوا حماد ابن سلمة، فأوقفوه على ابن أبي ليلى - وهم دون ابن سلمة في ثابت خاصة - كما تقدم عن ابن المديني وغيره -، ومنهم الإمام أحمد.

وإن مما لا شك فيه أنّ الحفاظ الذين جاؤوا من بعد مسلم - والذين أخرجوا الحديث وصحّحوه أو احتجّوا به - قد وقفوا على رواية هؤلاء المخالفين، فلم يرفعوا إليها رأساً؛ لعلمهم بأرجحيَّه رواية ابن سلمة عن ثابت على روايتهم، ومنهم الإمام الطبري نفسه، فإنَّه أَتبع روايتهم برواية ابن سلمة؛ مشيراً بذلك إلى أنَّها هي الصحيحة المعتمدة؛ ولعله - لذلك - كَتَمَ هذا (الهدَّام) ذِكْرَ الطبريِّ عن القراء؛ فلم يذكره في جملة المخرِّجين لها، كما كتم عزوَها إلى هؤلاء الحفّاظ الذين أخرجوه في "صِحاحهم": أبي عَوانة، وابن

ص: 43

خزيمة، وابن حبان، والبغوي - كما تقدم -.

وهناك حقيقةٌ أخرى كتمها - مدلِّساً بذلك على القُرّاءِ -؛ وهي أن رواية الثلاثة، وإن كانت متفقة وقفاً، فهي مختلفةٌ اختلافاً ظاهراً متناً، فلو أنَّه ساقها: لتبيّن للقراء جهلُه بهذا العلم الشريف، وأنَّه فارغ منه كالطبل، وهاك البيان:

أولاً: رواية مَعْمَر وسليمان بن المغيرة، أخرجها الطبري من رواية ابن المبارك عنهما، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى - مختصرة جداً -، بلفظ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: النظر إلى وجه ربهم".

ثانياً: رواية حماد بن زيد عنه، روايتان:

إحداهما: كهذه، رواها عنه عبد الرحمن - وهو ابن مهدي -، قال: ثنا

حمّاد بن زيد

به، مختصراً.

والأخرى: يرويها ثقتان عنه - مطولاً -، نحو رواية ابن سلمة.

وإذا عُرف هذا؛ فما هو الراجح من هذا الاختلاف؟

إن من الواضح أن ما اتفق ثقتان عليه أرجحُ مما رواه ثقة واحد، ولا سيّما إذا كانت روايته أنقصَ متناً من روايتهما، فرواية عبد الرحمن بن مهدي مرجوحة من هذه الحيثيّة، لكننا نرى أنَّه قد تابعه الثقتان الآخران: مَعْمَر وسُلَيمان بن المغيرة، فهي بهذا الاعتبار راجحة، ورواية الثقتين مرجوحة؛ هذا إذا جرينا - لا قدَّر الله! - على ما جرى عليه (الهدَّام) من الترجيح بالكثرة!

وههنا حقيقةٌ أخرى يجهلها من لم يمارس هذا العلم ممارسة طويلة، ولم يتفقّه بأساليب الحفاظ النقادين في معالجة الاختلاف بين الروايات، وهي أنَّهم يلاحظون - أحياناً - أن الخلاف إنَّما سببه الاختصار - لسبب أو آخر -؛ فقد يقتطع الثقة من الحديث قطعة تناسب المقام، وقد لا يرفعه لاعتقاده أنَّه

ص: 44

معروف عند الحاضرين، إلى غير ذلك من الأسباب التي تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالرواة، وإنَّ مما يؤيِّد هذا هنا ما رواه الإمام الطبري بالسند الصحيح - جداً - عن عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال: "إذا دخل أهل الجنّة الجنة

"

الحديث، نحو حديث حمّاد بن سلمة، وفيه: "

فوالله ما أعطاهم شيئاً أحَبَّ إليهم من النظر إليه".

فهل يقولُ عالمٌ: أخطأ ابن مهدي في رفعه - وبهذا التمام - مخالفاً لروايته المتقدمة المختصرة الموقوفة؟ !

ومن هذا القبيل ما رواه البيهقي في "الأسماء"(ص 307) من طريق قَبِيصة بن عُقبة أبي عامر: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب - مرفوعاً - في قوله عز وجل:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال:"النظر إلى وجه ربّنا عز وجل".

فهذا - كما ترى - قطعة من حديث حمّاد بن سلمة المرفوع، فهل يقال: أخطأ قَبيصة على حمّاد؟ أو: أخطأ حماد على ثابت؟ ! كلاّ ثم كلاّ، وقد عرفتَ السبب فيما قدّمنا.

وإذا عرفتَ هذا؛ فالحقُّ أنَّ كل هذه الروايات - من أولئك الثقات - الدائرةِ على ثابت، كلّها ثابتة صحيحة عنه، فالاختلاف الذي بينها ليسَ اختلافَ تعارضٍ، وإنّما اختلاف تنوعّ، وقد يكون ذلك من ثابت نفسه، فحفظ كلٌّ منهم ما سمع منه، وقد يكون منهم أنفسهم، وهذا أرجحُ عندي؛ لما تقدم بيانه.

وسواء كان هذا أو ذاك؛ فرواية حمّاد بن سلمة عنه صحيحة؛ لما معه من الزيادة سنداً ومتناً، ولأنَّه أثبتهم عن ثابت - كما تقدم عن الحفّاظ -.

ص: 45

فهذا الحقّ ليس به خفاءُ

فَدَعْني مِنْ بُنَيَّات الطريق

‌7

- "وفي "الترمذي" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تبارك وتعالى: ابنَ آدم! تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى

": ضعفَّه (الهدَّام) بقوله - بعد أن عزاه للترمذي وابن ماجه -:

"وفيه زائدة بن نَشِيط، وهو مجهول الحال".

قلت: أخذ هذا الإعلال مِن "الصحيحة"(1359)، وكتم - كعادته - تلبيساً على قرائه - الحقائق التالية:

أوّلاً: قول التِّرمذي - عقبه -:

"حديث حسن غريب".

ثانياً. تصحيح ابن حبّان إيَّاه - وهو على علم به، فقد عزوته إليه في "الصحيحة" -.

ثالثاً: تصحيح الحاكم والذّهبي إياه.

رابعاً: شاهداً قوياً له من حديث مَعْقِل بن يسار - مرفوعاً -، صحّحه الحاكم والذّهبي - أيضاً -.

وهو على علم بذلك كله، لوروده في "الصحيحة"، ولكنّه الكبر والحسد وحب الظهور، ولو على حساب هدم السّنة - عامله الله بما يستحق! -.

يضاف إلى ذلك أنَّ الحافظ المنذري أورد الحديثين في "الترغيب والترهيب" (4/‌

‌ 8

1) مشيراً إلى ثُبُوتهما، ومقرّاً للحاكم على تصحيحهما.

8 -

"قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التِّرمذي وغيره: "الدّنيا ملعونة، ملعون ما

فيها؛ إلاّ ذكر الله وما والاه"":

ص: 46

قلت: كذا جزم ابنُ القَيِّم رحمه الله بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب، وعاكسه (الهدَّام)، فقال (1/ 56):"حديث ضعيف، ولعلّه قولٌ لبعض السلف"!

فأقول: اجعل (لعلّ) عند ذاك الكوكب، فإِنَّه قولٌ مبتدَعٌ لم يقل به أحدٌ ممن سلف، ولو كان من الخلف، فحريٌّ بمثله أن يُرمى به أرضاً.

ثم خرَّجه من رواية التِّرمذي وابن ماجه - فقط -، فأَعلّه بـ (عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان)، قال. "وهو ضعيف"، وبعطاء بن مُرَّة (كذا؛ والصواب: قره! )، قال:"ولم يعرفه ابن المديني".

ومن حديث ابن مسعود، وأبي الدرداء، وجابر، ونقل عن أبي حاتم أنَّه قال: "وهذا خطأ، وإنَّما هو محمد بن المنكدر، أن النبي

مرسلاً"، ثم قال: "وبهِ قال الدارقطني وابن الجوزي".

وفي الرّد عليه أقول: أَحْصُرُ الكلامَ على حديث أبي هريرة، وحديث جابر: أمّا حديث أبي هريرة؛ فنقول: إِنه حسن الإسناد، رغم أنفط (الهدَّام)؛ وذلك لأنَّ عبد الرّحمن بن ثابت ليس ضعيفاً كما زعم، بل هو وسطٌ، ولذلك قال المنذري والذهبي فيه:"صدوق".

وسيأتي بيان ذلك مفصلاً تحت الحديث (103)، ولذلك صحّح له كثير من الحفّاظ المتقدمين والمتأخرين، كالترمذي، وابن حِبّان، والحاكم، والمنذري، والذهبي، والعراقي، وغيرهم.

وأمَّا تشبُّثُهُ بقول ابن المديني في عطاء بن قُرّة: "لا أعرفه"! فهو من أسلوبه في هدم السنّة، فإِنَّه يقدِّم النّفي على الإثبات - خلافاً لقاعدة الفقهاء - بل العقَلاء جميعاً:(من علم حُجَّة على من لم يعلم) -، فإِذا هو لم يعرفه،

ص: 47

فلا ندفع به علم من عرفه، فقد قال فيه أبو زرعة الدِّمشقي:"كان من خيار عباد الله"، وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"(7/ 222) وروى عنه جمع من الأئمة الثقات الحفّاظ كالثوري، والأوزاعي وغيرهم، ولذلك قال الذهبي في "المغني":

"صدوق".

ونحوه في "التقريب".

وقد صحّح له ابن حِبّان غيرَ ما حديث، والحاكم، فانظر "الصحيحة"(653)، وحسّن له التِّرمذي هذا الحديث، وأقرّه الحافظ المزّي، والحافظ العسقلاني في "تهذيبَيهما"، ومن قبلهما الحافظ المنذري في "الترغيب"(1/ 56)، والإمام النووي في كتابه "رياض الصالحين"(رقم 1391).

وكل هذا مما كتمه (الهدَّام) عن قرائه، ليحملَهم على تقليد جهله، ويصرفهم عن اتّباع أهل العلم والبصيرة من علمائهم.

وهذا الحديثُ من الأحاديث الكثيرة التي حذفها (الهدَّام) من "رياض" النووي، ولم يوردها في "رياضه"- هو - (ص 359 - 361) - وقد أضلّه الله عنه - والحمد لله -، فلم يورده في ذيله الخاص بما ضعَّفه من أحاديث "رياض" النووي! وقد قارب عددها الخمسين بعد المئة، ويتفاخر بذلك في مقدِّمةِ "الذيل"! !

وكذلك أقرَّه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(1/ 10) و (3/ 202). وأمَّا حديث جابر فَرَدُّنا على (الهدَّام) - فيه - من وجهين:

الأوّل: أنَّه ساقه متصلاً من طريق سفيان الثوري، عن ابن المنكدر عنه، وهذا - في الظاهر - إسناد صحيح، ومع ذلك أعلّه بالإرسال - تقليداً لأبي

ص: 48

حاتم وابن الجوزي -؛ مع أنّ الأوّل ساق إسناده من طريق عبد الله بن الجرّاح القُهُسْتَاني، عن أبي عامر العَقَدِي، عن سفيان

به؛ وهذا إسناد جيد، وهو الذي رواه أبو نُعَيْمٍ في "الحلية"، وإليه فقط عزاه (الهدَّام)(1)، وسكت عنه - تقليداً منه لأبي حاتم الذي لم يذكر الثقة الذي أرسله -؛ وأبو عامر هذا، هو: عبد الملك بن عمرو القيسي؛ ثقة من رجال الشيخين، فَمَن هو الذي خالفه من الثقات ممّن هو أوثق منه؛ حتَّى يثبُتَ خطأ ذلك الوصل المدعى؟ !

وإن كان المقصود بالخطإ هو عبد الله بن الجرّاح (2): فهو محتملٌ؛ لأن فيه بعض الضعف - كما بيّنته في المكان المشار إليه - آنفاً -، ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون قد حفظه، ولذلك جزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبدالبر - حافظ المغرب - في "التمهيد"(1/ 316 - 317)، فالسؤال المذكور - عن الثقة اليرسل: من هو؟ - لا يزال قائماً.

وأمّا ابن الجوزي الذي آثر (الهدَّام) تقليدَه على التحقيق العلمي - اتِّباعاً لهوى هَدْمِه -؛ فقد ذكر المخالف الذي لا يجوز الأخذ بحديثه؛ ولو لم يخالف غيره لضعفه - من جهة -، وشدة ضعف الراوي عنه - من جهة أخرى -؛ فقد ساق (2/ 316/ 1331) بإسناده عن محمد بن حُميد - وعنه ابن أبي الدّنيا في "ذم الدنيا" (14/ 7) -: ثنا مِهران بن أبي عمر: نا سفيان الثوري، عن محمد؛ المنكدر، عن أبيه - مرفوعاً - به.

قلت: مِهران - هذا - قال الذهبي في "المغني":

(1) وقد رواه جمع آخر من المصنفين ذكرتهم في "الصحيحة"(2797).

(2)

وقد ذكر أبو نعيم أنّه تفرد به، وكذا قال الدّارقطني في "الأفراد" - كما في "أطرافه"

لأبي الفضل المقدسي (ق 111/ 2) -.

ص: 49

"وثّقه ابن معين، وقال البخاري: في حديثه اضطراب".

وقال الحافظ:

"صدوق له أوهام، سيِّئ الحفظ".

والرّاوي عنه أسوأ منه - كما ذكرت - آنفاً - وهو الرّازي، قال الحافظ:

"ضعيف".

وتركه الذهبي في "الكاشف".

وقال في "المغني":

"ضعيف لا من قبل الحفظ! "، ثم حكى عن غير واحد تكذيبه. وابن الجوزي - عفا الله عنا وعنه - طالما ضعّف أحاديثه في غير ما كتاب من كتبه، وهنا يحتجُّ بإعلال حديث الثقة الذي لا غمز فيه، وهو أبو عامر العَقَدي، فإِنَّه قال عَقِبَ حديث ابن حُميد:

"هذا الحديث مرسل، كذلك رواه مِهران، وقد رواه أبو عامر العَقَدي، عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر"!

فتأمل كيف يجزم بأن عامراً قد رواه عن الثوري بسنده الصحيح - كما قدَّمت - عن جابر؛ ومع ذلك يُعِلُّه بمن عرفت أنّه ليس في العِير ولا في النفير!

ثم قال:

"وكلا الطريقين غير محفوظ".

يعني: طريق جابر هذه، والأخرى ذكرها ابن الجوزي قبل هذه: من طريق خالد بن يزيد: نا سفيان الثوري، عن عطاء بن قُرّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة.

ص: 50

وأقول: خالد - هذا - كذَّبه أبو حاتم، ويحيى (1)، وقد خالف - مع هذا الضعف الشديد - أبا عامر العَقَدي - كما رأيت آنفاً -، وإنَّما المحفوظ عن أبي هريرة من رواية عبد الرحمن بن ثابت، عن عطاء بن قرة

به؛ وهذا إسناد حسن - كما تقدم -.

وقد رواه بعض المجهولين، عن ابن ثوبان، عن عَبْدة بن أبي لُبابة، عن شَقِيق، عن عبد الله بن مسعود، وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 244 / 1/ 4228 - بترقيمي)، وقال:

"لم يروه عن ابن ثوبان إلاّ أبو المُطَرِّف المغيرة بن المُطَرِّف، ورواه غيره عن ابن توبان، عن عطاء بن قُرّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة".

قلت: وذكر هذا الاختلافَ على ابن ثوبان: الدّارقطنيُّ في "العلل"(5/ 89/ 735)، وقال في حديث المغيرة بن المطرِّف:"وهذا إسناد مقلوب"، وقال في حديث أبي هريرة:"وهو الصحيح".

قلتْ وجهل (الهدَّام) هذه الحقيقة - أو تجاهلها -، وهي أن العلّة في الإسناد المقلوب؛ إنّما هو المغيرة، فعاكس هو - كعادته -، فحطّها على ابن ثوبان؛ توهيناً منه لحديثه الصحيح عن أبي هريرة - كما قال الدّارقطني -، مع أنَّه ذكر أنَّ فيه المغيرة المجهول! !

وخلاصة الكلام في هذا الوجه: أنّ حديث جابر لم يقم دليل على أنَّه مرسل؛ وأنَّ إسناده الموصول حسنٌ؛ خلافاً لما خطّط له (الهدَّام). والوجه الآخر: أنَّه لو فرضنا أنَّه ترجّح الإرسال، فلا يضرُّ؛ لأنَّه مرسل صحيح الإسناد، فيكون شاهداً قويّاً لحديث أبي هريرة رضي الله عنه كما

(1) وقد تفرَّد به - كما قال الدّارقطني في "الأفراد"(ق 296/ 2 - الأطراف) -.

ص: 51

هو معلوم في علم المصطلح-، مع أنَّ بعض الأئمَّة يحتجون بالمرسل، ولو لم يكن له شاهدٌ موصول، كما هو معروفٌ في علم الأصول.

ثم رأيت حديث سفيان المرسل في "زهد الإمام أحمد"، قال (ص 28):

حدثنا يحيى، عن سفيان

به، كما ذكره أبو حاتم رحمه الله، ويحيى هو ابن سعيد القطان، الإمام الثقة الثبت، وهذا يرجِّح أنَّه من مرسل محمد بن المنكدر، وليس من مرسل أبيه المنكدر -كما وقع لابن الجوزي-، وخلط بينهما (الهدَّام) فجعلهما واحدًا، والمعصوم من عصمه الله؛ وهو -سبحانه- ولي التوفيق.

ثم رأيت في "فتاوى النووي" أنَّه سئل عن الحديث؟ فأجاب (ص 13):

"حديث حسن، رواه التِّرمذي وغيره".

‌9

- قال ابن القيِّم رحمه الله: "وجماع هذا أن تعلم: "أنَّ الخلق

كلّهم، لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله

لك، ولو اجتمعوا كلّهم

":

قال (الهدَّام)(1/ 60): "حديث حسن، أخرجه التِّرمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) من حديث ابن عبّاس".

قلت: أخرجاه من طرق، عن ليث بن سعد: حدّثني قيس بن الحجّاج، عن حَنَش الصنعاني، عنه

في حديث طويل، أوَّله: "يا غلام! إنّي أُعَلِّمك كلمات؛ احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك

" الحديث، وفيه: "واعلم أنَّ الأمّة لو اجتمعت

" الحديث، وهو مخرَّج في "الظلال" (138/ 316 - 318).

إِذا عُرف هذا، فلي على التخريج المذكور مؤاخذاتٌ:

ص: 52

الأولى: كتمانه -كعادته - تصحيح التِّرمذي إيّاه، فقد قال عَقِبه:"حديث حسن صحيح"(1).

والسبب في ذلك: أنَّه يريد أن يُظهر رأيه -وليته كان عن علم! - علىِ أحكام الأئمة السابقين، وما رأيته في هذا الكتاب أباح بتصحيح التِّرمذي، إلَاّ مرةً واحدةً، حين وافق ما عنده؛ فانظره -إن شئت- في المجلد الثاني -منه- (ص 121).

الثانية: قوله: "حديث حسن"؛ فإِنَّه لم يبيِّن هل يعني: أنَّه حسن لذاته؟ !

وحينئذٍ ينبغي أن يفصح عن ذلك ولايتكتَّم، فيقول كما قال في غيره:"إسناد حسن"، وإن كان يعني أنَّه حسن لغيره، فحينئذٍ يجب أن يذكر علَّته، والمتابعات أو الشواهد التي من أجلها حَسَّنَه، وهذا ما لم يفعله هنا ولا في أمثاله! فمن المشاهد فيما يحسِّنه أنَّه يعبِّر عنه بتعبيراتٍ مختلفة: الأوَّل: "حديث حسن" -كما هنا -.

الثاني: مثله، إلاّ أنَّه يشكِّك فيه، فيقول (70، 130): "إن شاء الله تعالى".

الثالث: "إِسناده حسن"(ص 77، 212، 224، 272، 514).

الرّابع: مثله، إلاّ أنَّه يشكِّك فيه أيضًا، فقال مَرَّةً (1/ 224):"أرجو أن يكون حسن الإسناد"! ومرَّةً قال (2/ 275): "هذا إسنادٌ حسن -إن شاء الله تعالى-"! فما هو السبب -يا ترى- في هذه التعابير الأربعة التي أحدثها هذا (الهدَّام)؟ ! والتي لا يعرف الفرق بينها مبتدِعُها نفسه، فضلًا عن القرّاء، وإنَّما

(1) وأقرَّه المزي في "التهذيب"(24/ 20 - 21).

ص: 53

هي من باب التكلُّف والتنطُّع المنهيِّ عنه؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" رواه مسلم.

ولماذا أعرض عن الاصطلاح العامِّ المعروف عند علماء الإسلام؛ أنَّ الحديث الحسن: حسن لذاته وحسن لغيره؟ !

لا لشيء سوى حبِّ المخالفةِ والمشاكسة الذي حَادَ به عن سبيلهم غايةً وأسلوبًا!

لقد زعم هذا (الهدَّام) في آخر مقدِّمته لهذا الكتاب (ص 5) -الذي أفسده بتعليقاته وتخريجاته -أنَّه قام بخدمة الكتاب: "ليتيَسَّر لقارئه فهمه"! وأنا مع اعتقادي الجازم بأنَّه لم يفعل شيئًا من ذلك، فهو على العكس من ذلك تمامًا، فقد عسَّر عليهم فَهْمَ كثير من بحوثه وفصوله؛ بما ضعّف من أحاديثه الصحيحة التي أقام المؤلف عليها بحوثه وفصوله، ولو أنَّه كان صادقًا في التيسير المذكور، ليَسَّر لهم فهم ما يقول هو ويكتب! وكم له من مثل هذه (المُعَمَّيَات)! التي سيأتي بيانها في مواضعها -إن شاء الله تعالى-.

ولا أدَلّ على أنَّه يقول ما لايفعل: من تلك الإحالات العجيبة في التخريج، فهو كثيرًا ما يقول في بعض الأحاديث المتكرِّرة:"تقدَّمَ تخريجه"! فيبخل على قرّائِه أن يعيِّن لهم المكان بالجزء والصفحة تيسيرًا للمراجعة! حتى إنَّه ليفعل ذلك في المجلّد الثاني؛ قال (ص 374): "تقدم تخريجه"؛ الأمر الذي يكلِّف القرّاء أن يقلِّبوا مئات الصفحات بحثًا عن تخريج الحديث الذي أحال إليه، وقد يكون في أوَّله أو في آخره وما بينهما، وقد يكون قريبًا جدًا، كمثل إحالته في المجلد الثاني (ص 163) والتخريج في الصفحة التي قبلها!

وإنَّ من طرائفِهِ (! ) أنَّه في بعض المواضع تفضّل على القرّاء فعَيَّن لهم الصفحة، لأنَّه لم يكلِّفه ذلك شيئًا من البحث والوقت، لأنَّ بينها وبين

ص: 54

الصفحة التي فيها التخريج: تخريجًا لحديثين فقط! فانظر (ص 31)، ومَرَّة أخرى كان الفاصل تخريجَ حديثٍ واحد! (ص 51).

وأغرب من كلِّ ذلك أنَّه علَّق على حديث: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم

" بقوله (ص 171): "حديث منكر، وقد تقدّم"!

والواقع أنَّه لم يتقدّم له ذكرٌ في الكتاب، ولا منه في التعليق، وإنَّما ذلك من أوهامِه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ إن لم يكن ذلك من باب:(وراء الأكَمَة ما وراءها)!

وإِنَّ مما يؤكد ما قلت؛ أنَّه لما ذكره في فهرس الأحاديث (ص 437) لم يعزهُ إلاّ إلى المكان الذي أشرت إليه!

وهكذا فليكن التحقيق والتيسير {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ} .

المؤاخذة الثالثة: أنَّه مهما كان قصدُه من قوله: "حديث حسن"، فذلك من جَنَفِهِ على السنة، وجنايته على الأحاديث الصحيحة ورواتها، فإِن حقَّ إسناده المتقدِّم -مني- أن يقول فيه:"إسناده صحيح"، أو على الأقل:"حديث صحيح" أي: لغيره، وذلك لأنَّ رجاله ثقات، رجال مسلم، غير (قيس ابن الحجاج)، فقد ذكره ابن حبّان في "الثقات" وروى عنه جمع كثيرٌ من الثقات (1)، وحسبك منهم: الليث بن سعد -راويه هنا -، وإنْ قال فيه أبو حاتم:"صالح"، فإِنَّه -على تشدُّدِه المعروف - إِنَّما يعني أنَّه حسن الحديث، وأَظنّ أنَّه مقلَّد (الهدَّام) هنا، فلا أقلَّ من تصحيحه لغيره؛ لأنَّ له طرقًا كثيرة أشار إليها الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين"(ص 133)، وكنت خرَّجت بعضها في "الظلال".

(1) وقال فيه ابن حجر في "التقريب": "صدوق".

ص: 55

وقال الحافظ: "وأَصَحُّ الطرق كلها طريق حَنَش الصنعاني التي خَرَّجها التِّرمذي -كما قال ابن منده وغيره-".

هذا؛ وسيأتي -بإِذن الله-تعالى- الكلامُ على الأحاديث التي حَسَّنها- أو على الأقل على بعضها-، والحديث التالي أحدُها.

‌10

- قال ابن القيِّم: "من أطاع الله -تعالى-؛ فقد والاه، ولا يذلُّ من والاه رَبُّه؛ كما في حديث القنوت: "إنَّه لا يذل من واليت ولا يَعِزّ من عاديت": قال (الهدَّام) (1/ 70): "وهو حديث حسن - إن شاء الله تعالى-".

ثم خرًّجه برواية جمع، منهم التِّرمذي؛ وَيَرِدُ عليه المؤاخذات الثلاث التي أوردتها عليه في الحديث الذي قبله، إلاّ أنَّ قول التِّرمذي عقب الحديث -هكذا-:

"هذا حديث حسن، لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء، واسمه (ربيعة بن شيبان)، ولانعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئًا أحسن من هذا".

قلت: فأبو الحوراء ثقةٌ مشهورٌ، والرّاوي عنه (بريد بن أبي مريم) قد وثَّقه ابن معين، وأبو زُرعة، والنسائي، وغيرهم -كالدّارقطني -، حتى إنَّه ألزم الشيخين بالتخريج له، وشذّ أبو حاتم -لتشدُّدِه - فقال:"صالح"؛ أي: حسن الحديث -كما تقدم في الذي قبله -، وأظن أنَّ (الهدَّام) قلَّده حين اقتصر على تحسينه، فهو في هذا كهو في الذي قبله! بل هو هنا أسوأُ؛ لأنَّه خالف بالتقليد الجمهورَ الذين وثقّوه، كما خالف الدْين صحّحوا حديثه كابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجاورد، والحاكم، والذهبي، وغيرهم -كعبد الحق الإشبيلي-، وما يمنعه من اتِّباعهم -والحق معهم- إلاّ ما ابْتُلِيَ به من حب

ص: 56

الشذوذ والنشوز، نسأل الله السلامة.

فإِن قيل: لعله اتبع الإمام التِّرمذي في التحسين؟ فأقول:

هذا بعيدٌ جدًا، لأسبابٍ أذكرها:

أولاً: هو -مع الأسف- لا يُقيم وزنًا لجميعِ الحفّاظ إذا خالفهم؛ فضلًا عن التِّرمذي؛ لأنَّه متساهلٌ.

ثانيًا: هو مخالف للترمذي -أيضًا- من ناحيتين:

إحداهما: أنَّه شكَّك في تحسينه إيّاه.

والأخرى: أنَّه لم يُفصح عن نهع تحسينه، كما بيَّنت في الذي قبله؛ بخلاف التِّرمذي، فإِنَّه جزم بأنَّه حسن لذاته.

ثالثًا: من المحتمل أنَّ التِّرمذي لم يصحِّحه، لأنَّه من رواية أبي إسحاق، وهو عمرو بن عبد الله السَّبيعي -وفيه كلامٌ معروفٌ-، رواه عن بُريد، أمَّا (الهدَّام) فقد وقف عليه من رواية شعبة عن بُريد، فما الذي منعه من تصحيح إسناده، بله تحسينه؟ ! ما هو إلا حُبّ المخالفة للعلماء، والعياذ بالله -تعالى-.

وقد يخطر في البال أنَّ من المحتمل أنَّه رأى ابن حزم ضعَّف الحديث في "المحلّى"(4/ 147 - 148) -وقد رواه من طريق أبي إسحاق -، فتوسّط هو بينه وبين الجمهور، فحَسَّنَهُ! ومع أنَّ هذا ليس من العلم في شيء، فابن حزم معذور، لأنَّه لم يقف على رواية شعبة الصحيحة، فما عذر (الهدَّام) وقد اطلّع عليها؟ !

وانظر تخريج الحديث في "الإرواء"(2/ 172 - 175)، وتصحيح الشيخ أحمد شاكر للحديث وردّه على ابن حزم في تعليقه على "المحلى"، وفي تعليقه على "سنن الترمذي"(2/ 329).

ص: 57

‌11

- قال ابن القيم: "حُرِّم لبس جلود النمور، والسباع؟ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في عدة أحاديث صِحاح لامعارض لها":

قلت: هذا هو الحق الذي لاريب فيه عند أهل العلم، أمّا (الهدَّام)؛ فقد عاكسه في ذلك، وصال وجال (! ) في التعليق عليه، مضعّفًا له من جميع طرقه! وقد كنت خرجته في "الصحيحة"(1011) من حديث المِقدام، ومن حديث أسامة، مجوِّدًا إسناد الأول، ومصحِّحًا إسناد الآخر، وختمت التخريج بقولي:

"وأخرجه الطحاوي من حديث علي، وابن عمر، ومعاوية نحوه"؛ مشيرًا بذلك إلى أنَّ هذه الأحاديث تعطي الحديث قوة على قوة؛ فجاء (الهدَّام) فانتصب لمخالفتي، وأعلّ الحديثين بما ليس بعلّة، وأشار إلى تضعيف الأحاديث الأخرى، وهو في ذلك غير صادقٍ ولا مُصيبٍ.

وقبل الشروع في بيان هذا الكلام المجمل، لابد لي من أن أَسترعيَ نظر القراء إلى جهل هذا (الهَدّام) بفن التخريج، وبالفرق بين لفظ حديث وحديث -من حيث اختلافُهما في الدلالة-؛ فقد رأينا أن ابن القيم ذكر نهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس جلود النمور والسباع؛ فلم يذكر (الهدَّام) في نقده وتخريجه للحديثين هذا اللفظ، وإنَّما ذكره بلفظ:"نهى عن جلود السباع"! وهذا لفظ حديث أسامة.

ومن تمام مخالفته ومشاكسته إياي، وسوء تخريجه: أنَّه بدأ تخريجه قبل تخريج حديث المقدام، ولفظه هو الموافق لما ذكر ابن القيم؛ فلم يذكره، تعميةً لمعناه إلى ما قد يدلُّ عليه معنى اللفظ الذي ذكره؛ مما لايتفق مع صريح معنى حديث المقدام؛ فقد تأَوّله بعضهم بأن النهيَ عن جلود السباع مُقَيَّدٌ بما إذا لم يدبغ، كما جاء في "التمهيد"(1/ 163)، و"الجوهر النقي"(1/ 18).

فلو أنَّ (الهدَّام) كان مخلصًا في تخريجه، وعلى شيء من العلم والفقه

ص: 58

والفهم لِلفرق بين دلالة الحديثين لبدأ بالأول منهما، وإن كان قد ضعّفهما كليهما معًا؛ وهذا من جَنَفِه وظلمه للسنة؛ وهاك البيان:

أولًا: لقد أعلّ حديث المقدام بأمرين يتعلّقان بشخص (بقية بن الوليد):

أحدهما: التشكيك في ثبوت تصريح بقية بالتحديث.

فأقول: هكذا يُلقي الكلام على عواهنه، ولا يذكر أيَّ سبب للتشكيك؛ مما لا يعجز عنه أجهلُ الناسِ وأخبثُ الناسِ؛ وذلك قوله:"إنْ صحَّ التصريح بالتحديث عند أحمد"! وحكاية هذا يغنينا عن تكلُّف الرد عليه، لوضوح تفاهته ولممقوطه، ولكني -مع ذلك - أضع التصريح بين أيدي القراء، ليصفعوا به وجه كل مكابر عنيد:

قال الإمام أحمد (4/ 131 - 132): حدثنا حَيوة بن شُريح، وأحمد بن عبد الملك، قالا: ثنا بقية: ثنا بَحِير بن سعد

(فساق إسناده الصحيح).

قلت: فهذان ثقتان قد حدَّثا عن بقية مصرِّحًا بالتحديث، نحن لا ندَّعي العصمة لأحد من الرواة، ولو كان من الأئمة الثقات، ولكننا لا نرضى -بالمقابل- التشكيكَ في حفظهم، والطعنَ في رواياتهم بمجرد الدعوى، وإلا بطلت العلوم كلها، إلاما شاء الله؛ ومثل هذا قد يتعدى إلى الشك في أصولنا كلها، كما فعل بعض مُتَعَصِّبة الحنفية في الهند أو الباكستان، فَشَكَّكَ في نسبة "المسند" للإمام أحمد، فرددت عليه في كتاب "الذب الأحمد" -وهو تحت الطبع-.

هذأ ما يتعلّق بالأمر الأول.

أمّا الأمر الآخر، فهو قوله: "

وإنْ صرَّح بقية بالتحديث؛ فالمشكلة في بقيّةَ نفسهِ".

ص: 59

فأقول. هكذا -أيضًا- يشكّك في شخص (بقية)، ثم يولِّي الأدبار، ولا يبين ما حالُه، وما موقفُه منه، فهو في ريبه يتردّد! والحقيقة أن (بقية) فيه كلام كثير يحار فيه الجهلة الذين لا علم عندهم بهذا الفن، وعلم الجرح والتعديل؛ فَمَن كان يدّعي العلم والمعرفة؛ فعليه أن يبين وجهة نظره فيما قيل فيه، على أساس {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} ، لا مجرد الدعوى التي لا يعجِزُ عنها أحد، وما قيل فيه يدور بين مُوَثِّق توثيقًا مطلقًا، وُمَضِّعف تضعيفًا مطلقًا، ومن قائل:"له مناكير"، ومتوسط فيه يفرق بين عنعنته وتحديثه.

وهذا الأخير هو الذي تطمئنُّ إليه النفس، وينشرح له الصدر، واستقرَّ عليه رأيُ الحُفّاظ المُطَّلعين على تلك الأقوال الصادرة فيه من أئمة الجرح والتعديل، وقامت عليه كتبُ التخريج؛ فهذا هو الإمام الذهبي النَّقّاد -مع ذكره الخلافَ المشارَ إليه في كتابه "المغني"- فقد بالغ في الثناء عليه، ويشير إلى أنَّ تلك المناكير مغتفرةٌ بالنسبة لكثرة حديثه، فقال فيه: "أحد الأئمة الحفاظ، يروي عمّن دبَّ ودرج، وله غرائب تستنكر -أيضًا- عن الثقات؛ لكثرة حديثه

"؛ ثم ذكر الأقوال فيه، وختمها بقولا النسائي: "إذا قال: (ثنا)، و (أبنا) فهو ثقة"، واعتمده في "الكاشف"، فقال: "وثقه الجمهور فيما سمعه من الثقات، وقال (س): إذا قال: (ثنا) و (نا) فهو ثقة" (1)؛ ولذلك أورده في كتابهِ "الرواة المتكَّلم فيهم بما لا يوجب الرّد" (ص 76)، وقال الحافظ ابن حجر: "صدوق كثير التدليس عن الضعفاء".

قلت: يعني تدليس الإسناد؛ ففيه إشارة إلى عدم اتهامه بتدليس التسوية

(1) ونحوه في "سير أعلام النبلاء"(8/ 458)، وقد بسط الكلام فيه؛ فراجعه؛ فإِنَّه مهم جدًا.

ومنه يتبين أنَّه إذا صرح بالتحديث عن ثقة -كما هنا - فهو حجةٌ؛ إلاّ إذا خالف الثقات.

ص: 60

الذي رماه به بعض المتقدمين، وتبنّاه بعض المؤلفين في "مصطلح الحديث"، وقلده بعض الأغرار من الناشئين، فضعّفوا بعض الأحاديث التي صرّح فيها بالتحديث لعنعنة شيخه! ولا أستبعد أن يكون منهم هذا (الهدَّام)، ولكنّه يتكتم ولا يُفصِح؛ بحيث (يلسع ثم يختبئ)!

وقد حقّقت القول في براءة (بقية) من تدليسى التسوية في تخريج حديثٍ له في (العقل)؛ العلة فيه من شيخه، وذلك في "الضعيفة"(5557)، وعلى ما ذكرت من التبرئة؛ مذهب الجمهور -فيما سمعه من شيوخه الثقات - كما تقدم عن الحافظ الذهبي -؛ فتنبه!

وبهذا يتم الجواب عمّا أعل به (الهدَّام) حديث المقدام.

ثانيًا: أعلَّ الحديث الآخر بالإرسال بعد أن خرّجه من رواية أصحاب "السنن" -وغيرهم - وهم ستة كما هم في "الصحيحة"! - عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه -مرفوعًا-؛ وقال عَقِبَه:"انفرد سعيد بن أبي عَروبة بزيادة: "عن أبيه"، كما قال التِّرمذي، وإن المرسل أصح".

قلت: لم يذكر (الهدَّام) نص عبارة الترمذي؛ لأنَّها تُبَيِّنُ سببَ ترجيحه للمرسل؛ فإِنَّه قال عقب الحديث: "لا نعلم أحدًا قال: "عن أبي المليح عن أبيه" غير سعيد بن أبي عَروبة"، ثم ساق بسنده الصحيح عن شعبة، عن يزيد الرِّشْك، عن أبي المليح، عن النبي صلى الله عليه وسلم

، ثم قال:"وهذا أصح".

قلت: فأَنت ترى أنَّ سبب ترجيحه المرسل يعود إلى أمرين:

أحدهما: إرسال يزيد الرِّشْك إياه، خلافًا لقتادة، والخطب في هذا سهلٌ

- بقاعدة: "زيادة الثقة مقبولة"؛ لا سيما وقتادة أوثق من يزيد، كما يُعلم ذلك

ص: 61

من ترجمتيهما؛ زد على ذلك أنَّه قد اختُلف عليه في إسناده، كما اختُلف فيه على شعبة:

فأخرجه البيهقي (1/ 21)، من طريق أخرى، عن شعبة، عن يزيد -بسنده-، فذكر فيه:"عن أبيه".

وتابعه على وصله مَعْمَرٌ، عن يزيد الرِّشْك

به، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 159/ 510).

ورجاله ثقات غير شيخ الطبراني أحمد بن عمرو الخلال المكي؛ فلم أجد له ترجمة.

وأخرجه عبد الرزّاق (1/ 66/ 215) عن معمر .. به؛ إلاّ أنَّه لم يذكر: "عن أبيه" فأرسله! لكن الراوي عنه -الدَّبَرِيُّ -؛ وفيه ضعف معروف.

وعلى كل حال؛ فهذا الاختلاف على يزيد الرِّشْك في وصله وإرساله، لا يصلح أن يكون مرجِّحًا لروايته المرسلة على رواية قتادة المتصلة -كما هو ظاهر-.

وهذا على افتراض تفرُّد قتادة به، وليس كذلك؛ فقد روى إسحاق بن إدريس: ثنا أَبَان بن يزيد، عن مطر الورّاق، عن أبي المليح، عن أبيه

به. أخرجه الطبراني أيضًا (511).

لكن إسحاق بن إدريس -وهو الأسواري - متروك؛ فلا يُستشهد به؛ ولا كرامة.

والأمر الآخر - الذي من أجله رجّح التِّرمذي المرسل -؛ قوله المتقدم: "لانعلم أحدًا قال: "

عن أبيه" غير سعيد".

ص: 62

وجوابي على هذا النفي، وردّي على (الهدَّام) الذي زعم انفراد سعيد بوصله -تقليدًا منه للترمذي؛ الذي لا يثق به إلاّ إذا وافق هواه، والذي يمنعه من أن يحكي مخالفته إيّاه! - من ناحيتين اثنتين:

الأولى. القاعدة المعروفة عند العقلاء فضلًا عن العلماء: "عدم العلم بالشيء لايستلزم العلم بعدمه"، فقد يكون الشيء موجودًا ويعلمه بعضٌ دون بعض، وهذا أمر بَدَهِيٌّ لا يحتاج إلى برهان، وأعتقد أنَّه لا يجادل فيه إلا سُفُسْطائي مرتاب، أو (هدَّامٌ) معادٍ للصواب!

وإذ الأمر كذلك، فلازمه أنّ الثقة إذا أثبت شيئًا، ولم يثبت ما ينفيه فهو حُجَّة، والأمر هنا كذلك، لأنَّ رواية يزيد الرِّشك المرسله قد ثبت أنَّها مرجوحة -لاضطراب الرواة عليه وصلًا وإرسالًا-؛ فلا يصلح دليلًا لنفي الرواية المثبتة، بل الأقرب أن رواية الوصل تكون أرجح؛ لموافقتها لرواية سعيد المثبتة، وعليه تكون شاهدًا لها، وآخذةً بعضدها، فتأمَّل هذا؛ فإِنَّه من دقائق هذا العلم الذي استفدناه من تخريجاتهم وتحقيقاتهم العلمية، جزاهم الله خيرًا.

وأمّا قول (الهدَّام): "وخولف سعيد

" -ثم ذكر رواية هشام الدَّسْتُوائي، عن قتادة، عن أبي المليح؛ أنَّه كره جلود السباع-: فهذا من جهله وعدوانه، إذ لا مخالفة بين قول الرّاوي بمقتضى حديثه، بل هذا هو الواجب على كل مسلم أن يعمل بحديث النبي وأن يفتي به، والراوي له أولى بذلك -كما لا يخفى-.

ثم إنَّ هذا (الهدَّام) يذكر دائمًا ما له -فيما يظنُّ- ويكتم كل ما عليه -فيما يعتقد-، ومما كتم هنا رواية شعبة عن قتادة

به، مثل رواية سعيد؛ أخرجها الطبراني (509) عَقِبَ رواية سعيد، فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد: ثنا أبو كُرَيب: ثنا ابن المبارك، عن شعبة

به.

وهذا إسناد صحيح غاية؛ رجاله كلهم رجال الشيخين، غير عبد الله

ص: 63

- واسمه (عبد الله بن أحمد بن موسى الأهوازي الجواليقي) -، وهو حافظ ثقة، مترجم في "تذكرة الحفاظ" وغيره.

ويأتي له أمثلة أخرى من جُحوده.

من أجل ما تقدم؛ رأينا الحفَّاظ صحّحوا الحديث، ولم يلتفتوا إلى رواية الإرسال؛ مثل الحاكم، والذهبي، ومن قبله ابن عبد البر، وقبله عبد الحق الإشبيلي، فأورده في "الأحكام الصغرى"(2/ 805) التي خصَّها بالأحاديث الصحيحة، وزاد على ذلك أن أشار إلى رفض الرواية المرسلة، ردًا على من قد يكون جاهلًا مثل (الهدَّام):

"يُروى عن أبي المليح مرسلاً"!

والناحية الأخرى في الرَّد على (الهدَّام) -في تضعيفه لهذا الحديث الصحيح- أن نقول:

لنفترض أنَّ الصواب في حديث أسامة -والد أبي المَلِيح - الإرسال، ولكنّه صحيح الإسناد، وحينئدٍ فهو شاهد قويٌّ لحديث المقدام الجيد الإسناد -في نقدي -، ولْنفترض أنَّه ضعيف الإسناد -كما يزعم (الهدَّام) - فذلك لا يضرُّ الحديث؛ بل يقوِّيه عند الإمام الشافعي وغيره من الأئمة، كما هو مبسوط في "علم المصطلح"، وإن خالفهم (الهدَّام) على الدوام، نسأل الله السلامة وحسن الختام.

ثالثًا: لو فرضنا أنَّ الحديث لايتقوى بمجموع الحديثين، فهو -بلا شك ولا ريب- صحيحٌ بمجموع الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها (ص 62) من حديث علي، وابن عمر، ومعاوية؛ فإنَّه لا يمكن لطالب علمٍ مسلم وقف على أسانيدها مع أسانيد الحديثين أن يستمرَّ على القول بضعفه، إلاّ من كان مثل هذا (الهدَّام)؛ فقد أصرَّ على تضعيفه؛ فإِنَّه -بلا شك- كان وقف عليها،

ص: 64

ولذلك فإنَّه عاكسني وعارضني، فكما أشرت أنا في ختام تخريجي للحديث إلى تقويتي بها، عارضني فأشار إليها في ختام تخريجه، وَأَمَرَ القارئ (! ) بالنظر إليها في "مشكل الآثار"، و"مصنف ابن أبي شيبة"، و"مصنف عبد الرزاق"، وقال:"وفي جميع أحاديثها كلام، ولا أظنُّها بمجموعها ترقى إلى درجة الصحيح"!

وردّي على هذا الهُراء من وجهين:

الأوّل: أنَّ التعميم الذي ذكره في أوّله؛ كذبٌ وزورٌ، فإِنَّ في المصدر الأوَّل من المصادر الثلاثة، قول ابن أبي شيبة (8/ 494/ 5296): حدثنا وكيع، عن أبي المعتمر، عن ابن سيرين، عن معاوية، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثوب الخَزِّ والنُّمور.

قال ابن سيرين: وكان معاوية لا يُتَّهَم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن طريق ابن أبي شيبة: أخرجه ابن ماجه (3656)، ورواه أبو داود (4129) من طريق آخر عن وكيع، بلفظ:

"لا تركبوا الخزَّ ولا النِّمار"؛ وذكر قول ابن سيرين في معاوية رضي الله عنه.

وهكذا أخرجه أحمد أيضًا (4/ 93): ثنا وكيع

به.

وقال أبو داود -عَقِبَه -: "أبو المعتمر اسمه: يزيد بن طَهْمان، كان ينزل الحِيرة".

قلت: وثّقه أبو حاتم، وابن معين، وابن حبان، وأبو نُعيم، والذهبي، والعسقلاني، وسائر رجاله ثقات من رجال الشيخين، فالسند صحيح لا عِلَّة فيه، وصحَّحه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى"(2/ 805)، فسقط

ص: 65

حَشرُ (الهدَّام) إياه في عموم كلامه المذكور

ولكنّي لا أستبعد أن يختلق له عِلَّةً من عنده يضعِّفه بها، فإِنَّه فريد زمانه (! )، كما فعل في (إسماعيل بن أميّة) الثقة الثبت، فإِنَّه رماه بالتدليس في حديثٍ له في "صحيح مسلم"، فقال فيه:"لم يصرِّح بالتحديث في جميع طرق الحديث"! (ص 566 - ذيل "رياضه")، مع أنَّ أحدًا لم يتهمه بالتدليس.

وله من مثل هذا الاختلاق الشيءُ الكثيرُ -كما سيأتي التنبيه على ذلك -إن شاء الله-.

وقد يتساءَل بعض القراء عن سبب إحالة (الهدَّام) إلى المصادر الثلاثة فقط، دون "السنن" و"مسند أحمد" الذين أخرجوا الحديمث بهذا السند الصحيح؟ !

فأقول: الجواب عند كلِّ من عرف الرجل وأساليبه في هدم السنة وتضعيف الأحاديت الصحيحة، هو: طَمْسُ الحقائق العلمية، وتصعيبُ الطرق على القراء الذي يحبون الوصول والتعرف إليها، فإِنَّ مراجعة هذه المصادر -التي طوى ذكرَها هنا - أيسرُ على القراء من تلك، ولست أشكُّ أنَّه على علم بوجود الحديث فيها، وأنَّ له في "المسند" أربعة طرق أخرى (4/ 92، 93، 65، 96، 99، 101) عن معاوية -غير الطريق الصحيحة المتقدمة-، هي وحدها كافيةٌ -على ما فيها من ضعف- لتقوية حديث معاوية، فكيف إذا ضُمَّ إليها الطريق الصحيحة؟ ! وكيف إذا ضُمَّ إليها طرق أحاديث الصحابة الآخرين؟ !

نسألك اللهم أن لاتضلَّنا بعد إذ هديتنا، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم

ص: 66

وإنَّ من معاكساته للعُلَماءِ، أن ابن القيِّم رحمه الله وجّه الحديث بقوله:

"لما تُكْسِب القلب من الهيئة المشابِهة لتلك الحيوانات، فإنَّ الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن

".

فعارضه (الفَسْلُ) بقوله: "وإِذا صَحَّت الأحاديث آنفًا فإِنَّ المعنى ينصرف إلى النهي (! ) عنها؛ حتى لاتشابه العجم في ركوبهم عليها"!

وختامًا: ليتأمل القراء معي في قوله: "وإِذا صحت

"؛ هل ربط الصِّحة بـ (إِذا) عن تلبيس ومكر؟ ! أم عن غفله وجهل بالفردتى بين (إِذا) التي تقابل (عسى) في قوة الرجاء، و (إن) التي تقابل (لعل) في ضعف الرجاء -غالبًا-؟ ! فإِنَّ بحثه وهدمه يقتضي أن يكون التعبير: "إن صحّت

"، هكذا أملت عليَّ عُجْمَتي! فمعذرةً إنْ شَرَدْتُ عن الفهم الصحيح لعبارة الرجل العربي (الهدَّام)؛ متذكرًا أن العرق دسَّاس!

‌12

- قال ابن القيّم رحمه الله: "حُرم لبس الحرير والذهب على الذكور":

قلت: هو من حديث أبي موسى، وتمامه:"وأُحِلَّ لإناثهم"، رواه التِّرمذي، وقال:"حديث حسن صحيح".

أمّا (الهدَّأم) فَخَرَّجَهُ (1/ 78 - 79) من حديث علي بلفظ آخر! وأعلّه بالجهالة، ومن حديث أبي موسى وأعلّه بالانقطاع، ولم يسق لفظه المطابق للفظ ابن القيم معاكسةً له! وعاكسني أنا لتصحيحي إيّاه بطرقه الكثيرة، فقد خرَّجته في "الإرواء"(1/ 305 - 308) من حديث جمع آخر من الصحابة، منهم: ابن عمرو، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وعقبة بن عامر؛ فكتم كل هذه الشواهد موهمًا القراء أنَّه لم يُرْوَ إلاّ عن علي، وأبي موسى، وكتم أيضًا

ص: 67

تصحيح التِّرمذي إيّاه! كما كتم تقوية الشوكاني له بمجموع طرقه!

هذا كله كتمه (الهدَّام) وقد رآه في "الإرواء"، وما ليس فيه مما يقويه فهو له أكتم! لأنَّه لا يسعى ولايبحث إلاّ للهدم، فهل ينقل -مثلًا- عن الحافظ عبد الحق الإشبيلي أنَّه صحّحه في "الأحكام الشرعية الصغرى"(2/ 804 - 805)، وعن الحافظ ابن حجر العسقلاني تصحيحه في "الفتح" (10/ 296 و 317)؟ ! وهل يقول -كما قال الحافظ أيضًا-:"صححه ابن حبان"، ويذكر الجزء والصفحة (12/ 250) من "الإحسان" الذي يزعم -حين يكون العزو والإحالة إليه موافقًا لهواه- أنَّه عمل فيه مع شيخهِ شعيب! وإن كان لا يسمي الجزء أوالمجلدات التي عمل فيها؛ تشبُّعًا منه بما لم يفعل، أو مكرًا منه كي لايظهر انحرافه بعد ما انفصل عنه، وإن كان لايزال يقولُ عنه في بعض المناسبات:"شيخنا وأستاذنا"! وما ذاك في تقديري إلاّ لمصلحة شخصيَّة للتخريج واصطياد الموافقات، مع كثرة مخالفته له فيما يُصَحِّحُه -كهذا الحديث-؛ فقد صحَّحه في تعليقه عليه، وإن كان غفل أو تغافل -لا أدري! - عن خطأين وقعا في إسناد ابن حبان؛ مَرّ عليهما دون تنبيه، وقد نبَّهت عليهما في كتابي "تيسير الانتفاع

"، يسر الله لي نشره على الناس.

‌13

- قال ابن القيم: "شُرع للمتوضئ أن يقول عَقِيبَ وضوئه: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنَّ محمدًا عَبْده ورسولُه، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين":

قلت: جزم ابن القيم بشرعيّته، وما ذاك إلاّ لصحّته عنده، وصرّح بثبوته في "زاد المعاد"، وهو الصواب الذي عليه كثير من الحفاظ، وخالفهم (الهدَّام) -كعادته-؛ فأعلّه بالاضطراب -تقليدًا منه للترمذي-، ولم يكلَّف نفسه أن يبحث في أسانيد الحديث وطرقه ليتبيَّن له صوابه من خطإِه، أو -على الأقل-

ص: 68

أن يرى موقف الحفاظ من الاضطراب المزعوم، ولكن لم يفعل ذلك؛ لأنَّ هذا ينافي مخطَّطه: وهو (الهَدْم)! وعلى قاعدة: (خالف تُعرف)!

والحقيقة أنَّ الاضطراب الذي تشبَّث به مرجوحٌ- كما كنت قلت في "الإرواء"(1/ 135)، وشرحت ذلك في "صحيح أبي داود"(162) -، وخلاصة ذلك أنَّ الاضطراب نسبي غير كُلِّي، أي: بالنسبة لرواية التِّرمذي فقط، ولهذا قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 454) مستدركًا على الترمذي:

"لكن رواية مسلم سالمة من هذا الاضطراب".

وبيَّن ذلك أحسن البيان في كتابه الآخر "نتائج الأفكار"(1/ 239 - 241)؛ فلْيراجعه من شاء التوسّع.

وأما (الهدَّام) فلم يفرِّق بين رواية مسلم المحفوظة، ورواية التِّرمذي المضطربة، فإنَّه بعد أن عزَاه لمسلم، وبيّن أنَّه ليس في روايته زيادة: "اللهمّ اجعلني

"؛ عقَّب عليها بإعلال التِّرمذي بالاضطراب.

ومن تدليسه وخيانته للعلم؛ أنَّه قال عقبه:

"وانظم تحقيق الشيخ أحمد شاكر له في تحقيقه لـ "سنن الترمذي""! وتحقيق الشيخ رحمه الله إنما فيه الرد على التِّرمذي في بحث له قيِّم، افتتحه بقوله: "وقد أخطأ التِّرمذي فيما زعم من اضطراب الإسناد

"، فانظره، فإِنَّه نفيس.

فماذا عسى أن يقولَ القراءُ في هذا (الهدَّام المدلِّس) القلاب للحقائق؟ ! عامله الله بما يستحق!

وأمَّا الزيادة المشار إليها، فهي قويةٌ بما لها من الشواهد، وقد ذكرتُها

ص: 69

وخرَّجتُها في "صحيح أبي داود"، وكذلك خرَّجها الحافظ في "النتائج"، وقد ذكرها برواية التِّرمذي في "بلوغ المرام"، وسبقه إلى ذلك النووي في "الأذكار"، وفي "رياض الصالحين"؛ وقد أعمى الله بصرَ (الهدَّام) عن الإعلال المذكور -والحمد لله- في مختصره لـ "الرياض"؛ فأبقاه فيه (292/ 791) مع الزيادة! ولم يورده في "ضعيفته "! وقد صحّحها عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى"(1/ 123).

ثم إنَّ (الهدَّام) حين أعلّ الحديث بما تقدم إنَّما تَستَّر بالترمذي، والحقيقة أنَّ العِلَّة عنده (معاوية بن صالح)، فإِنَّه وضع فيه ضعفًا في بعض الأحاديث الصحيحة، ومن ذلك قوله في بعض طرق الحديث الآتي برقم (50):"عنده غرائب"!

وإنَّ من الأدلة الكثيرة الدالّة على عدم وفائه بما تعهّد به في مقدِّمته للكتاب من التحقيق له- في غير المجال الحديثي طبعًا! فقد أبان فيه عن عورته -: هذا الحديتُ؟ فإِنَّه سقط منه قوله -بعد شهادة التوحيد-: "وحده لا شريك له"، وهي ثابتةٌ في كل طرق الحديث في "مسلم" و"الترمذي"، وغيرهما، وكذلك هي في "زاد المعاد" وغيره من كتب ابن القيِّم، فكان عليه أن ينبِّه على ذلك، ولكن أنّى له ذلك؟ ! وكلُّ نشاطهِ وهَمِّهِ متوجِّهٌ إلى معاكسة حفاظ الأمّة على حساب تضعيفه للأحاديث الصحيحة، نسأل الله السلامة.

على أنَّه من الممكن أن يقال -إضافةً إلى ما سبق -: إِنَّه لم ينتبه للسقط لعدم اهتمامه بالسنة والمحافظة عليها عملًا وتطبيقًا، فهو لا يحفظ هذا الوِرد، وفاقد الشيء لا يعطيه، والله أعلم.

‌14

- "كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء، قال: "غفرانك"":

ص: 70

قلت. جزم ابن القيم بنسبته إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-؛ وهو مما لا خلاف فيه بين الحُفَّاظ، وأمّا (الهدَّام) فقد أعلّه لجهله بهذا العلم وتجاهله لعلمائه، فقد خَرَّجه من رواية ثلاثة عشر حافظًا، وما ضعّفه أحدٌ منهم، بل منهم جماعة من ملتزمي الصحة؛ كابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، ومنهم من صَرَّح بتقويته -كالترمذي؛ فإنَّه حَسَّنَه-، وأقَرَّه النووي في "الأذكار"، والحافظ المزي في "التهذيب"، وصححه الحاكم، والذهبي، والنووي في "شرح المهذب"، والحافظ العسقلاني في "نتايح الأفكار"(1/ 216)، ونقل في "بلوغ المرام" تصحيحه عن أبي حاتم الرازي، وأخيرًا: أحمد شاكر في "التعليق على سنن الترمذي"(1/ 12/ 7)، وغيرهم.

أقول: مع كُلِّ هذه الجمهرةْ من المصحِّحين؛ فقد خالفهم (الهدَّام)؛ قائلًا عقب التخريج:

"وهذا إسناد فيه ضعف، فإِنَّ يوسف بن أبي بُردة مجهول الحال، وتوثيق ابن حبّان والعجلي له ليس بشيء، لأنَّ ذلك من قاعدتهما المعروفة"(1). والجواب من وجوه:

الأوّل: أنَّ التعليل المذكور ليس على إطلاقه، فكثيرًا ما رأينا الحُفَّاظ النُّقَّاد من المتأخرين يوثقون من تفرد بتوثيقه ابن حبان؛ كالإمام الذهبي، والحافظ العسقلاني، وما أظن أنَّ الغرور وصل بك إلى أن تدَّعي أنَّك أعلم منهم! أو أنْ تحشرهم في زمرة المتساهلين! !

(1) قلت: هكذا يقول هنا! وفي أحاديث أخرى يُمَشِّي مَن هذا حاله ويحسِّنه، كما فعل (1/ 77) بحديث كعب بن مالك، فإِنَّه من رواية ابنه (معبد)، ولم يوثقه غير ابن حبان، والعجلي!

ومن مكره وتدليسه؛ أنَّه يحسّن ويمشّي، ولا يبيِّن سبب التحسين وعدم ارتقائه إلى مرتبة الصحيح، سترًا لِـ (اللامنهجية)!

ص: 71

وقد ضربتُ على ما ذكر أمثلةً كثيرةً في بعض مؤلفاتي، ويحضرني الآن -منها- المجلد السادس من "الصحيحة"، وهو مطبوعٌ -بحمد الله-تعالى-.

الثاني: أنَّه جهل -أو تجاهل- تصريح الحاكم بتوثيقه، فقال عَقِبَ الحديث:

"هذا حديث صحيح، فإِنَّ يوسف بن أبي بردة من ثقات آل أبي موسى"، ووافقه الذهبي.

الثالث: ومن ذلك أنَّ توثيقهَ مقبولٌ إذا وافقه أحدٌ من الحفاظ النقاد الموثوق بتوثيقهم، كالحافظ المزي، والذهبي، والعسقلاني، وأمثالهم، وهذا قد وثَّقه الذهبي، فقال في "الكاشف":

"يوسف بن أبي بُردة؛ سمع أباه، وعنه إسرائيل وسعيد بن مسروق، ثقة".

رابعًا: تصحيح حديثه من الجمع المذكور، يدل على أنَّه ثقة عندهم، وبخاصّةٍ أنَّه لا مخالفَ لهم، فيا أيها (الوَبْر)! هل هؤلاء الأئمة الفضلاء -وفيهم من لم تلد مثلَهم النساءُ- متساهلون عندك! وأنت وحدك المتوسط غير المتشدِّد؟ ! أم أنت (الهدَّام) المخرِّب؟ ! فـ (يا عجبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى علينا مِن قَدُومِ ضَأْنِ! )(1)، والله المستعان.

والحديث مخرَّج في "الإرواء"(1/ 91)، و"صحيح أبي داود"(23).

‌15

- قال (الهدَّام)(1/ 90) في حديث: "إذا وطئ أحدكم الأذى بخُفَّيه فَطَهُورُهما التراب" - بعد أن خَرَّجهُ من رواية أبي داود وابن حبان من حديث أبي هريرة -:

"وله شواهد يتقوّى بها"!

(1) انظر -للفائدة- "فتح الباري"(6/ 41) و (7/ 492).

ص: 72

فأقول: يؤخذ عليه:

أولاً: أنَّه لم يبيِّن حالَ إسناد حديث أبي هريرة، ولا الشواهد التي أشار إليها؛ وما حال أسانيدها؟

ثانيًا: لم يُحِل -كما هي عادته أحيانًا- إلى مصدر فيه بيانٌ لما أهمله؛ وذلك لأنَّ مرجعه في ذلك تعليقي على "المشكاة"(503)، وقد استفاده -أيضًا- المعلِّق على "الإحسان"(4/ 250)!

ثالثًا: لم يبيِّن السبب في تقويته للحديث هنا بالشواهد، وإعراضه عن تقويته لأحاديث أخرى بشواهدها -وما أكثرَها -! أقربُها حديث: "حرّم لباس الحرير والذهب على الرجال

" رقم (12)؛ وهكذا فهو (لَعَّاب على الحبلين)، ليس له منهج معروف يستقرُّ عليه، ولئن وجد فهو من اختلاقه، وهل يستقيم الظلُّ والعود أعوج؟ !

‌16

- أشار ابن القيِّم إلى سبب نزولِ آية {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ؛ فخرّجه (الهدَّام)(1/ 93) من رواية أصحاب "السنن" الثلاثة، وقال:"وقال التِّرمذي: "حسن غريب"، وهو كما قال".

فأقول: هُنا -لأول مَرّة - نراه يوافق التِّرمذي على التحسين؛ ولذلك فإِني آخذ عليه ما يأتي:

أولًا: لماذا لم يبين سبب الموافقة المذكورة، والمعروف عنه أنَّه يصرح في مناسبات كثيرة أنَّه متساهل في التحسين، فضلًا عن التصحيح! ولذلك فهو يخالفه في عشرات الأحاديث؛ كما هو شأنه مع كل علماء الحديث -لا فرق بين متساهلٍ منهم ومتشدد ومتوسط -، وأقرب مثالٍ على ذلك حديث عائشة المتقدم آنفًا رقم (14)؛ فما هو الضابط في الموافقة والمخالفة؟ !

ص: 73

إنَّه الهوى الذي لا ضابط له!

ثانيًا: ذاك موقفه العام بالنسبة لتحسين التِّرمذي، ونحوُه موقفُه بالنسبة لرواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ فإِنَّه -أيضًا- متناقض؛ فها هو هنا يوافقه على التحسين لإسناده، وفي حديث آخر يأتي (1/ 181) يقول:"أميل إلى تضعيف روايته"! وفي ثالث يقول (1/ 463): "فيه ضعف"! ! وهذا لا ينافي التحسين إن كان يُحْسِن التعبير، ويعرف ما يقول! فإِنَّه لو لم يكن فيه ضعف لكان صحيحًا؛ لما لايخفى على العارفين بالفرق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن في علم المصطلح، وكذا قال أيضًا في حديثين آخرين لعمرو ابن شعيب، وذلك في تعليقه على "رياضه"(ص 126 و 431)، ولم يوردهما في "ضعيفته" الذي ذيَّل به عليه، مُشْعِرًا بذلك أنهما من قسم الحسن، ولكنه لايفصح بذلك، ولايتكلَّم، سترًا على اضطرابه في حديث عمرو! فإنّه أورد فيها حديثًا آخر (ص 532/ 64)! وقد أعلّه هناك بالراوي عنه عبد الرحمن بن حرملة -أيضًا- وهو من رجال مسلم! -، وقد صحّحه الحاكم، والذهبي، وحسّنه التِّرمذي -كما في "الصحيحة"(64) -، وحسّنه البغوي -أيضًا- (2675).

ثالثًا: ومع اضطرابه المذكور وكتمانه لسبب الموافقة، فهناك كتمان آخر لطريق أخرى أقلُّ ما يقال فيها: إنَّها شاهد قوي، أخرجه الحاكم وغيره من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن عَمرو:

أنَّ رجلًا من المسلمين استأذن نبي الله صلى الله عليه وسلم في امرأةٍ - يقال لها: أم مهزول - كانت تسافح وتشترط أن تنفق عليه، وأنَّه استأذن فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر له أمرها، فقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً .... } الآية.

وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وهو مخرَّج من الطريق

ص: 74

الأولى في "صحيح أبي داود"

‌(17

90).

17 -

"قال عليه السلام لعبد الله بن عُمر: "كن في الدّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وَعُدَّ نفسك من أهل القبور"":

قلت: جزم ابن القيِّم رحمه الله بنسبته إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-كما ترى-، وهو الصواب -بإِذن الله - تعالى -، أمّا (الهدَّام) فجزم بضعف جملة: "وَعُدَّ نفسك

"، معاكسًا بذلك -كعادته- تحقيقي الذي أجريته عليها في "الصحيحة"، وقوَّيته بالشواهد، فقال:

"ما أُورد شواهدَ لهذه الزيادة، فلا يصح"!

ثم أحال على "الصحيحة"(474 أو 1475)!

لقد ذكرت هناك لهذه الزيادة في حديث ابن عمر رضي الله عنه أربعة شواهد من طرق مختلفة: عن أبي هريرة، وزيد بن أرقم، ومعاذ بن جبل، ورجل من النَّخَع، وهي سالمة من الضعف الشديد، فهي بمجموعها صالحة لتقوية الزيادة؛ حسب قاعدة العلماء التي هي من القواعد التي أعرض عنها؛ وتفرَعّ منها تضعيفُهُ لعشراتِ الأحاديث الصحيحة التي قوّاها العلماء؛ كما تقدم التنبيهُ على ذلك في المقدمة؛ فلا داعي للإعادة.

‌18

- "وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنَّ الدنيا قد ترحّلت مُدبرَةً، وإنَّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة

فإنَّ اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل":

قال الجاهل في تخريجه (1/ 100):

"ذكره السيوطي في "جامعه الكبير"، ونسبه للدِّينَوَرِيِّ، وابن عساكر، وانظر "كنز العمال" (3/ 719) ".

ص: 75

فأقول: ليسى من خُطَّتي في ردّي -هذا - على هذا الجاهل -الهالك في عُجبه وغروره- تَعَقُّبُهُ فيما يخرجّه من الآثار الموقوفة؛ لأنَّه هو لم يلتزم ذلك -أوّلًا-، ولأنَّه بابٌ واسع جدًا -ثانيًا-، وحَسْبُ الناصح لنفسه القادر على تمييز صحيح حديث نبيه صلى الله عليه وسلم من ضعيفه أن يفعل ذلك، وأن يدُلَّ الآخرين عليه؛ لأنَّ حديثه صلى الله عليه وسلم ليس كحديث أصحابه، فضلًا عَمَّن بعدهم -كما هو معلوم-؛ وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:"إنَّ كذبًا عَلَيَّ ليس ككذبٍ على أحد؛ فمن كذب علَيَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"؛ متّفق عليه.

وإنَّما توجَّهت الهِمّةُ لتتبُّعه في تخريجه لهذا الأثر، تأكيدًا لكونه جاهلًا بهذا العلم الشريف متطفِّلًا عليه، لا عناية له بدراسة السنة وأصولها، إلَاّ بمقدار ما تساعده الفهارس المُقَرِّبةِ للبعيد منها، وبخاصة ما أُلِّف في العصر الحاضر منها، ولهدم السنة، لالنصرها ونشرها بين الناس! فهو ومن يلوذ به -فيما نَعْلَمُ- على خلاف السنة -عقيدةً وفقهًا وسلوكًا-، وإنَّما يكتب ويخرِّج ليباري العلماء، ويصرف وجوه الناس إليه، وهو ليس على شيء سوى (الجعجعة)، وما تقدم -ويأتي- أكبرُ دليلٍ على ذلك، ومنه هذا التخريج؛ فأقول:

أولًا: لو كان الرجل على شيءٍ من العلم؛ لاستحيى من نقل هذا التخريج الضَّحْل؛ وبواسطة كتاب "الكنز"، لا من كدّه ولا من كدّ أبيه! لو أنه كان كما قلتُ لعلا وارتفع، وخرَّج من الأصول والأمَّهات -كما يقال:(ومن وَرَد البحر استقلّ السواقِيا)! - ولكنْ أنّى له ذلك، وليست غايتُه في كل تخريجاته إفادةَ القرّاء؟ ! وإنّما التَّحويش والهدم، حتّى فيما يعزوه إلى الشيخين أو أحدهما؛ فهو يقتصر على التحويش ومجرّد النقل عنهما؛ إلاّ في حالة هدم وتضعيف شيءٍ من أحاديثهما! !

ثانيًا: سكوته عن هذا التخريج يدلّ على أحد شيئين؛ أحلاهما مرّ؛

ص: 76

أحدهما: عدم اهتمامه بالنقد فيما ليس له فيه هوىً، وثانيهما: الجهل بتراجم الرجال، والحقيقةُ أنّ الأمرين مجتمعان هنا، أمّا الأوّل: فظاهرٌ؛ فلو أنّه كان على علم لوقف عند نسبته لـ (الدَّينوريّ)؛ فهذا -واسمُهُ: أحمد بن مروان- قد ضعّفه الإمام الدارقطنيُّ-بل اتّهمه- فيما نقله الذهبيُّ في "الميزان"(1/ 156)، و"المغني"(1/ 60)، و"الديوان"(1/ 36) -، وهو صاحب كتاب "المجالسة" -المشهور-، والأثَرُ -المذكورُ- فيه، برقم (277).

ومن طريق الدِّينَوَري: أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشقَ"(12/ 380): نا محمد بن عبد العزيز الدِّينَوَري: نا أبي، عن وكيعٍ، عن عمرِو بن منبّه -بسند منقطع-، عن عليّ

به.

قلت: فهو إسناد ضعيف -إن لم يكن ضعيفًا جدًّا -؛ أبعلمٍ منه كان سكوتُه عنه أم بجهل؟ ! أحلاهما مرّ!

هذا حال إسناد المصدرَيْنِ اللذَيْنِ عزَا إليهما (الهدَّام) تقليدًا لغيره! وهو المجتهد الأكبر (! ) الذي يضعّف المئاتِ من الأحاديث الصحيحة! ! ويردُّ على حفّاظ الأُمّة وأئمّة الدّين تصحيحَهم إيّاها! !

ثالثًا: هل كان صادقًا في قوله: "ذكره السيوطي

"؟ !

فأقول: مع الأسف؛ لم يكن صادقًا؛ وهو يرى أنّه ليس عنده الجملة الأخيرة: "فإنّ اليوم عمل

" إلخ.

رابعًا: ما فائدةُ إحالة القّراء إلى "كنز العمّال" سوى التزوير والتضليل، وإيهامِهم أنّ الأثر فيه بتمامه -كما هو في كتاب ابن القيِّم -، والواقعُ خلافه؟ !

خامسًا: لقد كان في غِنىً عن أن يقع في مثل هذه المصائب والمخازي؛ لو أنّه كان باحثًا -ولا أقول: حافظاً! ! -مُخْلصًا غيرَ مقلّد؛ إذن

ص: 77

لوجد ما يرتفع به عن ذاك العزو النازل مصادرَ عديدةً، وفيها تلك الجملةُ! ! ولكنْ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} ، وليَتَحَقّقَ ما قيل:(ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلاّ ألبسَه الله رداءَها)(1).

من تلك المصادر: "صحيح البخاري"، فقد ذكره معلَّقًا بصيغة الجزم في أوّل كتاب "الرّقائق" في الباب الرّابع منه، وقد وصله الحافظ برواية بعض المصادر الآتية، مع ذكر ما خفي عليه من حال أحد رواته، فأقول:

قال وكيع في "الزهد"(2/ 191 - 292): حدّثنا ابن أبي خالد، عن زُبيد اليامي، ويزيدَ بن أبي زياد، عن مُهاجر العامِري، عن عليّ؛ قال

فذكره بتمامه، وفي أوّله زيادة.

ومن طريق وكيع أخرجه أحمد في "الزُّهد"(ص 130)، و"فضائل الصحابة"(1/ 530)، إلاّ أنّه لم يذكر في سنده (زُبيدًا اليامي)، وقال:(يزيد ابن زياد بن أبي الجعد)، مكان (يزيد بن أبي زياد).

وأخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد"(86/ 255): أخبرنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن زُبيد اليامي، عن رجل من بني عامر؛ قال

فذكره.

وكذلك رواه أبن أبي شيبة في "المصنَّف"(13/ 281/ 16342، 16343)، وهنّاد في "الزهد"(1/ 290 - 291) من طرقٍ عن إسماعيل بن أبي خالد

به، لكن ابن أبي شيبة في الرواية الثانية سمّاه:(مهاجرًا العامري).

وتابعه أبو مريم، عن زبيد، عن مهاجر بن عُمير، عن عليّ:

(1) وقد رُوي حديثًا، ولا يصحُّ، ولذلك خرجتُهُ في "الضعيفة"(237)، وفي معناه بعض الآثار، ويشهد لمعناه القرآن.

انظر تفسير سورة (محمد)، وسورة (الفتح) في "تفسير ابن كثير".

ص: 78

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 76)، وقال:"رواه الثوري وجماعة؛ عن زُبيد مثله، عن علي، مرسلًا، لم يذكروا (مُهاجر بن عُمير) ".

قلت: هي روايةٌ لوكيع، وعنه: أحمد، عن إسماعيل بن أبي خالد.

وتابعه عليها عبد الله بن موسى؛ عند أبن عساكر (12/ 382).

لكنْ؛ لعلّ رواية إسماعيل المتصلة أولى لرواية جمعٍ لها -كما رأيت-؛ ولأنّها زيادة ثقة، وبخاصة أن ابن أبي شيبة قد قرن به سفيان، وهو الثوري.

إذا عرفت هذا؛ فالإسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير (مهاجر العامري) وهو ثقة، وهو (مهاجر بن شَمَّاس)، قال ابن أبي حاتم في ترجمته (8/ 261/ 1189):"وهو مهاجر العامري، كوفي، روى عن عمر، وعنه فُضيل بن غزوان".

وكذا في "تاريخ البخاري"، دون قوله:"وهو مهاجر العامري".

ثم روى ابن أبي حاتم عن ابن معين أنه قال: "مهاجر العامري ثقة".

قلت: وخفي هذا على الحافظ، فقال في "الفتح" (11/ 236):

"وما عرفت حاله"!

واغترّ به الأخ الفاضل المعلّق على "زهد وكيع"، فإنه بعد أن فسّر (مهاجرًا العامري) بقوله:"هو ابن عُمير كما في "الحلية

"، وذكر قول الحافظ هذا، قال:

"وبعد تعيينه أنه (مهاجر العامري) فقول محقّق "فضائل الصحابة" لأحمد: إنّه (مهاجر بن شمّاس الكوفي) ثقة؛ ليس على الصواب، والله أعلم".

وأقول: بل هو الصواب؛ لأنه مُتابعٌ لقول ابن أبي حاتم مق حيث تعيينُ أنه (مهاجر بن شمَّاس)، ولابن معين من حيث التوتيقُ، ولا ينافي ذلك روايةُ

ص: 79

"الحلية" -لو صحّت- أنه (مهاجر بن عمير العامري)؛ لأن غايةَ ما فيها تسميه والد (مهاجر) بـ (عُمَير)، ولكنّها لا تصحّ؛ لأن فيها (أبا مريم) وهو (عبد الغفّار ابن قاسم الأنصاري)، وليس بثقة؛ كما قال الذهبي.

وأستغرب سكوتَ الحافظ عنه؛ فإنّه الذي حمل الأخَ المشارَ إليه على التّعيين المذكور!

على أن لمهاجر العامريّ متابعًا قويًا من طريق وكيع -أيضًا- عن سفيانَ، عن عطاءِ بن السّائب، عن أبي عبد الرّحمن السُّلَمي، قال:

خطب عليّ بن أبي طالب على مِنبر الكوفة؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وقال

فذكره.

أخرجد البيهقيُّ في "الزُّهد الكبير"(192 - 193)، وابن عساكر (12/ 381). قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وعطاءُ بن السّائب؛ وإن كان اختلط؛ فسفيانُ -وهو الثوري- سمع منه قبل الاختلاط.

على أنّ هذا الأثر قد رُوي مرفوعًا عن علي وجابر بإسنادين ضعيفين؛ كما تراه في "العلل المتناهية"(2/ 328 - 329)، و"الفتح".

وختامًا أقول: قد يقول قائل: إن ما وصفتَ به (الهدَّام) حقٌّ لاريب فيه؛ مع إغفاله عَزْوَ هذا الأثر إلى البخاري وغيره من الأئمة، ولكن، لعلّ ذلك كان منه لكونه أثرًا غيرَ مرفوعٍ؟ فأقول: كلَاّ، ولكنّه قضاء الله وحكمته -كما سبق بيانه-.

ومع ذلك؛ فليس هذا بالمثال الوحيد على ما وصفت؛ فهناك ما هو أنكرُ منه، وأدلّ على جهله، وعدم معرفته بما في كتب السّنة، فسيأتي قريبًا عَزْوُهُ لما في "الصحيحين" إلى غيرهما؛ تقليدًا منه لـ "الكنز" -أيضًا! ! -، انظرِ الحديثَ رقم (21).

ص: 80

‌19

- قال ابن القيِّم رحمه الله: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة (1): "الحمد لله؛ نستعينه ونستهديه ونستغفره

"، إلى قوله:

"وسيئات أعمالنا".

(1) وهي الخُطبةُ التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعلّمها أصحابه، وقد كانت أُهملت في بعض السنين، فأحياها بعضُ الأئمة؛ كالإمام الطحاوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية رحمهم الله وغيرهم -.

ثم أُهملت في القرون المتأخّرة، فجاء دورنا -وللَّهِ الحمدُ - في إحيائها؛ فألَّفْتُ فيها الرسالة المعروفة - "خُطبة الحاجة" -، ونفغ الله بها من شاء من محبِّي السنة، وانتشر العَمَلُ بها في صدور الكتب والرسائل، وفي خُطب الجُمَع وغيرها -فللَّه المِنّة -.

فَمِنَ العجائبِ أن يقفَ في طريقها بعضُ الفُضَلاء، فيكتب كلمةً في كتابه النافع "تصحيح الدعاء"(ص 454)، فيقول ما ملخّصه:

"في الخطبة محدثات؛ منها: التزام افتتاح خُطبة الجمعة بخطبة الحاجة الواردة في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والعجيبُ أن حديث ابن مسعود هذا رواه أصحاب "السنن" مترجمين له في "كتاب النكاح" سوي النسائي؟ فقد ترجم له -أيضًا- في "الصلوات"، ومن تتبَّع هديَ النبي -صلي الله عليه وسلم-، لم يَر فيه التزامَ افتتاحِ خُطبته صلى الله عليه وسلم-بذلك

ولم نَرَ في فعله صلى الله عليه وسلم، وفي الهَدْيِ الراتبِ لصحابتهِ رضي الله عنهم التزامَ هذه الصيغة في خُطَبهم، وافتتاح أُمورهم، وهؤلاء المؤلِّفون مِن علماء الإسلام لا تراهم كذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-؛ فإنه في كتبه وفتاويه يفتتح بها تارة، وبغيرها تارة أخري

".

فأقولُ -وبالله التوفيق-:

أولًا: هي ليست فرضًا حتى لا تُترك أحيانًا؛ بل قد يكون العكسُ هو الأصوبَ، وهو تركُها أحيانًا؛ حتى لا يتوهّم أحدٌ فرضيتها؛ كما في حديث قيام رمضان:"إني خشيتُ أن تُكتب عليكم".

ومما يُدَلِّلُ على أنّنا مُدْرِكون لذلك جيدًا -وللَّه الحمد -: أنني لم أفتتح عَدَدًا من مؤلفاتي وتحقيقاتي بهذه الخطبة؛ مثل: "كتاب الإيمان" لابن أبي شيبة، و "حجاب المرأة المسلمة" الطبعة الأولى، و "تمام المِنّة" / الطبعة الثانية، و "آداب الزفاف" الطبعة الثانية

ومِن آخر ذلك مقدمتي على الطبعة الجديدة من المجلد الأول من "السلسلة الصحيحة"

وغير ذلك كثيرٌ.=

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ثانيًا: إذا كان الالتزامُ بدعةً؛ فما حكم إهمالها مطلقاً؟ ! كما هو شأنُ كثيرٍ من المؤلفين ومنهم المردودُ عليهِ -وفّقه الله-! فإني لم أره افتتح كتابًا له بهذه الخطبة المباركة، مستعيضًا عنها بخطب ينشئها هو نفسُهُ! أَلَيْسَ هذا من باب:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ؟ !

ثالثًا: عزا الفاضل المشار إليه -في هذا الموضع من حاشية كتابه - إلى "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"(18/ 286 - 287) مُشيرًا إليه بقوله: "مهمّ"!

فأقول: نعم؛ هو مهمّ؛ ومن أهمِّه قولُه رحمه الله: "فإن حديث ابن مسعود لم يَخُصَّ النكاح، وإنما هي خُطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضًا

".

فما قيمةُ تعجُّب الفاضلِ المذكور من كون أصحاب "السنن" رَوَوْا خُطبةَ الحاجةِ في كتاب "النكاح"؟ !

وكذلك الأمرُ في قوله في آخر بحثه: "بهذا التقرير تعلم فقهَ أصحاب "السنن" -رحمهم اللَّه تعالى - في ترجمة خُطبة الحاجة في "كتاب النكاح"، وتقرير العلماء بمشروعيتها بين يدي عَقْد الزواج"! !

ومن عظيم تقدير المولى -سُبحانه- أنْ تَرِدَ (خُطبة الحاجة) في مجلد "الفتاوى" -الذي عزا إليه الفاضلُ المذكورُ! - في مقدمة رسالتين لشيخ الإسلام رحمه الله (18/ 76، 210) بخلافِ ذاك الموضعِ الذي أشار هو إليه -حاثًّا عليه-، والذي تكلَّم فيه تفصيلًا عن هذه الخُطبة النبوية المباركة؛ هذا فضلًا عن بقية المجلدات -منه-، أو كتبه الأخرى، ومثلُهُ تلميذُهُ الإمامُ ابن قيم الجوزية رحمه الله

فهلاّ كان هذان الإمامانِ قدوةً لهذا الفاضل، فيتأسَّى بهما -ولو مرةً -، فيفتتح كتابًا له بخطبة الحاجة؟ !

رابعًا: ممَّا يؤكد عمومَ مشروعيتها بين يدي كل عملٍ صالحِ حديثُ ابن عباس -الذي رواه مسلم في قصَّة قدوم ضِمَادٍ مكةَ، وفيه ذكر النبي -صلي الله عليه وسلم- له هذه الَخطبةَ المباركةَ، وأنَّ ضمَادًا أسلم بعد سماعها؛ فلم يكُن ثمّةَ نكاحٌ، ولاعقدُ زواجٍ! !

خامسًا: وكأنَّ شيخ الإسلام رحمه الله يُشيرُ في بعض كلامه إلى وقوع إهمالٍ في هذه الخطبة -كما أشرت إليه -، فقال رحمه الله:

"ولهذا استُحِبَّت، وفُعلت في مخاطبة الناس بالعلم عمومًا وخصوصاً؛ من تعليم الكتاب والسُّنَّة، والفقه في ذلك، وموعظة الناس، ومجادلتهم أن يُفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية. وكان الذي عليه شيوخُ زماننا الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم وغيرهم يفتتحون مجالس التفسير، أو الفقه في الجوامع والمدارس وغيرها بخطبة أخرى

".=

ص: 82

قلت. هكذا جزم ابن القيِّم رحمه الله بنسبته إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-، وهو الصواب الذي لا ريب فيه -كما يأتي-، وأما (الهدَّام) فضعّفه؛ كدَأْبِه في معاكسة الحق، وقد أطال في تخريجه وبيان الاختلاف فيه على (أبي إسحاق السَّبِيعي)! ويمكن تلخيص المهم منه على وجهين:

الأوّل: أخرجه من أربعة طرق، منها: الأعمش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود

مَرْفوعًا.

والآخر: من طرقٍ كثيرةٍ منها؛ الثوري وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه

مرفوعًا؛ وقال عَقِبَ هذا: "ضعيف لانقطاعه؛ فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه".

وأعَلَّ الأوَّل بأن أبا إسحاق تغيَّر بآخره؛ وكان يدلِّس.

والرَّد على هذا: ما ذكره من رواية أحمد، عن عَفَّان، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، وأبي الأخوص، عن ابن مسعود

مرفوعًا.

قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم كما كنت ذكرت ذلك في رسالتي "خطبة الحاجة"(ص 21)؛ وذلك لأنَّ شعبة قد سمع من أبي إسحاق قبل اختلاطه، ولا يروي عنه ما دَلَّسه، فزال ما أعَلَّه به، ولعلمه بذلك أخذ ينطح الجبل برأسه، فقال:

= إلى أن قال رحمه الله:

"

كما رأيت قومًا يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة، وكل قومٍ لهم نوعٌ غير الآخرين

".

أقول: فتأمَّلْ مقابلتَه رحمه الله بين افتتاح (الشيوخ) مجالسَهم بغير خُطبة الحاجة (الشرعية)، وكذا ما ما يفعلُه (القومُ) الذي يخطُبون للنكاح بغير الخطبةِ (المشروعة): يظهر لك الحق، وينكشف أمامك الصواب، بلا ارتياب ..

والحمد للَّه رب العالمين.

ص: 83

"عَفَّان على ثقته وجلاله وقدره له أوهام، ولا يقوى أمام من ذكرنا ممن رواه عن شعبة".

قلت: هذا ليس دليلًا على وهمه إلاّ عند الغريق الهالك في الأوهام، المخالف لأقوال الأئمة الأعلام، فهذا أبو حاتم -المعروفُ بتشدُّدِه في التعديل- يقول:

"عَفَّان إمام ثقة متقن متين".

وقيل لأحمد: مَنْ تابع عَفَّانَ على حديث كذا وكذا؟ فقال:

"وعفّان يحتاج إلى أن يتابعه أحد؟ ! ".

ولقد بالغ أئمّة الجرح والتعديل في الثناء على حفظه -وتفضيله على الآخرين من أمثاله من الحُفّاظ -؛ بما يندر أن يُقال في غيره، فقالوا فيه:"عفان أثبت من يحيى بن سعيد القطان، ومن عبد الرحمن بن مهدي".

ولقد نبّه مَرّة يحيى بنَ معين على خطإ له في حديث، فقال:"هو كما قال عَفّان، ولقد سألت الله أن لايكون عندي على خلاف ما قال عفان"، إلى غير ذلك من أقوالهم الدّالة على حماقة هذا (الهدَّام) الطاعن في حفظ هذا الإمام.

حتى قال الذهبي في ترجمته في "السير"(10/ 250) - بعد أن ساق ثناء الأئمة عليه-:

"قلت: ما فوق عفان أَحدٌ في الثقة".

ومع ذلك كله، فقد تابع شعبةَ جماعةٌ من الثقات:

أولًا: الأعمش، مع ثلاثة آخرين سماهم (الهدَّام)، والمقصود منهم الأعمش خاصة، لأنني أعتقد أنَّه يجهل أنّه سمع أيضًا من أبي إسحاق قبل

ص: 84

الاختلاط، وإلاّ فيكون (الهدَّام) دَلَّس حين شمل روايته مع الآخرين بالإعلال بالاختلاط، ولذلك أضافه الحافظ إلى الثوري وشعبة في الرواية عنه قبل الاختلاط، لأنَّه مات قبلهما بأكثر من عشر سنين.

ثانيًا: إسرائيل، فقال: عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وأبي عبيدة معًا.

فأعلّه (الهدَّام) بأن في روايته عنه مناكير!

فأقول: إسرائيل هو ابن يونُس بن أبي إسحاق السَّبِيعي، وهو ثقة مُحتجٌّ به في الأمهات الستة، وروى له الشيخان عن جده أبي إسحاق، فمن الجهالة والمعاندة بمكانٍ إعلالُ روايته هذه عن جده، وذلك لأنَّه متابعَ -كما ترى-؛ فهذا يُبطل إعلاله.

وما مَثَلُ هذا (الهدَّام) إلاّ كمثل قاضٍ مُغْرِضٍ يَرُدُّ شهادة عدلَين في قضيَّةٍ ما؛ بحجةِ أنَّ كلاًّ منهما -على انفراده - لا تُقبل شهادته! ! بل لا يقبل شهادة امرأتين؛ لأنَّ شهادة الواحدة منهنّ لا تُقبل وحدها! ! وهذا خلاف قوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فللاجتماع -ولو من أفرادٍ ضعفاء- قُوَّةٌ لدى العقلاء؛ فضلًا عن العلماء!

ثالثاً: يونُس والد إسرائيل، قد ذكرت في المقدِّمة (1) أن من عادة هذا (الهدَّام) -السيئة - أنَّه في الوقت الذي يتظاهر بأنَّ التخريج الذي يتوسَّع فيه -كما هنا - هو من استخراجه -والواقع أنَّه لغيره -؛ فإنّه يسلِّط عليه جهله، ويستخرج منه العلل التي يَزْعُمُها، ويُعرض عن ذِكر ما هو حُجَّةٌ عليه؛ فقد

(1) الفقرة (3).

ص: 85

استفاد التخريج والمصادر التي عزا إليها من رسالتي "خطبة الحاجة" التي سبق ذكرها، ثم من تخريج شيخه -كما يزعم - شعيب الأرناؤوط المعلِّق على "مشكل الآثار"(1/ 7)، وقد افتتح تخريجه بقوله: "حديث صحيح، إسناده من طريق أبي الأخوص عن عبد الله: متَّصلٌ صحيح

"، ثم أخذ في تخريج الطرق، ومنها قوله: "ورواه ابن ماجه (1892) من طريق يونُس بن أبي إسحاق".

والمقصود أنَّ التلميذَ العاقَّ -لشيخهِ- لم يتعرّض لتخريج هذه الطريق؛ لأنَّ فيها متابعة قوية من يونُس، فهي متابعة ثالثة، فقد احتجَّ به مسلم، وصحَّح له جمع، وفيه كلامٌ يسيرٌ لا يضرُّ، وبخاصة في المتابعات.

وقد يحتمل أن (الهدَّام) تعمَّد إهمال تخريجها؛ لأنَّها عند ابن ماجه من روايته عن هشام بن عَمَّار، عن عيسى بن يونُس، وبين هشام و (الهدَّام) خصومةٌ (! ) لروايته حديث المعازف في "صحيح البخاري"؛ وهو من جملة ما ضعَّفه (الهدَّام) من أحاديث "الصحيح"، وسيأتي الرَّد عليه وبيان زغله وجهله حوله في محله -هنا - برقم! (79) " فأقطع عليه عِلَّتَهُ، فأقول:

تابع هشامًا محمدُ بن أبي يعقوب الكِرماني: ثنا عيسى بن يونس

أخرجه الطبراني في كتاب "الدعاء"(2/ 1235 - 1236)؛ والكِرماني هذا ثقةٌ من شيوخ البخاري في "صحيحه".

قلت: فإِذا ضُمَّ إلى اتفاق هؤلاء الثقات الثلاثة - وهم: الأعمش، وإسرائيل، ويونس - الآخران اللذان ذكرهما (الهدَّام) وهما معمر والمسعودي، فهم خمسة؛ ويُضم إليهم شعبة في رواية عفان -الحُجَّة-؛ فهم ستة، فأيُّ أحمقَ بعد هذا عنده ذرَّةٌ من علم المتابعات؛ يقول: أخطأوا جميعًا في روايتهم عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود؟ ! اللهم إلاّ أَن

ص: 86

يكون كذاك القاضي المُغْرِض! ولذلك صحَّحه ابن دقيق العيد في "الإلمام"(1058).

وبذلك يتبين أنَّ الحديث صحيح الإسناد سالِمٌ من الانقطاع والتدليس، وقد صحَّحه التِّرمذي وابن الجارود، وقد تعَمَّد (الهدَّام) -كعادته- كتمان كلام التِّرمذي المصرِّح بصحته، وبصحة رواية إسرائيل خاصَّة؛ وهو قولُهُ رحمه الله:

"حديث حسن، رواه الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكلا الحديثين صحيح، لأنَّ اسرائيل جمعهما؛ فقال: عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم".

ولقد ذكرتُ -آنفًا- ستةً من الثقات اتفقوا على رواية الحديث عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود -مرفوعًا-.

ثم وجدت لهم متابعاً سابعاً، هو جَبَلٌ في الثقة والحفظ ط ألا وهو سفيانُ الثوري، رواه عن أبي إسحاق

به.

أخرجه الدّارقطني في "العلل"(5/ 311) بسنده الصحيح عنه، ثم ذكر متابعة الأعمش والمسعودي ويونس وإسرائيل، وقال:

"وكلهم رووه عن أبي إسحاق -بهذا الإسناد - مرفوعًا إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-؛ إلاّ أن إسرائيل من بينهم أضاف إلى أبي الأحوص أبا عبيدة، وكل الأقاويل صِحَاحٌ عن أبي إسحاق".

قلت: فقد اتفق الدّارقطني مع التِّرمذي على أنَّ أبا إسحاق له في هذا

ص: 87

الحديث شيخان: أبو الأحوص وأبو عبيدة، وأنَّه من طريق الأوّل صحيح متصل، فليس الحديث مضطربًا -كما زعم (الهدَّام) -؛ فلا غرابة -إذن- في تَتَابُعِ العلماء -قديمًا وحديثًا- على تصحيحه، وما علمت أحدًا له مشاركةٌ في هذا العلم ضَعَّفه؛ إلاّ هذا الفَسْل! وما أحسن ما قيل:

وابْنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّفي قَرَنٍ

لم يستطعْ صولةَ البُزْلِ القَنَاعيسِ

هذا، وللإمام أبي جعفر الطّحاوي الفضلُ الأوّلُ في إحيائه لهذه الخطبة في افتتاحية كتابه "مشكل الآثار"، ثم جرى على سَنِنه -وكان له فضل إشاعته في كتبه- شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثم وفَّقني -تعالى-، فعملت بها في دروسي ومؤلَّفاتي، وأشعتُها في العالم الإسلامي بواسطة رسالتي المؤلَّفة فيها، واستجاب لها الكثيرون -والحمد لله- من مُحبي السنة، وبخاصة الخطباء؛ حيث كانت مُهْمَلَةً من قبل، ثم جاء هذا (الهدَّام) يريد تضعيفها، فأخزاه الله -تعالى -.

ولا يفوتُني التنبيهُ على أنَّ لفظ (نستهديه) -في سياق ابن القيم- زيادةٌ لا أصل لها في شيء من طرق الحديث؛ كما أنه سقط منه كلمةُ "نحمده".

وهذا من الأدلة الكثيرة على أنَّ (الهدَّام) في تخريجه إياه لا يهمُّه التحقيق، وأنَّه إنَّما اتخذه وسيلة للتضعيف والشذوذ والمخالفة لسبيل المؤمنين! وانظر الحديث الآتي.

وهذه الزيادة - "نستهديه" - أسمعها كثيرًا من بعض الخطباء المرموقين في بعض البلاد العربية، ولذلك لزم التنبيهُ عليها، لأنَّ الأذكار والأوراد تَوْقيفيّةٌ -كما هو معلومٌ مِن السُّنَّة عند أهل السُّنَّة-.

‌20

- ومن الأدلة على ما ذكرت آنفًا - من عدم اهتمامه بالتحقيق، وإنما

ص: 88

بالتضعيف- أنَّ ابن القيِّم رحمه الله ساق حديث عِمران بن حُصين، عَقِبَ الحديث السابق شاهدًا له في الاستعاذة من شرِّ النفس، وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه حُصَين:

"قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شَرَّ نفسي".

فقال (الهدَّام)(1/ 107) بعد أن خَرَّجه وضَعَّفهْ

"ورُوي بإسنادٍ جيد بغير هذا اللفظ! انظر ابن حبان ("الإحسان") (899) ".

قلت: فقوله: "بغير هذا اللفظ" غير صحيح على إطلاقه، فإنَّ الشاهد موجودٌ فيه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهمَّ قِني شرَّ نفسي"، أليس كان من الواجب على (الهدَّام) أن يبوح بهذا الشاهد ولا يكتمَه، بدل الإحالة على غائبٍ بالنسبة لأكثر القُرّاء؟ ! بلى؛ بل إنّ ذلك -منه - لو فَعَلَهُ- يتنافى مع النَّصيحةِ الواجبة على كل مسلم لكل مسلم، والتي أخلَّ بها -جدًّا- هذا (الهدَّام) في خُطَّتِه الرامية إلى تضعيف الأحاديث الصحيحة، وكتمان ما يَصحُّ منها عنده كحديث ابن حبّان هذا، وهو مخَرَّج في "المشكاة"(2476/ التحقيق الثاني).

‌21

- قال ابن القيِّم رحمه الله: "كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنفسُنا بيد الله":

قلت: هذا وهمٌ من أوهام العلماء؛ اشتبه على المؤلف حديثٌ موقوفٌ بمرفوعٍ! فإِنَّه من قول علي -رضي الله - عنه في قصة طَرْقِهِ صلى الله عليه وسلم إيّاه وفاطمة رضي الله عنهما، وقوله صلى الله عليه وسلم لهما:"ألا تصلُّون؟ "؛ وهو في "الصحيحين"، فانظر "صحيح الأدب المفرد"(731/ 955).

ولجهل (الهدَّام) بالسنة وبما في "الصحيحين" من الأحاديث، انطلى عليه هذا الوَهَمُ، ولم يدرِ ما يقول فيه، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، فأبعد

ص: 89

النُّجعة، وقال (1/ 109):

"قريبٌ منه ما أخرجه مسلم

"!

فذكر حديث أبي هريرة في قصة نومهم عن صلاة الفجر في السفر، وقول بلال:

"أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله! "؟ مُقَلِّدًا في ذلك المعلق على الطبعة القديمة (1/ 76)؛ وهو مخرج في "الإرواء"(1/ 292).

‌22

- قال ابن القيِّم: "ذكر أحمد عن وهب: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه

"، وقد روي هذا -مرفوعًا - من كلام النبي -صلي الله عليه وسلم-؛ رواه أبو حاتم وابن حبّان وغيره ".

قلت: لم يُخَرِّج المرفوع فضلًا عن الموقوف، والأوّل من شرطه، ولكنّه لم يعرفْه، لأنَّه لا يحفظ، ولم تساعده الفهارس! وهو قطعة من حديث أبي ذر الطويل في "صحيح ابن حبّان"(2/ 76 - 79 - "الإحسان") - الذي يزعم -كثيرًا - أنَّه شارك في تحقيقه! -.

وإسناده ضعيف جدًا، وهو مخرَّجٌ في "الضعيفة"(1910 و 5638).

وقوله: "أبو حاتم و

": كذا في الطبعة الأولى -أيضًا -، وأظنّه خطأً مطبعياً لم يتنبّه له (المحقق)! وذلك لأنَّ هذه الكنية لابن حبّان، وإن كان يشاركه فيها (أبو حاتم الرّازي) الحافظ المشهور، ولو أراده لميّزه بنسبة (الرازي) دفعًا للاشتباه، فالصواب (أبو حاتم ابن حبان).

‌23

- قال ابن القيِّم: "وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عُمَّاله: حاسِب نفسك في الرّخاء، قبل حساب الشدَّة .... "، إلى قوله: "ومن ألهتْه

ص: 90

حياته وشغلته أهواؤه، عاد أمره إلى الندامة والخسارة":

قلت: علّق عليه (1/ 114) نقلًا عن "الكنز": "أخرجه البيهقي في "الزهد" وابن عساكر

"، وقال: "وفي إسناده انقطاع".

فيقال فيه نحو ما سبق ذكره تحت الحديث (18) فقرة (أولًا) -من حيث عدمُ رجوعهِ للأصول-؛ فقد أخرجه البيهقي في "الزهد"(192/ 462)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(13/ 135) بسنده عن جعفر بن بَرْقَان، قال:

بلغني أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله

فذكره، وفيهما "الحسرة" مكان "الخسارة"" وعلى الصواب وقع في "الكنز"، ومع ذلك لم يُنَبّه عليه المحقق، لأنَّ رجوعه إليه ليس للتحقيق، وإنَّما للتخريج، بل للتخريب؛ ما استطاع إليه سبيلًا!

ثم إنَّ قوله. "

انقطاع" ليس دقيقاً، فالأولى أن يقال: "فيه إعضال" لأنَّ بين جعفر وعمر أكثرَ من واحد، فإنَّه مات سنة (154)، هذا ما يقتضيه علم مصطلح الحديث، لو كان له معرفةٌ -أو إيمانٌ- به!

‌24

- "وقال الإمامٍ أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس: حدّثنا منذر، عن وهب، أنَّ رجلا سائحاً عَبدَ الله عز وجل سبعين سنة

":

عزاه (1/ 125) لأحمد في "الزهد"(ص 69)، وقال:"وفي إسناده ضعف ".

قلت: ولم يبين سبب الضعف -على عادته في تعمية الحقائق -، وليس في الإسناد من يمكن وَضع ضعف فيه إلاّ شيخ أحمد (محمد بن الحسن

)، وهو مختلف فيه، وقد وثَّقه أبو زرعة، وأحمد بن صالح، وابن حبّان، وقال

ص: 91

النسائي: "متروك"؛ فتعَقَّبَهُ الحافظ في "التهذيب" بقوله:

"وكلام النسائي فيه غير مقبول، لأنَّ أحمد وعلي بن المديني لا يرويان إلاّ عن مقبول، مع قول أحمد بن صالح فيه".

نعم، قال الدّارقطني:"ليس بالقوي "، وهذا يعني أنَّه وَسَطٌ حسن الحديث؛ وإليه يشير الحافظ بقوله في "التقريب":"صدوقٌ فيه لِين".

وقد قال الذهبي في "الميزان":

"وثَّقه أبو زرعة وأبو حاتم".

فإن صَحَّ توثيق أبي حاتم أيضًا؛ فهو مما يقَوّيه -لما هو معروف من تشَدُّدِه في التوثيق-، لكن لم يحك عنه ابنه في "الجرح والتعديل " إلاّ توثيق أبي زُرعة، وعكس ذلك الحافظ تبعًا للمزي فلم يعزواه إلا لأبي حاتم، فالأمر بحاجةٍ إلى تحقيق، والله أعلم.

وبالجملة؛ فالإسناد حسن.

وقد قلنا مرارًا - ردًّا على (الهدَّام) مثلَ قوله هذا -: إنَّ الإسناد الحسن فيه ضعف -ولا بُدَّ-، ولازمه أنَّ هناك فرقًا معروفًا بين العلماء بين من يقول من أهل العلم:"إسناد فيه ضعف"، وبين:"إسناده ضعيف"، وأمّا (الهدَّام) فلا يفرّق - عمدًا أو جهلًا-!

ثم إنَّ هذا الإسناد من الأدلّة الكثيرة أنَّه لم يقم بواجب التحقيق الذي ادّعاه، فإن اسم (أنس) - جَدّ شيخ أحمد - أقَرَّه (الهدَّام)، ولم يصحِّحه، وهو خطأ مخالف لترجمته، وقد تزداد مؤاخذته على هذا الإهمال إذا كان في نسخته من "الزهد" التعليقُ الذي على نسختي منه (ص 53/ طبعة أم القرى - الأُولى)؟ فإن المصحِّح لها -جزاه الله خيرًا - قد علّق على اسم

ص: 92

(أنس) مبينًا أن الصواب (آتش) بهمزةٍ ممدودة وتاء مثناةٍ من فوق وشين معجمةٍ -كما في "الخلاصة"-.

‌25

- ثم ساق ابن القيِّم من رواية أحمد، عن أبي هلال، عن قتادة، قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: "سلوني

":

فقال المعلّق الجاني (1/ 125): "أبو هلال هو الراسبي، وفيه ضعف".

قلت: هذا لا ينافي كون حديثه حسنًا، كما قلت في راوي الذي قبله، وقال الحافظ فيه أيضًا:"صدوق فيه لِين"، وأورده الذهبي في "الرواة المتكلَّم فيهم بما لايوجب الرَّد"(166/ 297).

‌26

- ثم ذكر ابن القيم عن أحمد -أيضًا - "عن أبي السَّلِيل، قال: كان داود عليه السلام ينظر أغمصَ خِلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم

":

قال (الهدَّام) المتنطِّع (1/ 126): "في إسناده ضعف لاختلاط الجُرَيْري"!

قلت: وهذا أيضًا لا ينافي الحُسْنَ، وبخاصة في (الإسرائيليات) التي أُمرنا أن لا نصدّق بها ولا نكذّبها -ولو صحَّ إسنادها إلى راويها من السلف -، وبخاصة أن الجُريري ثقة احتج به الشيخان، ولم يفحُش اختلاطه -كما قال ابن حبان-، واحتجّ به أيضًا في "صحيحه"، واحتجّ به مسلم في روايته عن أبي السَّليل -أيضًا- بسنده إلى النبي -صلي الله عليه وسلم-؛ فأيُّ أحمقَ أرعنَ مُتنَطِّعٍ هذا الذي يُضَعِّفه في روايتهِ إسرائيليةً من الإسرائيليات؟ !

‌27

- ثم قال ابن القيِّم: "وذَكَر عن عمران بن موسى القصير: قال موسى عليه السلام: يا رب! أين أبغيك؟

":

ص: 93

قال (الهدَّام): "

وفيه سَيَّار بن حاتم، وهو متهم بالكذب".

قلت: وهذا كذبٌ وإفكٌ مبينٌ؛ لم يتّهمه أحدٌ بالكذب، بل سُئل القواريري -من قِبَلِ أبي داود -: يُتهم بالكذب؟ قال: لا.

نعم؛ الرجل فيه كلام من قِبَل غفلته، وأسوأُ ما يمكن أن يقال فيه: إِنَّه ضعيف، والراجح أنَّه كمن قبله: -وسط -، وقد صحّح له ابن خزيمة حديثًا في الدّعاء للمسافر، وحسَّنه التِّرمذي، والحافظ، وهو مما جنى عليه (الهدَّام)، فأورده في "ضعيفته"؛ ومع ذلك؛ فإنّه مع حنايته لم يزِد فيه على قوله (522):

"وهو منكر الحديث، كما قال العقيلي وغيره، وضعَّفه ابن المديني".

على أنّ في هذا القول كذبًا أيضًا؛ ولكنّه مبطَّن؛ فإنّ أحدًا لم يقل فيه: "منكر الحديث"؛ ونصُّ ما جاء في "تهذيب التهذيب" - بعدما نقله عن ابن حِبّان من التوثيق-:

"وقال أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير، وقال العُقيلي: أحاديثه مناكير، ضعّفه ابن المديني، وقال الأزدي: عنده مناكير".

فقول أبي أحمد والأزدي ليس بمثابة قول العُقيلي: "أحاديثه مناكير"، فإنَّه أخفُّ جرحًا من هذا، كما أنّ ما نسبه (الهدَّام) إلى العُقيلي غيرُ هذا وذاك! فإنَّه -كما قال ابن دقيق العيد-:"وصفٌ في الراوي يستحق به الترك لحديثه، وليس كذلك قولهم: روى مناكير"، - كما في "فتح المغيث"(1/ 347) للسخاوي (1) -.

قلت: فقول العقيلي: "أحاديثه مناكير"، ليس كمثلِ ما نسبه إليه

(1) قارن بكتابي "آداب الزفاف"(64 - 68).

ص: 94

(الهدَّام)، فلا أدري أفعل ذلك جهلًا أم عمدًا؟ ! وإن كان ذلك كله فيه متحقّقاً!

ثم إن قوله في الإسناد: (

موسى القصير) دليلٌ آخرُ من الأدلة الكثيرة على عدم قيامه بواجب (التحقيق) الذي ادعاه! والصواب: (

مسلم القصير).

‌28

- ثم ذكر من رواية أحمد أيضًا: حدّثنا سحيار: حدّثنا جعفر: حدّتنا الجُرَيري، قال:

بلغني أنَّ رجلًا من بني إسرائيل كانت له إلى الله حاجةٌ

إلخ.

قال (الهدَّام)(1/ 128): "إسناده ضعيف، فإن سيار (كذا) هو ابن حاتم، وهو متهم بالكذب".

قلت: قد عرفتَ من الرد على التخريج الذي قبله أنّ (سيارًا) صدوق، وأنَّ (الهدَّام) افترى عليه بما نسب إليه من التهمة، غير أنَّه هنا كشف عن جهلٍ جديد بهذا العلم، فإنَّ اقتصاره على تضعيف الإسناد لا يلتئم مع التهمة، فالصواب في هذه الحالة أن يقال:"إسناده ضعيفٌ جدًا"، لكن التهمة غير صحيحة، بل ولا القول بضعفه على إطلاقه، بل يقال: فيه ضعف، وهو لا ينافي أنَّه حسن الحديث -كما تقدم مرارًا-، لكن بين (الجريري) وبين (بني إسرائيل) مفاوز! والله أعلم.

‌29

- قال ابنُ القَيِّم: "رواه التِّرمذي -وصحّحه -عن أبي هريرة- رضي الله عنه، أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! علِّمني شيئًا أقوله إذا أصبحتُ وأمسيتُ، قال: "قل: اللهم عالم الغيب والشهادة

أعوذ بك من شَرِّ نفسي، وشرِّ الشيطان وشركه، وأن أَقترف على نفسي سوءًا

" إلخ:

قلت: لم يرض (الهدَّام) -كعادته - بتصحيح الترمذي -، ولا اعتبر بإقرار

ص: 95

ابن القيم إياه، فقد صدّر تعليقه عليه بالشك في حسنه! فقال (1/ 130): "حديث حسن -إن شاء الله تعالى-، أخرجه

"!

ثم سوّد أربعة أسطر في تسمية الحفاظ الذين أخرجوه من طريقين عن يعلى بن عطاء، عن عمرو بن عاصم الثقفي، عن أبي هريرة!

وكتم -كعادته- سببَ رفضهِ لتصحيح التِّرمذي وابن القيم، ومعهما تصحيحُ ابن حبّان والحاكم والذهبي، فضلًا عمِن لم يذكرهم كالنووي والعسقلاني وغيرهم، ممن لا مجال لذكرهم، هذا -أوّلًا-.

أمَّا ثانيًا: فإنّه لم يبين سبب شكِّه في حُسنهِ، مع أنَّ هذا مهم جدًا ليقدم للقراء علمًا جديدًا (لم يستطعه الأوائلُ! )، ولكنه يتعمّد ذلك؛ لأنَّه لو فعل انفضح، وتبيَّن للناس أنَّه يتكلّم بغير علم، بل بهوى، كما تقدم بيانه مبسوطًا في المقدمة، رقم الفقرة (2).

ويغلب على ظني أنَّه يشير بذكره الطرفَ الأوّلَ من الإسناد إلى أنَّه يحطُّ على (عمرو بن عاصم الثقفي)، لأنَّ راوِيَهُ (يعلى بن عطاء) ثقة اتفاقًا، واحتج به مسلم، وأمّا شيخه (عمرو بن عاصم) فلم يوثِّقه غيرُ الإمام أحمد وابن حبان والحافظ، ولم يرو عنه غير ثقتين - (يعلى) أحدهما-، فأظن أنَّه يرفض هذا التوثيق اعتداداً منه بأوهام وخيالات لا ضابطَ لها ولا قواعد؛ إلاّ (على كيفه! )؛ وقد يختلق فيه عِلَّةً، فيقول مثلًا: لا يُعْرف له سماع من أبي هريرة -ونحوه مما وقع له في بعض الأحاديث الصحيحة-، فانظر -مثلًا- "ضعيفته"(ص 535 - 536).

ثم إِنَّ (الهدَّام) انتقد المؤلّف في ضمّه قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن أقترف

" إلخ .. إلى حديث أبي هريرة، وذكر أنَّه عند التِّرمذي (3529) من حديث عبد الله ابن عمرو.

ص: 96

فأقول: هذا انتقادٌ في محله، وإن كان على خلاف عادته من إهماله التحقيق، ولا أستبعد أن يكون استفاده من تعليقي على "الكلم الطيب" لابن تيمية (ص 33/ الحديث 22)؛ فإنَّه جعل هذه الضميمة من حديث أبي هريرة، وإنْ فَصَلَ بينه وبينها بقول:"وفي رواية"، ولكنَّه ختم ذلك بقولِه:"قال التِّرمذي: حديث حسن صحيح"؛ فأوهم أنّها من حديث أبي هريرة أيضًا! فنبّهت على هذا في التعليق المشار إليه، فاستفاده (الهدّام)، ولكنْ (على الصمت؛ لا حمدًا ولا شُكورًا! ).

ويظهر أنَّ الإمامَ أبن القيِّم لم يتنبّه لخطإ شيخه هذا، واستجاز -بناءً كليه - أن يحذف قوله:"وفي رواية" هنا، وفي "الوابل الصيب" - أيضًا -، ولم يتعرَّض الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله وغَفَرَ له- لبيان ذلك في التعليق عليه؛ كما هي عادتُه إجلالًا للشيخ؛ متناسيًا أن الحق والنصح لا يُنَافيانِ الإجلالَ، بل هما أحقُّ منه!

والمقصود أنَّ (الهدَّام) انشغل بنقد ابن القيم عما هو أهمُّ منه من التحقيق، وهو بيان مرتبة إسناد حديث ابن عمرو هذا، فيؤخذ عليه أنَّه كتم -كعادته- تصريح التِّرمذي بتحسينه بقوله:"حديث حسن غريب"؛ كما كتم -أو على الأقلّ: جَهِلَ -تقوية الحافظ ابن حجر إياه في "نتائج الأذكار"(2/ 345 - 346)، والسببُ في ذلك يعود إلى أنَّ بيان ذلك يعود إلى تقوية الحديث ورفعه من مرتبة الحُسْن التي شك -بل شَكَّكَ- فيها، إلى مرتبة الصحة التي لا ريب بها! وذلك لأنَّه من رواية إسماعيل بن عياش، عن محمد ابن زياد، عن أبي راشد الحُبراني، عن ابن عمرو

به.

وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله كلهم ثقات، و (الهدَّام) يعلم ذلك (! )، فإِنَّ إسماعيل بن عياش له الكعب المعلَّى في الحفظ، حتى قال يزيد بن هارون:

ص: 97

"ما رأيت أحفظ من إسماعيل بن عياش، وما أدري ما سفيان الثوري؟ ! ".

وإِنَّما تكلَّم فيه بعضُهم في روايته عن غير الشاميين، وأمَّا روايته عنهم فهي صحيحةٌ عند الحُفَّاظ النقاد من المتقدمين والمتأخرين، مثل الإمام أحمد، وابن معين، وابن المديني، وعمرو بن علي، ويعقوب بن سفيان، والبخاري، وأبي زرعة، وابن عدي، والعقيلي -وغيرهم -، بل قال فيه الحافظ (دُحَيم) الشامي -وهو من أعرف الناس به-:

"هو في الشاميين غاية".

ولهذا قال الذهبي في "السير"(8/ 278):

"يحفظ حديث أهل بلده، ويكاد يُتقنه -إن شاء الله -تعالى-".

وقال الحافظ في "التقريب" - ملخّصًا أقوال الأئمة المذكورة في "التهذيب" -:

"صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّط في غيرهم".

تلك أقوال الأئمة الحفاظ في إسماعيل بن عياش، وأمّا مجتهد آخر الزمان (! ) فقد أعرض عنها كلِّها، وضعّف تضعيفًا مطلقًا؛ وعليه ضعّف حديثًا له -آخر- من روايته عن بعض الشاميين، في تعليقه على "رياضه"(122/ 207)، فقال:

"وهذا الحديث تفرد به إسماعيل بن عياش

وهو ضعيف في روايته عامة، أعن الشاميين أم غيرهم"!

فقولوا -أيها القراء الكرام! -ما شئتم-بعد هذا- في هذا (الهدَّام)، الذي لا يرعوي -لجهله- عن مخالفة أقوال الأئمة العِظام، وعن تضعيف أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

ص: 98

والخلاصة؛ فهذا الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وحديث ابن عمرو، يشكِّك (الهَدّام) في تحسينه (خبطَ عشواء)، مع أن له طريقًا ثالثًا من حديث أبي مالك الأشعري، وقد خرَّجتُها ثلاثتَها في المجلد السادس من "الصحيحة" برقم (2753 و 2763)؛ وحديث ابن عياش الآخر مخرَّج في المجلد الأول منه برقم (173).

‌30

- "وفي"مسند الإمام أحمد" من حديث سَبْرَةَ بن أبي الفاكِهِ، أنَّه سمع النبي -صلي الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه

"":

قلت: إسناده قوي متصل، وقد صحّحه جمعٌ، منهم ابن حبان، والمنذري (2/ 273)، والحافظ العراقي، والعسقلاني، واحتجَّ به ابن كثير (2/ 202) وغيره، وهو مخرَّج في "الصحيحة"(2979).

وخالفهم (الهدَّام) كعادته، واختلق له علة من عنده، فقال (1/ 134):

"إسناده ضعيف، فإِنَّ سالمًا لم يرو عن سبرة غير هذا الحديث، ولم يصرِّح بالسماع منه، وهو معروف بالإرسال عن جمعٍ من الصحابة

".

قلت. لكن لم يقل أحد بأنَّ سالمًا -وهو ابن أبي الجعد الثقة - أرسل عن (سَبْرة)، ولم يُرْمَ بتدليس؛ فعنعنته محمولةٌ على الاتصال عند جماهير العلماء، كما هو مشروحٌ في كتب المصطلح، ومنهم أبو محمد بن حزم المعروف بتشدده في مثل هذا المجال، فقد قال:

"اعلم أن العدل إذا روى عمن أدركه من العدول، فهو على اللقاء والسماع؛ سواء قال: "أخبرنا"، أو: "حدّثنا"، أو: "عن فلان"، أو: "قال فلان"؛ فكل ذلك محمولٌ على السماع منه".

وهذا الصحيحُ الذي جرى عليه العملُ.

ص: 99

وقال الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول: إنَّه متصل محمول على السماع بشرط أن لا يكون المعنعِن مدلّسًا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضًا -كما صرح به النووي وغيره، وسبق بيانه في المقدمة رقم (5) -؛ وحقّقت -هناك- أنَّ شرط اللقاء إنَّما هو شرطُ كمالٍ وليس شرطَ صحةٍ، وأن (الهدَّام) لم يَرْضَ -عمليًّا- حتى ولا بشرط اللقاء، وأنَّه أخذ يعلِّل الأحاديث الصحيحة بالإرسال والانقطاع لعدم تصريح الراوي بالسماع! كما فعل في هذا الحديث، مع مخالفته لتصحيح الحفاظ الذين سبق ذكرُهُم، هذا التصحيحُ الذي هو من مئات التصحيحات التي تؤكِّد ما ذكره النووي من جَرَيان العمل على الاكتفاء بالمعاصرة، فتنبَّه.

‌31

- "وفي "المسند" و"الترمذي" من حديث أبي سعيد الخُدْري، قال: كان النبي -صلي الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من همزه ونفخه ونفثه"":

ضعّفه (الهدَّام) من جيمع طرقه، وقد سرق -على عادته - تخريجَها من كتابي "إرواء الغليل"، دون أدنى إشارة إلَاّ للنقد بما لا طائلَ تحته، يأخذ منه ما قبل من العِلَلِ فيها -أو في بعضها -، دون أن يذكر ما فيه من الأقوالِ المصحَّحة لبعضها، وما يقوِّيه من الشواهد!

لقد خرَّجته -هناك - في أكثر من عشر صفحات (2/ 48 - 59) بتتبُّعٍ لطرقهِ، وتوسُّعٍ لا تراه في غيره -إن شاء الله تعالى-، وعن جمع من الصحابة.

ويرى القراء أن في الحديث سُنَّتين:

إحداهما: الاستفتاح بدعاء: "سبحانك اللهم وبحمدك

"، وذلك صريحٌ

في رواية التِّرمذي وغيره.

والآخر الاستعاذة.

ص: 100

فختم (الهدَّام) تخريجه المشار إليه بقوله (1/ 136):

"قلت: وأحسن هذه الأحاديث حديث أبي سعيد، وأرى (! ) أن يُتَمهَّل في تحسين هذا الحديث أو تصحيحه بهذه الشواهد"!

ثم قال: "قلت: والاستعاذة قبل القراءة في الصلاة لم يصحَّ فيه حديث أصلًا

فحديث أبي سعيد الخدري سبق ضعفه، وحديث عائشة سبق نكارته"! !

أقولُ: لا أريد -الآن- الرَّدَّ عليه، والكلامَ على طرق الحديث، وما يصحُّ منها وما لا يصحُّ

فذلك مبسوطٌ في "الإرواء" - كما أشرت آنفًا -، وإنَّما أريد نصح القراء بالكشف عن شيء من خيانته للعلم، وكتمانه الحقائق تدليساً وتلبيساً على القراء؛ فأقول:

أوَّلًا: كَتَمَ أثر عمر الصحيحَ إسنادُهُ عنه، أنَّه كان إذا كبر للصلاة، كبّر، ثم قال: "سبحانك اللهم وبحمدك

" إلخ

يُسمع ذلك من يليه ويُعَلِّمهم، ثم يتعوَّذ، ولقد رآه (الهدَّام) مخرجًا هناك من رواية جمع من الحفاظ -كمسلم وغيره-، وصرّح بعضهم بصحته- كالدّارقطني وغيره-؛ ولكنّه كتمه؛ لأنَّه يعلم أنَّه يُبطل قوليه المذكورين آنفًا، ويجعل تخريجه في صفحتين هباءً منثورًا! لأنَّ العلم يشهد أنَّ عمر ما كان يستفتح بهذا الاستفتاح ويجهر به لِيُعَلِّم الناس الذين يصلّون خلفه -وهم يُقِرُّونه على ذلك ولا ينكرونه- إلاّ وهو قد تلقَّاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي مثل هذا يظهر أهميّة قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرّاشدين من بعدي"، وقوله:"اقتدوا باللَّذين بعدي أبي بكر وعمر"! ولكنَّ (الهدَّام) -تمهيدًا منه لعدم الاحتجاج بهذا الأثر العُمَري ونحوه- قد ضعَّفهما

ص: 101

-أيضًا- كما تقدم بيانه برقم (2) -؛ فما أجهلَه، وأضرَّه على السنة والأمّة!

وإنَّ ممَّن صحح هذا الأثر الإمامَ ابن القَيِّم رحمه الله في "زاد المعاد"، وذكر أنَّ الإمام أحمد اختاره على أدعية الاستفتاح الأخرى -لوجوهٍ ذكرها-؛ منها: جهرُ عمر به يعلِّمه الناس.

ثانيًا: كتم قول العُقيلي عَقِبَ حديث أبي سعيد:

"وقد رُوي من غير وجه بأسانيد جياد".

كتمه، وقد رآه في تخريجي (2/ 52)؛ والسبب واضحٌ لا يحتاج إلى بيان!

ثالثًا: كتم حديث أنس بن مالك المخرَّج هناك من طريقين عن حُميد عنه، وصحَّحت أحدهما، فكتم كل ذلك تدليسًا وتضليلًا، ولتأكيد صحّته، فقد أفردته بالتخريج في "الصحيحة"(2996)، وذكرت فيه متابعًا لحميد؛ فازداد الحديث صحة على صحة، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

‌32

- حديث: "لِجَوْفِه أزيزٌ كأزيز المِرْجَل من البكاء":

قلت: صحَّحه المقلِّد -مصيبًا- من حديث عبد اللَّه بن الشِّخِّير، برواية أبي داود والنسائي، وهذا التقليد منه خير -بلا شكّ- من اجتهاداته التي يضعّف فيها الأحاديث الصحيحة! وإنَّما قلت هذا، لأنَّ في إسناده (حمّاد بن سلمة)، وهو سيِّئ الرّأي فيه؛ وبخاصة إذا وجده في إسناد حديث لا يُعجبه! ولا يطابق مزاجه أو عقيدته! أعلّه به -كما فعل بالحديث المتقدم رقم (6) - مع تخريج مسلم إياه، وتَتَابُعِ أئمة السنَّة على الاحتجاج به! وهو لا يرى أيَّ حرجٍ في رَدِّ أيِّ حديثٍ صحَّحه العلماء عنده فيه أدنى شبهة -ولو كان من المقلِّدة الجهلة-؛ فقد رأيت له -أخيرًا- تعليقًا كشف فيه عن القاعدة التي ينطلق منها لرد السنة وتعطيلها، فذكر فيه أن قوله -تعالى- {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ

ص: 102

يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا تتنزّل على من ردَّ حديثًا عنده فيه شبهةٌ على عدم صحَّته! ولم يقيِّد ذلك بأهل العلم؛ بل أطلقه فشمل به الجهلة من أمثاله فَمَن دونه! فقال:

"لا تتنزّل الآية إلّا على من ردَّ آيةً محكمة أو حديثًا صحيحًا نُسَلِّم (! ) بصحته، ولا تدخل الآية فيمن اعتقد بحديثٍ ما ضعفًا وصحَّحه آخرون، أو من قَلَّد ولم يدرك عقلُه صحة ما قَلَّد أو ضعفَه"! انظر تعليقه على "مجموعة الرسائل"(1)(ص 126).

(1) قلت: هذه المجموعة تأليف الشيخ محمد نسيب الرفاعي الحلبي رحمه الله، جرى فيها على المنهج السلفي، لكن أفسدها (الهدَّام) بتعليقه عليها.

ومن المؤسف أن يكون الطابعُ لها صاحبَ المكتب الإسلامي، الذي كانت له اليد الطولى في نشر كتب السنة وعقيدة السلف الصالح، فإِذا به في آخر حياته يتعاون على هدمها مع خليفة (السقاف) في ذلك، وإلّا كيف طبع لهذا (الهدَّام) تعليقاته عليها، وفيها نقضٌ لتلك الجهود بصورة واضحة فاضحة، وهاك البيان بأكثر ما يمكن مِن الإيجاز:

أولًا: لقد ضعّف كثيرًا -إن لم أقل: أكثر- أحاديث "الرسائل"؛ كما فعل في كثيرٍ من تساويدهِ وتعليقاتهِ-، وهي:

1 -

"يد اللَّه على الجماعة".

2 -

"عليكم بسنّتي. . . " -وتقدم -هنا- برقم (2) -.

3 -

"ما تركت شيئًا يقربّكم إلى اللَّه إلّا وأمرتكم به. . . ".

4 -

"اللهمَّ رَبّ جبرائيل. . . " من أدعية الاستفتاح في "صحيح مسلم"!

5 -

"أوّل ما خلق اللَّه القلم. . . " خرّجه عن أربعة من الصحابة، من طرق متعدِّدة أكثرها سالمة من الضعف الشديد!

6 -

"مسح ظهر آدم. . . ".

7 -

"كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد. . . ".

8 -

"يا جابر ألا أبشّرك. . . ".

9 -

"افتدوا باللذين بعدي. . . " -وتقدم -هنا- تحت الحديث (2) -.

10 -

"من قرأ القرآن في أقل من ثلاث. . . ". =

ص: 103

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 11 - "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدْلُكُ بخنصره. . . ".

12 -

"ارجع فأحسن وضوءك. . . ".

13 -

"رُفع القلم عن النائم. . . ".

14 -

"وُضع عن أمّتي الخطأ. . . ".

15 -

"من ترك صلاة متعمدًا. . . ".

16 -

"حُبسنا يوم الخندق عن صلاة الظهر. . . ".

17 -

"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك. . . ".

18 -

"لا صلاة لمن لا يقيم صلبه. . . ".

19 -

"صلاة التسابيح".

ثانيًا: لم يصحِّح حديث الفرقة الناجية، وأحال في تخريجه على كتابيّ "الصحيحة"، و"السنة" (ص 33)! وكذلك لم يصحِّح حديث:"من سُئل عن علم فكتمه. . . "؛ والظاهر أنَّ ذلك لأنَّ فيه (حماد بن سلمة)؛ وهو يغمز منه في غير ما موضع، وبخاصة إذا لم يجد سبيلًا إلى الطعن في الحديث الصحيح إلّا الحطَّ عليه، كما فعل في حديثه -المتقدم برقم (6) - في نظر أهل الجنّة إلى ربّهم تبارك وتعالى جعلني اللَّه منهم-.

ثالثًا: قال (ص 93) في همِّ الرجل بتقبيل يده صلى الله عليه وسلم، وقوله:"هذه فعلة الأعاجم بملوكها": "لم أجده، ولعله اختلط عليه بحديث: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم. . . "، وهو ضعيف، انظر تفصيله في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (346).

قلت: وهذا مما يدلُّ على حداثته وجهله بهذا العلم الشريف، وأنَّه لا عِناية له، ولا حفظ، ولا معرفة، وإنَّما هو عالةٌ في التخريج على غيره غالبًا، أو على الفهارس (أ)! !

ولمّا كان الشيخ نسيب رحمه الله أورده بالمعنى، لم يساعده فهرس "السلسلة الضعيفة" في الكشف عنه، وهو فيها برقم (89)، - محكومًا عليه بالوضع، معزوًّا لجمع من الحفاظ! وقد خفي وضعه على الشيخ رحمه الله، كما خفي أصله على (الهدَّام)! ! ومع هذا الجهل يتعالم ويقول فيه:"ولعله اختلط عليه. . . "!

رابعًا: وليس هذا فقط، بل يفتري عليه في وصفه النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأنَّه كان أفصح الناطقين بالضاد، فيقول:(ص 58): "أخذه من حديث، أنا أفصح من نطق بالضاد"، ولا أصل له"! فهذا كذبٌ على الشيخ رحمه الله، فالصفة المذكورة معروفة فيه صلى الله عليه وسلم إجماعًا؛ ما يحتاج مثبتُها إلى مثل هذا الحديث، ولكنَّه التعالي، والتشبُّع بما لم يعطَ. =

_________

(أ) سيأتي بعض الأمثلة الأخرى، فانظر الحديث (56).

ص: 104

قلتُ: فالأمر عنده فوضى؛ لا قيود ولا شروط! وأمَّا النصوصُ الواردةُ في الكتاب والسنة، الآمرةُ لمن لا يعلم أن يسأل أهلَ العلم؛ فهي عنده مقيدةٌ بالقناعة الشخصية! فلا مانع عنده أن يردَّ الجاهلُ ما صَحَّحوه! أو يصحِّح ما ضعّفوه! فهو يلخّص بذلك مذهب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وغفر له-؛ الذي كشف عنه في كتابه -الأخير- "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"! فهذا (الهدَّام) يحذو حَذْوَه، ويتبع ظِلَّهُ!

وقد بيَّنت أمثلةً من مذهب الشيخ تمثِّل انحرافه عن السنة، ومخالفته لسبيل المؤمنين في ردّي عليه في مقدمة كتابي "الرَّد على ابن حزم في إباحته الملاهي" -وفيما بعدها-، وقد شمل الرَّد -في بعض جوانبه- ظُلْمَ هذا

= خامسًا: لقد كشف أيضًا عن انحرافه عن عقيدة السلف، بتضعيفه كلمة مالك المشهورة:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول. . . "؛ فسوَّد صفحتين بالحرف الصغير، متتبِّعًا طرقه الكثيرة عن مالك -مضعفًا إياها كلها-، مصرحًا بجهله لحال بعض رواتها -وهو في ذلك مخطئٌ، بل خاطئٌ-، متجاهلًا قول الإمام النقَّاد الحافظ الذهبي:"هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبةً"؛ وكذلك تجاهل تجويد الحافظ لأحد طرف عنه، بل إنَّه تطاول عليهما، فردَّ ذلك عليهما مع تصريحه بأنَّه لم يعرف أحد رواته؛ فهو يردُّ عليهم بجهله! كما تجاهل كثرة الطرق بذلك عن مالك، كما تجاهل صحة ذلك عن ربيعة شيخ مالك، وتقوية شيخ الإسلام ابن تيميّة وابن قيم الجوزية! !

وكلُّ هذا -منه-: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، وختم ذلك بقوله:"وعلى أيٍّ؛ فالقضية تبقى رأيًا من عالم، غير ملزم للناس، ولا قاطع للجدل والفهم، بل لكلٍّ متسع فيما يرى. . .؛ واللَّه أعلم".

فتأمل -أيها القارئ! - كيف يكابر ويجحد الحقائق؟ فيزعم أنَّه رأي مالك، وهو قول أهل السنَّة قاطبةً - كما قال الإمام الذهبي -وهو أعرف الناس بأقوالهم-، وقد سردها رحمه الله في كتابه "العلو مختصره" -طبع المكتب الإسلامي! ! -.

فالسؤال الذي يطرح نفسه -كما يُقال-: ما حال من نشر ذاك الهدى هناك؛ تم نشر هذا الضلال هنا؟ ! هل هي النكسة عن السلفية، أم أنَّ الغاية تبرر الوسيلة؟ ! أحلاهما مرٌّ!

ص: 105

(الهدّام)، والكتاب مطبوعٌ -بحمد اللَّه ومِنّته-.

وأمّا حديث الأزيز؛ فهو مخرج في "صحيح أبي داود"(839).

‌33

- حديث البراء بن عازب: لقينا المشركين يومئذ [يعني: يومَ أُحُد]، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا من الرّماة، وأمّر عليهم عبد اللَّه، وقال:"لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرْنا عليهم. . . "، الحديث:

قلت: ساقه (الهدَّام)(1/ 144)، وقد أشار إليه ابن القيم، فلم يزد (الهدَّام) في تخريجه إيّاه على قوله:"أخرجه البخاري"(4043) ".

قلت: وهذا التخريج المُبْتَسَرُ؛ من الأدلة الكثيرة على أنّ (الهدَّام) لا يهمّه التحقيق الذي يدّعيه، إلّا للهدم فقط، وليس للتصحيح والبناء! ! وإلّا: فما باله اقتصر على هذا العزو، وهو بحاجة إلى دعمٍ بِغَيره؛ لأنّ الحديث في الموضع الذي أشار إليه من "البخاري" هو من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء؟ !

وهو يعلم أن في هذا الإسناد علّتين: إسرائيل، وجدَّه أبا إسحاق السبيعي، وأن هذا مجروح بالاختلاط والتدليس، وقد ضعّف به حديث خطبة الحاجة كما سبق رقم (19)، وحفيده لا يُعرف بسماعه منه قبل الاختلاط، ولذلك كان لا بدّ من إزالة عِلَّتَي التدليس والاختلاط؛ خشية أن يتشبّث بهما غيرُه من المحدَثين والهَدَّامين -بجهلهم أو بسوء نيّتهم-!

فأقول: لقد قصر (الهدَّام) -جهلًا أو تجاهلًا! - تقصيرًا فاحشًا في العزو المذكور؛ لِمَا يأتي:

أوّلًا: أنّ البخاريَّ قد أخرجه في مكان آخرَ (3038) بإسناد قوي؛ من طريق زهير: حدّثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء. . .

ص: 106

فهذه متابعةٌ قويةٌ من زهير -وهو ابن معاوية، أبو خيثمة الكوفي- صرّح فيها بسماع أبي إسحاق من البراء، أزالت علّةَ التدليس؛ والحمد للَّه.

ثانيًا: لو توسَّع قليلًا في التخريج، وأطال نفَسَه فيه -ولا كإطالته في التضعيف! ! - لوجد تصريح إسرائيل نفْسِه بتحديث جده؛ في رواية أبي عَوانة في "صحيحه" عنه (4/ 306).

ثالثًا: بقيت عِلّةُ الاختلاط، وعهدي بـ (الهدَّام) أنّه كثيرًا ما يُضعِّف الأحاديثَ الصحيحةَ بمثل هذه العلّة! ! وسيأتي على ذلك بعضُ الأمثلة.

ولذلك؛ فإنّي أخشى (! ) أن يكون كتمها لغايةٍ في نفْسه؛ قد يُبديها عند الحاجة! ! وإلّا لدفعها -كما تقتضيه الأمانةُ العلميةُ- بطريقةٍ أو بأُخرى! !

وأنا -شخصيًّا- كنت دفعتها بشاهدٍ قويٍّ من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما؛ كنت خرَّجته في "تخريج فقه السيرة"(250 و 251/ القلم)، ولذلك أوردته في "صحيح أبي داود"(2390)، وقد أخرجه مسلسلًا من طريق زهير بالتحديث، وخرّجت له -فيه- شاهدًا آخرَ من حديث عبد اللَّه ابن مسعود.

وأمّا قول الحافظ في "مقدّمة فتح الباري" في ترجمة أبي أسحاق السَّبِيعي (431):

"ولم أرَ في "البخاري" من الرواية عنه إلّا عن القدماء من أصحابه؛ كالثوريّ وشعبةَ، لا عَنِ المتأخرين؛ كابن عيينة وغيرِه".

فهذا من عجائبه رحمه الله! فإنّه الحافظ بحقّ-؛ فهذا الحديث -برواية إسرائيلَ وزهير- يردّه، وهناك أحاديث أُخرى لهما؛ قد كنت نبهّت على ذلك في بعض المواضع، فجلَّ اللَّه؛ {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} .

ص: 107

(تنبيه): لقدِ اكتفى المُعلِّق على "الإحسان"(11/ 40 - 41) بتخريج الحديث من رواية البخاريّ وغيره؛ دون أن يقوّيَه بالتّحديث والشواهد! !

‌34

- قال ابن القيِّم: "وفي الحديث المشهور: "إنّ لِلمَلَك بقلب ابن آدم لَمَّةً. . . "؛ الحديث، وفيه: ثمّ قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ. . .} الآية":

خرّجه (الهدَّام) من رواية التِّرمذي وابن حبّان من طريق عطاء بن السّائب -بسنده-، عن عبد اللَّه بن مسعود. . . -مرفوعًا-، وكتمَ تحسينَ التِّرمذي إيّاه! ! ثمّ أعلّه باختلاط عطاء، وبقول أبي حاتم:"أن الصحيح وقفُه على ابن مسعود، والناس يحدّثون من وجوه عن عبد اللَّه -موقوفًا-؛ ورواه الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن مسعود. . . موقوف".

فأقول: إسناد هذا الموقوف صحيحٌ غايةً، أخرجه الطبريّ في "تفسيره"(3/ 59)، ثم أخرجه من طريق عامر بن عَبْدَةَ، عن ابن مسعود، وهو صحيحٌ -أيضًا-، وهذا يكفي في تصحيح الحديث المرفوع؛ لأنّه لا يقال بمجرّد الرّأي! ! كما هو معروفٌ عند أهل العلم، ولذلك قوّاه العلاّمة أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "تفسير الطّبري"(5/ 572)، فقال:

"فإنّ هذا الحديث ممّا لا يُعلم بالرأي، ولا يدخله القياس، فلا يُعلم إلّا بالوحي من المعصوم صلى الله عليه وسلم، فالرّوايات الموقوفة لفظًا هي مرفوعةٌ حكمًا".

قلت: ولا سيّما وهي في تفسير القرآن؛ الأمر الذي يؤكّد أنّها في حكم الرّفع، وهذا ممّا يجهلُه أو يتجاهله (الهدَّام)! ! واللَّه المستعان.

‌35

- "رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رؤياه الزّناةَ والزّواني عراةً باديةً سوآتهم":

قال (الهدَّام) في تعليقه عليه (1/ 158):

"أخرجه البخاري (1386) من حديث سَمُرة بن جُنْدَب".

ص: 108

فأقول: هذا التخريجُ أقولُ فيه نحو ما تقدَّم في حديث البراء (33) -أو أكثر-؛ فإن في إسناده في الموضع المشار إليه من البخاري (جرير بن حازم)؛ وهو من المضعَّفين عند (الهدَّام)! ولذلك لم تُساعده نفسُه على الجزم بتحسين حديث له، فقال فيه:"أرجو أن يكون حسنًا"! (انظر الحديث الآتي)، فهذا التخريجُ -ونحوه مما سبق، ويأتي- مما يوكِّد ما قلتُه في المقدِّمة؛ أن عزوه الحديث للبخاري أو مسلم لا يعني عنده أنَّه صحيحٌ، فإنه يعزو إليه ويكتم ما في نفسه من الضعف فيه؛ سترًا على نفسه، أو تضليلًا لقرَّائه!

على أنَّ هذا الحديث لم يتفرّد به (جرير بن حازم) الذي قال: حدّثنا أبو رجاء، عن سَمُرة؛ مع كونه ثقة حجّة -كما سيأتي هناك-، فقد تابعه عوف: حدّثنا أبو رجاء: حدّثنا سَمُرة. . . أخرجه البخاري أيضًا (7047)؛ فلِمَ لَمْ يَعْزُهُ إليه تقويةً لرواية جرير؟ ! هل كان ذلك منه مكرًا، أم ذلك هو مبلغُ التحقيقِ عنده؟ أحلاهما مُرّ!

‌36

- "وقد سُئل عبد اللَّه بن مسعود -عن مسألة المفوّضة- شهرًا؟ فقال بعد الشهر أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه. . . ":

قلت: أعلّه (الهدَّام) بقوله (1/ 175): "ورجاله ثقات، غير أنَّ فيه عنعنة قتادة".

قلت: هذا الإعلال عليلٌ كصاحبه! فإنَّ عنعنة قتادة مغتفرةٌ لِقلَّتها بالنسبة لحفظه وكثرة حديثه، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في ترجمته من "مقدمة الفتح" بقوله:"ربّما دَلَّس"؛ وكأنَّه لذلك لم يذكره هو في "التقريب" بتدليس، وكذلك الذهبي في "الكاشف".

ص: 109

ونجد في "الصحيحين" -وغيرهما- أحاديثَ كثيرةً جدًا لقتادة بالعنعنة، حتى ابن حبّان الذي وصفه بالتَّدليس؛ قد أكثر عنه بها، ويحتمل أنَّ ذلك كان منهم لأنَّه كان -كما قال الحاكم- لا يدلِّس إلّا عنِ ثقة، كما نقله العلائي في كتابه القيِّم "جامع التحصيل"(ص 112)؛ هذا -أولًا-.

وأمّا ثانيًا: فقد عقَّب الإمام أحمد -روايةَ قتادةَ هذه- بروايةٍ أخرى (4/ 279 - 280) ليس فيها قتادة؛ وسنده صحيح، وفيه أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه أفتى بما وافق السنة، وهو مخرّج في "الإرواء" من طرق (6/ 357 - 360).

‌37

- "وقال عُمر رضي الله عنه: أيَّها الناس! اتَّهِموا الرأي على الدين، فقد رأيتُني يوم أبي جَنْدَل؛ ولو أستطيع أن أردَّ أمْرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُه":

قال (الهدَّام)(1/ 175): "ذكره السيوطي في "الجامع الكبير" -كما في "الكنز" (11/ 352) - عن شقِيق أبي وائل؛ قال: سمعت سهل بن حُنَيف يقول بصفِّين: أيَّها الناس! اتهموا رأيكم. . . فذكره، ولم ينسبه إلى عمر، وأشار إلى أنَّ ابن أبي شيبة ونعيم بن حَمَّاد في "الفتن" قد أخرجاه"!

قلت: هذا التخريج كسابقه المتقدم برقم (18) -ونحوه (21) -، مما يدلُّ على قلَّة عنايته بكتب السنة ودراستها، فهو يجهل ما فيها من الأحاديث إلَّا بمقدار ما تدلّه عليها الفهارس الموضوعة والمتكاثرة في هذا الزمان، فإنَّ حديث سهل هذا قد أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو مخرّج في الفصل الثامن من "الرد على ابن حزم. . . "؛ فكيف يليق بمن يَدَّعي الاجتهاد (! ) في هذا العلم -حتى يَرُدَّ على الحفّاظ النّقّاد- أن ينزلَ إلى هذا المستوى من التقليد

ص: 110

والجهل، فيقلّد السيوطي في هذا التخريج المخزي؟ ! ثم هو لا يعود إلى كتاب ابن أبي شيبة الذي عزاه إليه ليدرسَ إسناده على الأقل، ويقدّم للقراء درجته من الصّحة! كان ينبغي أن يفعل ذلك لو كان يريد بهم النُّصْحَ والعلمَ؛ ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ! فقديمًا قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه!

والحديث في "مصنف ابن أبي شيبة"(15/ 299/ 19717).

‌38

- "وقد نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن يوطِّن الرجلُ المكانَ للصلاة كما يوطِّن البعير":

أقول: جزم المؤلف بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب، وقد صحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والذهبي، وكنت حسّنته في "الصحيحة"(1168) بشاهدٍ خرَّجته هناك؛ فجاء (الهدَّام) فاختصر التخريج هنا (1/ 178)، أخذ منه ما شاء، وأعرض عن التصحيح والتحسين معًا!

‌39

- "ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أنَّ من زاد عليها فقد أساء وتعَدَّى وظلم".

خرجه (الهدَّام)(1/ 180 - 181) من رواية عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، فقال:

"أميل إلى تضعيفها، ولم يرها من بابة الصحيحِ البخاريُّ ومسلمٌ وابنُ حبّان"!

كذا قال في رواية عَمْروٍ هذه -هنا-! وقال في أخرى له -في حديث آخر، قال فيه التِّرمذي:"حسن غريب"-؛ فعقَّبَ عليه بقوله: "وهو كما قال"! انظر الحديث المتقدم برقم (16).

ص: 111

وهكذا؛ فهو يكيل بكيلين، ويلعب على الحبلين! والحق أنَّه إسناد حسن عند العلماء، وقال الحافظ -في هذا- (1/ 433):"إسناده جيد".

وفي قوله: ". . . ولم يرها من بابة الصحيحِ البخاريُّ و. . . " تضليلٌ مقصودٌ؛ وذلك لأنَّ من الثابت في علم المصطلح أنَّ هناك مرتبة دون (الصحيح) وفوق (الضعيف) وهي مرتبة الحسن، -كما تقدم بيانه غير مرة-، و (الهدَّام) نفسه يطلقه أحيانًا على بعض الأسانيد والأحاديث، ومن ذلك موافقته للترمذي المذكورة.

وأشدّ ما في قوله المتقدم من التضليل: ما يتعلّق بالبخاري، فإِنَّه يُكثر من استعمال هذه المرتبة، وأشاعها التِّرمذي في "سننه"، وكثيرًا ما ينقل عنه تحسينه لبعض الأحاديث؛ كحديث (حَمْنَةَ) -مثلًا-.

وقد رددتُ عليه -مفصلًا-، وبيَّنتُ ما في قوله المذكور من غِشٍّ وكتمان للحقائق في تخريج هذا الحديث في "الصحيحة"(2980)؛ فلا داعي للإطالة.

‌40

- "وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإثم ما حاك في صدرك":

قال (الهدَّام)(1/ 183): "أخرجه مسلم (2553) من حديث النَّوَّاس ابن سمعان".

قلت: وهو حديثٌ صحيحٌ عندنا بلا ريب، وأما عند (الهدَّام) فكان ينبغي عليه أن يشدَّ من عضده، لأنَّه من رواية معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عنه، فإِنَّ معاوية هذا مع احتجاج مسلم به، فإنَّ (الهدَّام) في كثير من الأحيان يطعن فيه، ويضع فيه ضعفًا! موهمًا القراء أنَّ حديثَه ضعيفٌ! فقد قال في حديثه في (المعازف):"له غرائب" -كما سيأتي تحت الحديث (79) -، وقال في حديث آخر له -صحّحه

ص: 112

التِّرمذي (1626) -: "فيه معاوية بن صالح وليس بالمتين"! كذا في "ضعيفته" التي في ذيل "رياضه"(ص 544).

من أجل هذا كان (يجب) على (الهدَّام) أن يُبَيِّنَ هذه العلة في حديث مسلم هذا، ليزداد النّاس معرفةً به وبفضائحه، وأن يذكر ما يقويه -إن كان يرى صحّته- من متابع أو شاهد!

وقد وجدتُ له متابعًا قويًّا؛ فرأيت أن أذكره هنا تأكيدًا لصحة الحديث، وردًّا على المرتابين والمشكِّكين؛ فأقول: أخرجه الدّارمي (2/ 322)، وأحمد (4/ 182) من طريق صفوان بن عمرو: حدثني يحيى بن جابر القاضي، عن النوّاس بن سمعان. . . به.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ لولا أنَّه منقطع بين يحيى والنواس؛ والظاهر أنَّ بينهما عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن النواس، كذلك قال في حديث آخر له -طويل- في خروج الدّجال وقيام الساعة؛ رواه مسلم (6/ 197) وأحمد (4/ 181 - 182) وغيرهما.

وأمّا شواهده؛ فكثيرةٌ، وقد خرَّج الحافظُ ابنُ رجب الكثيرَ الطيِّبَ منها في شرحه على "الأربعين النووية"(ص 181 - 182) تحت هذا الحديث، فلْيراجعها من شاء.

وممن رواه: التِّرمذي (2395) -وصحَّحه-، وابن حبّان (398)، وهو مخرَّج في "التعليق الرغيب"(3/ 256)، وهو مُلْحَقٌ ببعض الأحاديث المخرَّجة في "الصحيحين" -أو في أحدهما-، من التي طعن (الهدَّام) في بعض رواتها، كالحديثين المتقدمين برقم (33 و 35).

ص: 113

‌41

- "وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدِّد اللَّه عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم، فشَدَّد اللَّه عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ":

قلت: جزم ابن القيم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب، وأمَّا (الهدَّام) فأعلّه بـ (سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء)؛ قال (1/ 187):"ولم يوثقه غير ابن حبّان"؛ وعزّاه لأبي داود (4904) فقط!

هذا هو مبلغُ تحقيقهِ وعلمهِ! وهو مما (يساعده) على تضعيف الأحاديث الصحيحة وهدمه! فاعلم -أيها القارئ الكريم! - أنَّ الحديث رواه ابن أبي العمياء، عن سهل بن أبي أُمامة، عن أنس -مرفوعًا-. . . به، وفيه قصة، وابن أبي العمياء هذا مجهول الحال، ولهذا كنت خرَّجت حديثه هذا بتمامه في "الضعيفة"(3468).

وأمّا هذا القدر الذي ذكره ابن القيم فهو صحيحٌ، لأنَّه قد توبع سعيدٌ هذا عليه، وإن كان خولف في إسناده:

فقال أبو شُريح عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني -الثقة-: عن سهل ابن أبي أُمامة بن سهل بن حُنيف، عن أبيه، عن جده -مرفوعًا-. . . به نحوه، إلى قوله:"والديارات"، دون ما بعده.

قلت: فجعله من مسند (سهل بن حُنَيف)، وهذا إسنادٌ صحيحٌ؛ أخرجه البخاري في "التاريخ"، والطبراني في "المعجم الكبير"، و"الأوسط"، والبيهقي وغيرهم، وقد خرّجته في "الصحيحة"(3124)، وتكلّمت فيه على إسناده، ودعّمته فيه بشاهدين مرسلين، إسناد أحدهما صحيح، بما لا يشكّ الواقف على ذلك أنَّ الحديث صحيحٌ بلا ريب.

ص: 114

فماذا يقول القراء فيمن جهل -أو تجاهل- هذه الحقائقَ والطرق والمصادر، واقتصر على طريق ابن أبي العمياء ومصدره الواحد؟ ! فاللهم هداك!

‌42

- "قال صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ"":

ضعفه (الهدَّام)(1/ 191) بعد أن عزَاه لجماعة من أصحاب "السنن" -وغيرهم؛ كابن الجارود، وابن حبان، والحاكم من أصحاب "الصِّحاح"- من حديث عائشة رضي الله عنها؛ وقال بجهلٍ بالغ:"وفي حماد بن أبي سليمان ضعفٌ، وله شواهد عن علي، وابن عباس، وأبي هريرة وغيرهم، وفي أسانيدها كلها كلام، ويشبه أن يكون موقوفًا (1) "! !

كذا قال (الْمُتَمَجهد) المتعالم! غيرَ مُبالٍ بمخالفته لجميع العلماء من المحدِّثين والمفسِّرين والأُصوليين والفقهاء، الذين احتجوا به تقعيدًا وتفريعًا، ومنهم أبو الوفاء ابن عَقِيل الذي احتجَّ به -كما ذكر ابن القيم- على الموسوس الذي انغمس في الماء مرارًا كثيرًا، ثم سأل: هل صحَّ غُسلي أم لا؟ فأجابه ابن عَقِيل بقوله. "قد سقطت عنك الصلاة"! . . . واحتج عليه بالحديث قائلًا: "من ينغمس في الماء مرارًا ويشك: هل أصابه الماء أم لا؟ فهو مجنون! ".

لقد تعامى (الهدَّام) عن هذا، كما تعامى عن تصحيح أصحاب "الصِّحاح" المذكورين - وغيرهم؛ كابن خزيمة، وعبد الحق الإشبيلي، وابن دقيق العيد، والذهبي، والعسقلاني -وغيرهم-، كما خالف الجمهور الَّذين وثَّقوا الإمام الفقيه حماد بن أبي سليمان؛ لكلامٍ يسيرٍ فيه من بعضهم.

وقال الحافظ النّقّاد الذهبي: "ثقة إمام مجتهد، كريم جواد".

واحتج به مسلم.

(1) وكذا قال في تعليقه على "رسائل الشيخ نسيب رحمه الله"(ص 176)!

ص: 115

وقول (الهدَّام): "وفي أسانيدها كلها كلام": كذبٌ مكشوفٌ؛ فإنَّ حديث عَلِيٍّ -الذي تهرَّب من تخريجه- له وحده أربعةُ طرقٍ أَحَدُها صحيح، كما تراه محقَّقًا في "الإرواء"(2/ 4 - 7)، وصحّحه الحاكم، والذهبي، وكذا ابن خزيمة، وعبد الحق، وحسّن التِّرمذي أحد أسانيده الأخرى.

وقوله: "ويُشبه أن يكون موقوفًا"!

فأقول: على مَن؛ أيُّها الْـ. . .؟ ! أعلى عائشة؟ ! أم علي؟ ! أم ابن عباس؟ ! أم أبي هريرة؟ ! وغيرهم ممن طَوَيْتَ ذكرَهم -مثل ثوبان، وشداد-؟ !

فَمَنْ يقول في مثل هذا الحديث المرويِّ عن هؤلاء الصحابة قولَك هذا؛ فإنَّ أحسن أحواله أن يكون كالذي قال فيه ابنُ عَقِيل ما تقدّم!

وأخيرًا، فهذا الحديث من الأمثلة الكثيرة التي تدل على أنّ (الهدَّام) لا يتبنّى ما عليه العلماء من تقوية الحديث بكثرة الطرق الخالية من الضعف الشديد -كما تقدّم بيانه في المقدمة رقم (2) -.

‌43

- "وقد روى أبو داود في "سننه" من حديث عبد اللَّه بن مُغَفَّل، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء":

قلت: خرّجه (الهدَّام) من طريق حماد بن سلمة، عن سعيد الْجُرَيْري، عن أبي نَعَامة قيس بن عَبَايَةَ، عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل، وأعلّه بالانقطاع بين قيس وعبد اللَّه؛ تمسُّكًا منه بشرط اللقاء -الذي أثبتنا في المقدمة أنَّه شرطُ كمال وليس شرطَ صحة، فلا نطيل الكلام برَدّه-، وأعلّه بقوله:"ولا يَبْعُدُ أن يكون حمّاد بن سلمة سمعه من الْجُرَيْري في اختلاطه"! وهذا مما يؤكد محاربته للسنة، لأنَّه مجردُ استظهارٍ قائمٍ على التشَهِّي لهدمها، ولو عارضه أحدٌ وقلب عليه قوله؛ لم يستطع ردّه!

ص: 116

على أنَّ قولَه باطلٌ؛ لأنَّه معارِضٌ لقول الحافظ العِجْلي في "تاريخ الثقات"(181/ 531) بأنَّ حماد بن سلمة سممع منه قبل الاختلاط، وهو قول أبي داود أيضًا؛ وصنيع مسلم بروايته له عنه في "صحيحه".

ثم أعَلَّه (الهدَّام) بعلَّةٍ أخرى؛ وهي مخالفة زياد بن مِخْرَاق الذي رواه عن قيس، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، عن ابن لسعدٍ. . . -مرفوعًا-، فقال:

"وهذا عندي (! ) أصحّ، على ضعف إسناده"!

وهذا كسابقه؛ عمدتُه التشهّي والهوى! على أنَّ الضعف الذي أشار إليه؛ ليس هو جهالةَ المولى -فقط- كما يُشعر به كتمانُه للعلة الحقيقية التي صَرّح بها الإمام أحمد-؛ فقد سُئلَ عن حديث زياد هذا؟ فقال:

"لم يُقِمْ إسناده".

يشير إلى أنَّه اضطرب فيه، وقد بيّنتا ذلك في "صحيح أبي داود"(1330).

ثم إنَّ مما يُسقط العللَ المدّعاةَ -من جذرها- تتابعَ العلماءِ على تصحيح الحديث؛ مثل ابن حبان، والحاكم، والنووي، وابن كثير، والعسقلاني -وغيرهم-، وهو مخرّج في "صحيح أبي داود" برقم (86).

وسيأتي حديثٌ آخرُ صحيحٌ، احتجَّ به ابن القيِّم، ورواه مسلم في "صحيحه"؛ ومع ذلك أعَلّه (الهدَّام) باختلاط الجُرَيْري! فانتظر الرَّد عليه برقم (76).

‌44

- "روى أبو داود عن امرأةٍ من بني عبد الأشهل؛ قالت: قلت: يا رسول اللَّه! إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنةً، فكيف نفعل إذا مُطِرنا؟ (1) قال:

(1) الأصل (تطهرنا)! وكذلك في الطبعة الأولى (1/ 145)! !

وهذا الخطأ؛ من الأدلة الكثيرة على أنَّ الرجل لا تحقيقَ عنده ولا فقهَ! وله أمثلةٌ أخرى تقدم -ويأتي- بعضها.

ص: 117

"أو ليس بعدها طريق أطيب منها؟ ! "، قالت: قلت: بلى، قال:"فهذه بهذه"":

قلت: خرّجه (الهدَّام)(1/ 207) عن المرأة، وقال:"رجاله ثقات"! ثم خرّجه من حديث أم سلمة، وقال:"وفيه جهالة، وقال العُقيلي: إسناد صالح جيد".

هكذا قال (الهدَّام)، فعمّى على القراء رأيَه في إسناد الحديث؛ فقال:"رجاله ثقات"، ولم يُصحِّحه ولم يُحسِّنة! وهو يعلم الفرقَ بين هذا وبين ما قال، ولذلك عمّى ولم يبيِّن! وقال في حديث أم سلمة:"فيه جهالة. . . "، ولم يحدّد موقفَه من قول العُقَيلي المذكور، وأعاد قولَه بالجهالة -فيما يأتي (1/ 211) - بلفظ:"يطهِّره ما بعده".

والحقُّ أن إسناد حديث المرأة الأشهلية صحيحٌ، كما كنت قُلْتُهُ في "المشكاة"(1/ 158/ 512)"تبَعًا لمن سبقني من الحفاظ، مثل عبد الحق الإشبيلي، والمنذري، كما حقّقته في "صحيح أبي داود".

وإنَّما لم يُصَحِّحه (الهدَّام) لجهله بلقاء (موسى بن عبد اللَّه بن يزيد الخَطْمي) الراوي عن المرأة الأشهلية، مع أنَّهم قد ذكروا له روايةً عن جمع من الصحابة، منهم المرأةُ هذه، وهو ثقةٌ، ولم يُرْمَ بتدليس، فروايته محمولةٌ على الاتصال، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الحديث الذي قبله.

ومع هذا" فيشهد له حديثُ أم سلمةَ الذي جوَّد العقيليُّ إسنادَه، وصحَّحه ابن العربي وابن حجر الهَيْتَمي، وهو مُخَرَّج -أيضًا- في "صحيح أبي داود" (409)، وذكرت تحته شاهدًا آخر من حديث أبي هريرة، لكن (الهدَّام) لا يعبأ بالشواهد وتصحيح العلماء ما خَالَفَتْ هواه!

‌45

- "وقال عبد اللَّه بن مسعود: كنّا لا نتوضأ من موطئ":

قلت: إسناده صحيح، ولكن (الهدَّام) لم يزد في تخريجه إياه على قوله (1/ 207):

ص: 118

"أخرجه أبو داود (204) ورجاله ثقات"!

فأقول: ما فائدة هذا التوثيق -وهو لا يعني تصحيحًا- كما تقدم بيانه آنفًا-؟ ! ، بل ذلك قد يعني عنده أنَّ فيه عِلَّة، فإن كان كذلك؛ فما هي؟ ! وهل هي قادحةٌ في صحته أم لا؟ ! كل ذلك كان يجب على (الهدَّام) بيانه لو كان محقِّقًا -حَقًّا- كما يزعم!

والحقيقة؛ أنَّ الحديث رواه جماعةٌ من الثقات، عن الأعمش، عن شَقِيق، عن عبد اللَّه بن مسعود. . . به، ومن أولئك الثقات أبو معاوية الضرير، فوافقهم تارة، وخالفهم مَرَّة، فزاد في الإسناد (مسروقًا) بين شقيق وعبد اللَّه، ولا شك أنَّ روايته الموافقةَ للجماعة هي الصوابُ، ولذلك صحَّحها الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقد بيّنت هذا الذي أجملتُه هنا في "صحيح أبي داود"(200)، وأزيد الآن فأقول:

قال ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 56): حدّثنا شَرِيك، وهُشَيم، وابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال. . . فذكره.

فمَن وقف على هذه الحقائق، كيف لا يبادر إلى التصريح بصحة إسناده، وهو عالمٌ به ناصحٌ لقرائه؟ !

فإن قيل: لعله لم يصحّحه لعنعنة الأعمش! فأقول: ليس الأمرُ كذلك، فقد صَرَّح بتصحيح حديثِ آخرَ للأعمش من روايته عن شقيق -فيما تقدم عنده (1/ 125) -.

‌46

- "روى أبو هريرة، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإنَّ التراب له طهور"، وفي لفظ. . .؛ رواهما أبو داود":

قلت: مدارهما على الأوزاعي، وقد اختُلف عليه فيه على وجهين

ص: 119

-ذكرتهما في "صحيح أبي داود"-، أرجحهما أنَّه: عنه، قال: نُبِّئت أنَّ سعيد ابن أبي سعيد المَقْبُري حدَّث عن أبيه، عن أبي هريرة، فالعلة جهالة من أنبأ الأوزاعي.

وقد عزاه (الهدَّام)(1/ 209) إلى جمعٍ دون طائلٍ؛ لأنَّه لم يبين العلة الحقيقيّة، ثم ختمه بالنقل عن الحافظ أنَّه ضعَّف سنده في "التلخيص"، وكتم شواهده التي عقَّب بها عليه مشيرًا إلى تقويته بقوله:

"ورُوي عن الأوزاعي من طريق عائشةَ -أيضًا-، أخرجه أبو داود -أيضًا-، وساقه ابن ماجه من وجهٍ آخرَ عن أبي هريرة -مرفوعًا- نحوه، وإسناده ضعيف، وفي الباب حديث أُمّ سَلّمة: "يُطَهّره ما بعده"؛ رواه الأربعة، وفي الباب -أيضًا- عن أنس، رواه البيهقي في "الخلافيات"".

وأقول: ليس في هذه الشواهد ما يُمكن الاعتضادُ به، إلّا حديث عائشة، فقد أخرجه أبو داود وغيره من طريق محمد بن الوليد: أخبرني سعيد بن أبي سعيد، عن القعقاع بن حكيم، عنها، وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجاله كلُّهم ثقات -كما بيّنت في "صحيح أبي داود" رقم (413) -.

وحديث أم سلمة المذكور تقدّم تحت الحديث (44).

ومما يشهد للحديث ويُقَوِّيهِ؛ حديثُ أبي سعيد -الآتي عَقِبَ هذا، مع بيان زَوَغان (الهدَّام) عن بيان صِحَّته! -.

‌47

- "وروى أبو سعيد الخدري. . .: "فإِذا جاء أحدُكم المسجدَ فلْيقلِّب نعليه، ثم لْينظر؛ إنْ رأى خبثًا فلْيمسحه بالأرض، ثم ليصلِّ فيهما"؛ رواه الإمام أحمد":

قلت: هو من رواية حماد بن سلمة، عن أبي نَعَامة السَّعْدي، عن أبي

ص: 120

نَضْرَةَ، عن أبي سعيد الخُدْري، وهذا إسناد صحيح، وقد صحَّحه جماعةٌ؛ كابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، والنووي، والذهبي -وغيرهم-، ومع ذلك لم يزد (الهدَّام)، على قوله بعد عزوه لأحمد وأبي داود فقط:

"ورجاله ثقات، قال الحافظ: واختُلف في وصله وإرساله، وَرَجَّح أبو حاتم في "العلل" الموصولَ".

قلت: هذا ما نقله (الهدَّام) فَلِمَ لَمْ يصحّحه؟ !

في ظَنِّي أنَّه لموقفه المعروف من إمام السُّنَّة حماد بن سلمة -كما تقدّم-، مع أنَّ له شاهدين صحيحين؛ أحدهما عن أنس، والآخر من مرسل بكر بن عبد اللَّه المزني، وهو على معرفةٍ بهما من "إرواء الغليل"(1/ 314 - 315)، ولكنَّه الكبر، والأنانية، وبَطَرُ الحق!

وهو مخرَّج أيضًا في "صحيح أبي داود"(657 و 658).

‌48

- "رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تُرخي ذيلها ذراعًا":

قال (الهدَّام)(1/ 211): "حديث صحيح، أخرجه مالك. . . " إلخ.

عمَّى -كعادته- حالَ إسناده، وهو صحيحٌ؛ فَلِمَ عَدَلَ عن التصريح إلى التعمية؟ ! ما أظنّ ذلك إلَّا حُبًّا للمشاكسة والمعاكسة! وهو مخرَّج في "الصحيحة"(1864).

‌49

- "وقال صلى الله عليه وسلم: "الأرض كلّها مسجدٌ إلَّا المقبرة والحمام"؛ رواه أهل "السنَّن" إلّا النسائي":

قلت: جاء من طرق عن عَمرو بن يحيى الأنصاري، عن أبيه، عن أبي سعيد الخُدْري. . . -مرفوعًا-، وهذا إسنادٌ صحيحٌ، ولذلك جزم المؤلف بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعليه جميع العلماء المتقدّمين منهم والمتأخرين من أصحاب

ص: 121

"الصحاح" -وغيرهم-؛ مِمَّن صحّحه أو أشار إلى صحّته كالبخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وابن تيميّة، وابن دقيق العيد، وابن التُّرْكُماني وغيرهم، وهو مخرج في "الإرواء"(1/ 320)، و"أحكام الجنائز"(270)، و"صحيح أبي داود"(507).

وأمَّا (الهدَّام)؛ فقد عاند وكابر -كعادتهِ-؛ فسوَّد صفحتين عَبَثًا؛ محاولًا إعلالَه بالإرسال من الثوري وغيره، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، لم يذكر فيه (أبا سعيد)! وهو يعلم أنَّه قد وصله عبدُ الواحد بن زياد، وحمّاد بن سلمة، ومحمد بن إسحاق، فتجاهل ذلك كلَّه، ولم يتعامل مع قاعدة علماء المصطلح "زيادة الثقة مقبولة"، فكيف وهم ثقاتٌ؟ !

ولم يقف عناده عند هذا الحدِّ حينما اصطدم مع رواية عمارة بن غَزِيَّةَ، عن يحيى بن عِمارة الأنصاري، عن أبي سعيد، عند ابن خُزيمة في "صحيحه" وغيره، فهذه متابعةٌ قويةٌ من عِمارة بن غَزِيَّةَ لعمرو بن يحيى الأنصاري، وبالسند الصحيح إليه، مما يؤكِّد صِحَّة الرواية الموصولة عن (عمرو بن يحيى)، فماذا فعل (الهدَّام)؟ !

لقد وضع في رواية (يحيى بن عمارة) اضطرابًا - تدليسًا وتضليلًا؛ فإن الاضطراب المدَّعْى إنّما هو في رواية ابنه (عمرو بن يحيى)، فعليه اختَلف الرواةُ، وليس على أبيه (يحيى) -كما هو ظاهرٌ-، وأمّا رواية عِمارة بن غَزِيَّةَ فهي في منجاة من ذاك الاضطراب، على أنَّه غير مُؤَثِّر، لأنَّه مرجوح -كما تقدم-، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"أسانيده جيدة، ومن تكلّم فيه فما استوفى طرقه".

هذا؛ وإنّ مِن جَهْلِ هذا الرجل بالفقِه؛ قولَهُ في آخر تخريجه:

"والحديث معارَض بحديث جابر: "أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد

ص: 122

قبلي. . . وجُعلت لي الأرض طيِّبة طهورًا ومسجدًا، فأيّما رَجُلٍ أدركته الصلاة، صلّى حيث كان"".

قلت: يريد (الهدَّام) بهذا أن يضع ضعفًا في متن الحديث، كما وضع ضعفًا في سنده، وهو على كلِّ حالٍ خاسرٌ، فإنَّ هذا الحديث كسائر الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الصلاة في المقابر، وفي المساجد المبنيّة على القبور، وعن الصلاة في معاطِن الإبل، ونحو ذلك، فهذه خاصَّةٌ، وحديث جابر عامٌّ، فهو مُخَصَّصٌ بها -كما لا يخفى على الفقهاء-، فإلى اللَّه المشتكى من زمان يَتَكلَّم فيه الرويبضة!

‌50

- "قول ابن مسعود: لأنتم أهدى من أصحاب محمد، أو أنتم على شعبةِ ضلالة":

عزاه (الهدَّام)(1/ 216) للدارمي، وأعلّه بقوله:

"وهذا إسناد ضعيف، عمرو بن يحيى بن عمرو بن سَلِمة الهَمْداني، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء، ولم يوثقه أحد، وأبوه (يحيى) ذكره أبن أبي حاتم في "الجرح"، وسكت عنه".

قلت: وفي هذا التخريج على اختصاره بلايا!

أولًا: ليس الأثر عند الدارمي باللفظ المذكور، وإنَّما بلفظ:

"إنَّكم لعلى مِلَّة هي أهدى من ملة محمد، أو مُفتَتِحُو باب ضلالة".

ثانيًا: ما نقله عن ابن معين لا يصحّ عنه، رواه ابن عدي (5/ 122) من طريق أحمد بن أبي يحيى -وهو الأنطاكي-؛ قال فيه إبرإهيم بن أُورْمة: كذّاب، رواه عنه ابن عدي (5/ 195) وقال فيه:

"روى عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل "تاريخًا" في الرجال".

ص: 123

ثالثًا: قوله: "ولم يوثّقه أحد" من جملة ادِّعاءاته الطويلة العريضة، فإِنَّه مع كونه نفيًا -وإثباتُه من أصعب الأمور كما معروفٌ عند العلماء-؛ فإِنَّه لم يقله قبله أحدٌ فيما علمت، بل هو كذب -كما يأتي-.

رابعًا: قد وثّقه ابن معين -فيما رواه ابن أبي حاتم (3/ 269/1/ 1487) بالسند الصحيح عنه-، وذكره ابن حبان في "الثقات"(8/ 480)، وهذا التوثيق مقدّم -بداهةً- عند العلماء على تضعيف ابن معين المذكور -لو صَحَّ-؛ لأنَّه جَرحٌ مبهمٌ غير مُفَسَّرٍ؛ فكيف وهو غير صحيح؟ ! ولاسيما وقد روى عنه جَمْعٌ من الثقات الحفّاظ، كابن أبي شيبة، وعبد اللَّه ابن نُمَير، وعبد اللَّه بن سعيد الأشجّ -وغيرهم- كما تراه عند ابن أبي حاتم-.

خامسًا: قوله في أبيه (يحيى): "ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح" وسكت عنه"! فيه آفتان:

إحداهما: كتمانه قولَ أبي حاتم فيه: "روى عنه شعبة، والثوري، والمسعودي، وقيس بن الربيع، وابنه عمرو".

فهذا يفيد أن (يحيى) هذا معروفٌ غير مجهول، خلافًا لما يُشعر به نقلُ (الهدَّام) المبتور.

والأخرى: كتمانه قولَ العجلي في كتابه (474/ 1819): "كوفيٌّ ثقة".

فهذا التوثيقُ -مع رواية أولئك الثقات عنه، وملاحظة كونه من أتباع التابعين-؛ مما يُلقي في النفس أنَّ الرجل صدوق، وأنَّ إسناد هذا الأثر جَيِّدٌ، رغم أنف (الهدَّام) المحارب للآثار السلفية، ولا غرابة في ذلك من رجل متخَصِّصٍ في تضعيف الأحاديث النبوية الصحيحة -عامله اللَّه بما يستحق! -.

سادسًا: هَب أنَّ الرجل فيه جهالةٌ؛ ولكنها جهالةُ حالٍ -يقينًا-، فمثله

ص: 124

تتقَوَّى روايته بمجيئها من طريق أخرى، فكيف وقد جاءت من طرق؟ !

فقد أخرجه عبد الرزّاق في "المصنف"(3/ 221 - 222)، وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص 353)، والطبراني في "المعجم الكبير"(9/ 133 - 134)، وأبو نُعيم في "الحلية"(4/ 380 - 381) من طرق؛ عن عبد اللَّه بن مسعود. . . بقصة أصحاب الذكر المبتدع، وأقربها إلى لفظ الكتاب طريةت قيس بن أبي حازمٍ، قال:

ذُكر لابن مسعود قاصٌّ يجلس بالليل، ويقول للناس: قولوا كذا، قولوا كذا! قال: فجاء عبد اللَّه مُتقَنِّعًا، فقال: مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا عبد اللَّه بن مسعود؛ تعلمون أنَّكم لأهدى من محمدٍ وأصحابه؛ أو إنكم لَمتعلِّقون بذنب ضلالة!

وقد صحّح هذه الطريقَ الهيثميُّ في "المجمع"(1/ 181 - 182)، ورجاله ثقات؛ لكنْ فيه إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري، وفيه كلامٌ معروفٌ، لكن يقوّيه رواية الطبراني، وأبي نعيم من طريقِ سَلَمة بن كُهيل، عن أبي الزعراء. . . نحوه.

قلت: وإسناده جيد.

فماذا يمكن أن يقولَ القائلُ فيب هذا المعلّق المضعِّف الذي كتم كلَّ هذه الطرق، ولم يُشِرْ إليها أدنى إشارة؟ ! أهو عالم يكتم علمه، ولا يؤدّي الأمانة؟ ! أم هو جاهلٌ متعالم، لا علم عنده؟ !

(تنبيه): لفظ الدّارمي أتمُّ من لفظ قيس بن أبي حازم؛ وهو مخرّج في "ردّي على الشيخ الحبشي"(ص 45 - 46/ الطبعة الأولى).

‌51

- "قال أبو هريرة: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء، فلَمّا سجد

ص: 125

وثب الحسن والحسين على ظهره. . . حتى قضى صلاته؛ رواه الإمام أحمد":

أعلَّه (الهدَّام)(1/ 223) بقوله: "وفي إسناده كامل بن العلاء، وفيه ضعف"!

قلت: هذه من تضليلاته ومراوغاته الكثيرة، فكلُّ ثقةٍ فيه ضعفٌ يسيرٌ؛ يصِحُّ أن يقال فيه:"فيه ضعف"! حتى بعض رجال "الصحيحين" -كما لا يخفى على العارفين بهذا العلم-، ومع ذلك يكون حديثه مُحتَجًّا به، ولو في مرتبة الحسن، وهذه حالُ (كاملٍ) هذا، فقد وثّقه ابن معين، وقال النسائي:"ليس بالقوي"، ولهذا قال الحافظ:"صدوق يخطئ".

فهو -إذن- وَسَطٌ، فـ (الهدَّام) بَدَلَ أن يصرِّح بتحسين إسناده، راوغ؛ فقال:"فيه ضعف"! ومع ذلك، فهذا الضعف يزول ويرتقي حديثه إلى مرتبة الصِّحّة بالشاهد الذي ساقه (الهدَّام) عَقِبَهُ من رواية أحمد (5/ 44 و 51) من طريقين، عن المبارك بن فَضَالَة، عن الحسن البصري، عن أبي بكرة. . . نحوه؛ ولكنّه زاغ عن الحقّ أيضًا، فأعلّه بعلتين:

1 -

قال: "وهذا إسناد ضعيف، لضعف المبارك بن فَضَالة"!

قلت: فهذا التضعيفُ المطلق مخالِفٌ لما استقرّ عليه قولُ الحفّاظ من تقييد ضعفه بما إذا عنعن؛ كما قال أبو داود وأبو زُرعة:

"إذا قال: "حدّثنا"؛ فهو ثقةٌ"؛ ولَخَّصَ الحافظُ هذا فقال: "صدوق يُدَلِّس"(1).

و(الهدَّام) يعرفُ هذه الحقيقةَ، ولذلك كان من تمام زَوَغانِه أنَّه ساق إسناده المعنعن -من الموضع الثاني المشار إليه بصفحة (51) -، وكتم سياقَه

(1) أمّا قوله: "وَيُسَوِّي"؛ ففيه نَظَرٌ بيَّنتُهُ في غير ما موضع.

ص: 126

الذي صرَّح فيه المباركُ بتحديثهِ وتحديثِ الحسن البصري -أيضًا-، وهو في الموضع الأوّل (44)!

فقال أحمد: ثنا هاشم: ثنا المبارك: ثنا الحسن: ثنا أبو بكرة. . . وهذا إسناد جَيِّد قوي، فماذا يقال عَمَّن يُدَلِّس على القراء، ويكتم عنهم الحقائق؟ !

على أنَّ هناك شواهدَ أخرى يزداد بها الحديث قُوَّةً على قوة؛ عند ابن خزيمة وابن حِبّان في "صحيحيهما"؛ وهو مخرَّج في "الصحيحة" برقم (4002).

2 -

وأمّا العِلّة الأُخرى؛ فهي زَعمه أنَّه: "رواه جَمْعٌ عن الحسن البصري لم يذكروا قِصَّة الوثب! وأثبتوا آخره".

قلت: لا يزال مستمرًّا في التعمية على القرَّاء! فهو يعني بـ "آخره"؛ قولَه صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيِّدٌ. . . " الحديث، وهذا لم يذكره ابن القيم، فكان عليه البيان، وجوابًا عليه أقول:

ما رواه الجمع قِصَّةٌ أخرى، بدليل أنَّ في رواية للبخاري برقم (3746) -الذي أحال (الهدَّام) عليه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان على المِنبر، والحسنُ إلى جنبه، ينظر إلى النّاس مَرَّةً" وإليه مرَّةً، ويقول. . . فذكره.

قلت: فهذه القصةُ لا تدفع قِصَّة المبارك، لا سيما ولم يتفَرَّد بها -كما تَقَدَّم-، فهما قِصَّتان، ومن الممكن أنهما وقعتا في يومٍ واحدٍ، إحداهما متمِّمةٌ للأخرى، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ ابني هذا سيد. . . " الحديث، هذا هو الواجبُ عند العلماء الغيورين على حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ الحِرْصُ على الجمع بين أحاديثه؛ وليس ضربَ بعضها ببعض، كما يفعل (الهدَّام) وأهل الأهواء -من أمثالهِ-، نسأل اللَّه السلامة!

ص: 127

ومن شواهد الحديث ما أَتْبعهُ به ابن القيِّم رحمه الله؛ وفضح (الهدَّام) نفسه بتخريجه -كما سترى-.

‌52

- "قال شدّاد بن الهادِ: خرج علينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو حاملٌ الحسنَ أو الحسينَ، فوضعه، ثم كَبَّر للصلاة، فَصَلّى، فسجد بين ظهرانَي صلاته سجدة أطالها، فلما قضى الصلاة، قال: "إنَّ ابني ارتحلني" فكرهت أن أُعْجِلَه"؛ رواه أحمد، والنسائي":

عزاه (الهدَّام) إليهما -وإلى البيهقي (2/ 263) -، فقال (1/ 224):

"من طريق جرير بن حازم، عن محمد بن أبي يعقوب التميمي، عن عبد اللَّه بن شدّاد، عن أبيه، وأرجو أن يكون حسن الإسناد"!

فأقول: جرى على عادته من تعمية الأُمور، فلم يُبيِّن السبب في إعراضه عن تصحيحه، واقتصاره على التحسين، وفي تشكيكه فيه أيضًا! !

والسبب الرئيسي هو الشذوذُ، والمخالفةُ لمن صحّحوه، ويتسَتّر بالتمسُّك بما قيل في (جرير بن حازم) من جرحٍ غير قادح عند الحفّاظ، أمّا (الهدَّام): فهو ينظر إلى نفسه أنَّه إمامٌ في الجرح والتعديل (! ) لا يقلّد فيهما أحدًا!

قال الذهبي في (جرير): "ثقة إمام؛ تغتر قبل موته، فحجَبَه ابنه (وهب)، فما حدَّث حتى مات، قال ابن معين: هو في قتادةَ ضعيفٌ، وقال (خ): ربّما وهم".

كذا قال في "المغني"، ولهذا الكلام اليسير -فيه- أورده في "الميزان"، ولكنّه قال:

"أحد الأئمة الكبار الثقات، ولولا ذِكْرُ ابن عديٍّ لما أوردته".

قلت: والبخاري قد احتجَّ به في "صحيحه"، فقوله فيه:"ربما وهم"

ص: 128

ليس جرحًا مسقطًا لحديثه عن مرتبة الصحة -كما لا يخفى-، ولذلك لما صحّح الحاكمُ حديثَه هذا في "المستدرك"(3/ 165 - 166) -على شرط الشيخين-؛ وافقه الذهبي في "تلخيصه"، وأقرّه عليه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(2/ 218).

وعلى مثل هذا التصحيح جرى الحفّاظ في أحاديث أخرى لجرير بن حازم، مثل حديث:"ما استجار عبدٌ من النار سبع مَرّات. . . " إلخ؛ فقد صحّحه على شرط الشيخين الحافظُ ضياءُ الدين المقدسى، وزكي الدين المنذري، وابن القيِّم في "حادي الأرواح" -كما تراه مخرجًا في أوّل المجلد السادس من "الصحيحة" رقم (2506) -، وهذا يعني -عندهم- أنَّ ما قيل في جرير ليس جرحًا.

وهنا تنكشفُ لنا فضيحةٌ من فضائح (الهدَّام) الكثيرة، وهي كتمانه عزو الحديث للحاكم وتصحيحه هو والذهبي إيّاه، وتتجَسَّد الفضيحة إذا علم القراء أنَّ البيهقي الذي عزاه (الهدَّام) إليه؛ إنّما رواه من طريق شيخه الحاكم! فليت شِعري لم استجاز (الهدَّام) العزوَ للتلميذ وهو غير ملتزم الصِّحَّة في كتابه، وأعرض عن العزو إلى شيخه؛ وهو ملتزم الصحة في كتابه -وقد صَرَّح بها- كما سبق؟ ! -؛ الجواب ندعه للقراء الألِبَّاء.

وإن من فوائد رواية الحاكم؛ أنَّها من طريق وهب بن جرير، الذي حجب أباه من التحديث بعد تَغَيُّره؛ مما يسدُّ الطريق على (الهدَّام) وأمثاله أن يُعِلُّوا الحديثَ به، فصَحَّ الحديث والحمدُ للَّه، ولم يبق للشك في صِحَّته -فضلًا عن حُسنه- معنًى، إلّا حبُّ المخالفة والمشاكسة، والعياذ باللَّه!

وإذا كان الحديث عنده حسنًا فبما يرجو؛ فلماذا لم يُقَوِّ به حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة -اللَّذين ضعَّفهما- كما تقدم؟ ! -؛ الجواب لدى القراء الأَلِبَّاء -أيضًا-.

ص: 129

والحديث مخرَّجٌ في "صفة الصلاة"(ص 148/ المعارف).

‌53

- "وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطوّافين عليكم والطوّافات"، وكان يُصغي لها الإناء حتى تشرب":

هكذا جزم المؤلف بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب الموافق لتصحيح الحُفَّاظِ إياه، كالبخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبّان، والعُقيلي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 324)، والنووي، والذهبي -وغيرهم-.

وأمّا (الهدَّام) فقال (1/ 227) -بعد أن عزاه لأصحاب "السنن"، وابن حبان من حديث أبي قتادة-:

"وفيه حُميدة بنت عبيد، لم يُوثقِّها غير ابن حبان، وصحَّح الحديث جَمْعٌ، انظر "التلخيص" (1/ 41) ".

قلت: قد ذكر له في "التلخيص" طرقًا وشواهد يدلُّ مجموعها على أنَّ للحديث أصلًا أصيلًا، فلا جَرَمَ أنَّه صحّحه من ذكرنا من الحفاظ، وأمَّا (الهدَّام)؛ فترك قُرَّاءه في حيرة؛ فهو مِن جهةٍ أعَلّ الطريق المذكور بـ (حُميدة)، ومن جهةٍ أخرى قال:"صحَّحه جَمْعٌ"، فهو مع من يا ترى؟ ! أظن أنَّه هو في نفسه حيران {. . لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} ! ! لأنَّه لا علم عنده، ولا بصيرة يهتدي بها، وأقلّها أن يتبع {. . . سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} !

والحديث مخرَّج في "الإرواء"(1/ 192 - 193)، و"صحيح أبي داود"(68 و 69).

‌54

- "وقال ابن عباس رضي الله عنهما! قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجِّسه شيء"؛ رواه الإمام أحمد":

ص: 130

قلت: جزم به المؤلَّف رحمه الله؛ وهو الصواب، وخالف (الهدَّام) -كعادته- فقال -بعدما عزاه لجماعة غير أحمد (! ) -:"وهذا الإسناد ضعيف"!

هكذا يُطْلِق ولا يبيِّن؛ لأنَّه الإمام (! ) الذي يجب الانقياد له! والتسليم لقوله! ! وأمّا هو فلا يسلّم لحفّاظ الأمّة بدون دليل! ! وهو إنَّما يُطلق ولا يبيّن -سترًا لجهله ومخالفته لقواعد علم المصطلح-، والواقع أنَّ سِمَاكًا هذا -وهو ابن حرب- قد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال:

التوثيق مطلقًا، التضعيف مطلقًا، والتفصيلُ؛ وهو قول الحافظ يعقوب بن شيبة:

"من سمع منه قديمًا مثل شعبة وسفيان، فحديثهم عنه صحيحٌ مستقيمٌ، وقول ابن المبارك فيه: "ضعيف" إنَّما هو -فيما نرى- فيمن سمع منه بأخرة".

ونحوه عن الدّارقطني، ولذلك إنَّما أخرج له مسلم من رواية سفيان وشعبة عنه، كما في "تهذيب المزي"، وعليه جرى الحافظ، فقال في حديثه هذا (1/ 300 - فتح):

"وقد أعلّه قومٌ بِسِمَاك بن حرب، لأنَّه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة؛ وهو لا يحمل عن مشايخه إلّا صحيح حديثهم".

وقال في موضعٍ آخر منه (1/ 342):

"وهو حديث صحيح؛ رواه الأربعة، وابن خزيمة -وغيرهم-".

وحديث شعبة الذي أشار إليه الحافظ، أخرجه البزّار في "مسنده"(1/ 132/ 250 - "كشف الأستار")، والحاكم (1/ 159)، وقال:

"صحيح، ولا يُحفظ له عِلّة"؛ ووافقه الذهبي.

وتابعه سفيان: عند أحمد (1/ 235 و 284 و 308)، وابن حبان (2/ 271/

ص: 131

1239)؛ فصَحّ الحديث من روايتهما عنه.

وهو مخرَّجٌ في "صحيح أبي داود"(61)؛ وقد صحّحه -أيضًا- التِّرمذي، وابن خزيمة، وابن حبان -كما تقدم-، وابن الجارود.

ويشهد له حديث أبي سعيد -الآتي بعده مع الرّد على (الهدَّام) -.

‌55

- "وفي "المسند" و"السنن" عن أبي سعيدٍ، قال: قيل: يا رسول اللَّه! أنتوضّأَ من بئر بُضاعة؟ . . . فقال: "الماء طهور لا ينجِّسه شيء"، قال التِّرمذي: "حديث حسن"، وقال الإمام أحمد: "حديث بئر بُضاعة صحيح"":

قلت: وكذلك صحّحه يحيى بن معين، والنووي، وقال التِّرمذي -عَاقِبَ تحسينه المذكور-:

"وقد رُوي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد".

وأمّا (الهدَّام) فقال (1/ 229) -بعد أن عزاه لجمع-:

"وفيه ضَعْفٌ بيّنته في غير هذا الموضع"!

وأقول: ليس فيه إلّا جهالةُ حالِ أحد رواته؛ فيتقوّى بالطرق التي أشار إليها التِّرمذي، وبشواهدَ له خرّجتها في "صحيح أبي داود"(59 و 60)، واحتجّ ببعضها ابن حزم، فانظر "التلخيص الحبير"(1/ 12 - 14)، و"إرواء الغليل"(1/ 45 - 46).

ولكن (الهدَّام) لا يُقيم وزنًا لما عليه العلماءُ من تقوية الحديث بكثرة الطرق، وهذا من أسباب انحرافه عن {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، ومُوافقتهِ لأهل الأهواءِ المُضِلِّين!

‌56

- "كان صلى الله عليه وسلم يجيبُ من دعاه، فيأكل من طعامه، وأضافه يهودي بخبز شعير، وإهالةٍ سَنِخَة":

ص: 132

قال (الهدَّام)(1/ 230): "انظر "مسند أحمد" (3/ 180 و 238) "!

قلت: وهذا مع كونهِ إحالة وليس تخريجًا؛ فهو خَطَأٌ مخالف لما عليه، العلماء، وأنَّه لا يجوز العزو لغير "الصحيحَيْن" أو أحدهما، إذا كان الحديث فيهما أو في أحدهما، لأنَّ ذلك لا يُفيد صِحَّةً؛ بخلاف العكس، وهذا إنْ دَلَّ على شيء -كما يقولون اليوم-؛ فإنَّما يدلُّ على جهل (الهدَّام) بكتب السنّة وأحاديثها، إلّا بمقدار ما تساعده الفهارس الموضوعة قديمًا وحديثًا للدلالة على موضع الأحاديث فيها، وتسهيل الوقوف عليها؛ وهذا إن كان يُحْسِنُ استعمالها، أو ينشط للاستفادة منها!

أقول هذا للأسباب التالية:

أولًا ليس في الموضعين المشار إليها من "المسند" لفظ: (يهودي)! ففي الإحالة عليهما، كذبٌ واضحٌ، لكن (الهدَّام) لا يباليه؛ لأنَّه شيءٌ اعتاد عليه! !

ثانيًا: الحديث في موضعين آخرين من "المسند"(3/ 210 - 211 و 270) من طريق أَبَان: ثنا قتادة، عن أنس: أن يهوديًّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خُبزِ شعيرٍ وإهالةٍ سَنِخَةٍ، فأجابه.

ثالثًا: هو في موضعين من "صحيح البخاري"(2069، 2508) من طريق أخرى عن قتادة. . . به نحوه؛ دون لفظ اليهودي -وهو مخرّج في "الإرواء"(5/ 231)، و"مختصر الشمائل"(177/ 287) -.

رابعًا: كان من الضروري عَزْوُهُ للبخاري لتقوية إسناد أحمد، لأنَّه لا يلتزم الصحة، وبخاصة أن فيه عنعنة قتادة -كما رأيتَ-؛ فإنَّ من المعروف عن (الهدَّام) أنَّه يُعَلِّلُ السند الصحيح بها -كما فعل بالحديث المتقدم (36) -، ولعلّه تعمّد ترك عزوه إليه -إن كان مستحضرًا لروايته-؛ كي لا يزدادَ فضيحةً

ص: 133

بإعلالهِ بالعنعنة! إذ كل أحد يدري أن عزو الحديث للبخاري ليس كعزوه لأحمد؛ فإعراضه عنه إليه -أو على الأقل عدم جمعِهِ بينهما-؛ لا بد أنه كان عن جهلٍ، أو عن تجاهُلٍ -عمدًا- لما ذكرت آنفًا-! وأحلاهما مرّ!

خامسًا: أنّ عزوه المذكور لأحمد" يدلُّ من جهة أُخرى على جهله بالسنة وأحاديثها؛ لأنه ليس عند أحمد -كما رأيتَ- الطرفُ الأول من فقرة "الإغاثة": "كان يجيب من دعاه"، وفيها أحاديث كثيرة كنت خرّجتها في المجلد الخامسِ من "الصحيحة" (2125)، فأكتفي بالإشارة إليها: فرواه التّرمذي وابن ماجه عن أنس، والطبراني عن ابن عباس، وابن عدي عن أبي هريرة، وأبو الشيخ والحاكم -وصحّحه هو والذهبي- عن أبي موسى، وابن سعد والبزّار عن جابر، وعنِ الحسن البصري -وغيره- مرسلًا.

‌57

- "وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عنه صلى الله عليه وسلم: "بُعثتُ بالحنيفيّة السّمحة".

قال (الهدَّام)(1/ 231): "لم يصحَّ فيه حديثٌ"! ثمّ خرّجه من حديث عائشة، وابن عبّاس، وأبي أُمامة، وجابر ثمّ قال:"وفي كلّ منها ضعف"!

وأقول: الإطلاق غير مسلّم، فقد حسّن أحدَها الحافظُ، وعلى التّسليم به؛ فذلك يعني عند العلماء أنّه حديثٌ صحيحٌ لغيرهِ، لكنّ (الهدَّام) يعاند ويستكبر عنِ اتّباع {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} -كما ذكرنا وأثبتنا مرارًا! ! -، ثم إنّه قد جهل -أو تجاهل- شاهدين آخرين مرسلين؛ إسناد أَحدهما صحيحٌ، وهما -مع غيرهما- مخرّجان في أوّل كتابي "تمام المنّة في التّعليق على فقه السّنّة".

ثم وجدتُ له شاهدًا آخرَ من حديث أُميّةَ بن سعد بن عبد اللَّه الخُزَاعيّ، رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(7/ 631)، وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى تقويته بمجموع طرقه في "تفسيره"(1/ 217)، (2/ 254، 403)،

ص: 134

وصحّحه جمع؛ منهمُ الإمامُ ابن مفلح في "الفروع"(2/ 234).

‌58

- "وقال ابن أبي شيبة: حدّثنا أبو أسامة، عن مِسْعَر، قال: أخرج إليّ مَعْنُ بن عبد الرحمن كتابًا، وحلف باللَّه أنّه خطّ أبيه، فإذا فيه: قال عبد اللَّه: والذي لا إله غيره، ما رأيت أحدًا كان أشدّ على المتنطّعين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . " إلخ:

قال (الهدَّام)(1/ 232): "أخرجه الدّارمي، ورجاله ثقات".

قلت: هذا التّخريج خطأٌ من وجوه:

الأوّل: أنه نزل في العزو إلى الدّارمي، وهو تلميذ ابن أبي شيبة واسمه: عبد اللَّه، أبو بكر، وقد عزاه إليه ابن القيِّم، فكان من مقتضى التّحقيق الذي يدّعيه: أنْ يعلوَ فيستخرجَه من بعض كتبه إن تيسّر، وإلّا فبواسطة بعض تلاميذه من الحفّاظ المشهورين؛ مثل أبي يعلى؛ فقد أخرجه في "مسنده"؛ فقال (8/ 437/ 5022): حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا أبو أُسامة. . . به.

ولابن أبي شيبة أخٌ حافظٌ اسمه (عثمان)، قد شاركه في رواية كثير من أحاديثه عن شيوخه، وهذا منها، فأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، قال (10/ 216/ 15367): حدّثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَري: ثنا عثمان بن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة. . . به.

وقال الهيثمي (10/ 251): "رواه أبو يعلى والطبراني، ورجالهما ثقات".

كذا قال! وحقُّه أن يقول: "ورجالهما رجال الصحيح أو الصحيحين"؛ فإنهم جميعًا من رجالهما، وَمَعْن: هو ابن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، فالإسناد صحيح.

الثّاني: قوله: "ورجاله ثقات" فيه نظر من ناحيتين:

ص: 135

الأولى: أن الدّارميَّ رواه عن شيخه أحمد بن محمد بن قدامة: ثنا أبو أسامة. . . إلخ، وفي طبقة أحمد بن محمد بن قدامة سبعة؛ منهم الثّقة، والضّعيف، والمجهول، فكان من الواجب على (الهدَّام) -لو كان يهتمّ بالواجب- أن يبيِّن مَنْ هوَ مِن بيْنِهم؟ !

ومع أنّه لا يهمّني أنا شخصيًّا معرفتُه؛ فقد أغناني عنه رواية ابنَي أبي شيبة عن شيخهما أبي أُسامة، فقد تتبّعتُ تراجمَ السّبعةِ المشارِ إليهم، فوجدت اثنين منهم رويا عن أبي أسامة؛ أحدَهما يُكْنَى بأَبي عبد اللَّه؛ وهو ثقةٌ، والآخرُ يُكْنَى بأبي جعفرٍ البغداديِّ؛ وهو ضعيفٌ، لكنّهم لم يذكروا في ترجمتهما أنّ الدّارميّ روى عن أحدهما، فقوله:"ورجاله تقات" مجازفة، ولكنّها دون مجازفاتِه الكثيرةِ في تضعيف الأحاديثِ الصّحيحة! والعجيب أنّ هذا منها -كما سترى-!

والأُخرى: إذا كنتَ صادقًا في توثيقك المذكور؛ فما الّذي منعك من القول بصحّة إسناده -كما تقدّم منّي-؟ !

إن كان: لكونه من كتاب؛ فهو طريقٌ من طرق التّحمل؛ كما هو معروفٌ في المصطلح، وإن كان: غيره؛ فما هو؟ ! ليس هو إلّا العِناد والهدم! !

‌59

- "وقال أنس رضي الله عنه: كنا عند عمر رضي الله عنه، فسمعته يقول: نُهِينا عنِ التّكلُّف".

أقول: حديث صحيح موقوف في حكم المرفوع، أخرجه البخاري (7293)، ورواه غيره بأتمَّ منه، وخرّجه الحافظ في "شرحه"(13/ 270، 271)، ورواه الحاكم وغيره -مرفوعًا من حديث سلمانَ الفارسيِّ رضي الله عنه، وهو مخرّج في "الصّحيحة"(2392).

ص: 136

ولقد تجاوزه (الهدَّام) فلم يخرِّجْه، وغالب الظّنِّ أنّه لم يعرِفْه! وبخاصّةٍ أنّه لم يُذكرْ فيه النّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولعلّه لا يعلمُ -أيضًا- أنّه في حكم المرفوع! وما ذلك عنْه ببعيد! !

‌60

- "خبر ابن مسعود في التّشهّد: إذا قلتَ هذا؛ فقد تمّت صلاتك":

قال (الهدَّام) (1/ 2‌

‌61):

"انظر "نصب الرّاية" (1/ 424)، و"البيهقي" (2/ 174) "!

قلت: هذه إحالةٌ كسابقتها -رقم (56) -، بل أنكرُ! لأنّه لا فائدةَ منها بالنّسبة لعامّة القرّاء؛ لأنّهم سوف لا يرجعون إليها، ومن قد يفعل فسوف لا يستطيع استخلاصَ المرادِ من تخريجهما، إلّا من كان على معرفة بهذا العلم، فقد بيّنا أن الخبر مُدْرَجٌ في حديث ابن مسعود المرفوع في التّشهّد؛ أي: أنّ بعض الرّواة أخطأ، فأدرج في حديثه صلى الله عليه وسلم قولَ ابنِ مسعودٍ هذا:"إذا قلت. . . "، على أنه لا يصحّ إسناده إلى ابن مسعود، بل قد صحّ عنه أنّه قال:"مفتاح الصّلاة التّكبيرُ، وانقضاؤُها التّسليمُ، إذا سلّم الإمامُ؛ فقُمْ إذا شئتَ".

وهذا الصّواب -حديثًا وقفهًا-؛ أي: أَنّ الخروج من الصّلاة لا يصحّ إلّا بالتّسليم؛ للحديث الآتي.

وفي اعتقادي؛ أنّ إحالتَه المذكورةَ ما هي إلّا وسيلةٌ لستر جهله وعجزه عنِ الخوضِ في هذا الخبر؛ حديثًا وفقهًا! ! وقد فصّلتُ القول في الإدراج المذكور في "صحيح أبي داود"(891).

61 -

"قوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التّكبير، وتحليلها التّسليم":

حديثٌ صحيحٌ، مخرّج في "الإرواء"(2/ 98)، وغيره، وهو من الأحاديث الّتي تجاوزها (الهدَّام) فلم يخرّجها مطلقًا! وهذا من الأدلّة على

ص: 137

زهده في أحاديث الأحكام، وعدم عنايته بها، ومن ذلك تَخْريجُهُ للحديث الآتي:

‌62

- "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغُرُّ المحجّلون يوم القيامة من أثر الوضوء"؛ فمن استطاع منكم؛ فلْيُطلْ غُرَّته وتحجيله، متّفق عليه":

قال المعلِّق (1/ 464): "أخرجه البخاري (136)، ومسلم (246) من حديث أبي هريرة".

فأقول: هذا التّخريج منَ (الهدَّام) ممّا يؤكّد -لي- أنّ تضعيفاتِه الكثيرةَ للأحاديثِ الصّحيحة؛ ليست عن قناعة منه أدّاه إليها علمهُ -لو كان عنده علمٌ-! وإنّما هي منه مشاكسةٌ ومعاندةٌ لأئمة الحديث؛ أقول هذا لأن هذا الحديث قد أعَلَّ الحفّاظُ منه جملةَ: "فمن استطاع منكم فلْيُطل غُرّته وتحجيله"؛ أعلّوها بالإدراج، وأنّه من قول أبي هريرة، ومنهم الحافظ المنذري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن حجر العسقلاني، وذكر هذا رحمه الله أنَّه لم يَرَ هذه الجملة في رواية أحدٍ مِمَّن روى هذا الحديث من الصحابة -وهم عشرة-، ولا ممَّن رواه عن أبي هريرة غير رواية نُعيم المُجْمِرِ -الراوي لهذه الزيادة عن أبي هريرة-؛ وهذا معناه -على ما تقتضيه القواعد الحديثيّة- أنَّ هذه الجملة شاذّة غيرُ صحيحةٍ -مرفوعًا-، وإنّما هي من قول أبي هريرة، ويشهد لذلك أنَّ نُعيمًا -هذا- شكّ -في روايةٍ لأحمد- في رفعها، فقال:"لا أدري قوله: "من استطاع. . . " من قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة! ".

قلت: فأعرض (الهدَّام المشاكس) عن تحقيق هؤلاء الحفاظ وتجاهَلَهُ! ولولا ذلك لبادر هو إلى إعلاله بهذا الشك الذي لا ينهض وحدَه بالإعلال إلّا عند مثله من الهَدَّامين، ولذلك جعلته شاهدًا؛ وإنما العلة القادحة الشذوذُ

ص: 138

والمخالفةُ - كما تقدم عن الحافظ رحمه الله.

وقد خرَّجت الحديثَ، وَبَسَطْتُ القولَ في شذوذ هذه الجملة في "الإرواء"(1/ 132 - 133).

وكذلك مرّ المشاكسُ على الحديث في طبعته لـ "رياض الصالحين"(295/ 285)؛ ولا أدري ما ما سيكون تعليقه على جزم ابن القيِّم بالإدراج المذكور في "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" -إذا عَبِثَ به، وخرّبه-؟ ! هل سيَرُدّ عليه ويكابر؟ ! أم يمرُّ عليه كما مَرّ على الحديث هنا، لأنَّه لا يهمّه التحقيقُ في مثله؟ !

‌63

- "الحِلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوَضوء":

قلت: حديثٌ صحيحٌ من رواية أبي هريرة -أيضًا-؛ رواه مسلم وغيره من طريق أبي حازم عنه، وفيه قِصَّةٌ؛ وهو مخرّجٌ في "الصحيحة" برقم (252) من طرقٍ عنه.

ولم يخرِّجه (الهدَّام)، والسبب -في ظني- أنَّه لم يقع في الكتاب مُصَرَّحًا بِنِسْبتِهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يتنبّه له ليستخرجه بواسطة الفهارس التي هو عالةٌ عليها! وليس هو في حفظه؛ لِقلّة عنايته بالأحاديث النبويّة وجهله بها، إلّا لنقدها! -كما نبّهت على ذلك مرارًا-.

هذا عذره إن كان الجهل عذرًا مقبولًا من مثل هذا الناقد المُبْطِلِ!

ويمكن أن يكون السببُ غيرَ الجهل؛ وذلك يعود إلى شيئين:

أحدهما: عدم اهتمامه بتخريج ما ليس له فيه هوى، فقد ختم ابن القيم هذا الفصل -الذي ساق فيه الحديثَ الذي قبله، ثم هذا- بقوله:

"وأمّا حديث الحِلية، فالحِلية المزيّنة ما كان في محَلِّه، فإذا جاوز محلَّه

ص: 139

لم يكن زينةً".

فقوله: "حديث الحِلية" كافٍ لتنبيه الغافل!

والآخر: أن لا يكون (الهدَّام) يخرّج الأحاديث وهي في محالِّها من الكتاب، وإنَّما تُقَدَّمُ إليه من بعض الجهلة في أوراقٍ بِيضٍ ليسوِّدها هو بتخريجها! ثم تُقَدَّم إلى المطبعة، فهو لا يدري الأحاديث التي يُراد تخريجها إلّا بواسطة مَن يُقَدِّمُها إليه! !

وممّا يؤيدِّ هذا؛ وقوعُ بعض التعليقات في غير مكانها؛ كما سيأتي التنبيه عليه عند تعليقي على إشارة (الهدَّام) إلى حديث الأعمى رقم (73).

وأيًّا كان السببُ؛ فهو به يخرُج من زمرة الكتاب المحقّقين والمخرِّجين، وَيَصُفُّ في مصافِّ تجار الكتب، الذين لا هَمَّ لهم من طبعها إلّا الكسب الماديُّ؛ وهي ظاهرَةٌ خطيرةٌ جدًّا، قد لا ينجو منها إلّا القليل من المؤلِّفين والناشرين؛ واللَّه المستعان.

‌64

- "قال البخاري: حدثنا. . . عن ابن جُريج، قال: قال عطاء، عن ابن عبّاس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. . . "؛ وفيه قِصَّة (وُدّ) و (سُواع) و (يغوث) و (يعوق) و (نَسْر)، وأنهم كانوا رجالًا صالحين؛ فأوحى الشيطان إلى قومهم أن انصِبوا لهم أصنامًا، فعبدوهم:

قال (الهدَّام)(1/ 268):

"أخرجه البخاري (4920)؛ وإسناده ضعيف، يقولون: عطاء هذا هو الخراساني، والأدلّة تؤيد هذا، وهذا الحديث مما أوخذ البخاري رحمه الله إخراجه في "صحيحه"؛ انظر "الفتح" (8/ 667 - 668) ".

قلت: وفي إحالته على "الفتح" تدليسٌ خبيثٌ من ناحيتين:

ص: 140

الأولى: أنَّ الحافظَ لم يقُل: "أُوخِذ"! وإنَّما قال: "وهذا مما استُعظم على البخاري"!

والأُخرى -وهي الأهَمُّ-: أنَّه أوهم القراء أنَّ الحافظ سَلّم بالمؤاخذة المزعومة! وكلامُهُ صريحٌ في ردِّه؛ فإنَّه قال:

"لكنّ الذي قَوِيَ عندي؛ أنَّ هذا الحديثَ بخصوصهِ عند ابن جريج: عن عطاء الخراساني، وعن عطاء بن أبي رباح جميعًا. . . " إلخ؛ إلّا أنَّه لم يذكر دليلًا على التقوية المذكورة، إلّا حُسْنَ الظن بالإمام البخاري. . .

والمقصود: أنَّ (الهدَّام) لا يُوْثَقُ بنقله وادِّعاءاتِهِ؛ لكثرة تدليساته ومعاكساته، ومن ذلك قوله:"والأدِلّة تؤيد هذا"؛ فيا لِلْعَجَبِ من عُجْبِه وغروره! يُريد من القراء أن يسلِّموا بتضعيفهِ لما صحَّحه البخاري، دون أن يُقَدِّم على التضعيف دليلًا، ولا يريد منهم أن يسلِّموا لتصحيح البخاري! وهو -يقينًا- الأرجحُ، لأنَّ لهذا الأثر طرقًا أخرى عن ابن عباس، وأخرى عن عكرمة؛ وهو من تلامذته؛ أخرجها ابن جرير الطبري في "تفسيره"(29/ 62)، إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة في "تفسير ابن كثير"، و"الدُّر المنثور"؛ مما يُشعر من وقف عليها أنَّ ذلك كان مشهورًا عند السلف، وقد ذكرتُ بعضها في كتابي "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد"(152 - 153).

‌65

- "وعن زيد بن ثابت، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لعن اللَّه اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، رواه الإمام أحمد":

قال (الهدَّام)(1/ 272): ". . . وفيه عُقبة بن عبد الرحمن، وفيه جهالةٌ"!

قلت: نعم؛ فكان ماذا؟ ! هل غايتُك من تحقيقك المزعوم للكتاب إنّما

ص: 141

هو إخبارُهم بأنَّك على معرفةٍ بتراجم الرجال؟ ! -وهي وسيلةٌ- لو كنت كذلك حقًّا! -، أم إعلامهم بما صَحَّ وَثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

وإذا كان هذا الغايةَ من التحقيق عند العارفين الناصحين، فلماذا تَشْغَلُهم بالوسيلة عن الغاية، ولا تسترعي نظرَهم إلى هذه الحقيقة، فتقول -مثلًا-:". . . ولكن الحديث صحيح؛ وإن كان في سنده جهالة، لأنَّ له شواهد كثيرة عن جمع من الصحابة"؟ ! وإذا كانت نفسُك الحاقدةُ تأبى عليك أن تُحيل في ذلك على شيء من كتب الألباني -مثل "تحذير الساجد" المذكور آنفًا، أو "أحكام الجنائز"-؛ فلا أقلَّ من أَن تُحيل على أحاديث عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة التي ذكرها المصنفُ قبل هذا، وعزوتَها لـ "البخاري" و"مسلم "ولم تضَعِّفها!

والجواب: أنَّ هذا من واجب الناصح الأمين، وليس هو من طبيعةِ مَن نَصَبَ نفسَه لتضعيف الأحاديث الصحيحة عند العلماءإ! وحَسْبُك -دليلًا- ما تقدّم، ويأتي عَقِبَ هذا، وغيرُهُ كثيرٌ وكثيرٌ جدًا!

‌66

- "وعن ابن عباسٍ، قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج؛ رواه الإمام أحمد، وأهل "السنن"":

قلت: خرّجه من رواية عشرة من المصنِّفين -منهم مَن ذكرهم ابن القيم-، ثم ضَعَّفَه بأبي صالح -مولى أم هانئ-.

فأقول أيضًا: نعم، ولكنّ اقتصارَه على هذا يُنافي الأمانة العلمية والنصيحة الدينية -التي أشرت إليها في الحديث الذي قبله-؛ فإن جملة اتخاذ القبور مساجد لها تلك الشواهدُ الصحيحةُ المشارُ إليها آنفًا، وجملة الزيارة -كذلك- صحيحة، لها شاهدان من حديث حَسّان بن ثابت، وأبي هريرة رضي الله عنهما.

ص: 142

وقد فصَّلتُ القولَ في تضعيف المولى المذكور، ورددتُ على من حسَّن حديثه هذا، وبيَّنتُ أنَّ الصواب صِحَّةُ الجملتين المذكورتين، وخَرَّجت شاهديهما في غير ما كتابٍ من كتبي، مثل "الضعيفة"(525)، و"تحذير الساجد"، و"أحكام الجنائز"، و"الإرواء"(3/ 211 - 213).

وإن مما يدلُّ الباحثَ على كتمانه للعلم -لإظهار الحديث الصحيح بمظهر الضعيف-: أنَّ من جملة المصادر التي عزا الحديث إليها "سنن ابن ماجه"(1575)؛ وليس عنده من الحديث إلّا جملة الزيارة! وهي واقعةٌ عنده بين الشاهدين المشار إليهما (1574، 1576)!

ومن مصادره "صحيح ابن حبّان"(3179 - 3180 - "الإحسان")؛ وفيه قبل الرقمين (3178) حديثُ أبي هريرة -الشاهد الثاني-؛ فتجاهلهما (الهدَّام) -كما هي عادته-!

وقد صحّح حديثَ أبي هريرة جَمْعٌ؛ منهم الإمام ابن دقيق العيد في "الإلمام"(209/ 514).

‌67

- "وفي "صحيح البخاري" أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلّي عند قبر، فقال: القبر القبر! ":

قال (الهدَّام)(1/ 272): "أخرجه البخاري في "صحيحه" تعليقًا: "الفتح" (1/ 523) ".

قلت: ما أسرعَه إلى الانتقاد والاعتراض -ولو خِلسةً-! وما أبعدَه عن النصح والإرشاد صراحةً! فإنَّ عزو المؤلف إلى "صحيح البخاري" -وإن كان خطأً اصطلاحًا- ولكنّه صوابٌ من حيث إفادتهُ صِحّة هذا الأثر عملًا؛ وعلى العكس من ذاك تخريج (الهدَّام)؛ فإنَّه من حيث تقييدُه العزوَ إليه -تعليقًا-

ص: 143

صوابٌ اصطلاحًا، ولكنّه من حيث سكوتُه عليه وعدمُ بيانه صِحِّته خطأٌ وهدمٌ؛ لأنَّ الحديث (المعلّق) هو نوعٌ من أنواع (المنقطع)، وهذا يعطي إشارة بالضعفِ! ولذلك سكت، وهو يعلم أنَّ تعليقات البخاري لا تُساق مساقًا واحدًا -في اصطلاحه هو- كما بيَّنه العلماء، فما جزم به فهو صحيحٌ، وما لم يجزم فقد وقد، وهذا الأثر مما جزم به، البخاري، فقال:"ورأى عمرُ أنَس بن مالك يصلي. . . " إلخ، فلماذا اكتفى (الهدَّام) ببيان أنَّه معلّق، ولم يبين أنَّه معلَّقٌ صحيح؟ !

الجواب معروفٌ عند جميع المتتبِّعين لهذه التخريجات!

هذا -أوّلًا-.

وثانيًا: إنَّ مما يؤكِّد ما ذكرته؛ أنَّه تجاهل مَنْ وَصَلَهُ ولم يبيّنه، ولو أنَّه فعل لتبين للقراء صِحَّتُه!

فقد قال عبد الرّزاق في "مصنّفه"(1/ 404/ 1581): عن مَعْمَر، عن ثابت البُنَاني، عن أنس.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط مسلم.

وقد تابعه حماد بن زيد: ثنا ثابت البُنَاني. . . به.

أخرجه الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق"(2/ 229).

‌68

- "قال صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتَدَّ غضبُ اللَّه على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد":

قلت: هكذا جزم المؤلّفُ بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مشيرًا بذلك إلى صِحَّته، وهو كما قال.

أمَّا (الهدَّام) فلم يُعجبه ذلك، وأعلّه بِعِلَّةٍ من وساوس صَدْرِهِ، فإنَّه رغم

ص: 144

كونه خَرَّجه من طريقين عن زيد بن أسلم مُرْسلًا، ومن طريق مالك، عنه، عن عطاء بن يسار مرسلًا، فهو مرسلٌ صحيحٌ؛ فإنَّه مع ذلك خرّج له شاهدًا موصولًا من رواية سفيان بن عيينة، عن حمزة بن المغيرة الكوفي، عن سُهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -مرفوعًا-، وعزاه لجمعٍ منهم ابن عبد البر (5/ 44)؛ ولكنّه أعلّه بما يكشف عما تُكِنّه نفسُه من العداوة الشديدة للسنة الصحيحة؛ فقال:

"قلت: وهذا إسنادٌ غريبٌ، في قلبي منه شيء (! )، تفَرَّد به حمزة؛ وليس بالمشهور"!

قلت: هكذا قال المأفون! خلافًا لمن وثقّه من الأئمة -كما يأتي-، وقد روى عنه جَمْعٌ من الثقات، مثل أبي أسامة، وهاشم بن القاسم، وسفيان بن عيينة -راويه هنا وهو أعرفُ الناس به-، فقد وصفه بأنَّه كان من سَراة الموالي، أي: من أشرافهم وذوي المروءة منهم.

وقد قال الدّارمي في "تاريخه عن ابن معين"(98 - 99): "وسألته عن (حمزة بن المغيرة الكوفي) الذي يروي عنه ابن عيينة: "لا تجعلوا قبري وثنًا" ما حاله؟ فقال: ليس به بأس".

وروى مثلَه ابنُ أبي حاتم (3/ 214 - 215/ 942) عن الدّارمي.

وذكره ابن حبان في "الثقات"(6/ 229)، (8/ 209).

وقال الحافظ: "لا بأس به".

ثم قال الأفين: "ولم يُصرِّح بسماعه من سهيل"!

قلت: هذا ليس بشرطٍ إلّا في رواية المدلّسين، وحمزةُ ليس منهم؛ وهذا مثالٌ من الأمثلة الكثيرة التي تؤكِّد أنَّه منطلقٌ في إعلال الأحاديث من آراء له

ص: 145

شخصيّة! لا قيمة لها في العلم! !

ومن هذا القَبيل قولُه -فيما بعد-: "فأخشى أن يكون مدار الحديث على المرسل"!

قلت: هذه خشيةُ جبانٍ جاهلٍ، لأنَّ الطريقين مختلفان تمامًا، فهذا: عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، وذاك: عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلًا؛ وإنّما يمكن أن يقال ما قال، فيما لو كان الموصول -مثلًا- من طريق عطاء عن أبي هريرة، أمَا والطريقان مختلفان كلَّ الاختلاف؛ فما يقول ذلك إلّا جاهِلٌ أو مكابرٌ!

وقال أخيرًا: "وإلّا؛ فأين أصحابُ سهيل بن أبي صالح المشهورون. . . " إلى آخر هُرائه؛ فإنَّه أقامه على زعْمِه المتقدِّم أنَّ حمزة هذا غيرُ مشهور، وقد أثبتُّ بطلانه، وما بُني على باطل فهو باطل! !

(تنبيه): ذكر (المُبْطِل) -عَقِبَ مرسل عطاء- أنَّه وصله عمر بن صُهْبان عند البزّار (440) عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري، ثم قال (المُبْطِل):

"ولكن المرسل هو الصواب، لأنَّ عمر بن صُهبان متروك".

قلت: هكذا وقع في "كشف الأستار"(1/ 220/ 440)(عمر بن صهبان)، وبه أعلَّه الهيثمي (2/ 28)؛ فاهتبلها (الهدَّام) فرصَة؛ فضعَّف هذا الإسناد الموصول به، وتجاه -كعادته- ما يعكر عليه تضعيفاته؛ وذلك أنَّه رأى (عمر بن صهبان) -هذا- وقع في رواية ابن عبد البر لحديثه من طريق البزار:(عمر بن محمد)، ووثَّقه ابن عبد البر، وصَحَّح حديثه هذا، ونقل نحوَه عن البزار نفسه؛ فلا بأس من نقله عنه -وإن طال به البحثُ- لما فيه من

ص: 146

الفائدة، وإقامة الحجَّة على (الهدَّام)، وتجاهله للحقائق.

قال -رحمه اللَّه تعالى- في "التمهيد"(5/ 41 - 43) - وقد ذكرَ روايةَ مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء. . . مرسلًا-:

"لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. . .، وزعم أبو بكر البزَّار أنَّ مالكًا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلّا (عمر بن محمد)، عن زيد بن أسلم، قال: وليس بمحفوظ من وجه من الوجوه إلّا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلّا أنَّ (عمر بن محمد) أسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وعمر بن محمد ثقة، روى عنه الثوري وجماعة، قال: وأمّا قوله جمبه: "لعن اللَّه اليهود" اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ فمحفوظٌ من طرقٍ كثيرة صِحاح.

قال أبو عمر: لا وجهَ لقول البزار إلّا معرفةُ مَن روى الحديث لا غير، ولا خلاف بين علماء الأثر والفقه؛ أنَّ الحديث إذا رواه ثقةٌ عن ثقة حتى يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه حجةٌ يُعمل بها، إلّا أن ينسخَه غيرُهُ، ومالك بن أنس عند جميعهم حُجَّةٌ فيما نقل، وقد أسند حديثَه هذا (عمرُ بن محمد)، وهو من ثقات أشراف أهل المدينة، روى عنه مالك، والثوري، وسليمان بن بلال وغيرهم، وهو (عمر بن محمد بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، فهذا الحديث صحيحٌ عند من قال بمراسيل الثقات، وعند من قال بالمسند؛ لإسناد (عمر بن محمد) له، وهو ممن تُقبل زيادته، وباللَّه التوفيق".

ثم ساق الحديثَ بإسناده المتصل إلى البزار، وهذا بإسناده المذكور في "الكشف" من طريق محمد بن سُلَيمانِ أَبي داود الحَرّاني؛ إلّا أنه قال:(عمر بن محمد)، مكان (عمر بن صُهْبان).

قلت: وهذا اختلافٌ شديدٌ، ولا أجد الآن ما يساعد على ترجيح أحد

ص: 147

الوجهين على الآخر، لأنَّ كُلًّا من (العُمَرَيْنِ) قد روى عن زيد بن أسلم، لكن لم يذكروهما في شيوخ أبي داود الحرّاني، لكن ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته في "تاريخ دمشق"(15/ 386) أنَّه سمع بدمشق جماعة، كما أنَّه ذكر في ترجمة (عمر بن محمد)(13/ 352) أنَّه قدم دمشق، فروى عنه من أهلها جماعة، فمن المحتمل أن (عمر) هذا -الثقة- سمع منه أبو داود الحَرَّانيُّ، بخلاف (عمر بن صهبان) -الضعيف-؛ فإنَّه -مع كونه مَدَنيًّا-، فإنّهم لم يذكروا له قدومًا إلى دمشق؛ واللَّه أعلم.

وقد يُضاف إلى ما تقدم مرجِّحٌ آخر، وهو قُرْبُ عهدِ ابن عبد البر من البزّار، فتكون الثقة بروايته ونقله عنه أقوى من نقل بعض المتأخرين عنه.

-كالهيثمي وغيره-.

هذا ما بدا لي من الترجيح، فإن أصبت فمن اللَّه، وإن أخطأت فمن نفسي، وإذا تم طبع "مسند البزار" المسمى "البحر الزخّار" فسينكشِفُ به ما يزيد الأمر وضوحًا وبيانًا -لصوابه أو خطإِه-.

وما كانت النيّةُ متوجِّهةً للخوض في هذا، لولا ضرورةُ بيان كتمان هذا (الهدَّام) للعلم الذي يكون حُجَّةً عليه، فنقل عن الهيثمي تضعيفَ حديث أبي سعيد وراويهِ (عمر بن صهبان)، ولم ينقل تصحيح ابن عبد البر إياه، وتوثيقه لراويهِ (عمر بن محمد) -وقد وقف عليه-، فقد عزا إليه روايته لحديث حمزة ابن المغيرة -كما تقدّمت الإشارة إليه-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .

‌69

- "قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبد اللَّه ابن نافع: أخبرني ابنُ أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

ص: 148

"لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا علي، فإنَّ صلاتكم تبلُغني حيث كنتم"، وهذا إسناد حسنٌ رواته كلهم ثقات مشاهير":

قلت: كذا حَسَّنه المؤلِّف رحمه الله، وهو كذلك أو أعلى -لما يأتي بيانه-.

وأمّا (الهدَّام) فوضع فيه ضعفًا، فقال -بعد أن عزاه لمصدرين آخرين-:"وفي إسناده عبد اللَّه بن نافع؛ وفيه ضعف"! ولم يَزِد! !

قلت: فيه تدليسٌ خبيثٌ، وتضليلٌ للقراء شديدٌ، وبيانه من الوجوه الآتية:

أوّلًا: في الرّواة بهذا الاسم (عبد اللَّه بن نافع) سبعةٌ، فيهم الثقة والصدوق والمجهول والضعيف، فعَمَّى أمرَه ولم يبيِّنه، لغايةٍ في (نفس يعقوب) معروفة! وهو هنا (الصائغ المخزومي -مولاهم- المدني).

ثانيًا: قال: "فيه ضعف"! فإنْ كان يَعْني ضعفًا لا يُنافي صِحَّةَ إسناده فضلًا عن حسنه -لأنَّ الحَسَن من طبيعته أن فيه ضعفًا- كما نبّهت عليه مرارًا-، أقول: إنْ كان يعني هذا، فهي معاكسةٌ مكشوفةٌ لتحسين المؤلِّف إياه، ولغيره من الحفّاظ المصحِّحين له -كما يأتي-، فكان الواجبُ عليه أن يوافقَهم ولو على التحسين فقط، ولكنْ. ..

وإن كان يعني ضعفًا ينافي التحسين على الأقل؛ فهو مبطلٌ مكابر؛ وهذا -منه- (شِنْشِنَةٌ نعرفها من أخْزَمَ)! فإنَّ المخزومي هذا لا يبلغ حالُه إلى الضعف المطلق -كما يتبيّن ذلك للباحث في ترجمته-، فلا أُطيل الكلام بذكر ما قيل فيه، وإنَّما أنقل كلمات بعض النّقاد الذين أحاطوا بأقوال الحفاظ المتقدمين فيه، ولخّصوها في جُمل قليلة:

فقال الذهبي في "الكاشف": "قال (خ): في حفظه شيء، وقال ابن معين: ثقة".

ص: 149

وهذا يعني بكل تأكيد أنَّه وَسَطٌ في حفظه، صدوقٌ في نفسه، فهو حسن الحديث، وهو اختيار المؤلف كما رأيت.

على أنَّ لابن نافع هذا حالةً أخرى هي خيرٌ مما تقدّم، كما أشار إلى ذلك بعضُ الأئمة:

فقال البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 213/1): "يعرف حفظه وينكر، وكتابه أصَحُّ".

ونحوه قول أبي حاتم -فيما رواه ابنه عنه في "الجرح"(5/ 184) -:

"ليس بالحافظ، هو لَيِّن؛ تعرف حفظه وتُنكر -وفي نسخة: يعرف حديثه وينكر-، وكتابه أصحُّ".

وأصرحُ من ذلك قول ابن حبان في "الثقات"(8/ 348):

"كان صحيحَ الكتاب؛ وإذا حدّث من حفظه ربّما أخطأ".

وقد لخّص الحافظُ كلَّ ما قيل في الرجل بكلمات قليلة نافعة؛ فقال:

"ثقةٌ، صحيحُ الكتابِ، في حِفظه لين".

من أجل ذلك أشار الذهبي في صدر ترجمته من "الميزان" إلى أنَّه: "صحيح الحديث"، وأنَّ مسلمًا احتجّ به.

وأورده في "معرفة الرواة المتكلَّم فيهم بما لا يوجب الرّد"(130/ 192).

فقد فَرَّق هؤلاء الحفاظ بين كتابه؛ فصَحَّحوه، وحفظِهِ؛ فليَّنوه بعض التَّلْيين؛ فتجاهل ذلك كلَّه (الهدَّامُ) بقوله:"فيه ضعف"! دون أن يُبَيِّن ما يعني به -كما سبق بيانه-، ودون أن يفرِّق بين كتابه وحفظه! ! وقد عرفتَ سبب عدم بيانه المشار إليه.

ص: 150

وأمّا عدمُ تفريقه؛ فسببه أنَّه إنْ فَرَّق لزمه تصحيحُ الحديث، لأنَّه رأى في إسناد الحديث أن الحافظ (أحمد بن صالح) قرأ عليه -يعني من كتابه-؛ ولذلك صحّحه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام"(2/ 892).

وقال الحافظ في "الفتح": "سندُهُ صحيحٌ"؛ ولذلك كنت خرَّجته في "صحيح أبي داود"(1780).

ثم ساق له المؤلّفُ بعضَ الشواهد من حديث علي، ومن طريقين آخرين مرسَلين؛ وقد خَرَّجها (الهدَّام) وضعَّفها؛ دون أن يستفيد من مجموعها صِحَّةً-، أو على الأقل حُسْنًا -كما هي عادته-، وهو يرى الإمام ابن القيم يُعَقِّب عليها بقوله:

"فهذان المرسَلان من هذين. الوجهين المختلفين يدلَّان على ثبوت الحديث، لا سيّما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوتَه عنده، هذا لو لم يكن رُوي من وجوه مسنَدةٍ غير هذين، فكيف وقد تقدم مسنَدًا؟ ! ".

لم يستفد (الهدَّام) من هذا كله شيئًا يصرفه عن هدمه؛ بل أخذ يجادلُ بالباطل، فأعرض عن تمام كلام ابن القيم، وعلّق على قوله في المرسَلَيْن:"يدلّان على ثبوت الحديث"؛ فقال (1/ 280): "ليس كلُّ مرسَلٍ يدلُّ على ثبوت مرسَلٍ آخر. . "، وتعامى عن بقيّة كلامه، فلم يقف عند قوله:"وقد احتجّ به من أرسله"، ولا قوله:"وهذا لو لم يكن روي. . . " إلى آخره؛ فأصرَّ على تجاهله لمسند أبي هريرة الذي وَضَعَ فيه ضعفًا؛ وذلك لا ينفي صلاحيتَه للاستشهاد به، فكيف وهو عند التحقيق حُجَّةٌ بنفسه؟ ! فكيف إذا انضَمَّ إليه المرسلان؟ ! فكيف إذا انضم إليها مسند علي أيضًا؟ ! وقد أخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" -كما ذكر ابن القيم عقب حديثه، وتعامى (الهدَّام) عنه، وقد رآه أيضًا معزوًّا في كتابي "تحذير الساجد"(ص 140) إلى نسخته

ص: 151

المخطوطة -وهو لا يَصِلُ إليها-، فإن كان هذا عُذرًا له! فقد طُبع المجلد الذي فيه الحديث (2/ 49/ 428)؛ فلماذا لم يَعزُهُ إليه؟

ولقد بلغ به شَغَفُهُ بالمخالفةِ، والجنايةِ على السنة؛ أنْ تعامى عن أنَّ مسلمًا قد أخرج الجملة الأولى من حديث أبي هريرة من طريق أخرى عنه، وعن كون الشيخين قد أخرجا لها شاهدًا من حديث ابن عمر، وهما مخرّجان في "أحكام الجنائز" (ص 2‌

‌70

- 271 - طبعة المعارف)؛ فهل يفعل هذا مسلمٌ ناصحٌ ذو علمٍ؟ !

70 -

"عن جابر أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تُجصَّصَ القبور، وأن يُكتب عليها، قال التِّرمذي: حديث حسن صحيح":

قلت: وتمام كلام التِّرمذي: "قد رُوي من غير وجه عن جابر"؛ ذكره تحت باب: (ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها).

وعزاه (الهدَّام) لأبي داود -أيضًا-، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم؛ وعقَّب على ذلك بقوله (1/ 286):

"وفي إسنادهِ نَظَرٌ بالزيادة التي فيها نَصُّ الكتابةِ، وكأنَّ حديثًا دخل في حديث، ويُفصَّل في غير هذا الموضع"!

قلت: هذا هُراءٌ في هُراءٍ، لا يعجز عن مثله أجبنُ الجبناء، وأجهلُ الجهلاء، لأنَّه مجرّد ادعاء، يلجأ إليه -عادةً- الأدعياء! وإلّا فما الذي يمنعه من التفصيل الذي زعمه! ويُحيل إلى موضع ربّما هو نفسُه لا يعلمه! بل إنَّ مثل هذا الكلام الغوعْائيِّ لَيُشْعِرُ أنَّ الرجل يرتجل الحكم على الحديث بالضعف، دون أي بحث، وإنَّما حسبما (يُوحي) إليه شيطانُهُ!

وَلَديّ على ذلك أدلّةٌ:

ص: 152

الأوّل: تخريجه المذكور، فإِنَّه عزا الحديث للخمسة، وقال:"وفي إسناده نظر"؛ فأوهم أنَّه عندهم بإسنادٍ واحد، وهو كذبٌ -لغةً وشرعًا-، فإِنَّه عند بعضهم بإسنادٍ آخر؛ فأخرجه التِّرمذي من طريق محمد بن ربيعةَ، والحاكم عن حفص بن غِيَاث، وأبي معاوية، وابن حِبّان أيضًا (3154)، والطّحاوي في "شرح المعاني"(1/ 296) كلاهما عن أبي معاوية محمد بن خازم، ثلاثتهم، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر.

وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.

فهذا هو الإسناد الأوّل.

والإسناد الآخر عند الثلاثة الآخرين -أبي داود، والنسائي، وابن ماجه-؛ من طريق ابن جُرَيج، عن سُلَيْمان بن موسى، عن جابر، وكذلك رواه ابن حِبّان، وليس عند ابن ماجه إلا جملة الكتابة -فقط-.

فلْيتأمل القراء كم في تخريج (الهدَّام) من خَبْطِ وخلطٍ وزُورٍ؟ !

هذا؛ وقد كنت صحّحت في "الإرواء"(3/ 208) هذا الإسنادَ الثاني، ثم بدا لي أنَّ فيه انقطاعًا بين سليمان بن موسى وجابر.

و(سليمان) -هذا- ليس في شيوخه أبو الزبير؛ فالغالب أنَّه تلقّاه من غيره، فيصلُحُ الاستشهادُ به، وإلّا فهو متابعٌ قويٌّ لابن جريج.

وأصلُ الحديثِ عند مسلم وغيره من طُرُقٍ عن ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير، أنَّه سمع جابر بن عبد اللَّه. . . به.

ومن الملاحظ على (الهدَّام) -هنا- ما يُلاحَظ على الكثير من تخريجاته؛ وهو إخلالُهُ بالأمانة العلمية، فقد كتم تصحيحَ التِّرمذي والحاكم والذهبي إياه، وكذا تصحيحَ ابن حبان، وكذا قول التِّرمذي: "وقد رُوي من غير

ص: 153

وجهٍ عن جابر"، كما كتم تصحيحَ النووي لإسناده، وإقرار الحافظ في "التلخيص" (2/ 132) لتصحيح المذكورين.

وأمّا عَدَمُ ذِكرهِ لتصحيح الحافظ عبد الحق الإشبيلي، فما أظنُّه علمه ليكْتُمَه! !

‌71

- "وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد، قال: قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزُورُها، فإِنَّ فيها عبرة":

أعلّه (الهدَّام)(1/ 291) -بعد أن عزاه لأحمد والحاكم- بقوله:

"وفي إسناده أُسامة بن زيد؛ وفيه ضعف".

قلت: ذلك لا ينافي أنَّه حَسَنٌ -كما قرّرته مرارًا، آخرها تحت الحديث (69) -، وقد كتم -كعادته- قول الحاكم والذهبي عَقِبَهُ:"صحيح على شرط مسلم"، كما أنَّه لم يبيّن للقراء هُوِيَّة (أُسامة بن زيد)؛ هل هو العدويُّ المدني الضعيف؟ أم الليثيُّ المدني الثقة؟

فالعدوي؛ قال الحافظ: "ضعيفٌ من قبل حفظه".

وقال في الليثي: "صدوقٌ يهم".

وقال الذهبي في "معرفة الرواة"(64/ 26):

"أسامة بن زيد الليثي لا العدوي؛ صدوقٌ قويُّ الحديث، أَكثَرَ مسلمٌ إخراجَ حديث ابن وهب عنه، ولكن أكثره في الشواهد والمتابعات، والظاهر أنَّه ثقةٌ، وقال النسائي: ليس بالقوي".

وإِذا رجعنا إلى إسناد الحاكم (1/ 374) وجدناه من رواية ابن وهب: أخبرني أُسامة بن زيد. . . فظاهره أنَّه الليثي، لكنْ لدى الرجوع إلى ترجمة العدويِّ، وجدنا أنَّه قد روى عنه ابن وهب أيضًا؛ فمن الصعب -والحالةُ

ص: 154

هذه- الجزم بأنَّه الليثي، وإن كان الحاكم والذهبي جَرَيَا على أنَّه هو.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فالحديثُ إن كان من حديثه فهو حسنٌ صحيحٌ، وإن كان من حديث العدوي فهو صحيحٌ لشواهدهِ الآتية.

فتخريجُ (الهدَّام)، وإطلاقُه ضعفَ أسامة، وكتمُه الشواهد؛ من جَوْرِه وظلمهِ للسنّة -كما لا يخفى-.

‌72

- "وعن بُريدة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور؛ فَلْيَزُرْ، ولا تقولوا هُجرًا" رواه أحمد، والنسائي":

قلت: هو حديثٌ صحيحٌ بتمامه -كما يأتي-.

وأمَّا (الهدَّام) فمَرّ عليه مَرَّ الكرام! ولم يزد في التخريج على أن ذكر أرقامه في المصدرين المذكورين، وقال (1/ 290):"وأصله عند مسلم (977)، وأبي داود (2235) بنحوه".

فأقول: هذا التخريجُ شأنُ من لا يُحسِن التحقيق، ولا يستطيع أن يميِّز الصحيح من الضعيف، لما فيه من الإجمال والإعراض عن البيان -كما هي عادة هذا (الهدَّام) -.

فالحديث فيه ثلاثُ جُمَل -كما يرى القراء الكرام-، فما هو الأصلُ منه الذي رواه مسلم وأبو داود؟ ! ذلك مما لم يبيِّنه (الهدَّام)؛ وهذا من أساليبه في الهدم والتضليل!

وهاكم البيانَ:

أولًا: الحديث عندهم -جميعًا- من طريق مُحارب بن دِثَار، عن ابن بُريدة -وهو عبد اللَّه في رواية غير مسلم-، عن أبيه. . . -مرفوعًا - مختصرًا-، بلفظ:"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".

ص: 155

فهذا أصلُه الذي عزاه لمسلم؛ فتابعْ معي:

ثانيًا: زاد أبو داود (3235) بسندٍ صحيح عن محارب: "فإنَّ في زيارتها تذكرة".

فهذا هو أصله الذي عزاه لأبي داود! فتأمّل الفرقَ بينهما، ثم احكم على (الهدَّام) بالحق. . .

ثالثًا: وفي رواية للنسائي من طريق المغيرة بن سُبَيع: حَدَّثني عبد اللَّه بن بُريدة، عن أبيه. . . باللفظ الذي ساقه ابنُ القيم، وإسنادهُ صحيحٌ، رجاله كلهم ثقاتٌ.

رابعًا: تابعه أبو جَنَاب، عن سُليمان بن بُريدة، عن أبيه. . . مرفوعًا بلفظ:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ولا تقولوا هُجرًا".

وهذه روايةُ أحمدَ (5/ 361)؛ وإسناده ضعيف، أبو جَنَابٍ -واسمه يحيى ابن أبي حَيَّة-: قال الحافظ: "ضعّفوه؛ لكثرة تدليسه".

وفي أُخرى له (5/ 355) من طريق مُحارب بن دِثَار. . . مثل لفظ مسلم، وزاد:

"لتذكِّركم زيارتها خيرًا"، وإسنادها صحيح.

ومن طريقْ أُخرى -فيها ضعفٌ- عن عبد اللَّه بن بُريدة؛ بلفظ: "فإنّها تُذَكِّر الآخرة".

ولجملة: "ولا تقولوا هُجرًا" شاهدان، أحدهما من حديث أنس بسند حسن، وهو مخرّج في "أحكام الجنائز"(228 - 229/ المعارف)، والآخر عن أبي سعيد الخُدْري، رواه أحمد (3/ 63 و 66)، ورجاله ثقات؛ غير محمد بن عمرو بن ثابت، لم يوثّقه غير ابن حبان؛ فلا بأس به في الشواهد، وانظر

ص: 156

"الصحيحة"(2969).

ثم لا بُدَّ من التذكير -بما سبق التذكير به مرّة أو أكثر-، أنَّ عزو (الهدَّام) هنا -أو في غير هذا المكان- لمسلم؛ لا يعني ذلك أنَّه حديثٌ صحيحٌ عنده! فكم من حديث له ضعّفه (الهدَّام) جهلًا وبغيًا بغير حق؟ ! ومن الأمثلة على ذلك ما تقدم برقم (5 و 50)، وبخاصة ما كان من حديث (ابن بُريدة عن أبيه)، فإنَّه يزعم أنَّه لم يسمع من أبيه! وبه أعلّ الحديث الصحيح:"من حلف بالأمانة فليس مِنا"؛ صرَّح بذلك في "ضعيفته" التي ذَيَّل بها على طبعته لـ "رياض الصالحين"(559/ 119)؛ وغفل أو تغافل -لا أدري! - عن أحاديث أُخرى بهذا الإسناد، مثل حديث مسلم هذا في زيارة القبور (رقم 434/ "رياضه")، والذي بعده فيه بحديث (رقم 436)، وكلاهما عزاهما لمسلمٍ - أيضًا -هنا- قُبيل هذا الحديث! وسكت عنهما -كما فعل في "الرياض"! - ومثل حديث:"لا وجدت" عند مسلم، ورقمه فيه (1296)، وحديث:"لا تقولوا للمنافق: سَيّد. . . "، ورقمه (1312)، كلُّ هذه الأحاديث من رواية ابن بُريدة عن أبيه؛ فكان يلزمه أن يُبَيِّنَ موقفَه منها، وإلّا أُدِينَ بأنها ضعيفةٌ عنده، وإلّا قوّاه ببعض الشواهد والطرق إنْ وُجِدت، إلّا أنَّ هذا ليس من طبيعة مَن نصب نفسه لتضعيف الأحاديث الصحيحة!

‌73

- "وعن علي بن أبي طالب، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّي كنت نهيتُكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، فإِنَّها تذكِّركم الآخرة"، رواه الإمام أحمد":

وهذا حديثٌ صحيحٌ بشواهده.

أمّا (الهدَّام) فلا يقيم وزنًا للشواهد، وإلّا لم يكتَفِ بقوله (1/ 291) -فيه-:"وأخرجه أحمد (1/ 145) بإسنادٍ فيه ضعفاء"!

ص: 157

أمّا الشطر الأوّل منه، فشاهده حديث بريدة عند مسلم وغيره -كما تقدم آنفًا-.

وهنا أتساءل، فأقول: أليس لنا أن نتّخذ إعراضه عن الاستشهاد به دليلًا جديدًا على تضعيفه لحديث بريدة، غير الانقطاع الذي ادّعاه في إسناده على ما قدّمنا بيانه؟ ! بلى وربِّي؛ فإنَّ من طريقته الاستشهادَ بالأحاديث الصحيحة للأحاديث الضعيفة، فلولا أنَّه يرى ضعف حديث بريدة لاستشهد به لحديث علي -إن شاء اللَّه تعالى-.

أَمّا الشطر الآخر فيشهد له حديث بريدة -أيضًا- عند أحمد -كما تقدم (ص 126) بلفظه -أعني الشطر الثاني-، كما يشهد له زيادة أبي داود - المتقدّمة (ص 125) - بلفظ:"فإِنَّ في زيارتها تذكرة"، وسندها صحيح -كما تقدم-.

ويشهد لها -أيضًا- حديث أنس -بلفظه أيضًا المخرَّج في "الأحكام"- بسندٍ حسن -كما سبق-.

ثم إنَّ قوله: "فيه ضعفاء"، ليس تعبيرًا علميًّا، لأَنَّه ليس فيه إلّا ضعيفٌ واحدٌ -هو: علي بن زيد بن جُدْعان-، عن (ربيعة بن النابغة، عن أبيه) -وهما مجهولان-.

وقد يجادلُ هو -أو غيره من الجهلة-، فأقول له سَلَفًا: أرأيتَ لو كان في الإسناد رجلٌ مجهول، أتقول فيه: ضعيف؛ أو: مجهول؟ ! وكذلك الأمر إذا كان فيه مجهولان فأكثرُ، فكذلك ما نحن فيه، الصواب أن يقال:"فيه ضعيف ومجهولان"؛ فإنَّه المطابق للواقع.

‌74

- "وفي "الترمذي" وغيره مرفوعًا: "الدعاء هو العبادة"".

ص: 158

قلت: الحديث عندنا صحيحٌ بلا ريب، وقد صحَّحه جَمْعٌ، وهو مخرَّج عندي في مواضع، منها "أحكام الجنائز"(246).

وقد خرجه (الهدَّام) من رواية أصحاب "السنن" وغيرهم، ولم يذكر من صحَّحه من الأئمّة كعادته، وإنَّما أعلّه بـ (يُسَيعْ الحضرمي) الراوي له عن النعمان بن بشير، فقال (1/ 292):

"فيه جهالةُ حالٍ، وتوثيق النسائي وابن حبان له؛ فمن عادتهما -أحيانًا-[التساهل] (1) في توثيق المجاهيل والمسكوت عنهم، وهي عند النسائي أقلُّ بكثير مما عند ابن حبّان، وأرجو أن يكون الحديث حسنًا"!

قلت: هذا التحسين - ولو مقرونًا مع الرجاء؛ والذي نتمنى أن يكون مطَّرِدًا في كل ما ضَعَّفه من الأحاديث الصحيحة؛ من باب أخفِّ الضررين! - أقول: هو مما يخالفُ به منطلقَهُ الذي شذّ به عن العلماء، وخالف {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} في التضعيف -بناءً على عِلَلٍ ابتدعها-، فكم من حديث صحيح ضَعَّفَه بدعوى الجهالة وعدم الشهرة تارةً، أو الانقطاع بين التابعي والصحابي تارةً أُخرى! وغير ذلك من عِلَلِه؛ مثل تضعيف الحديث المتعَدِّد الطرق مهما كانت كثيرة وسالة من الضعف الشديد -كما تقدّم التنبيه عليه مرارًا وتكرارًا-.

وأقربُ مثالٍ للعِلَّة الأولى رَدُّه للحديث المتقدِّم برقم (68) بقوله:

"تَفَرَّد به حمزة، وليس بالمشهور"! ثم قال:

"فأَين أصحابُ سهيل بن أبي صالح المشهورون عن هذا الحديث؟ ! ".

فنقول له:

ما عدا عَمّا بدا؟ ! لِمَ لَمْ تُعلِّل هذا الحديثَ -أيضًا- بعلَّتِك تلك إن كنت

(1) سقطت من مطبوعة (الهدَّام)؛ والسياق يقتضيها.

ص: 159

مؤمنًا بها؛ فتقول مثلًا: فأين أصحاب النعمان بن بشير عن هذا الحديث؟ ! وهي هنا أَوْلَى من هناك لو كانت صحيحة! وذلك لأنَّ (حمزة) ليس مجهولَ العين، ولا مجهولَ الحال، بل هو ثِقَةٌ -كما تَقدَّم-؛ بخلاف (يُسَيع)، فإنَّه لم يَرو عنه غير (ذَرّ بن عبد اللَّه الحضرمي)، وعليه فهو مجهولُ العين عِندَك، فَلِمَ خالفت أيضًا، فقلت:"فيه جهالة حال"؟ ! وأنت القائل في "حوارك"(ص 99):

"من وثَّقه ابن حبان وروى عنه اثنان أو ثلاثة أو أكثر؛ يكون مجهولَ الحال".

فهذا يعني أنَّ (يُسيعًا) مجهولُ العين عندك؛ فَلِمَ خالفت، فأفهمتَ القراء خلاف الواقع؟ ! وعندي أنَّك فعلتَ ذلك تميهدًا لقولك الأخير:"وأرجو أن يكون الحديث حسنًا"!

وحينئذٍ؛ نأخذُ بتلابيبهِ، ونقولُ له: لِمَ لَمْ تَرْجُ مثلَ هذا الرَّجاء في حديث العِرْباض بن سارية -المتقدِّم برقم (2) -، والذي رواه عنه عبد الرحمن بن عمرو السُّلَمي، وحالُهُ خيرٌ من حال (يُسَيع)، فقد اعترفت في "حوارك"(ص 100) بأنَّه مجهولُ الحال مع كَثرةِ من روى عنه! يضاف إلى ذلك كثرةُ الحفاظ المُصحِّحين له، وشهرتُه عند العلماء كافة، واحتجاجُهم به -كما بيَّنت هناك؟ ! -.

وأمّا إعلالُهُ بالانقطاع -ولا انقطاعَ-؛ فأقربُ مثالٍ الحديثُ (43) من رواية أبي نَعَامة، عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل؛ فزعم أنَّ ظاهره الإرسال من أبي نَعَامة، إلّا أن يُصرح بالسماع من عبد اللَّه بن مُغَفَّل، وقد وددتُ عليه هناك باختصار، وأحلت التفصيل على المقدِّمة.

وهذا الإعلالُ العليلُ يَرِدُ -أيضًا- على رواية (يُسَيع) عن النعمان بن بشير؛ فإنَّه لم يصرح بالسماع أيضًا، فهل رجع إلى الاكتفاء بالمعاصرة -وهو

ص: 160

المذهب الذي لا يستقيم الحديث إلّا عليه-؟ أم هي الفوضى واللامنهجيّة الجليّة في تخريجاته؟ !

هذا هو الذي نَدين اللَّه به؛ وأعوذ باللَّه أن أظلِمَ أو أُظلَم! بل لا بُدَّ من المصارحة وبيان الحق، لعلّه يعود إلى رشده، ويتوب إلى رَبِّه، ويتَّبع {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، ولا يُجهِّلهم ويتعالى عليهم.

وقد ذكرتُ شيئًا من سوء أدَبه معهم تحت حديث العرباض -المشار إليه آنفًا-.

وإنَّ من تدليسه على القراء، ومكرِه لستر تناقُضِه -غير وصفه لـ (يُسيع) بجهالةِ الحال! -: أنَّه لم يَسُقْ إسنادَه عن يُسيع، عن النعمان، بل قال:". . . من حديث النعمان بن بشير، وفيه يُسَيع الحضرمي. . . "؛ فعمّى -كعادته- على القراء طَبَقَةَ (يسيع)، وأنَّه الراوي عن النعمان؛ لكي يسدَّ الطريق على من قد يتنبّه لخطإه الناتج من (لامنهجيَّته)! فهو تابعيٌّ لا تنطبق عليه قاعدة المجاهيل، لقول الإمام ابن المديني:"معروف"، ولذا وثّقه الذهبي والعسقلاني، فاستعلى الجاني وبغى، وخالفهم جميعًا!

‌73

- [*]"وفي "فتاوى أبي محمد بن عبد السلام": أنَّه لا يجوزُ سؤال اللَّه -سبحانه- بشيء من مخلوقاته. . . وتوقَّف في نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لاعتقاده أنَّ ذلك جاء في حديث، وأنَّه لم يعرف صحَّة الحديث":

قال (الهدَّام)(1/ 311): "يشير إلى حديث عثمان بن حُنَيف في قصة استشفاع الأعمى؛ أخرجه أحمد (4/ 138)، والترمذي، وابن ماجه -وغيرهم-".

هكذا قال! فلم يتكلّم على إسناده تصحيحًا أو تضعيفًا، والظاهر أنَّه يذهب إلى تضعيفه، وإلّا لما سكت غَيْرَةً على حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلأتْبَعَهُ

[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا الترقيم بالمطبوع!

ص: 161

بتصحيح التِّرمذي إيّاه، ويُحتمل أنَّه إنَّما سكت تَقِيَّةً للفريقين المختلفين في دلالته على التوسل المبتدع، وقد صحّحه -أيضًا- الحاكم، والذهبي، وغيرهما -كشيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه "التوسل والوسيلة"-، وقد بيّنت صِحَّة إسناده، ورددتُ على من أعَلّه بجهالة أحد رواته في كتابي المعروف "التوسل؛ أنواعه وأحكامه"(ص 70)، وفصَّلت فيه القولَ في الرَّد على من استدلّ به على جواز التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين، وحقَّقت أنَّ الأعمى إنّما توسَّل بدُعائِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فلْيراجَع، فإِنّه مهم.

(تنبيه): وقع قول (الهدَّام) المذكور في حاشية (ص 309)، وهو خطأٌ مطبعيٌّ من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في طبعته للكتاب، وبخاصَّةٍ في تعليقاته، وقد تقدَّم مني بيانُ سببِ هذا في آخر كلامي على الحديث (63)؛ فراجِعْه -إن شئت-.

‌74

- "ورُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن اسمتمع إلى قَيْنَة صُبَّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة":

قلت: أشار المؤلف رحمه الله إلى ضعفه، وهو كما قال؛ بل أشدُّ.

وقال (الهدَّام)(1/ 339):

"ظاهر الضعف، نسبه السيوطي في "الجامع الكبير" إلى ابنِ صَصْرَى في "أماليه"، وابن عساكر عن أنس، "الكنز" (15/ 220 - 221) ".

قلت: في هذا التخريج أمور:

أوّلًا: لقد أبعد النُّجْعَةَ في العزو المذكور، لا سيما وهو فيه بلفظ:"من قعد. . . "؛ ولكن هذا هو الذي ساعدته عليه بعضُ الفهارس! بينما الحديث في "الجامع الصغير" وهو أشهر وأقرب تناولًا من "الجامع الكبير" -وبواسطة

ص: 162

"الكنز"! -، وهو -إلى ذلك- فيه - بلفظ الكتاب! !

ثانيًا: قوله: "ظاهر الضعف"؛ لم يبين السبب -كما هي عادته في كتمان ما ينبغي إظهاره! -، وأنا أظن أنَّ السبب إنّما هو اعتمادُهُ على عقلهِ، وأنَّه لا يرى مانعًا من الاستماع إلى المغنيّات وآلات الطرب! ! لأنَّه يضعِّف كل الأحاديث الواردة في تحريمها، ومنها حديث البخاري في تحريم المعازف -الآتي مع الرَّد عليه برقم (79) -.

ثالثًا: كنت أوردتُ الحديثَ في "الضعيفة" برقم (4549)، ونقلت فيه من بعض المصادر المخطوطة العزيزة أنَّ الإمامَ أحمدَ سُئل عن هذا الحديث؟ فقال:

"هذا باطلٌ".

وكفى بإمام السُّنَّة حُجَّةً.

‌75

- "وعن إبراهيم، قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، وهو صحيحٌ عن ابن مسعود من قوله؛ ورُوي عنه مرفوعًا":

قلت: وهذا هو الصواب.

وأما " (الهدَّام) فعاكسه -كعادته- (1/ 351)؛ فقال:

"بل لا يصحُّ موقوفًا ولا مرفوعًا، فإن كِلا الطريقين المذكورتين فيها انقطاع، فمحمد بن عبد الرحمن بن يزيد، وإبراهيم النخعي لم يسمعا من ابن مسعود".

قلت: لقد تجاهل -كعادته- وقول إبراهيم النخَعي عن نفسه؛ أنَّه إذا قال قال عبد اللَّه، فهو غير واحد من أصحاب عبد اللَّه، فهو متصل صحيح -كما قال ابن القيم-؛ فإنَّ أصحاب عبد اللَّه ثقات فقهاء، وكذلك قال

ص: 163

البيهقي، وصحّح ما رواه هكذا عن ابن مسعود، كما بيّنته في الفصل الثامن من "الرَّد على ابن حزم ومقلديه في إباحة المعازف"؛ وهو مطبوعٌ -بحمد اللَّه تعالى-.

‌76

- "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهِنًا فَصَدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمد":

قلت: جزم به ابن القيِّم -إشارة إلى صِحَّتِهِ-، وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه، فقد روى عوف بن أبي جميلة، عن خِلاس، ومحمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . فذكره بلفظ: "من أتى عَرَّافًا أو كاهنًا. . . "، والباقي مثله سواء، أخرجه أبو بكر بن خَلّاد في "الفوائد"(1/ 221/ 1)، والحاكم (1/ 8)، والبيهقي (8/ 135) من طريقين عنه.

وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرطهما جميعًا من حديث ابن سيرين"، ووافقه الذهبي؛ وأقرَّه الحافظ ابن حجر -كما يأتي-، وصحّحه الحافظ ابن كثير في "التفسير"(1/ 144).

وأما (الهدَّام)؛ فقد تعامى عن هذا الإسناد الصحيح، وعن تخريج الحديث بلفظ الكتاب، وسَوَّد صفحتين في تخريج لفظٍ آخَرَ لم يَرِدْ له ذكرٌ فيه! موهمًا القراء -بتدليسه ومكره- أنَّه يخرِّج لفظَ الكتاب، وإنَّما هو لفظٌ آخرُ عن أبي هريرة -بزيادة على متن حديث الكتاب-.

ومن تمام تدليسه أنَّه لم يسق لفظه في أوّل تخريجه؛ ليصرف أنظار القراء أنَّه إنَّما يعني به لفظ الكتاب، مصرحًا بأنَّه ضعيف! وإنما ساقه بعد النصف الأوّل من تخريجه، بلفظ:"من أتى حائضًا أو امرأةً في دبرها، أو كاهنًا، فقد كفر. . "؛ خرَّجه من طريق أبي تميمة، والحارث بن مُخَلَّد، وخِلاس -ثلاثتهم-، عن أبي هريرة، وعن الحسن البصري مرسلًا، مقرونًا مع حديث

ص: 164

خِلاس، من رواية أحمد (2/ 429).

ولم تَدَعْهُ نفسُهُ الأمّارة بالسوء دون أن يُدَلِّس في حديث، فإِنَّه لم يسق منه إلَّا كلمتين، فقال:". . . خِلاس، عن أبي هريرة، والحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى. . . " فذكره"، يعني اللفظ الذي ذكرتُهُ قبل أسطر! وإذا رجعتَ إلى الموضع الذي أشار إليه من "المسند" وَجَدْتَهُ مختصرًا مثل لفظ خِلاس المقرون مع محمد بن سيرين -الذي قدَّمتُه في صَدر هذا التحقيق-؛ فأعوذ باللَّه من شَرِّ التدليس والمُدَلِّسين، والكذب والكذّابين!

وقد وَقَعَتْ له عجائبُ أُخرى؛ من الآراء الفَجَّة والتعليلات الشخصية الباردة في تخريجه للطرق المذكورة، لا أرى من المهم بيانها، لأنَّ البحث سيطول بذلك جدًا، وبخاصّة أنني قدّمت الإسناد الصحيح لحديث الكتاب -الذي هو موضوعُ البحث- الذي تَعَمَّد (الهدَّام) كتمه والإعراض عنه -عامله اللَّه بما يستحقُّ! -.

وَحَسْبُ القراءَ أن يعلموا أنَّ الحديث من لفظ آخر -من طريق (الهُجَيمي) - قد صحّحه جمعٌ من الحفّاظ؛ كالضياء المقدسي، والحافظ العراقي، والدهبي، وما أعلّه به (الهدَّام) ليس بِعِلَّةٍ قادحة، ويشهد له طريق الحارث بن مُخَلَّدٍ.

ومن رام التفصيل فلْيرجع إلى "الإرواء"(7/ 68 - 70)؛ الذي منه استقى (الهدَّام) عامّة طرقه وتخريجها، لقمةً سائغةً يأخذ منه ما يراه، ويَدَعُ ما يخالف هواه، كحديث ابن سيرين الذي يقضي على هواه ويجعله كالهباء، وكشاهده -حديث جابر المشار إليه هنا، والآتي تقويةُ إسناده من الحافظ قريبًا- إن شاء اللَّه -تعالى-.

ولِتتبيَّنَ -أيها القارئ الكريم- صِحَّةَ ما ذكرته آنفًا من استقائهِ تخريجَه

ص: 165

من "الإرواء"؛ قابِلْه بقوله في آخر تخريجه:

"والشواهد المذكورة لهذا الحديث لا تَصِحّ، انظر "مجمع الزوائد" (5/ 117 - 118")!

فلو أنَّ الرجل كان على معرفةٍ بفنّ التخريج، وعلى علم بطرق التصحيح والتضعيف، وغيورًا على سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُضَعَّفَ بمجَرَّد الدَّعوى، لبادر إلى تخريج الشواهد التي أشار إليها تخريجًا علميًّا دقيقًا، ولم يقنع بإحالة القراء إلى "مجمع الزوائد"، بل وموهمًا إياهم أنَّ صاحب "المجمع" ضَعَّفها، وهو كذبٌ وزورٌ، بل هو -كما يقول البعض: - له قرونٌ! فإنَّ بعضها حجّة عليه؛ لأنَه وثَّق رجالها، وهذا -وإن كان لا يعني أنَّه صحَّح إسنادها- كما بيّنت ذلك مرارًا -، فهو -أيضًا- لا يعني ما أشار إليه من التضعيف، على أنَّه لما رجعت إلى أسانيد بعضها تبين لي صحتها، ممّا أكَّد لي تدليسه وكذبه.

والكلام عليها وتخريجها مما لا يَتَّسع له المجال الآن، ولا سيما وقد خَرَّجت أحدها تحت الحديث (2650) من "الصحيحة" المجلد السادس، وأشرت فيه إلى جناية (الهدَّام) عليه، فحسبي هنا -إذن- أن أسترعي النظرَ إلى أنَّ الحافظ المنذري في "الترغيب"(4/ 52 - 53) قد جَوَّد أسانيد ثلاثة منها، هي: عن عِمْران بن حُصَين، وجابر بن عبد اللَّه، وابن مسعود، ونحا نحوه الحافظ العسقلاني.

ومن المفيد أن أسوق كلامه ليتأكد القراء -بل ليزدادوا تأكُّدًا- أنَّ (الهدَّام) ليس على شيء من العلم والتقوى! بل هو يهرف بما لا يعرف!

قال الحافظ في "الفتح"(10/ 217) -بعد أن ذكر تصحيحَ الحاكمِ لحديث ابن سيرين وأقرّه-، وسَيُؤكِّد ذلك في آخر كلامه-:

"وله شاهد من حديث جابر، وعِمران بن حُصين، أخرجهما البزار بسندين

ص: 166

جيدين، ولفظهما:"من أتى كاهنًا. . . " وأخرجه مسلم من حديث امرأةٍ من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومن الرواة من سمّاها حفصة - بلفظ: "من أتى عَرّافًا. . . "، وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسندٍ جيدٍ، لكن لم يُصَرِّح برفعه، ومثله لا يقال بالرّأي (1)، ولفظه:"من أتى عَرَّافًا أو ساحِرًا أو كاهنًا. . . ".

واتفقت ألفاظُهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلّا حديث مسلم، فقال فيه:"لم يقبل لهما صلاة أربعين يومًا"، ووقع عند الطبراني من حديث أنس -بسند ليِّن مرفوعًا- بلفظ:"من أتى كاهنًا فَصدَّقه بما يقول، فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدِّقٍ له، لم تُقبل صلاته أربعين يومًا".

والأحاديثُ الأُوَلُ -مع صحّتها وكثرتها- أولى من هذا، والوعيدُ جاء تارة بعدم قبول الصلاة، وتارة بالتكفير، فَيُحمل على حالين من الآتي، وقد أشار إلى ذلك القرطبيُّ.

و(العرّاف): بفتح اليهملة وتشديد الرّاء: من يستخرج الوقوف على المغيَّبات بضرب من فعل أو قول.

قلت: وحديث مسلم مخرَّج في "غاية المرام"(172/ 173)، وتحت الحديث (6523) من المجلّد الرابع عشر من "الضعيفة"، وحديث أنس مخرَّج فيه برقم (6555).

فهل بعد هذا كلّه؛ يشكُّ أحدٌ في أنَّ الرجل جاحدٌ للحقائق، يردُّ الأحاديث الصحيحة بجهلهِ وتطاوله؛ مدلِّسٌ معأنِدٌ مكابرٌ، غَرَضُهُ -باسم التخريج والتحقيق- هدمُ السنّة وما بُني عليها من الأحكام الشرعية؟ ! فاللَّه حسيبُهُ.

(1) قلت: ويؤيِّده أنَّ بعض الرّواة رفعه؛ رواه أبو نعيم في "الحلية"(5/ 104).

ورواه -أيضًا- (8/ 246) من حديث ابن عمر.

ص: 167

‌77

- "روى التِّرمذي من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه؛ قال: خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النَّخْل، فإِذا ابنهُ إبراهيمُ يجود بنفسه. . . " الحديث، وفيه بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ابنه، وقوله:"هو رحمةٌ. . . وإنّا بك لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب"، وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن:

"إنَّما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نِعمة؛ لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة. . . " الحديث؛ قال التِّرمذي: حديث حسن".

قال (الهدَّام)(1/ 362): "أخرجه بطوله الحاكم (4/ 40)، والطحاوي (4/ 293) من "المعاني"، وأخرجه التِّرمذي (1005) دون آخره: "وهذا هو رحمة. . . "؛ وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ وهو ضعيف".

قلت: فيه -أوّلًا-: أنَّ هذا التخريج والتضعيف من الأدِلّة الكثيرة الدّالة على هدمه -المشار إليه آنفًا-؛ فإنَّ قصة وفاة إبراهيم عليه السلام وبكائه صلى الله عليه وسلم عليه، وما قاله فيه؛ ثابتٌ في "الصحيحين" من حديث أنس بنحوه، وهو مخرَّج في "أحكام الجنائز"(ص 32)؛ فلِمَ كتمه؟ ! أم أنه جاهلٌ به؟ ! أحلاهما مُرٌّ!

ثانيًا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما نَهَيْتُ عن صوتين. . . " إلخ؛ شاهدٌ قويٌّ من حديث أنس -أيضًا-؛ يأتي الكلام عليه بعد هذا.

من أجل هذا -والذي قبله- قال التِّرمذي: "حديث حسن"؛ أي: لغيره؛ كما هو معروفٌ من اصطلاحه الذي بيَّنه في آخر "سننه"؛ ففيه إشارة منه -أعني التِّرمذي- إلى أنّ في السند ضعفًا، فكَشْفُ (الهدَّام) عن سبب الضعف -فقط-، دون بيان سبب التحسين: هو من خياناتهِ العلميّة التي لا تنتهي! والسبب واضحٌ جدًا: الهدم، ثم الهدم!

ص: 168

ثالثًا: الحديث عند التِّرمذي من رواية جابر، وعند اللذَيْنِ عزاه (الهدَّام) إليهما، هو من روايتهما عنه، عن عبد الرحمن بن عوف، فكان عليه أن يُبَيِّن ذلك؛ ولكن ما له ولمثل هذا التحقيق، وهو إنما همّهُ التخريبُ والتضعيفُ؟ !

ومن العجيب؛ أنَّ همَّه قد يُعْميهِ عَمّا قد يساعده عليه، فإنَّ هذا الاختلافَ في إسناد الحديث، إنَّما هو من الأدِلّة على ضعف ابن أبي ليلى هذا! ولكنّ ضعفَه لا يضُرُّ حديثه هذا؛ لما سبق بيانه من الشاهد الذي كتمه المُخَرِّب! وقد رواه ابن سعد -أيضًا- (18138) عن جابر، عن عبد الرحمن.

‌78

- "وقال الحسن: صوتان ملعونان: مزمار عند نِعمة، ورَنَّةٌ عند مصيبة":

قلت: لم يُخَرِّجه (الهدَّام)؛ إمّا لجهله بالآثار السلفية، أو لاستهتاره بها لَمَّا خالفت هواه المستحلَّ للمزامير التي حَرَّمها اللَّه، والذي يحملُهُ على تضعيف كثير من الأحاديث التي صَحَّت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ومنها حديثُ البخاري -الآتي في تحريمها بعد هذا الأثر-.

وقد أخرجه ابن أبي الدنيا من طريقين عن الحسن -وهو البصري-، ولذلك جزم به ابن القيم، لا سيّما وقد صحّ مرفوعًا -كما يأتي قريبًا-، وهو مخرّج في مقدمة رسالتي في "الرّد على ابن حزم في إباحته الملاهي وعلى مقلّديه".

ولم يكتف (الهدَّام) بعدم تخريجه، بل علَّق عليه بالافتراء على أحد حُفَّاظ الأمَّة؛ فقال:

"رفعه البزَّار (795) من حديث أنس، وفيه شَبِيب بن بِشْر، وهو ضعيف".

قلت: فيه مؤاخذتان:

الأُولى: افتراؤه على الحافظ البزَّار بقوله عنه: "رفعه"؛ بدل أن يقول:

ص: 169

"أخرجه"! ليوهم القراء أنَّ هذا الأثر أخطأ فيه البَزَّار، فرفعه! وهذا كذبٌ محضٌ وافتراءٌ، فقد رواه -أيضًا- كالبزار -مرفوعًا-: أبو بكر الشافعي، والضياء المقدسي -وغيرهما- عن أنس، وهو على علم بذلك من كتابي "الصحيحة"(427)، فقد نصب نفسه لمعاكستي في تصحيح ما فيه وفي غيره ما وسعه الأمر (حَسَدًا وبغيًا)؛ والعياذ باللَّه -تعالى-!

والأُخرى: إطلاقه الضعف على (شَبِيب بن بِشْر) خطأٌ محضٌ، بل هو جَوْرٌ واعتداءٌ عليه، فإِنَّه مختلَف فيه، وقد وثَّقه ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم:"لَيِّن"؛ كما قال الذهبي في "الكاشف"، فهذا يُشعر بأنَّ الرجل وَسَطٌ، أي: حسن الحديث.

ونحوه قول الحافظ في "التقريب": "صدوق يخطئ".

فالإسنادُ حَسَنٌ، ثم يرتقي إلى الصحة بمتابعة عيسى بن طَهْمان إياه، وهو مخرَّجٌ في "الرَّدِّ" -المشار إليه آنفًا-؛ وهو فيه الحديث الثاني من ستة أحاديث صحيحة في تحريم المعازف التي يستَحِلُّها (الهدَّام)؛ تقليدًا لابن حزم.

وتزداد قوَّتُهُ بحديث عبد الرحمن بن عوف -الذي تكلّمت عليه آنفًا-؛ لأنَّ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، إنَّما ضَعْفُهُ من قبل حفظه؛ فهو صالحٌ للاستشهاد به، واللَّه ولي التوفيق.

‌79

- "عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال: حدّثني أبو عامر -أو أبو مالك- الأشعري رضي الله عنهما، أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونَنَّ من أمتي قوم يستحلّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازِف"؛ هذا حديثٌ صحيحٌ، أخرجه البخاري في "صحيحه" محتجًّا به، وعلّقه تعليقًا مجزومًا به، فقال: وقال هشام ابن عمار: حدّثنا صَدَقَةُ بن خالد: حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدّثنا

ص: 170

عطية بن قيس الكلابي: حدثني عبد الرحمن بن غَنْمٍ الأشعري. . . ":

ثم ردَّ ابن القيم مفصَّلًا على ابن حزم الذي قدح في صحة هذا الحديث بزعم الانقطاع بين البخاري وشيخه هشام، ردّه عليه من وجوه خمسة، واحدةٌ منها كافيةٌ، فكيف بها مجتمعةً؟ ! والخامس منها متابعةُ (بشر بن بكر) الثقة؛ عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. . . به (1)، وهذه متابعةٌ قويَّةٌ، لم يسع (الهدَّام) إلّا الاعترافَ بها -رغم مجادلاته ومراوغاته الكثيرة المعروفة-، ولكنّه مع ذلك غلبت عليه شِقْوَتُهُ وطبيعتُهُ، فتَمَلَّصَ منها بِكَذِبَةٍ لها قرنان؛ فقال:

"ولكن ليس فيها نَصٌّ صريحٌ على المعازف، لأنَّها رُويت في "سنن البيهقي" و"تغليق ابن حجر" ضِمن (وهي مطبوعةٌ خطأً: فمن! ) رواية هشام المتقدّمة"! ! يريد أنَّه ليس في رواية (بشر) التصريح بذكر المعازف؛ والواقع خلافُهُ، فقد ساق الحديث البيهقي، والعسقلاني من طريق هشام وبشر مسياقًا واحدًا إلى آخره، متل سياق ابن القيم، إلّا في لفظٍ واحدٍ كما يأتي، ثم قالا في آخره -واللفظ لابن حجر-:

"ولفظ (دُحيم) عن بِشْر مثله؛ إلّا أنّه زاد فيه لفظة واحدة، قال: "ويمسخ منهم قردةً" والباقي؛ مثله سواء"!

قلت: ومع دلالة السياق على أنَّه لا فَرْقَ بين رواية هشام وبِشْر في إثبات لفظة (المعازف) التي أنكرها (الهدَّام)، فقول الحافظين المذكورين عَقِبَ الحديث صريحٌ في ذلك؛ لأنّهما صَرَّحا بأنَّه لا فَرْقَ بينهما في شيء من السياق إلّا في حرف:"منهم"؛ فثبت كذبُهُ فيما ادّعاه من النفي!

وإنَّ مما يؤكّد كذبَه -ويحسُنُ التنبيه عليه- أنَّ رواية (بِشْر) هذه

(1) عزاها ابن القيم لأبي داود، وأبي بكر الإسماعيلي في كتابه "الصحيح".

ص: 171

المصرِّحة -أيضًا- بلفظ (المعازف) هي من رواية الإسماعيلي في "صحيحه" التي احتجَّ بها ابن القيِّم (ص 371)؛ فتجاهلها (الهدَّام)، وحملها -تضليلًا للقراء- على رواية أبي داود المختصرة -التي ليس فيها اللفظ المذكور-؛ قلبًا للحقائق الذي هو صناعتُهُ ورأسُ مالهِ! ومعاكسةً منه للحفّاظ الذين أثبتوها وصحَّحوها، ليظهر هو بمظهر المحقِّق المتفوِّق عليهم! متغافلًا عن قوله -تعالى-:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} ؛ فقد ذكر الحافظ في "الفتح"(10/ 54) رواية أبي داود المختصرة، ثم أتبعها بقوله:

"ساق الإسماعيليُّ الحديثَ من هذا الوجه عن (بِشْر بن بكر) بهذا الإسناد؛ فقال: "يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف. . . " الحديث".

فهل بعد هذه الحقائق والبراهين المثبتة لهذه اللفظة يتراجَعُ (الهدَّام) عن نفيه لها، ويتوب إلى اللَّه، ويتّبع {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} في تصحيح الحديث؟ !

ذلك ما نرجو، لكنَّ تمام كلامه لا يُبَشّر بخير، فقد استمرَّ في المعاندة والمكابرة، وادَّعاء التحقيق الذي لا يَعرفُ إلّا اسمه! فقال -وكأنَّه يعترف بلسان الحال أن نفيه المذكور (تجاهلُ عارفٍ! ) -:

"أما أنا (! ) فأرى أنَّ عِلّته عطية بن قيس الحمصي؛ فإنَّه ليس معروفًا بالضبط والإتقان، ولم يُوَثِّقْهُ غير ابن حبان، وليس قول أبي حاتم: "صالح الحديث" بتوثيقٍ؛ وقد فسَّرها ابنه في "مقدّمة الجرح" (2/ 37) فقال: "وإِذا قيل: صالح الحديث، فإنَّه يكتب حديثه للاعتبار، وَجَعَلَها أدنى من مرتبة: شيخ".

قلت: هذا لا يعني أنَّه لا يُحْتَجُّ بحديثه؛ ولو بمرتبة الحسن؛ بل العكسُ هو الصوابُ، وخير ما يفسَّر به كلام الحافظ إنَّما هو كلامُهُ نفسُهُ، فقد قال أبو

ص: 172

حاتم في آخر ترجمة (سعيد بن إياس الجُرَيري):

"تغيّر حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فهو صالح، وهو حَسَنُ الحديثِ".

ولذلك قال أعرفُ الناس بالرجال -ألا وهو الحافظُ الذهبيُّ- في كتابهِ "المغني في الضعفاء":

"لم أذكر فيه من قيل فيه: محلّه الصدق. . . ولا من قيل فيه: هو شيخ؛ أو: هو صالح الحديث، فإِنَّ هذا بابُ تعديلٍ".

وعلى هذا جرى خاتمة الحفَّاظ ابن حجر؛ فقال في "الفتح"(10/ 54) -اعتمادًا على كلمة (صالح) -:

"عطيّة بن قيس؛ شامي تابعي، قوّاه أبو حاتم وغيره".

وقال في "التقريب": "ثقةٌ مُقرئ".

وغيرُهم كثيرٌ، من المتقدّمين والمتأخّرين ممن صحَّح حديثه هذا؛ كابن الصلاح، والنووي، وابن كثير، والحافظ السخاوي، وغيرهم ممّن كنت سمّيتهم في مقدّمة كتابي "ضعيف الأدب المفرد"(ص 14)؛ ممّن هو على علم به بعد ما اطَّلع عليه، ومع ذلك فلم يَرْعَوِ ولم يهتد، وظَلَّ سادرًا في جهله وضلاله وعناده.

ومِن مكرِه وقلبه للحقائق؛ أنَّه -بعد ما طعن في رواية عطية، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي عامر- لم يَسَعْهُ إلّا أن يذكر متابعة إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حِمَايَةَ، عمّن أخبره، عن أبي عامر؛ فعل ذلك ليحرِف المتابعة عن طبقتها ومحلِّها، وجمونها متابعة قوية لعطيّة الذي ضعَّفه ظلمًا وعدوانًا ومشاكسةً؛ فقال:

ص: 173

"وإسناده ضعيف، لإبهام بعض رواتِه، ويحتمل أن يكون عطيّة بن قيس".

قلت: لم لا يُحتمَلُ أن يكون متابعًا له، فإنَّ إبراهيم هذا ثِقَةٌ من أتباع التابعين، فقد أورده ابن حبان في كتاب "الثقات" فيهم (6/ 13)، وقال:

"روى عن ابن المنكدر وحُميد الطويل، روى عنه الجراج بن مَلِيحٍ وأهلُ بلده".

ونحوه في "تاريخ البخاري"(1/ 305).

وكنتُ قد ذكرتُ -قديمًا- في "الإرواء"(3/ 325 - 326) فائدةً عزيزةً نادرةً في توثيق الإمام الطبرانيِّ له؛ فلتنظر.

وابن المنكدر وحُميد تُوُفِّيا في حدود الأربعين، فمِن بابِ أولى أن يتمكّن من الروايةِ عن عبد الرحمن بن غَنْم؛ لأنَّه توفي في سنة (78)، فيكون متابعًا لعطيّة بن قيس، هذا محتملٌ جدًا، بل لعلّه أولى من الاحتمال الذي ذكره (الهدَّام)! فلماذا اقتصر عليه دون هذا؟ !

الجوابُ عند الإمامِ وكيع بن الجَرّاح رحمه الله؛ قال: "أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلّا ما لهم"(1).

وهذه ظاهرةٌ جدًا فىِ كل تخريجات (الهدَّام) -كما تقدم ويأتي-، وإنّما لم يذكر هذا الاحتمالَ؛ لأنَّه يلزم منه تقويته الحديث، وهذا ينافي هَدْمَهُ الذي نذر نفسه له! وكأنه كان يشعر بورود هذا الاحتمال؛ ولذلك عقَّب على احتماله بقوله:

"وفوق هذا؛ فإبراهيم فيه نَظَرٌ"!

(1) رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 26).

وانظر فائدةً -في هذا- من كلام شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(27/ 479).

ص: 174

وهذه عادةٌ له كلّما وقف أمام راوٍ موثَّق من العلماء؛ تمَلَّص منه بقوله: "فيه نظر"! وهذا يعني: "عنده"، ولكنّه يُدَلِّس ولا يُفصِح! ثم هو مع ذلك لا يُبَيِّن السبب! آمرًا للقراء -بلسان حاله- بالاستسلام لحُكْمِه الجاهل، وصرفًا لهم عن اتِّباعهم لعلمائهم، وإلّا لَبَيَّن لهم، ولكنّه يعلم أنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك فهو يُلقي كلمته ثم يمشي، وعلى الناس أن يمشوا وراءه! ! الأمر الذي يدلُّ على منتهى العُجْب والغرور، وقد تَكَرَّر منه هذا في أحاديث كثيرة يأتي الكلام عليها -إن شاء اللَّه - تعالى-، فانظر (ص: 385، 387، 465، 508).

ثم ختم تخريجه -بل تخريبه- بقوله:

"وعلى أيٍّ؛ فقد فصَّلت في هذا الحديث في موضعٍ آخَرَ من تحقيقاتي؛ فانظره إن شئت"! كذا قال! ولستُ أدري -واللَّه- بأي عقل يُحيل القراء إلى موضع آخر لا يسمّيه، ثم يأمرهم بالرجوع إليه؟ ! إلّا أن يكون عُجْبُهُ وغروره زيَّن له أن القراء على علمٍ بالموضع المكتوم لشدّة تتبُّعهم لـ (تحقيقاته! )، فلا يفوتهم منها شاردةٌ ولا واردة! ! وهذه حَمَاقةٌ باردة!

والتحقيقُ الذي يشير إليه -وهو في الحقيقة تخريبٌ وجهلٌ أكثر من هذا- كان قد نشر في جريدة (الرباط) الأردنية، وقد كنت رددت عليه ردًّا مختصرًا جدًّا في مقدمة كتابي "ضعيف الأدب المفرد"(ص 14 - 15)(1)، سميت فيها عشرة من حفّاظ المسلمين -من المتقدمين والمتأخرين- أجمعوا على تصحيح هذا الحديث، واطَّلع (الهدَّام) على ذلك فلم يرتدع، واستمر يجابههم بانحرافاته وجهالاته، وترى الرّد التفصيلي عليه في "الرَّد على رسالة الملاهي لابن حزم" وهي مطبوعةٌ، وتجد طرفًا منه في الاستدراك رقم (3)

(1) وهو قسيم "صحيح الأدب المفرد"؛ وقد نُشرا -بفضل اللَّه-.

ص: 175

المنشور في آخر المجلد الأوّل من "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، الطبعة الجديدة.

‌80

- "عن عِمْران بن حُصَين، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قذفٌ وخسفٌ ومسخٌ"، فقال رجل من المسلمين: متى ذلك يا رسول اللَّه؟ ! قال: "إذا ظهرت القِيَان، والمعازف، وشُرِبت الخمور"، قال التِّرمذي: هذا حديث غريب":

قلت: رَكَنَ (الهدَّام) هنا إلى تضعيف التِّرمذي إيّاه، وإشارته إلى ترجيح رواية الأعمش، عن عبد الرحمن بن سابِط، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . مرسلًا، وأمّا في التصحيح والتحسين، فهو مُزْوَرٌّ عنه! ثم إنَّه -كعادته- كتم عن قرائه حالَ هذا المرسل، وهو صحيحُ الإسناد، فهو صالحٌ للاستشهاد به اتفاقًا، وللاحتجاج به عند بعض الأئمة، كمالك وغيره، كما هو معروفٌ في بحث (المرسل) من علم المصطلح وغيره، كتم هذا كلَّه، مُضِيًّا منه في غَيِّهِ، واستمرارًا في ضلاله وَهَدْمِه. . .

ثم هو صحيحٌ اتفاقًا؛ لأنَّ له شواهدَ، منها حديث ربيعة الجُرَشي بإسناد صحيح -كما يأتي بيانه بعد حديثين، مع الرّد على (الهدَّام) الذي ضعفّه أيضًا (خبط لزق)! -.

‌81

- "وروى أحمد وأبو داود عن عبد اللَّه بن عَمْرو، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّه حَرَّم على أُمَّتي الخمر، والميسر، والكوبة، والغُبَيراء، وكل مسكر حرام":

ضعّف (الهدَّام) إسناده بالجهالة والانقطاع (1)، وهذا مما لا نقاش فيه؛ واللَّه يحبُّ العدل، ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ متن الحديث ضعيفٌ -أيضًا-؛

(1) وقد سوَّد صفحتين كاملتين لبيان ذلك؛ إبرازًا منه لعضلاته! ! وهو مخرَّج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(1708) لشواهده؛ ولذلك عاكسني (الهدَّام) فضعَّفه.

ص: 176

وذلك لأنَّ له شواهدَ تقوّيه، وهي مذكورةٌ في "الرَّد على ابن حزم"، وليس فيها ضعفٌ شديدٌ، ولكن (الهدَّام) من جنايته على السّنة أنَّه يخالف العلماء في تقوية الحديث بالطرق -كما تقدم التنبيه عليه مرارًا-، بل إنَّ بعضها إسناده صحيح لذاته، وهو ما ذكره (الهدَّام) نفسه من حديث أبي أحمد الزُّبيري، عن سفيان الثوري، عن علي بن بَذِيمة، عن قيس بن حَبْتَر، عن ابن عباس. . . به.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ، كما في "الصحيحة" (1806): قيس، وعلي: ثقتان، والثوري، والزُّبيري لا يُسأل عن مثلهما؛ وقد احتجّ بهما الشيخان.

وأمّا (الهدَّام)؛ فعاكسني، وأعلّه بالانقطاع الذي لم يقل به أحدٌ من قبله! فقال:

"ولا أرى (! ) هذا الإسناد متصلًا، فإني لم أجد قيس بن حَبْتَر صرَّح في حديث صَحَّ إسناده إليه أنَّه سمع ابن عباس، وما ذُكر في إسناد أحمد أنَّه سأل ابن عباس فضعيفٌ، انفرد بها أبو أحمد الزُّبيري عن سفيان، وفي حديثه ضعفٌ عن سفيان -إن لم يُتابَع-، ولم يتابعه أحدٌ من أصحاب سفيان على الحديث".

قلت: هذه الفقرة وحدَها كافيةٌ ليتبيَّن منها القراء شيئًا من خُلُق هذا الرجل، وعُجْبهِ، وغروره، وأنَّه ينظر إلى نفسه أنَّه وصل إلى مَصافِّ كبار الحفّاظ المتقدّمين (! ) الذين يجمعون الطرق الكثيرة للحديث الواحد، فيعلِّلون بها ويرجِّحون، فنقول لهذا (الهدَّام):(ليس هذا بِعُشِّكِ فادْرُجي)، فمن يجهل أحاديث في "الصحيحين"، فيعزوها إلى من دونهما طبقةً أو منزلةً -كما تقدم في الأحاديث رقم (18 و 21 و 37 و 56 و 59 و 63)، والحبل جَرّار- حَريٌّ به أن يعرف قدر حفظه، وأن لا يتَعدّى طوره فيقول:". . . فإِنّي لم أجد. . . " إلخ! ! فمن أنت أيّها المسكين؟ ! وأنت لا تعلم أكثر المطبوع من متون السنّة؛ فضلًا عن

ص: 177

أن تقفَ عليها، أو تعرف طرقها، فضلًا عما لم يُطبع منها، فاستر على نفسك؛ فكفاك عُجبًا وغرورًا وفُضُوحًا!

ثم إن خلاصة هُرائه المذكور؛ إعلال الحديث بعلتين:

إحداهما: جهله بتصريح (قيس بن حَبْتَر) بالسماع من ابن عباس.

قلت: وحكاية هذا يُغني عن ردّه، لأنَّه جهلٌ وكفى، ثم هو مبنيٌّ على ما انحرف إليه من مخالفة {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الذي استقرَّ عليه علمُ المصطلح من الاكتفاء بالمعاصرة.

والآخر وَضْعُهُ ضعفًا في (أبي أحمد الزُّبيري) في روايته عن سفيان الثوري، موهمًا بذلك القراء أنَّه ليس بحجَّةٍ في روايته عنه، وكاتمًا عنهم الأقوال الأخرى المزكِّية له، التي يراها كلُّ واقف على ترجمته، ولخّصهما الحافظ في "تقريبه" بقوله:

"ثقة ثبت؛ إلّا أنَّه قد يخطئ في حديث الثوري".

فقوله: "قد يخطئ" فيه إشارة إلى قِلَّة خطإه في حديث الثوري، ومثل هذا لا يضعِّف حديثَه عند العلماء، إلّا إذا تبيَّن خَطَؤُه، شأن كل ثقة موصوف بأنَّه قد يخطئ، ولذلك احتج به الشيخان، وَرَوَيَا له من حديثه عن الثوري، فضلًا عن غيره -كما في "تهذيب المزي"-، وصحّح له ابن حبان أحاديث كثيرة غير هذا، فانظرها إن شئت في ("الإحسان" - طبع المؤسسة)؛ وهذه أرقامها (436 و 889 و 2459 - وأشار فيه إلى حفظه - و 3167 و 3283 و 4822 و 5841 و 6072 و 6098)، وأكثرها مخرَّجة في كتابي "الصحيحة"، وغيره من مؤلّفاتي.

وأما قوله: "ولم يتابعه أحد. . . " إلخ؛ فليس من شرط الحديث الصحيح

ص: 178

أن يتابع الثقة عليه -كما هو معلومٌ في علم المصطلح-.

على أنَّ سفيان قد توبع عن علي بن بَذِيمة، كما ذكر (الهدَّام) نفسه، ففيم المشاغبةُ؟ !

وأمّا قوله أخيرًا: "وانظر الخلاف في إسناد هذا الحديث في "التحفة" (5/ 198) ":

فهو من تدليساته الكثيرة ليوهم القراء أنَّ فيه عِلَّة أخرى، والحقيقة أنَّه لا شيء منه، وذلك لأنَّ بعض الرّواة أدخل -بين علي بن بَذِيمة وقيس بن حبتر- سعيد بن جُبير؛ وهذه الزيادة في السند لو صَحَّت لا تضرّه، لأنَّ سعيدًا ثقة، إلّا أنَّ الحافظ المزي جزم بخطإِها تبَعًا لبعض الحفاظ، ونقل عن الخطيب أنَّه قال:

"والصحيح عن علي بن بَذِيمة: ما رواه سفيان الثوري، عنه، عن قيس ابن حَبْتَر، عن ابن عباس".

قال المِزِّي - عَقِبَه:

"وليس لسعيد بن جُبير فيه ذكر".

فبان جليًّا تدليسُه وقلبُه للحقائق، بل إنَّه بتلك الإحالة كان (كالباحث عن حتفه بظلْفِه)؛ فإن تصحيح الخطيب لرواية علي بن بَذِيمة تعود عليه بإبطال ما وضع فيها من عِلَّة الانقطاع بين قيس وابن عباس، إذ لو كان شيءٌ من ذلك صحيحًا؛ لبيَّنوه وتَكَلَّموا عليه -كما فعلوا برواية سعيد بن جبير-.

وقد ختم (الهدَّام) تخريجَه للحديث، ومحاولتَه تضعيفَه بتلك الإحالة المدلَّسة، وأنا أختم ردّ محاولته بالجزم بصحّة الحديث -أولًا-، وبالتنبيه -ثانيًا- على أن تخريجه لهذا الحديث وختمه إياه بما ذكرت: لَيُؤَكِّد أنَّ همَّه

ص: 179

الأكبر من التخرِيج إنَّما هو الطعنُ فيما صَحّ من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لو سلَّمنا -جدلًا- بأنَّ إسناد الحديث ضعيف -كما يرمي إليه (الهدَّام) -، فهل قوله صلى الله عليه وسلم في آخره:"وكل مسكرٍ حرام" ضعيفٌ -أيضًا- عنده؟ ! مع أنَّه متفق عليه من حديث أبي موسى، ورواه جمع آخر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-كما تراه مخرجًا في "الإرواء"(2373) -.

فسكوتُهُ عنه من تمام هدمه للسنة الصحيحة، لا سيّما ولم يتقدم منه له تصحيحٌ أو يتأخّر، ولم يرد له ذكر في فهرسه آخر الكتاب، الأمر الذي يؤكد عليه أن يصرِّح وينبّه قراءه أنَّه صحيح، وأنَّ تضعيفه للحديث لا يشمله، هذا لو كان يبني ولا يهدم! واللَّه حافظٌ دينَه، وناصرٌ سُنّةَ نبيّهِ صلى الله عليه وسلم، واللَّه المستعان.

‌82

- "وفي "الترمذي" و"المسند" بهذا الإسناد بعينه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القَيْنَات، ولا تشتروهنّ، ولا تعلِّموهنّ، ولا خير في تجارةٍ فيهنّ، وثمنهنّ حرام"، وفي مثل هذا نزلت الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية"[لقمان: 6]:

ضعَّف (الهدَّام) إسناده جدًا (1/ 377 - 378)، ولم يبين عِلَّته، وأحال في ذلك بقوله:"وانظر تفصيله في تحقيقي لـ "الكبائر" (1) للذهبي"!

ولا بُدّ أنَّه خَرَّب فيه وضَعَّف أحاديث صحيحة - كما فعل في "رياض الصالحين"، وهنا -والحبلُ جرّار-؛ وأستبعد جدًا أن يكون صَنِيعُهُ فيهِ بأحسن مما هو هنا! ! فإن الحديث وإن كان من رواية عبيد اللَّه بن زَحْر، عن علي بن يزيد. . . عن أبي أمامة -وعلي، وعبيد اللَّه ضعيفان-، فقد تعامى -هنا- وما أظنّه إلّا كذلك هناك - عن أنَّ لسبب نزول الآية شاهدًا عن جماعة من

(1) وليس هو فيما طُبع له تحت اسْمِ "تهذيب الكبائر"! !

ص: 180

السلف؛ منهم عبد اللَّه بن مسعود:

فقد سئل عن هذه الآية؟ فقال: هو الغناء؛ والذي لا إله إلا هو! يُرَدِّدُها -ثلاث مَرّات-.

أخرجه جماعةٌ من الأئمة بإسناد صحيح، وصحَّحه الحاكم، والذهبي، وابن القَيِّم في "الإغاثة"(1/ 340) -، وقد علّقه عن أبي الصهباء: سألت ابن مسعود. . .

وقد تعامى عنه؛ فلم يخرِّجه ولم يعلِّق عليه بشيء؛ ليشملَه بالتضعيف المطلق هنا، كما فعل بقوله صلى الله عليه وسلم:"وكل مسكرٍ حرام" في الحديث الذي قبله، فتنبَّه!

وكذلك لم يعلِّق على قول ابن القيم -هناك-، وقد ذكر الحديث بتمامه -كما هنا- وضعَّفَهُ:"إلّا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها -إن شاء اللَّه- (ويعني التي هنا)، ويكفي تفسير الصحابة والتابعين لـ {لَهْوَ الْحَدِيثِ}، بأنَّه الغناء، فقد صَحَّ ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر".

وقد خَرَّجت هذه الآثار في "الصحيحة" تحت الحديث (2922)، وكذلك في رسالة "الرَّد على ابن حزم" في الفصل الثامن.

‌83

- "وعن الغازي بن ربيعة -رفع الحديث-، قال: "لَيُمسخَنَّ قومٌ وهم على أريكتهم قردةً وخنازير بشربهم الخمر، وضربهم بالبرابط والقِيان":

أعلّه بالإرسال، وضعّف بعض رجاله، ولم يسمِّه! ثم وصله -وتَعَمَّد تَعْمِيَتَهُ- "من طريق قتادة بن الفُضيل الرُّهاوي، عن هشام بن الغاز، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ أبا مالكٍ قال. . . فذكره مرفوعًا"، ثم قال:

"وهذا إسناد ضعيف أيضًا"!

ص: 181

كذا قال! كتم ولم يبيِّن -كعادته! -، وعلى القراء أن يكونوا إمَّعَةً له! وليس في السند أحَدٌ معروفٌ بالضعف، بل إسناده جيد من مسندِ (ربيعة الجُرَشي) والد (الغاز)، وكذلك رواه ابن عساكر وغيره، وقَوّاه الحافظ، وهو مُخَرَّجٌ تحت الحديث السادس في رسالة "الرَّد على ابن حزم".

وقوله -في السند-: "أنَّ أبا مالك"؛ من سوء فهمه وسرعة قراءته! فليس له ذكر في الإسناد.

‌84

- "روى عبد اللَّه بن مسعود، قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمحَلَّلَ له":

رواه الحاكم في "الصحيح"، والترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"، قال:"والعمل عليه عند أهل العلم، منهم عمر، وعثمان، وابن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين".

ضعَّفَهُ (الهدَّام) بعد أن خَرَّجه بقوله (1/ 385): "وهذا إسناد فيه نظر، فإن أبا قيس عبد الرحمن بن ثَرْوَانَ ليس بالحافظ، ولا يُحتمل تفرّده في مثل هذا الحديث (! )، وليّنه غير واحد، ولم يتابع ممن هو مثله"(1)!

قلت: نظرته هذه -كغيرها من نظراته الكثيرة- منحرفةٌ عن علم المصطلح إلى هدمه للسنّة! متستّرًا ببعض ما قيل في الرّاوي! ومقدِّمًا للجرح على التعديل! خلافًا للعلم، وقد يقترن مع ذلك شيء من الكذب أو على الأقلّ: التدليس أو الجهل بأقوال العلماء، كمثل قوله المذكور:"ليّنه غير واحد"؛ فإنَّ أحدًا من الأئمة لم يُطلق القول في تليينه، وهو يشير بذلك إلى

(1) وأمّا في "تهذيب الكبائر" -له- (ص 136)، فقال:"أرجو أن يكونَ حسنًا؛ فإنّ الأحاديثَ -جميعًا- لا تخلو من ضعف، ولكنّه ضعفٌ قد يُحتمل -إن شاء اللَّه تعالى-. . . "! ! !

فيا للَّه العَجَبُ!

ص: 182

قولين معروفين:

أحدهما: قول أحمد فيه: "يُخالِف في أحاديث"، وهذا لا يُعَدُّ جَرحًا مسقطًا لحديثه؛ لأن كثيرًا من الثقات لهم مخالفات، ومع ذلك فحديثهم حجَّة إلا عند ظهور مخالفتهم لمن هو أوثق منهم، ولا شيء من ذلك هنا.

وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد -في روايةٍ عنه كما في "التهذيب"-: "ليس به بأس".

فسقط تشبُّثُهُ بالقول الأول!

وأمّا الآخر؛ فهو قول أبي حاتم: "ليس بالقوي":

فهذا لا يعني أنَّه ضعيف، لأنَّه ليس بمعنى:"ليس بقوي"؛ فبين هذا وبين ما قال فرقٌ ظاهرٌ عند أهل العلم، ويؤيِّده أنَّه سُئل: كيف حديثه؟ فقال: "صالح، هو ليِّن الحديث".

فهذا يعني أنَّه وَسَطٌ حسن الحديث، وقد تقدّم من كلام أبي حاتم -نفسه- تفسير قوله:"صالح"؛ بأنّه يعني حسنَ الحديث.

فسقط -أيضًا- تشبُّثُهُ بهذا القول الثاني! وتبيّن أنّه لا مستند له في وضعه ضعفًا في عبد الرحمن هذا، وأنَّ حديثه حسن عِنْدَ هذين الإمامين.

وعلى التنزُّل، فهو معارَض بتوثيق الجمهور له، ومنهم الإمام البخاري، فقد احتج برواية عبد الرحمن -هذا- عن هُزَيل في "الصحيح" -كما في "تهذيب المزي" - وغيره-.

وقال الذهبي في ترجمته من "الكاشف": "ثقة".

وقال الحافظ: "صدوق؛ ربما خالف".

ص: 183

فهذا يدلُّ القارئ دلالة قاطعة على أنَّ الرجل -مع إعراضه عن أقوال العارفين بهذا العلم-: يُحَمِّل أقوال بعضهم ما لا تحتملُ من الجرح.

وإنَّ مما يؤكِّد ذلك؛ أنَّ الحفاظ النقاد مِن بعدهم صحّحوا هذا الحديث على شرط البخاري؛ منهم ابن القطان الفاسي، وابن دقيق العيد -كما ذكر الحافظ في "التلخيص"، وأقرَّهما-، وصحّحه -أيضًا- التِّرمذي، وابن حزم في "المحلّى"(10/ 180)، وعبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى"(28621)، وابن تيمية، وابن القيم -وغيرهم كثير وكثير-.

وقد خَرَّجت له في "الإرواء"(6/ 307 - 311) -تبعًا للزيلعي في "نصب الراية"، وابن القيِّم هنا- شواهد عن خمسة من الصحابة، ولبعضهم عنه أكثر من طريق، وقد ضَعَّفها (الهدَّام) كلّها.

ولو سُلَم بذلك -جَدلًا- لكاد مجموعها يَدُلّ على أنَّ للحديث أصلًا أصيلًا، كيف لا؟ ! وحديث ابن مسعود هذا -وحده- صحيحٌ رغم أنف (الهدَّام)، وحديث أبي هريرة قويٌّ، وقد حسَّنه البخاري، وصحّحه ابن الجارود، والزيلعي (3/ 239).

وإن من جهل (الهدَّام) وغروره؛ أنَّه لم يُعجبه تحسين البخاري وتوثيقه لراويه! وقال فيه -كعادته-: "فيه نظر"! ! ثم هذى ما شاء له هواه مِن الهَذَيان!

وإنَّ مما يؤكّد خروجَه عن {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أنَّ الحديث قد عمل به كبارُ الصحابة وفقهاء التابعين -كما تقدم في كلام الترمذي-، ولقد كان هذا كافيًا ليعرفَ -مِن نفسهِ- انحرافه وضلاله، ولكن صَدَق من قال:

لا ترجع الأنفسُ عن غيِّها

ما لم يكن منها لها زاجِرُ

وإنَّ من جَنَفِه وهدمهِ؛ أن ابن القيم ذكر لحديث ابن مسعود رواية أخرى أتمَّ -بلفظ-:

ص: 184

لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الواشِمَةَ والمستوشمةَ، والواصلة والمستوصلة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الرّبا وموكله.

فضعَّفه (الهدَّام) بجهالة أحد رواته، متجاهلًا الشواهد التي سبقت الإشارة إليها، كما أنَّه أفهم القراء ضعفَ هذا اللَّفظِ بتمامه، بسكوته عن تضعيفه إيّاه، وذلك سن خُطَّته في الهدم، مع أنَّ الحديث في غاية الصِّحة؛ فإنَّ جملة (الوشم والوصل) أخرجها الشيخان -وغيرهما- من طرقٍ عن ابن مسعود، وهو مخرّج في "آداب الزفاف"(ص 203 - المكتبة الإسلامية).

وجملة (المحلِّل والمحلَّلِ له) عَرَفْتَ صِحَّتها عن ابن مسعود -أيضًا- وشواهدها.

وجملة (آكل الرِّبا وموكله) أخرجها مسلم وغيره من طريق علقمة، عن ابن مسعود، وهو مخرّج في "الإرواء"(5/ 184)، وله فيه شاهدٌ من حديث أبي جُحيفة، أخرجه البخاري وغيره، وآخر من حديث جابر، رواه مسلم وغيره.

فلْينظر القراءُ مبلغَ جنايةِ هذا الرجل على السنة الصحيحة، وطرقَ محاولته الهدم فيها -عامله اللَّه بما يستحق! -.

‌85

- "وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ ! "، قالوا: بلى يا رسول اللَّه! قال: "هو المحلِّل، لعن اللَّه المحلَّل والمحلَّل له"، رواه ابن ماجه بإسنادٍ رجاله كلهم موثّقون، لم يجرح واحدٌ منهم":

قلت: يعني بجرح قادح، وهو كما قال، ولذلك حسّن إسناده عبد الحق الإشبيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وصحّحه الحاكم، والذهبي، والزيلعي (3/ 239)، وهو مخرَّج في "الإرواء"(6/ 309 - 311) من طريقين عن الليث

ص: 185

ابن سعد، قال -في طريق عثمان بن صالح المصري - عنه-: قال لي أبو مصعب مِشْرَح بن هاعان، عن عُقبة -وقال في رواية عبد اللَّه بن صالح عنه: سمعت مِشْرَح بن هاعان. . . به-.

قلت: وهذا الإسناد حسنٌ متصلٌ، وأعلّه (الهدَّام) بعلتين: الانقطاع، وضعف مِشْرَح! !

أمّا الانقطاع، فتشبَّث بما نقله عن البخاري من استنكاره سماع الليث من مِشْرَح، ونحوه عن أبي زُرعة، وهو مذكورٌ في "الإرواء".

وجوابًا عليه أقول: هذا الاستنكار كان يمكن أن يكون مقبولًا، لولا أنّه معارض بما يُثبت ما أَنكرا، وهو قول الليث:"قال لي"، وفي الرّواية الأخرى:"سمعت مِشرح. . . "؛ والمثبت مقدَّم على النافي كما هو معلوم، ولا سيما والليث بن سعد إمام من أئمَّة المسلمين، ولا يعرف في (المدلسين).

وابن صالح -وإن كان فيه كلامٌ-؛ فهو متابع من عثمان، وهو ثقة من شيوخ البخاري، ولذلك ردّ الإعلالَ المذكورَ الحافظُ الزيلعيُّ بقوله:

"وأبو صالح مختلف فيه، وإلّا فالحديث صحيحٌ من عند ابن ماجه، فإنَّ شيخ ابن ماجه يحيى بن عثمان ذكره ابن يونُس في "تاريخ المصريين"، وأثنى عليه بعلم وضبط، وأبوه عثمان بن صالح المصري ثقةٌ أخرج له البخاري، وأمّا مِشْرَح بن هاعان، فوثّقه ابن القطان، ونقل عن ابن معين أنَّه وثَّقه، والعلّة التي ذكرها ابن أبي حاتم لم يُعَرِّج عليها ابن القطان ولا غيره".

قلت: وهذا ردٌّ علميٌّ قويٌّ قويٌّ من الحافظ الزيلعي، ولذلك تجاهله (الهدَّام) كما تجاهل غيرَه مما سأذكر، مما يُعرقل عاجه هَدْمَه، فقال عَقِبَ تخريجه للحديث (1/ 388):

ص: 186

"وزِيدَ في مطبوع "ابن ماجه": "لي"؛ فصارت كالسماع، وهو خطأٌ صوابه في "التحفة" (7/ 322) ".

فأوهم القراء -مُلَبِّسًا مُدَلِّسًا- أنّ قول (الليث بن سعد): "قال لي" زيادةٌ من الطابع، وهذا من معانداته التي يُمهِّد بها للهَدْم وقلب الحقائق، دونما حياء أو خجل؛ فإنَّ هذه الزيادة -"لي"- ثابتة في نسخ قديمة من "سنن ابن ماجه"، وعليها اعتمد الحافظ الزيلعي في ردّه المتقدِّم، وكذلك فعل الحافظُ الحافظ في "التلخيص"، فقال (3/ 170 - 171) -تعقيبًا على استنكار البخاري وأبي زُرعة-:

"قلت: ووقع التصريح بسماعه في رواية الحاكم، وفي رواية ابن ماجه عن الليث: "قال لي مِشْرَح"، ورواه ابن قانع في "معجم الصحابة" (1) من روايد عُبيد بن عُمير، عن أبيه، عن جده، وإسناده ضعيف".

هكذا يتجاهل (الهدَّام) الحقائق، فهل ترك مجالًا لأحدٍ أن يظنّ به خيرًا! ويطمع منه أن يأتي بما هو عليه، مثل رواية الرُّوياني في "مسنده"(19/ 11/ 2)؛ من طريق شيخ ابن ماجه، عن أبيه، عن الليث، قال:"سمعت. . . "، هكذا "سمعت" مكان:"قال لي"؛ فهل هذا وما قبله خطأٌ مطبعيّ أيها (الهدَّام) اللَّوْذَعِيّ؟ !

وأمّا قوله: "صوابه في "التحفة". . . ": فهو من تدليسه - بل كذِبهِ -أيضًا-؛ فليس فيه أيُّ تصويبٍ، وكل ما فيه أنَّه ساق رواية ابن ماجه كما وقعت له:

(1) هو في "المعجم"(7/ 118/ 2): حدنثا محمد بن يونُس: نا مُعَلّى بن الفضل: نا داود بن عبد الرحمن العطّار، عن عبد اللَّه بن عثمان بن خُثَيم، عن نافع بن سَرْجَس، عن عُبيد بن عُمير، عن أبيه -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . الحديث، ليس فيه:"عن جده".

وإسنادُهُ واهٍ.

ص: 187

"قال: قال مِشْرَح. . . ".

بقي الجوابُ عن العلّة الأخرى؛ وهي تضعيفه لِمِشْرَح، قال:

"قلت: ومِشْرَح بن هاعان فيه ضعفٌ، وقال ابن حبان: يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، فالصواب تركُ ما انفرد به".

قلت: والجواب من وجهين:

الأوّل: قد ذكرت أكثر من مَرَّة أن كون الرّاوي فيه ضَعْفٌ لا ينفي حُسْنَ حديثه، وكل الأحاديث التي يُحَسِّنها (الهدَّام) -على قلَّتها- هي من هذا القَبِيل، وإلّا كانت صحيحة! ولكنه يغالط ويكابر.

والآخر أن قول ابن حبان المذكور مُعارَضٌ بتوثيق ابن معين، والعجلي، ويعقوب الفَسَوِيِّ، وكذلك ابن حبان -نفسِهِ- في "الثقات"(5/ 452)، وروى له حديثًا في "صحيحه" (60‌

‌86

- "إحسان")؛ لكن مَنْ دونه مجهولٌ؛ ولذلك خرَّجته في "الضعيفة"(1266).

86 -

"أحمد. . . عن داود بن الحُصَين، عن عِكرمة -مولى ابن عباس-، عن ابن عباس، قال: طلّق رُكانة بن عبد يزيد أخو المطَّلب امرأتَه -ثلاثًا- في مجلس واحد. . . فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف طَلَّقْتَها؟ "، قال: طَلَّقْتُها ثلاثًا، قال: "في مجلس واحد؟ "، قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت"، قال: فراجعها؛ ورواه الحافظ المقدسي في "مختارته" التي هي أصحُّ من "صحيح الحاكم"":

ضعفه (الهدَّام) بداود هذا، وتجاهل طريق ابن جريج، عن بعض بني رافع -المخرَّج عنده قبل هذا-، كما تجاهل تصريحَ ابنِ القيم -من قبل- بصحّته (ص 408)، وتصحيح الضياء المقدسي هنا، والمحقق أحمد شاكر في

ص: 188

تعليقه على "المسند"، وغيره، كما تجاهل طريق طاوس، عن ابن عباس، قال:

كان الطلاقُ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسَنتين من خلافة عمر -طلاقُ الثلاث- واحدةً، فقال عمر رضي الله عنه: إنَّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيهِ أَنَاةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم؛ وهو مخرّج في "الإرواء"(7/ 122)، و "صحيح أبي داود"(1910) من رواية مسلم وغيره، وعزاه (الهدَّام) فيما تقدم (1/ 408) لمسلم وحده! ولم يُظهر موقفه الحقيقي منه، ومعه ظاهرُ القرآن وإجماع الصحابة في عهد الصدِّيق، وأوَّل خلافة عمر؛ كما قرَّره ابن القيِّم، ومن قبله شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَّه تعالى-.

ثم رأيتُ الحافظ نقل في "الفتح"(9/ 362) تصحيح أبي يعلى لحديث داود، فأقرّه، بل وأيَّده وقوّاه بحديث مسلم.

‌87

- "وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما لمّا طلَّق امرأته في حيضها أن يُراجِعَها":

قال (1/ 429) في تخريجه: "أخرجه مسلم (1471) "؛ ولم يزد!

وهذا تقصيرٌ فاحشٌ في فنّ التخريج، يُنبئ عن غايته من التخريج -كما نبّهت مرارًا-! ! فإنَّ الحديث متفق عليه بين الشيخين، أخرجاه من طرق كثيرة عن ابن عمر، ولا يجوز عند العلماء عزوُ الحديث لغير البخاري وهو عنده؛ لما هو مُتَّفَقٌ عليه أنَّه أصحّ كتب السنة.

وقد خرَّجتُ الحديث -بتوسُّع- في "الإرواء"(7/ 124، 132)، مع تحقيق القول في هذه الطلقة؛ هل حُسبت على ابن عمر أم لا؟ بما قد لا تراه في مكان آخر؛ واللَّه أعلم.

‌88

- "قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن شَقِيق، سمع أنسًا

ص: 189

يقول: قال عمر في الرّجل يطلِّق امرأته -ثلاثًا- قبل أن يدخل بها، قال: هي ثلاث {لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره} ، وكان إذا أُتي به أوجعه":

قال (الهدَّام)(1/ 450): "أخرجه البيهقي (7/ 334) من طريق سعيد ابن منصور، وإسناده حسن"!

كذا قال؛ اقتصر فيهِ على التحسين، وضَنّ عليه بالتصحيح، مع أنَّه صحيحٌ لا غُبار عليه، فسفيان: هو ابن عُيينة؛ أشهر من أَن يذكر، وشقيق: هو ابن أبي عبد اللَّه الكوفي؛ ثقةٌ بلا خلاف مع تابعيَّته، وروى عنه جمعٌ من الحفّاظ.

ثمّ إنَّه لو كان محقِّقًا -كما يزعم-؛ لم ينزل في تخريجه إلى البيهقي! وَلَعَلا إلى "سنن سعيد بن منصور" -وقد أخرجه البيهقي من طريقه-؛ فإنَّه أخرجه فيه (3/ 1/ 260/ 1074)؛ وقال -أيضًا- (1073): نا أبو عَوانة، عن شقيق. . . به.

وهذا صحيحٌ أيضًا، وصحَّحه الحافظ (9/ 362).

‌89

- ". . . عن بُكَيْر، عن نُعمان بن أبي عَيّاش، قال: سأل رجلٌ عطاءَ ابن يَسَار عن الرّجل يُطلِّق البِكْر ثلاثًا؟ فقال: إنَّما طلاق البكر واحدة. . . ":

قال (1/ 456): "أخرجه عبد الرّزاق (11074)؛ وهو في "الموطإ" (2/ 570)، ورجاله ثقات"!

قلت: هذا جَهْلٌ في فنِّ التخريج والتحقيق، والصواب أن يقال: أخرجه مالك في "الموطإ". . . وعنه عبد الرزاق. . . بإسناد صحيح، رجاله ثقات.

‌90

- "التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرَّة الرابعة":

خرّجه (1/ 462) من رواية أصحاب "السنن" -وغيرهم- عن معاوية

ص: 190

-مرفوعًا-: "إذا شربوها فاجلدوهم. . . ثم إذا شربوها فاقتلوهم"، ثم من حديث أبي سعيد، ومن حديث أبي هريرة؛ ولم يبيّن رأيه فيه تصحيحًا أو تضعيفًا!

نعم؛ قال في حديث أبي سعيد: "وهو وهم"! وسكت عن إسناد الآخرين!

وعهدي به أنَّه يحسِّن حديث عاصم ابن بهدلة -كما فعل في حديثه المتقدم (1/ 272) عن ابن مسعود: "إنَّ من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"-، وحديثُ معاوية من طريق عاصم هذا، ثم قال:

"وانظر تمام تخريجه في "الإحسان" (4247) ".

وهذا لا يعني عنده بالضرورة أنَّه يتبنّى تصحيحَه إياه، فكم من تصحيحات هناك خالفها (الهدَّام) بغير حق، ولذلك كان من الواجب عليه أن يُظهر رأيه في هذا الحديث، ولا يتكتّم ولا يجبُن! وهو في الحقيقة في غاية الصّحة؛ فإنَّ له شواهد كثيرة عن جمع آخر من الصحابة، أشرت إليهم في "الصحيحة"(1360).

وقد بَسَطَ الكلام عليها بسطًا شافيًا: العلّامة أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند"(9/ 49 - 92) في بحث علميٍّ دقيقٍ؛ روايةً ودارايةً، لا تجده عند غيره؛ جزاه اللَّه خيرًا.

وقد قال الحافظ في "الفتح": "وهو حديث مخرّج في "السنن" من عدّة طرق؛ أسانيدها قويّة".

‌91

- "وعزم صلى الله عليه وسلم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلّف عن حضور الجماعة، لولا ما منعه من تعدّي العقوبة إلى غير من يستحقّها من النساء والذُّرِّيَّة":

ص: 191

خرَّجَهُ (الهدَّام)(1/ 462 - 463) برواية الشيخين: "من حديث أبي هريرة بلفظ: "والذي نفسي بيده لقد هَممْتُ أن آمُرَ بحطب فَيُحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رجلًا فيؤمُّ الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ فأُحرِّق عليهم بيوتهم. . . "؛ انظر "الإحسان" (2096) ".

قلت: وهذا التخريج يُضَمُّ إلى ما سبق من التخاريج الدّالة على جهل الرّجل بالسنة، وأنّه لا يستحضر منها إلّا ما دلّته عليه الفهارس! ! فإنَّه لم يخرِّج الجملة التي في كلام ابن القيِّم:"لولا. . . "؛ وليست ثابتةً في شيء من طرق الحديث الكثيرة.

وقد كنت خرّجته من خمسة طرق صحيحة في "الرّوض النضير"(1113) -منذ نحو ستين سنة! -، وأتبعتها بطريق سادس من رواية الطيالسي وأحمد؛ من طريق أبي مَعْشَر، عن سعيد، عن أبي هريرة. . . -مرفوعًا- بلفظ:

"لولا ما في البيوت من النساء والصبيان (ولفظ أحمد: والذريّة)؛ لأمرت من ينادي بالصلاة -يعني: صلاة العشاء الآخرة-، ثم أُحَرِّق على قومٍ -يتخلَّفون عن الصلاة- بيوتهم".

وأبو مَعْشَر -هذا- ضعيفٌ ج ولذلك لم أذكر هذه الرّواية في كتابي "صحيح الترغيب والترهيب"(1/ 244)، وقد عزاها المنذري في "الأصل"(1/ 194) لأحمد وسكت عنها، وأعلّها الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 42) بضعف أبي مَعْشَر.

كل هذا خفي على (الهدَّام) -لِضِيقِ عَطَنهِ وقلّة علمهِ-، واللَّه المستعان!

‌92

- "وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله":

خرّجه (الهدَّام) من رواية أبي داود والنسائي فقط! من طريق بَهْزِ بن

ص: 192

حكيم، عن أبيه، عن جده، وقال (1/ 463):"وفي هذا الإسناد كلام، وحسَّنه بعضهم؛ ولا يحتمل".

قلت: يشير إلى تحسيني إيّاه في "الإرواء"(3/ 263 - 264)؛ وقد صحّحه ابن الجارود، والحاكم، والذهبي -كما ذكرت هناك-، وكذا صحّحه ابن دقيق العيد في "الإلمام"(218/ 527)، و (الهدَّام) -على منهجه المنحرف عن الجماعة- يأخذ أسوأ ما قيل في الرّاوي! مقدّمًا الجرح على التعديل مطلقًا! ! وهذا مذهبٌ باطلٌ -بداهةً-؛ لا يقول به إلا جاهل أو مُغْرضٌ.

ولْيتأمّل القراء معي أقوالَ بعض الموثِّقين لبهز بن حكيم من المتقدّمين والمتأخّرين؛ تتبيَّن لهم حقيقة الرجل!

سُئل ابن معين عنه؟ فقال: "إسناد صحيح؛ إذا كان دون بهز ثقة".

وكان أحمد وإسحاق يحتجّان به.

وقد تكلّم فيه بعضُهم بغير حجة، ولذلك وثّقه الحفّاظ الذين وقفوا عليه:

فقال الذهبي في "الكاشف":

"وثَّقه جماعةٌ، قال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا".

وقال في "تاريخ الإسلام" -وقد ردّ على بعض من تكلّم فيه-: "وحديثه قريبٌ من الصّحة".

وقال في "المغني": "صدوق فيه لِينٌ، وحديثه حسن، وثقه ابن المديني، وابن معين، والنسائي. . . ".

وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق".

فقول (الهدَّام): (تحسين حديثه لا يُحتمل)! هو الذي لا يُحتمل؛ ويُضْرَبُ به عُرْضَ الحائط.

ص: 193

ثم إن الحديث طَرَفٌ من حديث زكاة الإبل؛ ولفظُه:

"لا يُفَرَّقُ إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرُها، ومن أبى فإنا آخِذوها وشطرَ ماله، عَزَمَةٌ من عزمات ربنا، لا يحلُّ لآل محمد صلى الله عليه وسلم منها شيء".

‌93

- "وعَزّر من مثَّل بعبده بإخراجه عنه، وبإعتاقه عليه":

أخرجه من رواية أحمد وغيره؛ من طريق عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده.

قال: "وفيه ضَعْفٌ".

قلت: هذا لا ينافي حُسْنَه -كما نبّهت على ذلك مرارًا-، على أنَّ (الهدَّام) متناقِضٌ في هذه الرّواية؛ فقد سَبَقَ -عنه- تحسينُها -كما تقدّم بيانه تحت الحديث (16) -؛ فراجعه.

وهذا الحديث قد خرَّجته محسَّنًا -من طرق عن عمرو بن شعيب- في "الإرواء"(6/ 468 - 169)، وفيه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للعبد الممثَّل به: "اذهب فأنت حرٌّ".

‌94

- "وعزَّر بتضعيف الغُرم عن سارق ما لا قطع فيه، وكاتم الضالّة":

أعَلَّ حديثَ السارق بأنَّه من رواية عمرو بن شعيب. . . بقوله: "وفيه كلام"! وقد عرفتَ جوابه آنفًا، وأنَّه حسن، وهو مُخَرَّجٌ في "الإرواء"(8/ 69 - 71)، وقد حسَّنه التِّرمذي، وصحَّحه ابن الجارود، والحاكم، والذهبي، وابن دقيق العيد (372/ 998)؛ وهو في "صحيح أبي داود" -أيضًا- برقم (1504)، ولفظه:"من أصاب بِفِيهِ من ذي حاجة غيرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً؛ فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامةُ مثليهِ والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يُؤوِيَه الجرين فبلغ ثَمَنَ المِجَنّ؛ فعليه القطعُ".

ص: 194

وأعلَّ حديث (كاتم الضالّة) بأن في إسناده مَنْ هو ضعيفٌ، وبالشكِّ في وصله عن أبي هريرة! وجهل أو تجاهل بأنَّ له شاهدًا من حديث عمرو بن شعيب في بعض الطرق عنه؛ رواه أحمد (2/ 186)؛ فهو به صحيحٌ، وهو في "صحيح أبي داود"(1511)، وانظر "الإرواء"(8/ 71).

‌95

- "حَبَسَ صلى الله عليه وسلم في تهمةٍ ليتبين حال المتهم".

خرَّجه (الهدَّام) من رواية التِّرمذي وغيره من أصحاب "السنن" من حديث مَعْمَر، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه، وقال:"وفي هذا الإسناد كلام".

قلت: تقدَّم قبل حديثين الرّدُّ على مثل هذا الكلام، وبيان أنَّه لا ينافي أنَّه إسناد حسن، وقد صحَّحه ابنُ معين إذا كان دون بهزٍ ثقةٌ، ومَعْمَرٌ ثقةٌ من رجال الشيخين، وقد كتم (الهدَّام) -كعادته- تحسينَ التِّرمذي إيّاه، وكذا تصحيحَ الحاكم (4/ 107)، والذهبي! ! وذكر له الشوكانيُّ شاهدًا من حديث أبي هُريرة في "السيل الجرار"(4/ 376)؛ لكنْ فيه متروك، ففي حديث بهز بَرَكَةٌ.

‌96

- "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد اللَّه بن عُمَر أن يطيع أباه؛ لما أمره بطلاق زوجته":

خرَّجه برواية أصحاب "السنن" الثلاثة -منهم الترمذي- من حديث ابن عير، ثم أعَلَّه بقوله (1/ 465):

"وفيه الحارث بن عبد الرحمن -خال ابن أبي ذئب-، وفيه نَظَرٌ لجهالته"!

قلتُ: وكذا قال (الهدَّام) في تعليقه على طبعته لـ "رياض الصالحين"(243/ 134)! ولكنّه لم يَحْشُرْهُ في زمرة الأحاديث الضعيفة التي ذيّل بها

ص: 195

لطبعتِهِ، وفيها عشراتُ الأحاديث الصحيحة التي جنى عليها، وهذا منها.

وإعلالُهُ إياه بالجهالة مُعَارَضٌ بقول من وثّقه، فقال أحمد، والنسائي:"ليس به بأس"، وقال ابن معين:"يُروى عنه وهو مشهور" -كما في "تاريخ الدارمي"(98/ 224) -، وذكره ابن حبان في "الثقات"(4/ 134)، وقال:"غزا مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ".

فأعرض (الهدَّام) عن أقوال هؤلاء العارفين الموثِّقين إلى قول من جهّله؛ ضربًا بقاعدة: (من علم حُجَّة على من لم يعلم) عُرْضَ الحائط، وكتم -أيضًا- قول التِّرمذي:"حديث حسن صحيح"؛ فضلًا عن تصحيح الحاكم الذي لم يَعْزُهُ إليه، وعن موافقة الذهبي إيّاه، وتصحيح ابن حبان -أيضًا-، كما أعرض عن قول الذهبي، والحافظ فيه:"صدوق"؛ ولذلك أقرّ في "الفتح"(9/ 631) تصحيح التِّرمذي، وابن حبان، والحاكم، وكذلك فقد كنت حسّنته في "الصحيحة"(919)؛ فعاكسني (الهدَّام) بهذا الغُثاءِ الذي رأيتَ!

وقد وهم المعلِّق على "الإحسان"؛ فقال (2/ 169 و 170): "إسناده صحيح على شرط الشيخين"! !

وإنّ من غَفَلات (الهدَّام) الكثيرة -والتي تدلُّ على أنَّه لا تحقيق عنده حتى في تصحيح تجارِب المطبعة-: أنَّ هذا التخريج والإعلال وقع عنده تعليقًا على حديث (بيع أمهات الأولاد) الذي غفل أيضًا عنه؛ فلم يُخَرِّجْه! ! وهو مخرَّجٌ في "الإرواء"(6/ 189) بإسنادين صحيحين عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه.

ولعلّه تَعَمّد التهرُّبَ من تخريجه لأنّه غير معقول عنده! ولم يجد مجالًا لإعلاله، فرأى أن (الهروبَ ثُلُثا الشجاعة) كما يُقال في بعض البلاد! ! واللَّه أعلم بما في نفسه!

ص: 196

‌97

- "وقد قال صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له":

جزم ابنُ القَيِّم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصوابُ الذي عليه العلماء، وحَسَّنه الحافظ العسقلاني، والسخاوي -وغيرهما- لشواهده-، وأشار إلى ذلك الحافظ المنذري في "الترغيب"(4/ 75/ 17)، وجريت على ذلك في "الضعيفة" -تحت الحديث (615) -، وأوردته في "صحيح الجامع الصغير"(3005).

وأما (الهدَّام): فضَلّ -كعادته-، عن السبيل، فَخَرَّجه (1/ 469) من رواية ابن ماجه فقط عن ابن مسعود؛ وقال:"وفيه انقطاع، ولا يصح في الباب شيء"! !

وهذا أَثَرٌ من آثار انحرافه عن قواعد العلماء؛ التي منها تقوية الحديث بالطرق، فهو لا يرفع إليها رأسًا، هداه اللَّه!

‌98

- ". . . عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البَيِّعان بالخيار حتى يتفرَّقا، إلّا أن يكون صفقةَ خيارٍ، ولا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله"؛ رواه أحمد، وأهل "السنن"، وحَسَّنه الترمذي":

أعلّه (الهدَّام)(1/ 481) بقوله -كعادته-: "وفي هذا الإسناد كلام".

وقد عَرَفْتَ الجواب عنه قريبًا، وقد صحَّحه ابن الجارود، وابن دقيق العيد في "الإلمام"(336/ 881)، والحافظ في "الفتح"(4/ 331) بسكوته عنه، وعزاه في "بلوغ المرام" لابن خزيمة في "صحيحه"، وهو مخرجٌ في "الإرواء"(1311).

‌99

- "روى محمد بن عمرٍو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحِلُّوا محارم اللَّه بأدنى

ص: 197

الحيل"، رواه أبو عبد اللَّه بن بَطّة. . . وهذا إسناد جيد يُصَحِّح مثلَه الترمذيُّ":

قال (الهدَّام)(1/ 481): "وذكره ابن كثير في "تفسيره" في موضعين (1/ 114 - 115) و (2/ 286)، وقال: "هذا إسناد جيد، فإنَّ أحمد بن محمد ابن سلم هذا؛ ذكره الخطيب في "تاريخه" ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويُصحِّح التِّرمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا"؛ قلت: لم أجده في "تاريخ بغداد"؛ فالحديث يبقى ضعيفًا".

قلت: كنت ذكرتُ هذا النفيَ في تخريج الحديث في "الإرواء"(5/ 375)، فقلَّدني (الهدَّام) فيه -كما ترى-، ثم تراجعت عنه حين وجدت ترجمته في "التاريخ" (4/ 362) -بدلالة أحد الإخوان - جزاه اللَّه خيرًا-؛ فإِذا هو فيه هكذا:"أحمد بن محمد بن أحمد بن سلم"؛ فـ (سلم) جَدّ والدِ (أحمد)، وقال الخطيب:"وكان ثقة".

لكنّ للحديث علَّةً أخرى؛ كنت ذكرتها في "غاية المرام"(23 - 24)؛ فلْيراجعها من شاء (1).

‌100

- "روى ابن ماجه عن عُبادة بن الصامت -يرفعه-: "يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها"، ورواه الإمام أحمد؛ ولفظه: "ليستحلّنَّ طائفة من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها":

قال (الهدَّام)(1/ 485): "أخرجه ابن ماجه (3385)، وأحمد (5/ 318)، وإسناده ضعيف"!

كذا قال -فُضَّ فُوهُ-، ولم يذكر له علّة، وليس فيه مضعَّفٌ ولا علّةٌ

(1) ولا يُعارِضُ -هذا- ما أوردتُهُ -قديمًا- في "آداب الزفاف"(ص 192) -عند التأمُّل-. . .

ص: 198

تُذكر، بل إسنادُهُ جيد، ومع ذلك فإنَّه تعامى عن رواية أحمد -الأخرى- (4/ 237) من طريق شعبة، عن أبي بكر بن حفص، قال: سمعت ابن مُحَيْريز، يحدِّث عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أُناسًا من أُمتي يشربون الخمر، يسمّونها بغير اسمها".

وهذا إسناد صحيح كالشمس، ورجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين، والصحابةُ كلهم عدولٌ.

كما تعامى عن شواهدهِ الكثيرةِ من حديث عائشة، وأبي أُمامة، وابن عباس، وأبي مالك الأشعري، وكلُّها بين عينيه مخرّجةٌ في "الصحيحة"(90، 414)؛ فتجاهل ذلك كلَّه مشاكسةً ومعاندةً واستكبارًا، نعوذ باللَّه من الخِذلان!

‌101

- "وقال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: إيّاكم وأصحاب الرأي، فإنَّهم أعداء السنن، أعيتْهم الأحاديثُ أن يحفظوها، وتفلَّتت منهم أن يعوها، واستحْيَوْا -حين سُئلوا- أن يقولوا: لا نعلم! فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإيّاهم":

قلت: لم يخرجه (الهدَّام)، واقتصر على قوله (1/ 490):

"انظر "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (2/ 135) "!

فأقول: كأن مقصوده من هذه الإحالة -التي لا يستفيد منها القراء شيئًا- إنَّما هو التهرُّب من تخريجه وبيان مرتبته! والواقع أنَّ ابن عبد البر أخرجه من طرق عن عُمر؛ بعضُها منقطعٌ، وبعضها مُتَّصل، لكن مجموعها يدلُّ على ثبوته عن عمر رضي الله عنه.

ويا للَّه! ما أشدَّ انطباقَه على هذا (الهدَّام)! فسبحان من ألهمه كَتْبَ هذا التعليق؛ لِيسترعيَ نظر القراء إلى انطباقه عليه؛ والكشف عن هُوِيَّتِهِ بقلمه!

ص: 199

‌102

- "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُوطأ حاملٌ حتى تضَعَ، ولا غيرُ ذاتِ حملٍ حتى تحيض".

خرَّجه (الهدَّام) من حديث أبي سعيد الخُدري -وضعّف إسناده-، ومن حديث أبي ثعلبة، وابن عباس، ورُويفِع، والعِرباض بن سارية -وسكت عنها-!

هكذا يفعلُ (الهدَّام)؛ يصرِّحُ بتضعيف الضعيف، ويسكتُ عن الصحيح!

والواقعُ أنَّ أسانيدَ بعضها صحيحٌ، وبعضها حسنٌ، والأوَّلُ حسَّنه الحافظ لغيره، فتعامى عن ذلك كلِّه، كما تعامى عن حديثِ جابرٍ الصحيحٍ، ومرسل الشعبيِّ الصحيح، وعن غيرها من الشواهد؛ وهي مخرَّجةٌ في "الإرواء"(1/ 200 - 201) و (5/ 139 - 142)، وقد وقف عليها يقينًا، فإِنَّه منها لخَّص -بل سَرَقَ- تخريجَه المذكور! فتجاهلها نكايةً في السنةِ وأهلها.

وقد احتجّ به أحمدُ على إبطال الحِيَل -كما رواه المؤلّف عنه هنا-، واحتجَّ به أيضًا في "مسائل ابنه صالح"(3/ 196)؛ وكفى بالإمام أحمد حُجَّةً! ولكنّ (الهدَّام) ليس له إمامٌ؛ إلّا هواه! وقد قوّى بعضَها ابنُ عبد البر في "التمهيد"(18/ 279).

(تنبيه): مِنْ غَفَلات (الهدَّام) وجهالاتِهِ؛ أنَّه لم يميّز حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث غيره؛ فقد حصر آخرَ الحديثِ عنده بزيادةٍ فيه، -هكذا-:"لا تُوْطَأُ حاملٌ. . .، ولا غير ذات حملٍ حتى تحيض فلا يدري": هي حاملٌ أم لا؟

فأدرج -بجهلٍ بالغ- قوله: "فلا يدري" في آخر الحديث! وإنَّما هو من تمام كلام الإمام أحمد -الذي ساقه ابن القيِّم-.

‌103

- "ونهى صلى الله عليه وسلم عن التَّشبُّه بأهل الكتاب -وغيرهم- من الكُفَّار في

ص: 200

مواضعَ كثيرةٍ. . . وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خالف هديُنا هَدْيَ الكفار"، وفي "المسند" مرفوعًا:"من تشبَّه بقومٍ فهو منهم":

قلت: هذا المقطع لم يخرِّج منه (عدوُّ السنةِ) إلّا حديث "المسند"؛ لِظنِّه -وهو سرابٌ- أنَّه يجدُ فيه مجالًا لتضعيفه، وهو باغٍ مُعتدٍ -كما هي عادتُهُ-، فقد أعَلَّه بعلَّتين:

إحداهما: (عبد الرحمن بن ثابت بن ثَوْبَان)؛ فجزم الخاسرُ -من عنده- بأنّه ضعيف!

والأخرى: جهالة (أبي مُنيب الجُرَشي)؛ فقال:

"لم يوثّقه غير ابن حبّان والعِجلي، وعندهما تساهلٌ معروف"!

فأقولُ مُستعينًا باللَّه:

1 -

أمّا ابن ثابت؛ فالصواب فيه أن يقال: "مُختلَف فيه"، وبه صَرَّح الحافظُ في "الفتح"(6/ 98)؛ فإنَّ هذا هو الواقعُ، فإنَّ مِن الأئمة مَن وثّقه، ومنهم مَن ضعَّفه، ومنهم مَن توسّط فيه، وهذا هو العدلُ الذي جَنَحَ إليه الحُفَّاظ النُّقَّاد الذين وقفوا على الخلافِ المذكورِ، وطبّقوا قواعدَ علمِ الحديث عليه؛ كالحافظ الذهبي؛ فإِنَّه توسَّط فيه:

فقال في "الكاشف": "قال دُحَيم، وغيره: ثِقَةٌ، رُمي بالقدر، وليَّنَه بعضُهم".

وقال في "السِّيَر"(7/ 313): "وثّقه دُحَيم، وأبو حاتم؛ وقال صالح -جَزَرَة-: قَدَري صدوق".

ثم ذكر أقوالَ مضعّفيهِ، ثم ختم ترجمته بقوله:

"وقد تتبّع الطبراني أحاديثه؛ فجاءت في كُرّاسٍ تامّ، ولم يكن بالمُكْثِرِ،

ص: 201

وَلَا هو بالحجة، بل صالح الحديث":

ولذلك أورده في "الرّواة المتكلَّم فيهم بما لا يوجب الرّد"(133/ 200).

واختصر ترجمتَه في "المغني" بقوله: "صدوق".

وسبقه إِلَى ذلك الحافظُ المنذريُّ في "الترغيب".

ونحوه قولُ الحافظ في "التقريب": "صدوق يخطيء، وتغيَّر بأَخَرة".

ولذلك ثبَّت حديثَهُ -هذا- في "الفتح"(6/ 98).

بل إنَّ شيخه الحافظَ العراقيَّ قد صحَّح إسناده في "تخريج الإحياء".

وعلى ذلك جرى كثيرٌ من الأئمةِ القدامي، فصَحَّحوا له أحاديث كثيرة -كالتِّرْمذي، وابن حِبان، والحاكم، والمنذري، والذهبي - وغيرهم-، واحتجَّ بحديثه هذا غيرُ واحدٍ من العلماء على كراهةِ أشياء من زِيِّ غير المسلمين؛ كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، ومنهم الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(1/ 148) و"تاريخه"(2/ 145)، ومِن قبلِهما الحافظ ابن الصلاح في "الفتاوى"(277/ 244)، وأفاد فائدةً هامّةً؛ فقال:

"التشبُّه بالكفار؛ قد يكون مكروهًا، وقد يكون حرامًا، وذلك حَسْبَ الفُحْشِ فيه؛ قِلَّةً وكثرةً؛ واللَّه أعلم".

وإنَّ مِمَّا يَسْتَرعي النظرَ: أنَّ من الموثِّقين لـ (ابن ثابت) هذا: الإِمام أبا حاتم الرازي -المعروفَ بتشَدُّدِه في التوتيق-؛ ولذلك يعتمد عليه (الهدَّام) كثيرًا في التجريح والتجهيل، وأمّا هنا فقد خالفه!

2 -

وأمّا (أَبُو مُنيب الجُرَشي)؛ فاتِّهام (الهدَّام) إياه بالجهالة -بزعم تساهُل الموثِّقَيْنِ له-، إنَّما هو من كِبْرِه وبَطَره للحق، فإِنَّ من المعلوم أنَّه لا

ص: 202

يلزمُ من تساهلهِيا -أي: ابن حِبّان، والعِجْلي- أن يُردَّ توثيقُهما دائمًا، كما لا يلزمُ من كون غيرهما من المتشدِّدين أن يُردَّ تضعيفُهم دائمًا، وإنَّما ذلك كلُّه خاضعٌ لعلم الجرح والتعديل، ومنه تقديمُ الجرح على التعديل عند التعارض -بشرطِهِ المعروف-، ولا شيء من هذا هنا مطلقًا، وإنَّما فيه التوثيقُ المذكورُ المُدَعَّمُ بتصحيح الحُفَّاظ لحديثه هذا وغيرِه، وبرواية خمسةٍ من الثقات عنه، وأكثرُهم من التابعين، فليس هناك من أهل العلم من يَرُدُّ حديثَ مثلِه بالجهالة، فلا غرابةَ بعد هذا أن يَتَّفِقَ رأيُ الحُفَّاظِ على توثيقه، والجمِّ الغفيرِ على تصحيح حديثه!

فهذا كلُّه يدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّ (الهدَّام) ينطلقُ في تضعيفه للأحاديث من اتِّباعه لهواه، وأنَّه لا يُقيم وزنًا للعلماء، واللَّه المستعان!

ومن ذلك، أنَّه لم يُخَرِّج ما أشار إليه ابن القيِّم من الأحاديث الواردةِ في التشبُّه بالكُفّار ". . . في مواضعَ كثيرةٍ" -كما هو نصُّ كلامهِ رحمه الله، وقد كنت جمعت ما تيسَّر لي منها في آخر كتابي "حجاب المرأة المسلمة" -والذي سميته أخيرًا "جلباب المرأة المسلمة"-، نحو ثلاثين حديثًا صحيحًا في مختلف أبواب الشريعة، في العبادات، والمعاملات. . . ونحوها.

ومن ذلك حديث: "خالف هدينا هدي الكفار"، الذي أعرض (الهدَّام) عن تخريجه -لجهلهِ بهِ! -، فقد خرّجته -هناك- من رواية الحاكم -وصحَّحه-، وفيه نَظَرٌ بيّنته ثمّة، لكن معناه في "صحيح البخاري"، فضلًا عن الأحاديث الأُخرى التي أشار إليها ابن القيِّم.

ومن تمام سعيه في الهدم، أنَّه لم يُشر إليها، ولم يدلَّ القراء عليها، بل إنَّه -على العكس من ذلك- ختم تخريجَهُ بقوله -بجهلٍ بالغٍ-:

"والشواهدُ المذكورة للحديث أشدُّ ضعفًا"!

ص: 203

وهذا من مُبالغاتهِ وتهويلاتهِ، فإِنَّ فيها شاهدًا مرسلًا، حَسَّنه الحافظ في "الفتح"، و"التغليق" -أيضًا- (3/ 446)، وتخريجه للحديث مِمَّا سرقه من "الإرواء"(1269)، وأخذ منه تعليلَ طُرُقهِ؛ إلَّا تحسين الطريق الأولى، وكتم بعضَ مصادرِه المخطوطة، لكي لا تنكشفَ سرقته؛ لأنّها ليست من مصادره!

وإنَّ من تلك الأحاديث -التي كان ينبغي على (الهدَّام) أن يُخَرِّجها- قولَه صلى الله عليه وسلم لما رأى على رجلٍ لباس الكفّار-: "هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"؛ رواه مسلمٌ وغيره، ولا أستبعدُ عليه أن يختلق له عِلّةً يضعّفه بها! وهو مخرَّج في "الجلباب"(183/ 1)، وقولَه صلى الله عليه وسلم:"غيِّروا الشَّيبَ ولا تشَبَّهوا باليهود والنصارى"؛ صحِّحه التِّرمذي، وابن حبان، وله طرق تراها هناك (189 - 190).

‌104

- "علَّل الجمعَ بين المرأة وعمّتها بقوله: إنَّكم إِذَا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم":

قلت: النهيُ عن الجمع المذكور صحيحٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ من حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ في "الصحيحين" وغيرهما، وهو مخرّج في "الإرواء"(6/ 288 - 291).

وأمّا التعليلُ بقوله: "إنّكم. . . " إلخ، فلا يصحُّ؛ وهو من طريق مُعْتَمِر بن سليمان، عن الفُضيل بن ميسرة، عن أَبِي حَرِيز، عن عِكْرِمة، عن ابن عَبَّاس.

وقول (الهدَّام)(1/ 552): "ولعلّها وَهَمٌ من المعتمر بن سليمان": من جهلهِ بمنازلِ الرجال ومراتبهم، وطعنه بغير حقّ، فإِنَّ (المعتمر) ثقةٌ احتج به الشيخان والجماعة؛ وإنّما الوَهَمُ من شيخه الفُضَيل بن مَيْسَرة، بل من شيخ هذا -أَبِي حَرِيز-، واسمه (عبد اللَّه بن حسين)؛ فإنَّه أضعفُ منه؛ كما حقّقتُه في المجلّد الرابع عشر من "الأحاديث الضعيفة" رقم (6528)، ورددتُ فيه على من حسَّن هذه الزيادة من المعاصرين.

ص: 204

‌105

- "أَدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانك":

قلت: جزم ابن القيم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصوابُ.

وأمّا (الهدَّام)" فقال (1/ 505): "حَدِيثٌ ضعيفٌ، أخرجه أَبُو داود. . . من طريق طَلْق بن غَنّام، عن شَرِيك، وقيس بن الربيّع، عن أبي حُصَين، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيْرَةَ. . . -مرفوعًا-، وشَرِيك وقيس ضعيفان، ولا يصلُحُ قيس للمتابعة، فإِنَّه كان يُدْخَلُ في كتابه".

كذا قال: "يُدْخَلُ"، بالبناء للمجهول، أبهم الفاعل! ليفخِّم الفعل! ! ويُوهم القراء أنّ كتاب قيس كان في متناول أيدي الناس، يُدخِل فيه من يشاء ما يشاء! مِمَّا ليس من حَدِيث قيس! وهذا باطلٌ لا أصلَ له، والذي ذكره العلماء أنَّ ذلك كَان من فعل ابنٍ له، لما تأخرّت به سِنُّهُ.

قال الحافظ: "صدوق، تغير لما كبر، وأَدخل عليه ابنُهُ ما ليس من حديثه".

وقد لاحظتُ أنَّ الحافظَ الذهبيَّ رحمه الله لم يتَعَرَّض لذكر هذا (الإدخال) مطلقًا في ترجمة (قيس) في كلّ كتبه التي ترجم له فيها -مِمَّا وقفت عليه-، مثل:"تذكرة الحفّاظ"، و"السير"، و"الكاشف"، و"المغني"، اللهم إلَّا في "الميزان" الذي يذكر فيه -عادةً- كُلَّ ما قيل في المترجَم من جرح وتوثيق، ومع ذلك، فكأنّه أشار في أوّل ترجمته إلى أَنَّهُ لا يترتّب عليه أكثرُ من قولُه -فيها-:

"صدوقٌ في نفسه، سيِّئ في الحفظ".

وكذلك قال في "المغني"، وهو يُلَخِّص فيه -عادةً- ما ذكره في "الميزان"؛ وكأنّه يعني أنَّه أُتي من قبل ابنهِ لسوء حفظه، وعلى ذلك فقولُ

ص: 205

(الهدَّام) -فيه-: "ولا يصلُح للمتابعة" -مع أنَّه لا سَلَفَ له فيه- مردودٌ، فإِنَّ مِن المقرَّرِ عند العلماء، أن الراويَ الصدوقَ الضعيفَ في حفظه يُستشهد به، ويصلح للمتابعة.

ولعلّه مِن أجل ذا: جوّد سَنَدَ هذا الحديثِ -نفسه- في "تلخيص العِلَل المتناهية"(581)، والحمدُ للَّه.

وهذا أَبُو حاتمٍ الرّازيُّ -المعروفُ بتشدُّده في الجرح- يقولُ في (قيس) هذا:

"محلُّه الصدق، وليس بقوي، يكتب حديثه، ولا يُحتجُّ به، وهو أحبّ إلي من محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى".

قلت: فلم يُضَعِّفه جدًا؛ بل أشار إلى الاستشهادِ به بقوله: "يُكتب حديثه"؛ وهذا مما لا يفهمه (الهدَّام)؛ لجهله بمقاصد أقوال الأئمة.

وقد أشار إلى ذلك ابنُ القَيِّم -فيما يأتي-؛ فانظر الحديث نفسه رقم (124).

وأمّا ابنُ عدي، فقد حَسَّن حديثه، فقال في آخر ترجمته من "الكامل" -بعدما ساق قصّة ابنه-:

"عامّة رواياته مستقيمة، وقد حَدَّث عن شُعبة، وعن ابن عُيينة -وغيرهما-، ويدلّ ذلك على أنَّه صاحبُ حَدِيث، والقولُ فيه ما قاله شعبةُ، وأنَّه لا بأس به".

قلت: فلا غرابةَ -بعد هذا- أن يُحَسِّن التِّرمذي حديثَه هذا، ولا سيّما وقد اقترن معه شَريك بن عبد اللَّه القاضي -وقد استشهد به مسلمٌ-، وأن يُصحِّحه الحاكم، والذهبي، وأن يحتجَّ به العلماء دون خلافٍ معروفٍ بينهم،

ص: 206

كابن القيم هنا، وشيخه ابن تيمية في "فتاواه" -كما يأتي-، وابن كثير في "التفسير"(1/ 515) وغيرهم.

هذا أَوّلًا.

وثانيًا: قولُهُ: "واستنكره أَبُو حاتم -كما في "العلل" لابنه (1/ 375) -، وأعلّه بـ (طَلْق بن غَنَّام) ".

قلت: فهذا حُجَّةٌ على (الهدَّام)؛ لأنّه لم يُعلّه بـ (قيس) -كما سبق بيانه-، وأنَّه صالحٌ للاستشهاد به عند أبي حاتم -كما هو ظاهر-.

وأمّا إعلالُه إياه بـ (طَلْق بن غَنّام)؛ فذلك لأنَّه غيرُ معروفٍ عنده، ولذلك لم يذكر في ترجمته توثيقًا ولا تجريحًا، وحينئدٍ؛ فالعلّة غير قادحةٍ عندنا، لأنَّه قد وثَّقه جمع، واحتجّ به البخاري في "صحيحه"، على أنَّه يمكن أن يكون مراده بالاستنكار مجرّد التفرّد، وليس التضعيف، وهذا استعمالٌ معروفٌ عند بعض المحدّثين - كما في "مقدّمة ابن الصلاح" -وغيره-، وتمام عبارة ابن أبي حاتم مِمَّا يُؤَيِّدُ هذا الحملَ، ولعلّه -لذلك- بترها (الهدَّام) ولم يذكرها بتمامها؛ تضليلًا -على عادته-!

فقال ابن أبي حاتم، عن أبيه في (طَلْق):

"وروى حديثًا منكرًا عن شَرِيك وقيس"؛ فساقه، وقال:"قال أَبي: ولم يروِ هذا الحديثَ غَيْرُهُ".

فهذا صريحٌ جدًّا في أنَّه عنى التفرُّد، وإلى هذا أشار البخاريُّ -أيضًا- بذكره هذا الحديثَ في ترجمة (طَلْق) من "التاريخ"(2/ 2/ 360)؛ فعادت عبارةُ أبي حاتم هدمًا على رأس (الهدَّام)؛ والحمد للَّه على الدوام.

ثالثًا -وأخيرًا-: قولُه: "وشواهده كلُّها لا تصحُّ، وهذا أحسنُها؛ وانظر

ص: 207

"تلخيص الحبير"(3/ 97) ".

فأقول: هذه مغالطةٌ من مغالطاتهِ الكثيرةِ، أو تعبيرٌ ركيكٌ، فإنَّ من المعلوم -بداهةً- أنَّه لا يُشترط في الشواهد الصحة، وإنَّما السلامةُ من الضعف الشديد، وهذا متحقِّقٌ هنا، فالشواهد المذكورة في "التلخيص" أربعة:

الأوّل: فيه أيوب بن سُوَيد، قال الحافظ:"مختلَف فيه".

الثاني: فيه مجهولٌ، وقد صحَّحه ابن السكن.

الثالث: سنده ضعيفٌ.

الرابع: عن الحسن -مرسلًا-.

قلت: وقد كنتُ خرّجتُ هذه الشواهد -إلَّا الرابع منها- في "الصحيحة"(423)، وختمتُها ردًّا على ابن الجوزي -الذي قلّده (الهدَّام) - بقولي:

"قلت: وهذا من مُبالغاتهِ، فالحديثُ من الطريق الأولى حَسَنٌ، وهذه الشواهدُ والطرقُ تُرَقِّيه إلى درجة الصِّحَّة، لاختلاف مخارجها، ولِخُلُوِّها من متهم".

فكان الواجبُ على (الهدَّام) أن يُجِيبَ على هذا الرّد جوابًا علميًّا، ولكنَّه -كعادتهِ- تهرَّب إلى الإحالةِ المضلِّلة! عملًا بالمثل العامي:(عنزة ولو طارت)!

على أنَّ هناك متابعاتٍ أُخرى، تزيد الحديثَ قوَّةً على قوة، ولذلك كتمها.

مِن ذلك؛ أن أيوب بن سُويد له متابعٌ قويٌّ في "معجم الطبراني"(1/ 234/ 760) بسندٍ جيدٍ، وقد وثَّق الهيثمي في "المجمع"(4/ 145) رجاله، وأخرجه -أيضًا- الضياء المقدسي في "المختارة".

ص: 208

ومُرْسَلُ الحسن البصري علّقه البيهقيُّ، ووصله الطبري في "تفسيره"(5/ 93) بسند صحيح عنه.

وله شاهدٌ -في المعنى-؛ ذكره ابن القيِّم في "الإغاثة"(2/ 89)؛ وصحّحه (الهدَّام)!

وأمّا ما نقل ابنُ الجوزيِّ عن الإِمام أحمد أنَّه قال:

"هذا حديثٌ باطلٌ، لا أعرفه من وجهٍ يصحُّ":

فما أظنُّه يصحُّ عن الإِمام، ولا عزاه لكتابٍ يمكن الرجوع إليه (1)؛ ولئن صحّ: فالجواب ما تقدّم.

والشطرُ الأوّلُ من الحديث في نَصِّ القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا} .

وللشطر الآخر منه شاهدٌ بمعناه، ذكره ابن تيميّة رحمه الله في "الفتاوى"(30/ 371 - 375) في كلامٍ له حول هذا الحديث، وفيه فوائدُ هامّةٌ

جدًا من الناحية الفقهية؛ التي لا يهتمُّ بها (الهدَّام) مطلقًا! فقال رحمه الله عَقِبَهُ-:

"وفي "المسند" عن بَشِير ابن الْخَصَاصيَة، أنَّه قال: يا رسول اللَّه! إن لنا جيرانًا لا يَدَعُون لنا شَاذَّةً ولا فَاذَّةً إلَّا أخذوها، فإِذا قَدَرْنا لهم على شيء أنأخذُهُ؟ قال: "لا! أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُن من خانك"، وفي "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قيل له: إنَّ أهل الصدقة يعتدُون علينا، أفنكتُمُ من أموالنا بقدر ما يعتدُون علينا؟ قال: "لا"، رواه أَبُو داود".

(1) وليس هو في مطبوعة "العلل المتناهية"(2/ 103 - الهندية) لابن الجوزي.

ص: 209

قلت: حديثُ بشيرٍ في "المسند"(5/ 83) -نحوه-، لكنْ ليس فيه:"أَدِّ الأمانة. . . "، وكذلك هو في "أطراف المسند" للحافظ ابن حجر (1/ 635/ 1288)؛ فالظاهر أنَّه مُدْرَجٌ من بعض النسّاخ، أو هو وَهَمٌ من الشيخ رحمه الله، وهو الظاهرُ؛ فقد ذكره المؤلّف -فيما يأتي برقم (126) - عازيًا إيّاه لشيخه في كتاب "إبطال التحليل" وهو في (ص 94) منه، وقد انطلى هذا الوَهَمُ على (الهدَّام) -كما يأتي ذكره - هناك-.

وما عزاه لأبي داودَ: هو في "سننه"(1586) من حديث بشير -أيضًا-، وبالسند نفسه.

وقد ساق الحديثين عبدُ الرّزاق في "مصنفه" بالسند ذاته، وفيه شيخٌ من بني سدوس -يقال له: دَيْسَم-، وهو مجهولٌ، ولذلك خرَّجت حديثَه في "ضعيف سُنن أبي داود"(277)؛ لكنّه تابعي مستور، فلا بأس به في الشواهد، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

‌106

- قال ابن القيِّم رحمه الله: "ومضتِ السنةُ بكراهة إفراد رجب بالصَّوم، وإفراد يوم الجمعة".

قلت: خرّج (الهدَّام) الشطر الأوّل منه بحديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب، قال:"وفيه متروك".

وخرَّج الشطر الآخر بحديث مسلم (1144) عن أبي هُريرة بلفظ: "لا تخصّوا يوم الجمعة بصيام. . . ".

وهذا تخريبٌ لقصد ابن القيم بما ذكر من السنة، وليس بتخريجٍ له!

ولعلّه أُتي من جهله بالفقه-؛ والفرقُ بين الإفراد لرجبٍ بالصوم، والنهي عن صيامه مطلقًا: واضحٌ -وهذا لم يصحَّ، وهو مخرّجٌ عندي في غير موضع،

ص: 210

أذكر منها: "الضعيفة"(4728) -؛ ومثله لا يخفى وهاؤه على ابن القيم رحمه الله، وليس هو مكنصودَه، وإنَّما مقصودُه إفرادُه بالصَّوم -كما يفعل بعض العامّة والعجائز-.

وقد روى ابنُ أبي شيبة (3/ 102)، والطبراني في "الأوسط"(2/ 182/ 1/ 778 - بترقيمي) عن خَرَشَةَ بن الحُرِّ، قال:

رأيت عُمَرَ يضرب أكُفَّ النّاس في رجب، حتى يضعوها في الجِفَانِ، ويقول: كُلُوا؛ فإنَّما هو شَهْرٌ كان يعظّمه أهل الجاهلية!

وإسناده صحيح.

ونحوه ما أخرجه عبد الرّزاق (4/ 292/ 7854) بسند صحيح عن عطاء، قال:

كان ابن عَبَّاسٍ ينهى عن صيام رجبٍ كُلِّه؛ لئلَّا يُتَّخَذَ عيدًا.

ثم روى هو - (7858) -، وابن أبي شيبة، عن زَيْدِ بن أَسْلَمَ، قال:

ذُكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قومٌ يصومون رجب؟ فقال: "وأين هم من شعبان؟ ! ".

وإسناده مرسلٌ صحيحٌ.

وروى ابنُ أبي شيبةَ، عن عاصم بن محمد، عن أبيه، قال:

كان ابن عُير إِذَا رأى الناس وما يُعِدُّوَنُه لرجب؛ كره ذلك.

وإسنادهُ صحيحٌ، ومحمد هذا: هو ابن زَيْدِ بن عبد اللَّه بن عُمر، وقد سمع من جَدّه عبد اللَّه بن عمر.

وروى ابن وضَّاح القرطبي في "البدع والنهي عنها"(ص 44) بسند ضعيف عن الشعبي، أنَّ عمر بن الخطّاب كان يضرب الرّجَبيين؛ الذين يصومون رجبَ كلّه.

ص: 211

قلتُ: فهذه الرّوايات هي التي أشار إليها ابن القيم بقوله المذكور، وليس الحديثَ الواهي الذي ليس له علاقةٌ بالموضوع، فأعرض عما يجب تخريجُهُ -وصحّ-، إلى ما لا ينبغي تخريجُهُ -ولا يصحُّ! -، وهَكذا فلْيكُنِ التَّخريجُ والتحقيق! !

وقد فصَّل القولَ في صيام شهر رجب: الإمامُ الطُّرطوشيُّ في كتابه القيِّم "الحوادث والبدع"(ص 138 - 142/ تحقيق الأخ علي الحلبي)، والحافظ ابن حَجَر في آخر رسالته "تبيين العَجَب فيما ورد في فضل رجب"؛ فلْيرجع إليهما مَن شاء.

وكذلك لم يُخَرِّج (الهدَّام) إفرادَ يومِ الجمعة بالصوم، وخرّج حديث النهي عن التخصيص (1)، فهذا أخصُّ، وذاك أعمُّ، فكان ينبغي تخريجه لو كان

يعلم! وهو من حديث جابر رضي الله عنه، يرويه محمد بن عَبّاد بن جعفر، قال: قلت لجابر أسمعتَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى أن يُفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إِيْ وربِّ الكعبة.

أخرجه النسائي في "الكبرى"(2/ 2747/ 141) بسندٍ صحيح، وأصله في "البخاري"(1984)، وعلّقه بلفظ النسائي، انظر "الفتح"(4/ 233 - 234).

(تنبيهٌ): حديث أبي هريرة الذي عزاه (الهدَّام) لمسلم، قد ضعَّفه في "ضعيفة الرياض"(561/ 123)!

‌107

- قال ابنُ القيِّم رحمه الله: "وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، سدًّا لذريعة الفِتنة والفُرقة":

قلت: فرفض (الهدَّام)(1/ 508) هذا الحُكْمَ، وأعَلّ حديثَه بعد أن عزاه

(1) وهو مخرَّج في "الصحيحة"(980)، وانظر الاستدراك (16) -منه-.

ص: 212

لمسلم، والبيهقي من طريق وَهْب بن بقيّة الواسِطي، عن خالد بن عبد اللَّه، عن الجُرَيْري، عن أبي نَضْرةَ، عن أبي سَعِيد الخدري. . . مرفوعًا، فقال (الفَسْلُ):

"خالد بن عبد اللَّه الواسطي؛ لم يُذكر فيمن روى عن الجُرَيري قبل الاختلاط، وهب بن بقية: ثقة، لا يحتمل التفرُّدَ بمثل هذا الأصل"!

فأقول لهذا الجاهلِ الظالمِ المتعالمِ:

أَوّلًا: كذلك لم يُذكر خالدٌ فيمن روى عن الجُرَيري -واسمه سَعِيد بن إياس- بعد الاختلاط، فالعدلُ والواجبُ حينئدٍ التوقُّف عن الجزم بتضعيف حديثه؛ حتى يتبيَّن ما يُرَجِّح الصّحة أو الضعف.

ثانيًا: إنَّ الاختلاطَ الذي رُمي به لم يكن فاحشًا -كما قال ابن حبّان-، فهو -والحالةُ هذه- حُجَّةٌ كسائر الثقات الذين فيهم ضعفٌ يسيرٌ ما لم يظهر خَطَؤُهُ.

ولذلك قال الذهبي في "الميزان": "أحد العُلَماء الأثبات، تغيّر قليلًا، ولذلك ضعَّفه يحيى القطان، ووثّقه جماعة".

وقال في "المغني": "ثقةٌ مشهور، تغيَّر قليلًا، ضعَّفه القطان".

وَمَعَ ذلك؛ لم يمتنع الشيخان من الاحتجاجِ بحديثه في "الصحيحين"، وتبعهم على ذلك أصحاب "الصحاح"، كابن حِبّان -نفسه-، فاحتجّ به في "صحيحه".

ومن جُملة ما أخرجا له: رواية خالد بن عبد اللَّه -هذا- وهو الواسِطي -عنه- كما في "تهذيب المِزّي"-.

على أنَّ الذهبي قد وجّه إخراجَهما عنه بتوجيهٍ آخرَ، فقال في "السير"

ص: 213

(6/ 155 - 156) -بعد أن نقل عن الإِمام أحمد استغرابه لحديثه هذا-:

"وقد رَوَيَا له في "الصحيحين"، وتحايَدَا ما حَدَّث به في حالةِ تغيُّر حفظهِ".

يشير إلى أنَّ حديثه هذا لا يُعَلُّ بالتغيُّر؛ لأنَّه مِمَّا انتقاه مسلم في "صحيحه".

ثالثًا: لا نُسَلِّم بأنَّ خالدًا هذا سمع منه بعد الاختلاط، أو التغيّر، فقد ذكروا جماعةً رووا عنه قبل التغيُّر تأخَّرت وفاتُهم عن وفاة خالد بسنين كثيرة، مثل عبد الأعلى بن عبد الأعلى؛ توفي سنة (198)، وتوفي خالد سنة (179 أو 182)، وهو -وإن كان واسطيًّا-: فقد سمع من جماعةٍ من الشيوخ البصريين هم أقدمُ وفاةً من الجُرَيري (ت 144)، مثل حُمَيد الطويل، وسليمان التَّيْميِّ؛ تُوُفِّيا سنة (143)، وخالد بن مِهْران الحَذّاء (ت 141) ويونُس بن عُبَيد (ت 139).

ولعلّ في هذا التحقيق ما يُزيل تردُّدَ الحافظ في "مقدمة الفتح"(ص 405):

"لم يتحرّر لي أمرُه إلى الآن؛ هل سمع منه قبل الاختلاط أو بعده؟ ! ".

وبذلك يسقط تعجُّب المعلِّق على "تهذيب الكمال"(10/ 342) من إخراج الشيخين لسعيد هذا، جازمًا بأنَّه ممن سمع من (الجريري) بعد الاختلاط! وهذا باطلٌ لأنَّه لم يقل به أحدٌ من الحفّاظ، وهو وَهَمٌ محضٌ، وحَسْبُك -دليلًا- تردُّدُ الحافظ المذكور، بِغَضِّ النظر عن التحقيق المزبور

هذا هو الجوابُ عن إعلال (الهدَّام) للحديثِ بالاختلاط، وقد تبيَّن أنَّه سالِمٌ منه، والحمدُ للَّه.

ص: 214

وأمّا قولُهُ: "وهب بن بقيّة: ثقةٌ، لا يحتمل التفرّد. . . "؛ فمن شقاشقِه التي يتشبَّثُ بها في سبيل ردِّ رواية حديث الثقةِ المتفق على صحَّة حديثه!

ثم؛ ما هو السببُ -عند هذا الظالم- في ربط هذه الدعوى الباطلةِ به، دون مَن فوقَه مِن الثقات؟

وما الفرقُ -عنده- في ردّ أي حديث من أحاديث الثقات بمثل هذه الدعوى الكاذبة؟ !

أليس هذا من الأدِلَّة الكثيرة على أنَّ هذا الرجل هو -كما قيل: - (يَهْرِف بما لا يَعْرِف)؟ !

ثم ماذا يقول الظالمُ -يا تُرى! - في ثقةٍ آخر قد تابع الأوّل؟ وهو عَمْرو ابن عَوْن الواسطي: ثنا خالد بن عبد اللَّه. . . به، أخرجه أَبُو عَوَانة في "صحيحه"(4/ 460).

وماذا يقولُ -أيضًا- في بقيَّة الطرقِ والشواهدِ التي يطولُ الكلام بذكرها، وقد ذكرتُ الكثيرَ الطيِّبَ منها في "الصحيحة"(3089)، ومنها حديث عَرْفَجة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمرُكُم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتَكم: فاقتلوه".

أخرجه مسلم، وأبو عَوَانة، وابن حِبّان في "صِحاحهم"، وهو مخرّج في "الإرواء"(8/ 105).

ومثلُه قولُه صلى الله عليه وسلم حديث ابن عَمْرٍو -الطويل-:

". . . وَمَن بايع إمامًا، فأعطاه صفقةَ يدِه، وثمرةَ قلبِه؛ فَلْيُطعْه ما استطاع؛ فَإنْ جاء آخرُ يُنازعه؛ فاضربوا عُنُق الآخر".

ونحوهُ حديثُ أسامةَ بنِ شَرِيك، رواه أبو عَوَانةَ -وغيره-، وهو مخرّج في

ص: 215

"ظلال الجنّة"(2/ 525 - 526).

وإذا عرفتَ هذا؛ تبيّن بطلانُ وسقوطُ تمامِ كلامه في تخريج الحديث: "قلت: وشواهده كلها لا تصحُّ. . . " إلخ، ولا سيّما وهو كلامٌ مُضَلَّلٌ مُعَمًّى، فما هي الشواهدُ التي يعنيها؟ ! إنَّه -كعادتهِ- يُعَمِّي ولا يُبَيِّن، وهو شأن المُضلِّل -المُضَلَّل - دَوْمًا-! !

‌108

- حديث "أطعموها الأُسارى":

قال (الهدَّام)(1/ 514): "أخرجه أبو داود (3332) بإسناد حسن".

كذا قال! ولم يُبَيّن لماذا هو حسن فقط، وليس بصحيح؟ ! كما هي عادتُهُ في كلّ ما حَسَّنَه -فيما تقدم-، ولو أنَّه فعل لانكشفَ أنَّه لا ضوابطَ عنده ولا قواعد؛ إلَّا أن تكون من وضعِه هو -بهواهُ-؛ مخالفًا لعلماء المسلمين تأصيلًا وتفريعًا؛ يدلُّ على ذلك كثرةُ مخالفالِّه لهم -فيما تقدم ويأتي-؛ ومِن ذلك هذا الحديثُ؛ فقد صحّحه الإِمام النووي، والحافظ العسقلاني، وهو قطعةٌ من حديثٍ عند أبي داود وغيره، وهو مخرّج في "أحكام الجنائز"(ص 182).

‌109

- "وقال الزُّهْري، عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمّه أُم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط -وكانت من المهاجرات الأول-: لم أسمع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يرخِّص في شيء مما يقول الناس: إنَّه كَذِبٌ؛ إلَّا فى ثلاث: الرجل يُصلح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب":

قال (الهدَّام)(1/ 524): "أخرجه مسلم (2605)، والصواب أنَّه من كلام الزهري، كما في وواية يونُس، عن الزهري؛ ويونُس من أوثق الناس في

الزهري .. . . ". إلخ.

ص: 216

وأقولُ: بل الصوابُ أنَّه مرفوعٌ من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رواه أربعةٌ من الثقات عن الزهري بسنده الصحيح -الذي ساقه ابن القيم رحمه الله محتجًّا به-.

ويُونس الذي اتَّكَأَ عليه (المضعِّف) في وَقْفِه على الزهري؛ قد رواه بعضُهم عنه عن الزهري. . . مرفوعًا.

وبيانُ ذلك من وجوه:

الأَوَّل: أنَّ (الأوثقّيةَ) التي ذكرها؛ مما اختلف الحُفَّاظ فيها، فهو -كعادتِه- يأخذ من أقوالهم ما يشاءُ؛ ممّا يوافق هواه:

فقد قال الحافظُ ابنُ رَجب في "شرح علل الترمذي" -وهو من مراجع المضعِّف! - بعد أن حكى بعضَ الأقوالِ في (الأوثقيّة) -المذكورة (ص 342) -: "وكان الإِمام أحمد سيِّئَ الرأي في يونُس بن يزيد. . . ".

وفي "التهذيب": "وقال الميموني: سئل أحمد: مَنْ أثبتُ في الزُّهري؟ قال: مَعْمَر، قيل: فيونُس؟ قال: روى أحاديث منكرة".

وقال في روايةٍ أخرى: "هو كثيرُ الخطإ عن الزهري"!

الثاني: سَلّمنا (بالأوثقيَّة) المدَّعاة، ولكنْ ليس على إطلاقها، وإنَّما في كتابهِ، فقد قيَّدَه بذلك بعضُ الحفّاظ كابن المبارك -وغيره-؛ فقالوا:"كتابه صحيح".

ولما ذكره عليُّ بن المَدِيني في "أثبت الناس"؛ قَدّم عليه جماعةً، وقال بعدهم:"ويونُس من كتابه".

وروى ابنُ أبي حاتم بِسندٍ صحيح عن وَكِيعٌ، قال:"لقيت يونُس بن يزيدَ الأيْلي، وذاكرتُه بأحاديث الزهري المعروفةِ، وجهدتُ أن يُقيم لي حديثًا، فما أقامه".

ص: 217

وهذا الحديثُ لم يذكر أَحَدٌ -فيما علمتُ- بأنَّه حدَّث به من كتابهِ، فسقط التصويبُ القائمُ عليها.

الثالث: سَلَّمنا (بالأوثقيّة) المزعومة على إطلاقها، ولكنّ ذلك لا يعني أكثرَ من ترجيحِ روايته على رواية مَنْ هو دونه في (الأوثقيّة)؛ كأن يخالفه ابنُ جُريج -مثلًا-، والأمرُ ليس حصذلك هنا! فقد خالفه أيضًا عبدُ الوهّاب بن أبي بكر، وصالح بن كَيْسان، ورواياتهم مخرَّجة بالأسانيد الصحيحة عنهم في "الصحيحة" برقم (545).

ثم وجدتُ لهم متابعًا رابعًا؛ هو أوثقُ منهم ومن يونُس جميعًا، ألا وهو (الزُّبَيدي: محمد بن الوليد): أخرج حديثَه النسائي في "السنن الكبرى"(5/ 351/ 9123): أخبرنا كَثِير بن عُبيد الحِمْصي، قال: ثنا محمد بن حرب، عنه، عن الزُّهري. . . به.

وقال الحافظ في (الزُّبيدي): "ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهري".

وفضّله الجُوزَجاني على يونُس؛ كما في "شرح العلل"(340).

وَلعِلْمِ (الهدَّام) بهذا -واللَّه أعلم! - كابرَ -كعادته-، وأجاب عنه بجواب تضحك منه الثَّكلى؛ فقال (ص 406 - "رياضه"):

"لم يتعيَّن القائلُ في رواية الزُّبيدي عند النسائي"!

وليتَ شِعري؛ هل يقولُ مثلَ هذا الكلامِ عاقلٌ يدري ما يخرج من رَأْسهِ؛ في حديث كهذا، صحَّ إسناده -كما تقدّم- إلى الزبيدي، وليس بينه وبين النسائي غيرُ ثقتين، كَثير بن عُبيد ومحمد بن حرب؟ !

نعم، قد يقولُ -هذا- المجادلُ بالباطل فيغمزُ من أحدهما، ويزعم أنَّه أخطأ على الزبيدي، ولكنّه لم يتعَيَّن!

ص: 218

فإن كان يريدُ هذا! ! فهو من أباطيلهِ الكثيرِة التي لا تحصي، والتي لا يعجزُ عنها أجهلُ الناس، وأشَدُّ الناس عِداءً للسنة، ولأنَّها مبنيّة {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} ، ألا وهي تخطئةُ الثقات بغير حُجّةٍ أو قاعدةٍ علميةٍ.

ويا تُرى! ما الفرقُ بينه وبين ما لو عارضه معارضٌ مثله، فقال: أخطأ يونُس في إيقافه لهذا الحديث على الزهري، كما أخطأتَ أنت في تصويبك لوقفه، أو خَطّأك في كل تصحيحاتك وتحسيناتك، التي تُطلقها -دون بيانٍ-، مخالفًا أسلوب العلماء في تخريجاتهم وتضعيفاتهم؟ ! يَرِدُ ذلك عليه دون أيِّ بحثٍ أو تحقيق، اليس هذا هو الهَدْمَ للسنّة -الذي يقومُ به هذا (الهدَّام) -؟ !

وإنَّ من دعاويه الباطلةِ والكاذبةِ في تعليقه المشار إليه في "الرياض"؛ قولَه في الثقات الثلاثة الذين سبق ذكرُهُم -ابن جُريج، وعبد الوهّاب، وصالح-، قال:

"ليسوا بالأثبات في حديث الزُّهري -كما في "شرح علل الترمذي"-".

فأقولُ: هذا الكلام -على قلَّته- فيه كذبٌ وتدليسٌ:

أمّا الكذبُ؛ فقد ذكر الحافظُ ابنُ رَجَب في الشرح المذكور بحثًا علميًّا رائعًا، تحت عنوان:(أصحاب الزهري)، وطبقاتهم، ومراتبهم في الرّواية عنهم، تُساعد الباحثَ العالم على ترجيح رواية على أُخرى عند التعارض - (ص 338 - 344) -؛ جاوز عددُهم العشرةَ، ليس فيهم عبد الوهاب!

وأمّا التدليسُ، فهو أنَّه أوهم قُرّاءه أنَّ الحافظ ابن رجب نفى أن يكونَ صالحٌ من الأثبات، والواقع أنَّه لم يفعل ذلك، وإنَّما ذكر عن ابن مَعِين أنَّه قال:"مَعْمَرٌ أحبُّ إليَّ من صالح بن كَيْسان"؛ وهذا لا يعني -بأيِّ وجهٍ من الوجوه- ما نسبه إلى ابن رجب في "شرحه"! ألا تَرَى أنَّه ذكر (ص 339) عن يحيى بن سَعِيد أنَّه قال: "ابن عُيَينة أحبُّ إلي في الزهري من مَعْمَر".

ص: 219

فهل يقولُ (الهدَّام) في (مَعْمَر) ما قاله في (صالح)؟ !

وهل الذي قاله -أو نَسَبه- إلى الحافظ ابن رجب، هو من جهلهِ، أو سوءِ فهمه، حتى وقع في مثل هذا التناقض؟ ! أحلاهما مرٌّ!

والوجه الرّابع: ما رواه البخاريُّ في "الأدب المفرد"(رقم 385): حدّثنا عبد اللَّه بن صالح، قال: حدّثني الليث، قال: حدّثني يونُس، عن ابن شِهَاب. . . به، مثل حديث الأربعة.

وهذا إسنادٌ رجالُه ثقاتٌ رجال الشيخين، غير (عبد اللَّه بن صالح) -وهو كاتب الليث-، والخلافُ فيه معروفٌ، وقد أورده الحافظ في "مقدمة الفتح"(ص 414)، وذكر فيه طائفةً من أقوال الأئمة، ما بين موثّق ومضعِّف، ثم عقّب على ذلك بقوله:

"قلتُ: ظاهرُ كلامِ هؤلاء الأئمة؛ أنَّ حديثَه في الأوّل كان مستقيمًا، ثم طَرَأَ عليه فيه تخليطٌ، فمقتضى ذلك: أنّ ما يجيءُ من روايته عن أهل الحِذْق -كيحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم-، فهو من صحيحِ حديثهِ، وما يجيءُ من رواية الشيوخ عنه، فَيُتَوَقَّفُ فيه".

قلتُ: وعلى هذا التفصيلِ يكونُ حديثُ عبد اللَّه بن صالح -هنا- عن الليث من صحيح حديثه، لرواية البخاري، وإن مما يؤكّد ذلك أنَّه قد تابعه أَبُو بكرٍ وهو ثقةٌ محتجٌّ به في "الصحيحين"-:

فقال أَبُو جعفر الطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 88): حدثنا يونُس، قال: أخبرنا يحيى بن عبد اللَّه بن بُكَير. وحدثنا محمد بن خُزَيمة، وفَهْدٌ، قالا: ثنا عبد اللَّه بن صالح -قال كلٌّ منهما-. حدّثني الليث. . . به.

وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 490 - 491) من طريق أخرى عن ابنِ بُكَير .. به.

ص: 220

قلتُ: فإِذا صحَّ هذا، فيكون الليث متابعًا خامسًا، وهو ثقةٌ حجّةٌ في كل شيوخه، ومنهم يزيدُ بن الْهَاد، فقد رواه عنه، عن عبد الوهّاب، عن ابن شِهَاب -عند أحمد وغيرهِ-، وهو مخرّجٌ في "الصحيحة" -كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك-.

وجملةُ القولِ: فهذه خمسةُ طرقٍ عامّتها صحيحةٌ عن الزُّهْري، لا تَدَعُ أيَّ شكٍّ أو ريبٍ في ثبوت رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند كل مسلم مُنْصِف يغارُ على حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُنتقصَ منه، ويُنسب إلى غيره، كما يغار أن يُنسب إليه ما لم يقُلْه من حديثِ غيره؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .

وبعد هذ! كله؛ فإِنِّي أقول:

إنَّه لا تلازُمَ -عند أهل الحق والعلم- بين كون حديثٍ -ما- ضعيفَ الإسنادِ، وبين أن لا يكونَ له -أو لبعضهِ- أسانيدُ أُخرى تُقَوِّيه، فالباحثُ الناصحُ -حقًا- لا يقفُ عند هذا الإسناد، بل إنَّه يتوسّع في بحثه، ويوسّع أُفُقَ نظرهِ لعلّه يجدُ ما يقوِّيه أو يقوِّي بعضَه على الأقل، وهذا مما لا يفعلُه (الهدَّام) - وقد تقدّمت له أمثلةٌ كثيرةٌ، ومنها هذا الحديثُ؛ فقد كنت ذكرتُ له بعضَ الشواهد في "الصحيحة"، فَأَعْرَضَ عنها -قصدًا وكتمانًا للحق! -.

بل إنَّه تعامى عمّا هو أصحُّ منها، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم:"الحرب خدعة"؛ الذي أخرجه الشيخانِ -وغيرهما- عن جمعٍ من الصحابة، حتى بلغ -أو كادَ يبلُغُ- التواتر، وهو مخرّج في "الروض النضير"(770)، و"صحيح أبي داود"(2369) -وغيرهما-.

فيا تُرى! ألم يكن من الواجبِ على هذا (الهدَّام) -لو كان بنَّاءً ناصِحًا- أن يُنبَّهَ قُرّاءه بأنَّ تضعيفه لهذا الحديث لا يشملُ هذه الفِقرةَ منه؛ لصحّتها

ص: 221

عنده أيضًا؛ فقد أثبتها في "رياضه" رقم (1029)؟ !

وبهذه المناسبةِ أقولُ -مذكِّرًا بتخريبِ هذا (الهدَّام) -: إنَّ رقم هذا الحديث في "رياض الصالحين"(1359) -الأصل-؛ فليتأمّل القراء الكرام الفرقَ الشاسعَ بين "رياضه"، و"رياض الصالحين"!

ثم إنَّ حديثَ -"الحرب خدعة"- ذكره ابن القيِّم بعد صفحات (530)، فلم يُخَرِّجه (الهدَّام)، وإنَّما أحال به على حديث الزُّهري -الذي أعلّه بالوقف-، فقال:"تقدّم تخريجه"؛ فهل كان هذا عن غفلةٍ أو تغافُل؟ ! الثاني هو الأقربُ إلى هدمهِ!

ولابُدّ لي بهذه المناسبةِ من التنبيه على ما يأتي:

أوّلًا: لقد كان يكفي هذا (الهدَّامَ) -رادعًا له عن إصراره على تضعيفِ الحديث هنا وهنا-؛ علمُهُ بِجَرَيان عملِ العلماء عليه، واحتجاجِهم في كتبهم، مع اطِّلاعِهم على العلّة المزعومة، كالإمام النووي في "الرياض"، و"شرح مسلم" -وغيرهما-، والشيخين: ابن القيِّم هنا، وشيخه في "الفتاوى"(28/ 244)، والحافظ العراقي في مواطن من كتابه "تخريج الإحياء"، وابنه أبي زُرعة في "طرح التثريب"(7/ 215)، والحافظ ابن كثير في "التفسير"؛ وغيرهم كثير وكثير -مما لا يمكن إحصاؤه-.

ثانيًا: بمناسبة ذكر ابن كثير؛ لقد قال في تخريج هذا الحديث - مِن "تفسيره"(1/ 554) -بعد أن مماقه بإسناد أحمد، من طريق صالح بن كَيْسان-:

"رواه الجماعةُ سوى ابن ماجة من طُرُق عن الزهري. . . به".

قلت: فيه تساهُلٌ؛ لأنَّ البخاري والترمذي ليس عندهما إلَّا قولُهُ -قبل هذا الحديث-: "ليس الكذّابُ الذي يُصلح بين الناس، فَيَنْمي خيرًا أو يقول

ص: 222

خيرًا"، وزاد مسلم -وغيره- عَقِبَ هذا حديثَ الترجمةِ.

ثالثًا: لقد وهم الحافظُ رحمه الله في جزمه -في "الفتح"(5/ 350) - بأنَّ هذه الزيادةَ مُدْرَجَةٌ، وفرح بها (الهدَّام)؛ فاتَّخذها تُكَأَة لتضعيفِ الحديثِ! وهو غيرُ معذورٍ -لما تقدم-، بخلاف الحافظِ؛ فإنَّه لم يقف -واللَّه أعلم- على أكثر المتابعات السابقة، وبخاصَّة منها متابعة (عبد الوهاب بن أبي بكر).

وقد قال فيه ابنُ أبي حاتم (3/ 1/ 71) عن أبيه: "هوِ ثقة، ما به بَأْسٌ، هو من قدماء أصحاب الزُّهري، صحيح الحديث، كان وكيلًا للزهري بـ (بَداء شَغْب)؛ وأقرّه الحافظ في "التهذيب".

ولخّص كلامه -في "التقريب"- بقوله:

"وكيل الزهري؛ ثقة".

ولم يتنبّه لوهم الحافظ -هذا- المعلِّقُ على "الإحسان"، فنقله (13/ 41 - 42) وأقرّه! والمعصوم من عصمه اللَّه -تعالى-.

‌110

- "دُعي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام، فقال: إني صائمٌ، ثم رأوه يأكلُ، فقالوا: ألم تقل: إنّي صائم؟ ! فقال: ألم يقُلْ رسىولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدّهر"؟ ! ":

قال (الهدَّام): "أخرجه أحمد (2/ 384 و 513)؛ ورجاله ثقاتٌ؛ وهو من حديث عبد اللَّه بن عمرو، عند البخاري. . ومسلم. . . ".

قلت: يعني بحديث ابن عمرو المرفوعَ -فقط- من حديث أبي هُريرة، وهذا من عِيِّهِ -أو جهْلِهِ- بفنِّ التخريج، لكنْ في تخريجه لحديث أبي هُريرة مؤاخذتان:

ص: 223

الأولى: اقتصاره في عزوه على أحمد، وقد رواه أبو يعلى، وابن حبان! ولعله عن عمْدٍ فعل ذلك؛ تعميةً لصحّته عن القراء، وإن كان هو لا يُؤمِن بتصحيح ابن حِبان، ولا يعتدُّ به مطلقًا! وهو من جَنَفِه وظلمِه؛ والحقُّ التفصيلُ -كما هو معروفٌ-.

والأخرى: اقتصارهُ على قولُه: "ورجاله ثقات"؛ وحقه أن يقول: "إسناده صحيح"، بدلَ:"ورجاله ثقات"، أو يجمع بينهما؛ فإنَّه من رواية حمّاد ابن سَلَمَة، عن ثابت، عن أبي عُثمان النَّهْدي، عن أبي هريرة.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط مسلم، كما كنتُ ذكرت ذلك في "الإرواء"(4/ 99)، وذلك لأنَّ أبا عُثمان النَّهْدي -واسمه: عبد الرحمن بن مُلٍّ- أخرج له الشيخان عن أبي هُريرة؛ وحمّاد بن سَلَمَة احتجّ به مسلمٌ في روايته عن ثابت، وهو فيها ثقةٌ اتفاقًا، فلا أدري -إذن- لِمَ لَمْ يُصَحِّحه؟ !

أهو المشاكسةُ والمعاندةُ التي جرى عليها في تضعيفاتهِ؟ !

أُم هي المعاداةُ لأئمة السنة الذين منهم حمّادُ بن سَلَمة؟ القائلُ: "من طلب الحديث لغير اللَّه -تعالى- مُكِرَ به"، والذي قال فيه إمامُ السنة -أحمدُ ابن حنبلٍ-:"إِذَا رأيتَ الرجلَ يغمِزُ حمّاد بن سَلَمَة فاتّهمه على الإسلام، فإِنَّه كان شديدًا على المبتدعة"، ولذلك أعلن تضعيفَه بعضُ المبتدعة وأعداء السنة في هذا العصر، فأخشى أن يكون (الهدَّام) منهم؛ فإِني أراه منحرفًا عنه! وضعّف له حديثًا من روايته عن ثابت، تقدم برقم (6)! !

‌111

- حديث: "هَلُمَّ إلى الغداء المبارك":

عزاه (الهدَّام)(1/ 528) لرواية جمع -منهم ابن خُزيمة، وابن حبّان- عن العِرْباض، وقال:"وفي إسناده ضعف"، وإلى النسائي عن المِقْدام، وابن حِبّان عن أبي الدّرداء، وقال:"وفيهما كلامٌ أيضًا".

ص: 224

قلتُ: هذا التضعيفُ المبهم إمّا أن يعني أنَّ متنَ الحديثِ ضعيفٌ لا يتقوّى بمجموع هذه الطرق؛ فهذا باطلٌ، لأنَّها ليست شديدةَ الضعفِ -كما يشير إلى ذلك إخراجُ ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحهما" للحديثِ-؛ فهو صحيحٌ لغيره.

وإن كان يعني أنَّه صحيحٌ أو حسنٌ على الأقلّ؛ فلماذا كتمه، وما بيّنه؟ !

على أنَّ له شواهدَ أخري، لا أستبعد أنَّه تَعَمَّد كتمانَها:

منها حديا عائشة عند أبي يعلى (4679)، وحديث ابن عباس في "أوسط الطبراني"، وعنه الخطيب (1/ 387)(1) وكلُّها مخرّجةٌ عندي في "صحيح أبي داود"(2030)، ولذلك أشار المنذري في "الترغيب"(1/ 92/ 5 و 6) إلى تقويته، وكذلك عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى"(1/ 382).

وإنّ مما يؤكّد كتمانَه المذكورَ: أنَّ من طرقه -عند النسائي- ما رواه من طريق ثَوْر، عن خالد بن مَعْدان -مرسلًا-، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرجلٍ. . . فذكره.

وإنّما كتمه لصحّة سنده! ولأنَّ الحديث يتقوّى به وبموصولٍ واحدٍ من تلك المسندات؛ كما هي القاعدةُ عند العلماء؛ ونصّ على مثل ذلك الإِمام الشافعي رحمه الله؛ فكيف لا يُقَوّى بها كلِّها؟ !

وكتم -أيضًا- شاهدًا قويًا عند النسائي -أيضًا-؛ من طريق عبد اللَّه بن الحارث، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

(1) ثم خرّجته في "الصحيحة"(2983)، وسقت إسناده، وبيّنت صحته مع مرسل خالد ابن مَعْدان -الآتي-.

ص: 225

دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتَسَحّر، فقال:"إنَّها برَكَةٌ أعطاكم اللَّه إياها؛ فلا تَدَعُوه".

وإسنادهُ صحيحٌ، وصحّحه عبد الحق الإشبيلي.

انتهى الرَّد على حسّان عبد المنّان - (الهدَّام) - في تعليقاته الظالمة، والمضعِّفة للأحاديث الصحيحة في الجزء الأول مِن "إغاثة اللهفان".

ويتلوه الردُّ على تعليقاتهِ في الجزء الثاني -منه-:

ص: 226

‌112

- "وصحّ عن ابن عُمر رضي الله عنهما: أنَّه قد سُئل عن الرجل يكون له الدَّيْنُ على رجلٍ إلى أجل، فيضع عنه صاحبُه، ويُعَجّل له الآخر؟ فكره ذلك ابن عمر، ونهى عنه":

قال (الهدَّام)(2/ 15) مشاكسًا معاكسًا: "أخرجه البيهقي (6/ 28)، وفيه عثمان بن حفص بن خَلْدَة، قال البخاري: لا يتابع في حديثه: "اللسان" (4/ 133) ".

قلت: فيه تدليسٌ خبيثٌ؛ فإنَّ البخاري لم يقل ذلك في عثمان هذا، وإنَّما في (عثمان بن حَفْص) -غير منسوب إلى (ابن خلدة) -، ثم تشكّك في كونه هو هذا، أو هو (عثمان بن عبد الرحمن الوَقّاصي)؟ !

قلتُ: وذلك لأنَّ الوَقَّاصي متروكٌ، والحديث الذي عَقّب عليه البخاري بقوله:"لا يتابع عليه" هو به أشبهُ؛ لنكارته، (وابن خَلْدة) لا يَحتملُ مثله، كيف وقد وثّقه ابن حبان (5/ 155)، وابن عبد البر، وروى عنه ثقتان أحدُهما مالكٌ، وشيوخه ثقات -كما هو مذكورٌ في ترجمته-؟ ! ولذلك صحّحه ابن القيم، فعاكسه (الهدَّام)!

وانظر تعليقي على (ابن خَلْدة) في "تيسير الانتفاع".

‌113

- "وصحّ عن أبي المِنْهال، أنَّه سأل ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: لرجل عليَّ دَيْنٌ، فقال لي: عجِّل لي لأضع عنك؟ قال: فنهاني عنه، وقال: نهى أمير المؤمنين -يعني: عمر- أن يبيع العين بالدّين":

قال (الهدَّام) معاكسًا -أيضًا-: "أخرجه البيهقي (6/ 28)، ورجاله ثقات".

ص: 227

كذا قال؛ مشاكسةً للمؤلِّف؛ فإسنادهُ صحيحٌ لا غبار عليه، ولو كان وجد علّة لبادَرَ لبيانها (1).

‌114

- "وقال أبو صالحٍ -مولى السَّفَّاح - واسمه عبيد-؛ بعتُ بُرًّا من أهل السوق إلى أَجَلٍ، ثم أردتُ الخروج إلى الكوفة، فعرضوا علي أن أضعَ عنهم وينقُدوني، فسألت عن ذلك زَيْدِ بن ثابت؟ فقال: لا آمرك أن تأكل هذا، ولا تُوكِله؛ رواه مالك في "الموطإ":

قال (الهدَّام)(2/ 16): أخرجه مالك (2/ 672)؛ وأبو صالح هذا في عداد المجاهيل، لم يوثقه غير ابن حبان".

وأقول: هذا النفيُ جهلٌ أو تجاهلٌ؛ فقد وثّقه ابن معين -كما في "الجرح والتعديل"(3/ 1/ 69) -.

‌115

- "صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّه كان لا يرى بأسًا أن يقول: أُعجِّلُ لك وتضع عني":

قال (الهدَّام) معاكسًا -كعادته-: "أخرجه البيهقي (6/ 28) بإسناد ضعيف".

قلت: بل إسنادهُ صحيحٌ، وهو نفس إسناد الأثر المتقدم برقم (113)، الذي وتّق (الهدَّام) إسناده هناك، وضعّفه هنا، وهما في صفحةٍ واحدةٍ عند البيهقي -كما يشير إلى ذلك الجزء والصفحة! -.

فيا للَّه! ما أشدَّ تلاعُبَه وتناقُضَه ومشاكسَتَه! ولولا ذلك لبيّن هنا علّة ضعفِه، وهناك سببَ عدمِ صحّته، مع أنَّ المؤلّف قد صحَّحهما! !

إنَّه يريد أن يرفع ثقةَ القراءِ بالإمام ابن القيِّم -وغيره من أئمة الحديث-،

(1) ومن (بهلوانياته) أنَّه ضعَّف هذا الإسناد نفسَه في الأثر الآتي (115) دون بيان! !

ص: 228

الذين يُعاكِسُهم في التصحيح، وأن يتّخذوه هو إمامَ ضلالةٍ، وأن يُطيعوه طاعةً عمياءَ، وحاشاهم من ذلك!

ويشهد له حديثُه الذي أورده المؤلّفُ -عَقِبَهُ-، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:"ضعوا وتعجّلوا"؛ وهو وإن كان فيه مسلمُ بن خالد الزَّنْجي، فإِنَّه يشهدُ له حديثُ كعب بن مالك، وقولُه صلى الله عليه وسلم له-:"ضع من دَيْنِك الشطرَ"، قال: قد فَعَلتَ يا رسول اللَّه! فقال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حَدْرَد -المَدِين-: "قم فاقْضهِ"؛ رواه الشيخان -وغيرهما-، وهو مخرج في "الإرواء"(3/ 251 - 252).

‌116

- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطِهِم":

صحّحه المؤلّف -بجزمهِ برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصرّح بذلك في كتابه "الفروسية"(ص 164 - تحقيق الأخ مشهور حَسَن)، تَبَعًا لجمع من الأئمة، وعلى رأسهم الإمامُ البخاريُّ.

وكتم ذلك (الهدَّام) -على عادته-، فقال (2/ 21):"حديثٌ ضعيفٌ، علّقه البخاري في "صحيحه" (4/ 451): "الفتح"؛ وهو بعضٌ من حديثٍ تمامُه: "الصلحُ جائزٌ بين المسلمين".

قلت: فيه خيانةٌ علميةٌ؛ فإن من المعروف عند العلماء أن تعليقات البخاري المجزومة صحيحةٌ، وهو رحمه الله قد علّقه بصيغة الجزم، فقال:"وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون. . .! ! فكتم (الهدّامُ) هذا الجزمَ المصحِّحَ للحديثِ من إمام المحدثين؛ تضليلًا لقُرّائه، وترجيحًا لتضعيفه الأَفِين! ثم خرّجه من حديث عمرو بن عَوْف، وأبي هريرة، وضعّف راويه (كثير بن زيد الأسْلَمي)؛ وهو -عند الحافِظَين الذهبي والعسقلاني- صدوقٌ، ثم أشار إلى الأحاديث الأُخرى عن عائشة، وأنس، ورافع بن خَدِيج، وابن عُمر، ومرسل عطاء، قال:"وجميعُها أضعفُ مما ذكرت"!

ص: 229

قلت: وهذه كذبةٌ أُخرى لترويج تضعيفه، فمرسلُ عطاء صحيح الإسناد، كما كنت بَيَّنْتُهُ في "الإرواء"(5/ 142 - 146)، في آخر تخريج الأحاديث التي أشار إليها، ولكنه تجاهَلَ ذلك كلَّه، كما تجاهل تقويةَ الأئمةِ الآخرين للحديث، كابن عبد البر في "التمهيد"، وابن دقيق العيد في "الإلمام"، والشوكاني في "نيل الأوطار"، وراجع للرد عليه:"الصحيحة"(2915).

‌117

- "حديث أبي هُريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جِدُّهن جدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النكاح، والطلاق، والرجعة":

احتجَّ به المؤلف، وضعّفه (الهدَّام) بعبد الرحمن بن حَبِيب -بعد ما عزاه لجماعة، منهم: الترمذي-، وختمه بقوله:"وللحديث شواهد، فيها ضعف شديد لا تصلح لتقوية الحديث، وإن شئت فانظرها في "الإرواء" (1826) ".

قلت: فيه تدليسٌ خبيثٌ، فإنَّه يوهم القراء -بهذه الإحالة على "الإرواء"- ما زعمه من الضعف الشديد، وهو كذبٌ عَلَيَّ، فإِني انتهيتُ فيه إلى تحسين الحديث بمجموع حديث أبي هريرة هذا، وصحيح مرسل الحسن البصري، وآثار عن علي وعمر تدلُّ على أنَّ الحديث كان معروفًا عندهم، وقد كتم هذا كلَّه عن القراء، كما كتم تحسين التِّرمذي! !

والحديثُ مُخَرَّجٌ في أربع صفحات من "الإرواء"(6/ 224 - 228)؛ ولخّصها (الهدَّام) في رُبع صفحةٍ على هواه!

‌118

- "في "المسند"، و"السنن" عن رُوَيفع بن ثابت، قال: إنْ كان أحدنا في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليأخذ نِضْوَ أخيه (1)؛ على أنَّ له النصف مما يَغْنَمُ، ولنا النّصف، وإن كان أحدُنا لَيَطِيرُ له النَّصْلُ والرِّيشُ، والآخَر القِدْحُ".

(1) أي: بعيره المهزول الذي أضناه العملُ.

ص: 230

أعلّه (الهدَّام) بجهالة (شيبان بن أُميّة القِتْباني)، وقد خرّجه في (2/ 49 - 50)؛ برواية جمع منهم أبو داود برقم (36)، ولكنّه تجاهل الشاهدَ الذي أخرجه أبو داود -عَقِبَه- برقم (37) من طريق شِيَيْم بن بَيْتان -بهذا الحديث - أيضًا-، عن أبي سالم الجَيْشَاني، عن عبد اللَّه بن عمرو.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ، كما كنت نبّهت على ذلك في "تخريج المشكاة"(351)، ولذلك أوردتُه في "صحيح أبي داود"(27 و 28).

(تنبيهٌ): مِن إساءة زهير الشاويش -صاحب المكتب الإسلامي- إلى مشاريعي العلمية، واعتداءاته المتكرِّرة على كتب السنة: أنَّه لما طَبع "صحيح أبي داود باختصار السند" حَذف من مَتْنِ هذا الحديثِ ما ذكره ابنُ القيِّم هنا، واقتصر منه على قولُه صلى الله عليه وسلم:"يا رُويفع. . . "؛ وعلّق عليه بكلامٍ مُحرَّفٍ، يمكن أن يُفهم منه أنَّه حذفه لأنَّه ليس له علاقة بـ (الطهارة)!

وهذا عذرٌ أقبحُ من ذنب -كما لا يخفى على القارئ اللبيب-؛ فانظر "صحيح أبي داود باختصار السند"(1/ 11)!

‌119

- "وجعل صلى الله عليه وسلم المرأة عانيةً عند الزوج":

قلت: يشير إلى حديث عَمْرو بن الأحْوَص في خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حَجّة الوداع: "ألا واستوصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإِنَّما هنَّ عَوَانٍ عندكم. . . "، وهو حديثٌ حسن بشاهده من حديث عَمِّ أبي حَرَّةَ الرَّقَاشي، وقد خرّجتهما في "آداب الزفاف"(270 - 271)، و"الإرواء"(7/ 96 - 97) مقوِّيًا أحدَهما بالآخر، وصحّحه المؤلِّف في "الزاد".

وأمّا (الهدَّام) فعاكس -كعادتِه-؛ فلم يُفصح عن مرتبته؛ بل ضعّف الاثنين، إلَّا أنَّه قال (2/ 69):

"ويشهد له حديثُ جابر عند مسلم (1218) "!

ص: 231

يشير إلى قولُه صلى الله عليه وسلم في حديث جابر -الطويل- في (الحجِّ): "واتقوا اللَّه في النساء؛ فإنَّكم أخذتموهن بأمان اللَّه. . . ".

قلت: واستشهادُهُ به من الأدلّة الكثيرة على حداثتهِ وجهلهِ بهذا العلم، فإِنَّه ليس فيه أكثرُ الجُمَلِ التي في المشهور له، وبخاصةٍ منها قولُه صلى الله عليه وسلم:"فإِنَّما هن عَوَانٍ عندكم"، وهي التي استدل بها المؤلف، وانصبّ التّخريج عليها.

فهل بلغ به الجهلُ والغفلةُ إلى هذا الحضيض؟ ! أُم هو التشبُّعُ والاستكثار بالدعوى الكاذبةِ استعلاءً على (الألباني) -الذي لم ينتبه لهذا الشاهد - زعموا-؟ ! إن كان كذلك؛ فحسبه وعيدًا قولُه صلى الله عليه وسلم: "من ادّعى دعوى كاذبة لِيَتَكَثَّرَ بها؛ لم يزده اللَّه إلّا قلّة".

وقد عزاه لمسلمٍ قبل صفحات (2/ 64)!

ثم إنْ كان صادقًا -وهذا لا ينافي أن يكون جاهلًا كما لا يخفى! -، فلِمَ لَمْ يُصرّح بصحة الحديث كما يفعلُ أحيانًا؟ !

‌120

- "وقد قال المبعوثُ بالحنيفية السمحة صلى الله عليه وسلم: "ما تركتُ من شيء يُقَرِّبُكُم إلى الجنّة إلّا وقد حدَّثتكم به، ولا تركتُ من شيء يُبعدكم عن النّار إلّا وقد حدَّثتكم به":

خرَّجه (الهدَّام)(2/ 82) من رواية عبد الرزّاق، وضعَّفه بالإرسال، ومن رواية الطبراني عن أبي ذَرّ، وقال:"وفيه نَظَرٌ"!

هكذا قال؛ ولم يُبَيِّن وجهة النظر! وذلك جمعًا منه بين الهدم والستر على الجهل؛ لأنَّ إسناده صحيح؛ كما هو مبين في "الصحيحة"(1803).

‌121

- "تركتُكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها بعدي إلّا هالك":

ص: 232

قلت: ضعَّفه (الهدَّام) هنا - (2/ 82) -، وفيما تقدّم؛ وقد رددتُ عليه -هناك- مفصلًا برقم (2)؛ فلا داعي للإعادة، غير أني أقول هنا شيئين:

الأوّل: أنَّ هذه الفِقرة من حديمق العِرباض بن سارية -المتقدم هناك-؛ خرّجتها في "ظلال الجنّة"(48 - 49) من طريقين عنه، حسّن أحدَهما المنذريُّ في "الترغيب"(1/ 46/ 17)؛ فهو بهما صحيح، ويزداد صحَّةً بالشاهد الآتي.

والآخر قال (الهدَّام) هنا -عَقِبَ تضعيفه إيّاه-:

"وفي الباب حديث أبي الدرداء بهذه القطعةِ، وإسنادهُ ضعيفٌ أيضًا"!

كذا قال هنا؛ عامله اللَّه بما يستحق.

وقال في رُسَيِّلته "حوار. . . "(ص 156) -بعدما عزاه لابن ماجه وابن أبي عاصم-: "ورجال هذا الإسناد ثقاتٌ؛ غير هشام بن عَمّار؛ ففيه ضعفٌ".

فتأمَّلْ -أيُّها القارئ! - تناقُضَه بين جزمِه بأنه ضعيف، وقوله:"فيه ضعف"؛ وهذا يعني أنَّه حسن الحديث والإسناد، لأنَّه طبيعةُ (الحسن) -كما ذكرت مرارًا-؛ فإنْ أبى ذلك واستكبر وعاند -كما هي عادتُه-؛ فلا أقلّ من أنْ يكون صالحًا للاستشهاد به؛ فَيُعطي للطريقين المذكورين قوةً على قوة، ولكن صدق اللَّه:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} !

وانظر إسرافَ الرجلِ في تضعيف حديث العِرْباض هذا، ومخالفتَه لأئمة المسلمين -فيما تقدّمت الإشارة إليه-، وله ولغيره من الأحاديث الصحيحة -في أول المجلد السابع من "الصحيحة"(3007) -، مجموعًا في مكان وأحد؛ فضلًا عن الأمثلة المتقدّمة بالأعداد الهائلة، واللَّه المستعان!

‌122

- "وفي "المسند" من حديث المِقْدام أبي كريمة، أنَّه سمع النبي

ص: 233

-صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه، فإن لم يقروه" فله أن يُعْقِبَهم (1) بمثل قِرَاه":

قال (الهدَّام)(2/ 87): "أخرجه أحمد (4/ 131) وبنحوه أبو داود (3751) ".

قلت: هذا تخريجٌ هزيلٌ يستطيعه أيُّ مُبْتَدئٍ في هذا العلم! وفيه جَوْرٌ وحَيْدٌ عن التحقيق الذي يدّعيه؛ فالحديثُ عند أحمد بإسنادين، أحدهما صحيحٌ بلفظ الكتاب -في آخر حديثٍ فيه طُولٌ-، ولعله لم يصحّحه -إن عرف صحّته- لأنَّه لم يُوافق هواه!

ثم رواه أحمدُ بالإسناد الآخر، وكذا أبو داود، وفيه مجهولٌ، وفي متنه نكارةٌ، كما هو مُبَيَّنٌ في "المشكاة"(4247/ التحقيق الثاني)، والأول مخرَّجٌ في المجلد السادس من "الصحيحة" برقم (2869)؛ ولو أنَّه كان تحت يد (الهدَّام) لَتغيَّر تخريجُ (الهدَّام) الهزيلُ -يقينًا! -؛ ليأخذ منه ما يشاء؛ ويدع منه ما يشاء -حسبما يتطلّبه هواه-، نسأل اللَّه السلامة! -.

‌123

- "وفي "المسند" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيّما ضيفٍ نزل بقومٍ فأصبح الضيفُ محرومًا؛ فله أن يأخُذَ بقدر قِرَاه، ولا حَرَجَ عليه":

قال (2/ 87): "أخرجه أحمد (2/ 380) بإسناد حسن -إن شاء اللَّه-؛ ويشهد له ما قبله".

قلت: إنَّما شكَّ في تحسينه؛ لأنَّ في إسناده معاويةَ بن صالح، ومن عادة (الهدَّام) أنَّه يَضَعُ ديه ضعفًا في بعض الأحاديث التي لا يهوى صِحَّتَها!

(1) أي: يأخذ منهم عِوضًا عمّا حرموه من القِرَى، "نهاية".

ص: 234

كما قال في حديث تحريم الملاهي المتقدم (79): "ومعاوية عنده غرائبُ"، بل وقد يضعّف بعضها، ولو كان له فيه متابعٌ أو أكثرُ؛ كما فعل في الحديث (86) من "ضعيفته"، التي جعلها ذيلًا لـ "رياضه"، فقد خرّجه فيه (544 - 543) بثلاثةِ أسانيدَ، في أولها معاوية بن صالح؛ فقال فيه:"ليس بالمتين"!

فَهَلّا قال فيه -هناك- كما قال هنا: "إسناده حسن -إن شاء اللَّه-"؛ ويشهدُ له الإسنادان بعده؟ ! أُم هو الهوى؟ !

والحديثُ مُخَرَّجٌ في "الصحيحة"(640) برواية الطحاوي -أيضًا-، وقد عزاه المنذري في "الترغيب"(3/ 242) والسيُّوطي في "الجامع" للحاكم، وقد سقط من "المستدرك" المطبوع، وبقي في "تلخيص الذهبي" -الذي في الحاشية (4/ 131) - مُصَحَّحًا؛ فاقتضى التنبيه!

‌124

- "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُن ما خانك":

ذكره المؤلّف رحمه الله هنا- من حديث أبي هريرة، وقَوَّاه بمتابعة قيس لِشَرِيك وَفْقًا لما تقدّم مني عند الكلام عليه برقم (105)، وخلافًا للهدَّام، وبشواهده من حديث أنس، وأبي أُمامة، وبمرسل الحسن -وهو البصري-، وقد خرّجها (الهدَّام) وضعّف مفرداتِها، وقد سبق الرّد عليه -هناك- مُفَصّلًا، فلا داعيَ للإعادةِ، إلّا أنَّه قال كلمةً كَذَبَ فيها على الإِمام الشافعي؛ فلا بُدّ من ذكرها، والردِّ عليه فيها؛ قال (2/ 89):

"فأحاديثُ الباب كلُّها ضعيفة؛ كما نبّه على ذلك الشافعي وابن الجوزي وغيرهما".

قلت: لم يَنْقُل عن الإِمام الشافعي هذه الكُلِّيَّةَ أَحدٌ قبل هذا الأَفين -وإنّما هي من تصرُّفاته الكثيرةِ المضلّلةِ-؛ لما في "التلخيص الحبير"

ص: 235

(3/ 97): "قال الشافعي: هذا الحديثُ ليس بثابت، وقال ابن الجوزي: لا يصحُّ من جميع طرقه".

فأنت ترى أنَّه حَمَلَ قولَ الشافعي على قول ابن الجوزي، وشَتّان ما بينهما! على أنَّ قول ابن الجوزي مردودٌ، وهو من تشدُّده ومبالغاته المعروفة، كما كنتُ بيَّنتُه في "الصحيحة" في آخر تخريجي لهذا الحديث رقم (423).

فيا سُبحان اللَّه! فقديمًا قالوا: (إنَّ الطيور على أشكالها تقعُ)! كلا؛ لقد ظلمتُ ابنَ الجوزي إذن؛ إذا أنا شبَّهتُ هذا (الهدَّام) به، فإِني أستغفرُ اللَّه! هذا جاهلٌ متعالمٌ، لا يدري إلّا الكتابةَ على غير هدي، وعلى ظلمٍ وهوي، لا يشهدُ له عالمٌ بعلم، وابنُ الجوزي عالمٌ مشهودٌ له من كبارِ العلماء -على مرِّ العصور- بالعلم والفضل رحمه الله.

وقبلَ الانتقالِ إلى الحديث الآتي؛ لا بُدَّ لي من أنْ أكشفَ للقراء عن شيءٍ جديد من بَطَرِهِ ومكابرتهِ في هذا الحديث؛ فقد ذكر ابنُ القيِّم له شاهدًا مرسلًا من رواية يحيى بن أَيُّوب، عن ابن جُريج، عن الحسن. . . به؛ فَبَدَلَ أن يُعَلِّق عليه ويقول: رجال إسناده ثقات، ويعترف بأنَّه لم يعرف المصدرَ الذي نَقَلَ المؤلف منه؛ تجاهل ذلك كلَّه، وأعرض عنه واستكبر؛ فقال:

"ذكره البيهقي ولم يسنده، وقال: وهو منقطع"!

قلت: فأوهم (الهدَّام) قُرَّاءه أنَّه لا إسناد له، والإسناد بين يديه وهو الذي لم يعلِّق عليه! !

على أنَّ له إسنادًا آخر عند الطبري، من طريق قتادةَ، عن الحسن، وهو صحيحٌ عنه، كما تقدّم في (ص 171)، فيا للَّه! ما أكثرَ بَطَرَهُ وجحدَه، وأبعدَه عن خشيةِ اللَّه، والحياءِ من عباد اللَّه! !

ص: 236

وقولُ البيهقي: "وهو منقطعٌ"، يعني: أنَّه مرسل، هذا اصطلاحٌ له معروفٌ عند أهل العلم.

‌125

- "وله شاهدٌ آخر، وهو ما رواه التِّرمذي من حديث مالك بن نَضْلَة، قال: قلت: يا رسول اللَّه! الرجل أمرُّ به فلا يَقْريني ولا يُضَيّفني؛ فيمرّ بي أَفَأَجزيه؟ قال: "لا؛ أقْرِهِ"، قال التِّرمذي: حسنٌ صحيحٌ":

قلت: صحَّح إسناده (الهدَّام)(12/ 89) -بعد ما عزاه للترمذي وأحمد-، ولم يُبَيِّن السبب، -كعادته-، وعلى الناس أن يُسلِّموا لفضيلته (! )، مع أنَّ إسناد التِّرمذي معلولٌ بعنعنة أبي إسحاق السَّبيعي، لكنْ قد صرّح عند أحمد وغيره بالسماع، ولذلك صحّحت إسناده عندما خرّجت طرفًا من حديث أبي نَضْلَة -هذا- في "غاية المرام"(63/ 75)، وصحّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأخرج ابن حبان -أيضًا- (1434)، وهو عند هؤلاء الثلاثةِ الطرفُ الأخيرُ منه، ومنه يتبيّن تقصير (الهدَّام) في تخريجه!

على أنَّه لم يَستفِدْ شيئًا من تصحيحِه إياه من الناحية الفقهية، فإنَّ المؤلِّفَ رحمه الله ذكره شاهدًا للحديث -يعني من حيث المعنى-، وذلك باشتراكِهما في عدم مقابلة السيئة بالسيئة، فكما أمر بأداءِ الأمانة، وعَدَمِ مقابلة الخيانة بالخيانة، كذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالضيافةِ وعدم مقابلة تاركها بالتَّرك؛ كما هو ظاهرٌ، فهو شاهدٌ قويٌّ بهذا الاعتبار، ولكنّ الرجلَ كما أنَّه لا علمَ عنده بالحديث، فكذلك لا فقهَ عنده! على ذلك ترى كلَّ كتاباته، ولبيان هذا مجالٌ آخر، وانظر (ص 171).

‌126

- "وله شاهدٌ آخر، وهو ما رواه أبو داود من حديث بشير ابن الخصاصِيَة، قال: قلت: يا رسول اللَّه! إنَّ أهلَ الصدقةِ يعتَدُون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدُون علينا؛ فقال: "لا".

ص: 237

قال (الهدَّام): "أخرجه أبو داود (. . .)، وفي إسناده مجهول".

قلت: نعم؛ ولكنّه تابعي -كما تقدم بيانه منّي في آخر الحديث (105)(ص 173) -؛ فهو شاهدٌ جيد في المعنى -أيضًا-.

‌127

- "وله شاهد آخر من حديث بشير هذا -أيضًا-: قلت: يا رسول اللَّه! إنَّ لنا جيرانًا لا يَدَعُون لنا شاذَّةً ولا فاذَّةً إلّا أخذوها، فإِذا قَدَرْنا لهم على شيء؛ أنأخذه؛ فقال: "[لا](1). . . أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُن من خانك"، ذكره شيخُنا في كتاب "إبطال التحليل"".

قلت: قال (الهدَّام)(2/ 89): "تقدّم في معناه"!

كذا قال وهو -في الحقيقة- يدري أنَّه ما تقدم! بدليل أنَّه في فهرس الكتاب (2/ 432) لم يُشِر إلّا إلى هذا المكان! وإنَّما قال ذلك تخلُّصًا من تخريجه، لأنَّ الحديث لا أصلَ له بهذا التمام في كتابٍ من كتب السنة التي وقفتُ عليها، وإنَّما هو مُرَكّبٌ من حديثين؛ أحدُهما: حديث بشير هذا، وهو في "المسند" وغيره، والآخر حديث أبي هريرة:"أَدِّ الأمانة. . . "، فاختلط الأمرُ على بعضهم فجعلَهما حديثًا واحدًا، كما حقّقُته في آخر الحديث المتقدم (105)، وانطلى الأمرُ على (الهدَّام) فلم يَدْر ماذا يفعل؟ ! فقال ما قال! وكذلك لم يتنبّه لسقوط حرف (لا) آخر حديث بَشِير، وهذا هو تَحقيقُهُ!

‌128

- "احتجّ أحمد بما رواه عن أبي أُمامة بن سهل، عن سَعِيد بن سعد بن عُبادة، قال: كان بين أبياتِنا رُوَيْجِلٌ ضعيفٌ مُخْدَجٌ، فلم يَرُعِ الحيّ إلّا وهو على أَمَةٍ من إمائهم؛ يخبث بها. . . فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا له عِثكالًا فيه مئة شِمْراخ، ثم اضربوه به ضربة واحدة"، ففعلوا":

(1) سقط من "الأصل"! تبعًا للطبعة السابقة (2/ 78)! ! واستدركتها من "المسند" وغيره.

ص: 238

قلت: في إسناد أحمد عنعنةُ محمد بن إسحاقَ، وهو مدلّسٌ، ومع ذلك حسّن إسناده الحافظُ في "بُلُوغ المرام"، وهو صحيحٌ لغيره كما يأتي بيانه.

وأمّا (الهدَّام) فخرّجه في أربعة أسطر؛ ثلاثة منها في ذكر مُخَرّجيه! وعقّب عليها بقوله:

". . . بأسانيد وطرق مختلفة، عن أبي أُمامة بن سهل، يُرسله ويُوصله إلى غير واحد، ويغلب عليه الصحة، انظر "التلخيص الحبير" (4/ 59) ".

كذا قال! وفيه مؤاخذاتٌ هامّة:

منها: أنَّه لم يُبَين وجهَ الصحةِ في عبارته الشاذة هذه، التي لا يعجز عنها أجهلُ الناس! (شِنْشِنة. . .).

ومنها: أنَّه أحال فيها على "التلخيص"؛ موهمًا القراء أنَّ الحافظ رجَّح فيه الموصول، والواقعُ خلافهُ؛ كما بيّنته مفصلًا في آخر المجلد السادس من "الصحيحة"(2986)، في نحو سبع صفحات، جمعتُ فيه من الطرق ما لا تراه مجموعًا -مع المراجحة بينها- في مكان آخر، توصّلت منه إلى تحقيقِ أن الحديثَ -وإن صح مرسلًا عن أبي أُمامة بن سهل، ورجّحه الدّارقطني والبيهقي والحافظ-، فقد صحّ مسندًا من رواية ثقتين عن أبي حاتم، عن سهل ابن سعد. . . مرفوعًا، لم يقف الحافظُ على رواية أوثقِهما، وهي في "سُنن النسائي الكبرى"، ويشهد لها إحدى الروايات عن أبي أُمامة؛ أنَّه أخبره بعضُ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأنصار -وهو سهل بن سعد هذا-، واللَّه أعلم.

وانظر بقيةَ المؤاخذاتِ على (الهدَّام) في المكان المشار إليه من "الصحيحة".

‌129

- "قولُه صلى الله عليه وسلم: "إنّا حاملوك على ولدِ الناقّةِ":

ص: 239

قلت: خَرَّجه (الهدَّام) من رواية جَمْعٍ -منهم التِّرمذي والبَغوي-، من طُرُق عن خالد بن عبد اللَّه، عن حُميد الطويل، عن أنس؛ وقال:"وهم ثقات".

فلم يُصَحِّحْه! وهو صحيحٌ على شرط الشيخين، معاكسةً منه للمذكورَين، فقد صحَّحاه، وهو الذي لا يسع كلَّ عارفٍ بهذا العلم غيرُه؛ إِذَا خلا من الهوى والغَرَض، وانظر "المشكاة" رقم (4886)، و"مختصر الشمائل"(203).

‌130

- "وقال: "لا يدخل الجنةَ عجوزٌ":

قلت: جزم (الهدَّام) بضعفه، وخرَّجه بسندٍ ضعيف عن الحسن مرسلًا، وعن عائشةَ بسند فيه متهم بالكذب.

قلت: فمثلُه لا يُستشهد به، لكن (الهدَّام) كتم طريقًا أُخرى -عن عائشة- سالمة من هذا المتهم، وهي صالحةٌ للاستشهاد بها، أخرجه البيهقي في "البعث"(1)؛ كما كتم شاهدًا آخر من حديث أنس؛ ذكره العراقي في "تخريج الإحياء"، وضعَّفه، كما يشهد له -في الجملة- قولُه صلى الله عليه وسلم:"يدخل أهلُ الجنةِ الجنّةَ جُردًا مُردًا مكحّلين، بني ثلاث وثلاثين"، حسَّنه التِّرمذي، وهو صحيحٌ بمجموع طرقه -كما هو مبيّن في بعض تعليقاتي-، وتجد الكلام المفصّل على حديث الترجمة في "الصحيحة"(2987).

‌131

- "أوثق عرى الإيمان الحبُّ في اللَّه والبغض في اللَّه":

ضعّفه (الهدَّام) على ما جرى عليه من عدم تقويته الحديثَ بمجموع طرقه؛ خلافًا لما عليه العُلماء علمًا وعملًا، ولذلك أشار الحافظُ في "الفتح"(1/ 47) إلى تقويته، وكذا المنذري في "ترغيبه"(4/ 49).

(1) وقع في "الدر المنثور": "الشعب"؛ وهو خطأ، تورّطت به في بعض تخريجاتي! فَلْيُصَحَّح.

ص: 240

و (الهدَّام) حين خرَّجه وتكلّم على طرقه، إنَّما (أخذ) ذلك من كتابي "الصحيحة"! ولم يأت بزيادة تُذكر سوى المعاكسة، بل اضطرَّ أخيرًا إلى أن يُثبت أنَّه عالَةٌ عليه، فقال:(2/ 150):

"وذكر في "الصحيحة" (998) إسنادًا آخر عند الطبراني عن ابن مسعود، وهو ضعيفٌ"!

قلت: وَوَجْهُ المعاكسة: إيهامُ القراء أنني القائل: "وهو ضعيفٌ"! وهذا كَذِبٌ؛ فقد قلتُ عَقِبَ عزوهِ للطبراني:

"قلت: وهذا إسنادٌ حسنٌ في الشواهد والمتابعات، ورجالُه ثقاتٌ، وفي بعضهم كلام؛ ولا يضرّ فيها".

‌132

- "مَنْ أحبَّ للَّه، وأبغض للَّه، وأعطى للَّه؛ ومنع للَّه؛ فقد استكمل الإيمان":

ضعَّفه (الهدَّام) أيضًا (2/ 150)، وأطال النَّفسَ -سُدًى- في تخريجه والكلام على بعض رواته! خالِطًا بين من هو حَسَنُ الحديث، ومن يصلُحُ للاستشهاد به!! مع اختياره أقوالَ المتشدِّدين في التجريح؛ مما يطولُ الكلام جدًا في بيان ذلك والرّد عليه، وقد كنت صحّحت الحديث بمجموع طريقين حسنين؛ خرّجتهما في "الصحيحة" (385):

أحدهما: من طريق يحيى بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أُمامة.

والآخر: من طريق عبد الرحيم بن مَيْمُون، عن سهل بن مُعاذ بن أَنَس الجُهَني، عن أبيه.

فماذا فعل (الهدَّام) حتى ضعَّفهما؟! لقد قال في كُلٍّ من (القاسم) في

ص: 241

الطريق الأولي، و (عبد الرحيم) و (سهل) في الطريق الآخرى:

"فيه ضعف"!

قلت: وهذا من مكرهِ وخباثتهِ التي جرى عليها في تضعيف الأحاديث الصحيحة، فقد ذكرنا مرارًا وتكرارًا أنَّ كل حديثٍ حسنِ الإسناد؛ لم يكُن حسنًا إلّا لأنَّ فيه ضعفًا، وإلّا لكان صحيحًا، وهذه طبيعةُ الأحاديث التي يُحسِّنها (الهدَّام) -على قِلَّتها- فإِذن؛ هو بقوله في كلِّ واحد من هؤلاء الرواة:"فيه ضعفٌ"؛ إنَّما يفيد أنَّه حسنُ الحديث! لو كان يدري ما يقول!! ثم هو لا يدري الفرقَ بين رواية عبد الرحيم عن سهل، ورواية زَبَّان عنه، وقد قال الحافظُ في "التقريب" في ترجمة (سهل بن مُعاذ):"لا بأس به" إلّا في رواية زَبّان عنه".

و (الهدَّام) خَلَطَ بين الروايتين عن سهل، ولم يُفَرّق بينهما؛ لجهله بأحوال الرواة، واختصاص أحدهم بالشيخ دون الآخرين!

ثم إنَّ (الهدَّام) لم يكتفي بقوله المتقدّم في (القاسم بن عبد الرحمن)، بل زاد، فقال:

"وبعضُهم لا يُثبت له سماعًا من أبي أمامة"!

قلت: وهذا (البعضُ) لا وجودَ له إلّا في ذهن (الهدَّام)، ولعلّه يعني نفسَه، وليس ذلك ببعيد عن جاهِلٍ مَغْرُورٍ اعتاد المكابرةَ وجحدَ الحقائق؛ فإِنَّ الأئمة قد أجمعوا على إثبات سماعه منه، ومنهم البخاري في "التاريخ".

بل قال الذهبي في "الكاشف" -بعد أن ذكر روايتَه عن معاوية، وعمرو ابن عَبَسة-:"وقيل: لم يسمع من صحابيٍّ سوى أبي أُمامة".

وقد جزم بسماعه منه كلُّ من ترجم له؛ كالمِزي والعسقلاني -وغيرهم-؛ وله في "المسند"(5/ 264) و"الرُّوياني"(ق 200/ 2)، و"كبير الطبراني"

ص: 242

(8/ 223 و 227 و 282 و 297) أحاديثُ صرّح فيها بسماعه منه، ولذلك أشار الحافظُ -أَيضًا- إلى تقوية الحديث في الموضع الذي سبقت الإشارة إليه، وكذلك المنذري.

‌133

- "قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَحِلُّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سَوِيٍّ":

قلت: خرَّجه برواية جماعةٍ من حديث أبي هريرة، وقال:"وهو حديثٌ صحيحٌ لشواهده، انظر "الإحسان" (3290) ".

قلت: لقد جمع -بهذه الإحالةِ علي "الإحسان"- بين الزُّور والظُّلم!

أمّا الزورُ، فإِنَّه أوهم القراء أنَّ تصحيحَه المذكور هو في "الإحسان"؛ والواقعُ خلافُهُ، فإِنَّه قوّى إسناد أبي هريرة عند الجماعة لذاته، وصحَّح إسنادًا آخر عنه، وقوّى -أيضًا- إسناد شاهده من حديث ابن عمرو! وفي كلِّ ذلك نَظَرٌ عندي، قد بيّنته في "الإرواء"(3/ 381 - 385)، وقد خَرَّجْتُهُما -بأبسطَ مما في "الإحسان"-، مع شاهدين آخرين لم يُخَرَّجا فيه، أحدهما عن رجلٍ من بني بلال سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وسنده جيّد.

وأمّا الظُّلمُ، فهو أنَّه ما استفاد الصحةَ التي ذكرها إلّا من مجموع هذه الأحاديث الأربعة، فكان العدلُ والإنصافُ يوجب عليه أن يُحيلَ إلى "الإرواء"، لكي لا يقعَ في مخالفة قولُه -تعالى-:{ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} .

‌134

- ذكر ابنُ القيِّم رحمه الله الملائكةَ، فقال:

"قد أطَّت بهم السماء، وحُقّ لها أن تَئطَّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلّا ومَلَكٌ قائم، أو راكع، أو ساجد".

و"يدخل البيتَ المعمورَ كَلَّ يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم".

ص: 243

قال (الهدَّام)(2/ 157) واضعًا رقم التعليق على آخِر حديث البيت المعمور:

"حديثٌ ضعيفٌ، أشرنا إليه في "رياض الصالحين"، من منشورات المكتبة الإسلامية"!

قلت: لقد تورَّط صاحبُ المكتبة الإسلامية -أصلحني اللَّه وإياه-، فطبع له كتاب "الرياض" الذي عُلِم ما فيه من التغير والتبديل لأصلهِ! والتضعيفِ لعشراتِ الأحاديثِ الصحيحة! وظنِّي أنَّ ذلك كان قبلَ أن يتبيَّن له جهلُهُ بهذا العلم الشريف، وانتصابُه لمعاداة علماء الحديث وأئمّتهم، ومعارضتُه إياهم في أحكامِهم؛ فهو في صفّ، وهم في صفّ! !

وفيما تقدم -ويأتي- أكبرُ دليل على ذلك، بحيث لا يَدَعُ أيَّ شك أو ريب في قلب من (قد) لا يزال يُحَسّن الظن به -لحذلقتِه- أنَّه منحرفٌ عن سبيل العلماء، وها هو الآن يقدّم مثالًا جديدًا على ما ذكرنا؛ وإليك البيان:

أولًا لقد توهّم -لجهله بالسنّة- أنَّ حديثَ الأَطيط وحديثَ البيت المعمور حديثٌ واحد؛ ولذلك وضع رقمَ التعليقِ على آخر حديث البيت، وضعَّفه، وحديثُ البيتِ صحيحٌ متّفقٌ عليه بين الشيخين -كما يأتي-، وله نحُو هذا التخليط الشيءُ الكَثيرُ، ولعلّه تقدم -أو يأتي- بعضُه، وما لنا نذهب بعيدًا؟ ! فيها هو المثال فيما أحال إليه من "رياضه"، وهو يُشير إلى الحديث الذي أورده في "ذيله" (ص 512):"14 - حديث أبي ذَرّ: إني أرى ما لا تَرَوْن، وأسمعُ ما لا تسمعون، أَطَّت السماء. . . "؛ فذكره بتمامه -كما هو في "الصحيحة"(1722) -، وهو يحتوي على أربعِ فِقْرات، أرى من النُّصح تفصيلَها، وبيان موقف (الهدَّام) تُجاهَها، ومبلغ جنايتهِ على أغلبها؛ من أجلِ واحدةٍ منها!

الأولى: حديث الأطيط -الذي هنا-.

ص: 244

الثانية: "واللَّه لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا".

والثالثة: "وما تلذَّذتم بالنساء على الفُرُش".

والرابعة: "ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى اللَّه -تعالى-".

قلت: فقال (الهدَّام) -هناك- بعد تخريجه:

"وفيه إبراهيم بن مُهاجِر، وهو ضعيفٌ، ولبعضه شواهد، ولا يصحُّ بطوله"!

قلت: فأنت ترى أنَّه عمَّى الأَمْرَ على القُرّاء! فخصّ التضعيفَ بطوله، ومفهومُه أنَّ بعضَه صحيحٌ، وأيّده بقوله:"ولبعضِه شواهدُ"، ولكنّه كتمها ولم يبيّن ما هي! ! وبذلك يبقى القارئُ حيرانَ؛ لأنَّ (الهدَّام) قصد ذلك بعدم تمييز ما يصحُّ منه مما لا يصحُّ! فكأنّه لا يصحُّ عنده قولُه صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة. . . "، وإلّا لما كتم الحقَّ، ولَسارع إلى بيانه، وبخاصّة أن جُلَّ الحديثِ صحيحٌ -إن لم أقلّ: كله - كما يأتي-، وحينئذٍ، فما فائدةُ التضعيف المذكور إلّا الهدم؟ !

أمّا الجملةُ الأولى: فهي صحيحةٌ بشواهدها، التي منها حديث حَكِيم بن حِزَام بسند صحيح، كما بيّنته في "الصحيحة"(852 و 1060).

ومن تمام إخلال (الهدَّام) بالأمانة العلمية؛ أنّه أشار في آخر تخريجه -المشار إليه- إلى هذا الشاهد، ولكنّه صَمَتَ صَمْتَ الحجرِ الأصَمّ، فلا هو أشار إلى صِحّته! ولا إلى ضَعْفِهِ! وفاقدُ الشيء لا يُعطيه! !

وأمّا الجملةُ الثانيةُ؛ فهي في "الصحيحين" من حديث أنس، وفي "البخاري" -أيضًا- من حديث أبي هريرة، وهما مخرّجان في "الصحيحة"(3194)، و"فِقه السِّيرة"(479).

فتأمّلوا مبلغَ جنايةِ هذا (الهدَّام) على السنّة الصحيحة، بعدم استثنائه هذه الجملةَ على الأقل من الضعف الذي ذكره، واللَّه المستعان!

ص: 245

وأمَّا الثالثةُ: فلم أجد حتى الآن ما أُقوِّيها به.

والجملةُ الرابعةُ: لها بعضُ الشواهدِ، ولذلك كنت أوردتُها مع الجملة الأولى في "صحيح الجامع الصغير" محسِّنًا، وعازيًا إلى الضعيفة (4354).

(تنبيهٌ): كنت أوردتُ حديثَ أبي ذَرٍّ في "الصحيحة" برقم (1722)، وفاتني -حينئذٍ- أن أذكر الشواهد المقوّية له، ولا أدري -واللَّه- كيف كان ذلك؟ ! فإِنه خلافُ مشربي ومنهجي، كما أنني كنت أوردتُه في "الضعيفة" -أيضًا- (1780)؛ والسببُ واضحٌ، وهو بيان إدراج الجملة التي جاءت في آخره بلفظ:"ولوددتُ أَنّي كنت شجرةً تُعْضَد"، وأنَّها موقوفة على أبي ذرّ؛ ولذلك بادرتُ إلى القول في آخر التخريج تمشّيًا مع المنهج:

"ولكنّ جلّ الحديث قد صحَّ من طُرُق أخرى. . . "

ولقد كان ينبغي أن يكونَ هذا -أو نحوه- في "الصحيحة" -أيضًا-، بل هو به أَوْلى، ولكنْ هكذا قدّر اللَّه؛ فجَلَّ من لا يسهو ولا ينسي، ومعذرةً إلى القراء، ولْتُنقل الشواهد المشار إليها إلى هناك.

‌135

- "في "صحيح ابن حِبان" - عنه صلى الله عليه وسلم: "أفضل الذكر لا إله إلّا اللَّه".

خرَّجه (الهدَّام) عن جَمْع -منهم التِّرمذي، وابن حبان، والحاكم، والبَغَوي- من طرق، عن موسى بن إبراهيم بن كَثِير الأنصاري، عن طَلحة بن خِرَاش، عن جابر؛ وأعلّه بقوله:

"وموسى هذا لم يُوَثِّقه غير ابن حبان، وزاد: وكان يُخطئ، والذي يظهر أن [في] روايته عن طلحة مناكير، وأشار الأزديُّ أنَّ النكارة في حديث طَلْحَةَ، عن جابر".

ص: 246

قلت: عليه مؤاخذاتٌ بعضُها أنكرُ من بعضٍ:

أَوّلًا: قولُه: ". . . غير ابن حَبان" كَذِبٌ متعمَّد! فقد رأى في "تهذيب المزي":

"قال ابن عبد البر موسى وطلحة؛ كلاهما مدنيٌّ ثقة".

فقد تعمّد تجاهلَ توثيق ابن عبد البر إياه؛ بدليل أنَّ الأحاديث الثلاثة التي سيذكرها لموسى -كما يأتي-؛ إنَّما وقف عليها في "التهذيب"!

بل إنَّ في "تهذيب ابن حَجَر" عن النَّسائيِّ -فيه- قولَه: "صالحٌ".

ثانيًا: تجاهل -أيضًا- تصحيح ابن حِبان، والحاكم، والذهبي، كما تجاهل تحسينَ التِّرمذي والبَغَوي، فلم يذكره عنهما -كما هي عادته-!

ثالثًا: اعتمد على قول ابن حبان في (موسى): "وكان يخطئ"؛ موهمًا أنَّ ذلك تضعيفٌ من ابن حبان لموسى، وليس كذلك، كما هو معروفٌ عند الدّارسين لقول ابن حبان هذا، فهو إنَّما يعني أنَّه وَسَطٌ حسن الحديث، فهناك مئات المترجَمين عنده قال فيهم هذا -أو نحوه-، ومع ذلك يخرّج لهم في "صحيحه"، وهذا من هذا، فهل جهل (الهدَّام) هذا أم تجاهَلَهُ؟ ! أحلاهما مرّ! !

ونحوُهُ قولُ الحافظ في "التقريىب" -فيه-: "صدوق يخطئ".

ومع ذلك أقرّ في "الفتح"(118207) تصحيحَ ابنِ حبّان والحاكم إياه.

رابعًا: لم يَحْصُر قولَ ابن حبان -المذكور- بين هلالين مزدوجين كما هو المصطلح اليوم: " "؛ بل أتبعه بة ولهِ: "والذي يظهرُ. . . "، فأفهم -وأوهم- أنَّه من تمام كلام ابن حبان! وليس كذلك! !

خامسًا: ويمكن أن يكون ذلك من جهلهِ وسوء تعبيره، وأنَّ الاستظهار المذكور هو من عنده! وحينئذٍ نقول له:(ليس هذا بِعُشِّكِ فادْرُجي)! فما قيمةُ

ص: 247

استنكارِك لروايته عن طلحة؛ أمام أولئك المُصَحِّحينَ والمحسِّنين، والموثِّقين؟ !

سادسًا: قولُه: "وأشار الأزدي أنَّ النكارة في حديث طلحة، عن جابر": هو من سوءِ تعبيره -أيضًا-، فالأزديُّ قد صرَّح بذلك، فقال:"طلحة روى عن جابر مناكير"؛ لكن الأزدي مجروحٌ؛ فلا يُلتفتُ إلى تجريحه، ولا سيّما إِذَا خالف!

ثم قال (الهدَّام): "ولموسى ثلاثةُ أحاديثَ. . . ظاهرةُ النكارة"، ثم ذكرها!

كذا قال! وعليك أن تُسَلِّم تسليمًا لمحدِّث آخر الزمان! !

أمّا الحديثُ الأوّل فهو هذا، وقد عرفتَ عدوانَه بتضعيفهِ إيّاه، ومخالفتِه للعلماء.

والحديثُ الثاني: "لا تمسُّ النارَ مسلمًا رآني، أو رأى من رآني".

والثالث: "ما كلَّم اللَّه أحدًا قطُّ [إلّا] من وراء حِجاب، وكلّم أباك كِفاحًا".

قلت: وثلاثَتُها عند التِّرمذي، وقال في كُلِّ واحدٍ منها:"حديث حسن غريب"، وأقرَّه على ذلك عددٌ من العلماء؛ المزّي في "التهذيب"(13/ 393 - 395)؛ وقد تقدم ذكر من صحّحه وحسّنه قبله.

وأمّا الحديث الثاني: فمع تحسين التِّرمذي والمزّي إيّاه -كما ذكرت آنفًا-، فإنَّ له شاهدًا من حديث عُقبة أبي عبد الرحمن الجُهَني -عند ابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 630/ 1485)، والطبراني في "الكبير"(17/ 357/ 983)، و"الأوسط"(1/ 57/ 1011) من طريق عبد الرحمن بن عُقبة، عن أبيه. . . مرفوعًا -نحوه-، لكن عبد الرحمن هذا لم أجد له ترجمةً، وكذلك الراوي عنه نافع بن صَيْفيٍّ، وإليهما أشار الهيثمي بقوله (10/ 21) بعدما عزاه

ص: 248

"للمعجمين": "وفيه من لم أعرفهم".

وسكت عنه الحافظُ في ترجمة (عُقبة) -هذا- من "الإصابة"، وعزاه لابن السكَن -أيضًا-، والحاكم في "تاريخ نيسابور" من هذا الوجه.

ووقع في "السنة": (عُقبة بن عامر)؛ وأظنّه خطأً من النّاسخ، واللَّه أعلم.

وأمّا الحديث الثالث: فأخرجه الحاكم (3/ 204) -وصحّحه أيضًا-، وحسّن إسنادَه المنذريُّ في "الترغيب"(2/ 191)، وله شاهدٌ مرسلٌ في "الجهاد" لابن أبي عاصم (ق 2/ 90)، وشاهدٌ من حديث جابرٍ مختصرًا، أخرجه أحمد (3/ 361) بسندٍ حسن صحيح، وهو مخرّج في "الصحيحة" فقم (3290)، وسكت عنه الحافظُ في "الإصابة"(2/ 350)، وأشار ابن عبد البر في ترجمة (عبد اللَّه) والد (جابر) -من "الاستيعاب"- إلى تقويتهِ بتصريحه بتوثيق (طلحة بن خِرَاش)، والراوي عنه (موسى بن إبراهيم).

‌136

- "دعوة ذي النُّون؛ الّتي، ما دعا بها مكروبٌ إلّا فرَّج اللَّه كربَه: لا إله إلّا أنت سُبحانك إني كنت من الظالمين":

جزم به المؤلِّف فأصابَ.

وعاكسه (الهدَّام) -كعادته-، فَضَعَّفه! وخرَّجه (2/ 162) من رواية التِّرمذي، والنَّسائي، وأحمد، والحاكم؛ قال:"من طرق، عن يونُس بن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن سَعْد، عن أبيه، عن سَعْد. . . مرفوعًا، وسندُه قابل للتحسين؛ لولا ما ذَكر التِّرمذي عَقِبَه: "وقد روى غيرُ واحد هذا الحديثَ عن يونس. . . ولم يذكروا فيه: عن أبيه". . .؛ وعليه يكون الحديث منقطعًا. . . "!

قلت: ويعني التِّرمذيُّ بقوله: "عن أبيه"(محمد بن سعد) والد (إبراهيم)، وفي كلام (الهدّام) جهالاتٌ:

ص: 249

أَوّلًا: قولُه "من طرق"؛ لم يبيّنها، ولم يذكر عَدَدَها! تضليلًا للقراء -كما يأتي بيانه-.

ثانيًا: قولُه: "قابلٌ للتحسين"؛ فهو من جَنَفِه وجنايتِه على الرواة الثقات، تمهيدًا لتضعيف الحديث؛ فإِنَّ رجالَ السندِ المذكور كلُّهم ثقاتٌ، ولذلك صحّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكتم ذلك (الهدَّام) -كعادته-، وليس فيهم من تُكُلّم فيه إلّا يونس بن أبي إسحاقَ، ففيه كلامٌ يسيرٌ لا يضرُّ، ولذلك احتجَّ به مسلم، وصحّح له ابن حِبان غيرَ ما حديث، وذكره الذهبي في "من تُكُلِّم فيه وهو موثق"، وقال في "الميزان":"صدوق ما به بأسٌ، ما هو في قوة مِسْعَر ولا شُعبة".

فمثله يكونُ حسنَ الحديثِ -على الأقلّ-، وهو ما صرّح به الحافظُ -كما يأتي-، ولذلك سكت عن الحديث في "الفتح"، وأقرّ الحاكمَ على تصحيحِه (11/ 147).

ثالثًا: لم يقنع (الهدَّام) حتى بالقابليّة التي زعمها، فقد رفضها بقولِهِ:"لولا ما ذَكر التِّرمذي عقبه. . . " إلخ، فأعلّه بالانقطاع، مقلِّدًا للترمذي في قولِه: أنَّ غيرَ واحدٍ روى الحديث عن يونُس منقطعًا، دون ذِكر:"عن أبيه"!

فاكتفى بالتقليد هنا؛ لأنَّه وافق هوىً في نفسهِ، وهو تضعيفُ الحديثِ بغير حقّ، وإلّا فلِمَ لمْ ينظر فيمن أشار إليه التِّرمذي بقوله:"غير واحد"؛ مَن هم؟ ! وما عددُهم؟ ! وما حالُهم؟ ! وهل يصلُحُ -أو يصلُحون- لمعارضة الطرق التي وصلت الحديثَ، والتي أشار إليها -كما تقدّم-؟ ! ولم يبيّنها ليضربَها بقولِ التِّرمذي هذا! !

لقد ذكر التِّرمذيُّ أنَّه وصله محمد بن يُوسف وأبو أحمد الزّبيري (1)، ثمّ

(1) قلت: رواية محمد بن يوسف هي رواية التِّرمذي وغيره، ورواية الزّبيري عند البزار (3150).

ص: 250

استجاز هو أن يرجِّح عليهما روايةَ "غير واحد"! -وهو لا يعرفُهم! - على روايتهما، فكيف جاز للهدَّام أن يقلِّده، في ذلك وهو لا يعرفُهم؟ ! وعلى العكس من ذلك يعرفُ اللَّذين سمّاهما التِّرمذي، ويعرف ثقةً ثالثًا شاركهما في رواية الوصل، وهو (إسماعيل بن عُمر)، في رواية أحمدَ، وتابعهم (محمد بن عُبيد الطَّنَافِسي) الحافظ الثقة عند البيهقي في "الشُّعَب"(1/ 432).

فهؤلاء ثقاتٌ أربعة وصلوه بذكرهم في إسنادهم -عن يونُس-: "عن أبيه"، فكيف جاز للهدَّام أن يتعامى عن هؤلاء ويرجّح روايةَ مَن خالفهم وهو لا يعرفهم؟ ! تاللَّه إنَّها لإحدى الكُبَر! ولذلك لم يُعَرِّج عليها الحافظ ابن حَجَر، فقال -كما في "شرح الأذكار" (4/ 110) -:

"حديثٌ حسنٌ"، إلى أن قال:"وقال التِّرمذي: إنَّ بعضهم أرسله"، قال الحافظ:"وقد وجدتُ له عن سعدا طريقين آخرين، أحدهما مختصرٌ، أخرجه أبو يعلى، وابن أبي عاصم، والثاني مطوّل، أخرجه الحاكم".

قلت: المختصر عند أبي يعلى في "مسنده"(2/ 65 / 707) بسند ضعيف، وهو عند البزّار (4/ 42/ 3149) مطوّل.

والمطوّل عند الحاكم (1/ 505 - 506) ضعيف جدًا، فلا يُستشهد به، وفي متنه نكارةٌ، وقد خرَّجته في "الضعيفة" برقم (5519).

ثم تعامى (الهدَّام) عن المتابعة التي ذكرها ليونُس من محمد بن مُهاجر القُرَشي، وهو -وإنْ كان البخاري ضعّفه بقوله:"لا يتابع على حديثه"- فلا يضرُّه هنا، لأنَّه قد توبع -كما ترى-، ولا سيما وقد وثّقه ابن حبان (7/ 413 و 415)، وروى عنه جمعٌ من الثقات.

نَعَم؛ الراوي عنه (عبيد بن محمد) لم يضعّفه إلّا ابن عديّ بقوله: "له أحاديث مناكير؛ يرويها عن ابن أبي ذِئب وغيره".

ص: 251

‌137

- "وقال ثَوْبان رضي الله عنه: كان رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا راعه أمرٌ قال: "اللَّه ربّي لا أشرك به شيئًا"، وفي لفظ، قال: "هو اللَّه لا شريك له".

جزم به المصنفُ فأصاب.

وأعلّه (الهدَّام) بما لا يقدحُ، وسرق تخريجَه من "الصحيحة"(2070)! فقدّم وأخّر سترًا لسرقته! فأضحك من لا يضحك، فقال:"أخرجه ابن السُّنّي. . . والنسائي في. . . وأبو نُعيم. . . من طريق سَهْل بن هاشم، عن الثوري. . . عن ثوبان. . . "، ثم قال:

"قلت: وسهل بن هاشم لا يُحتمل في الثوري أن يتفرّد به، وعنده بعض الخطإ. . . وقال أبو حاتم في "العلل" (2/ 200): إنَّما يروونه عن ثوبان؛ موقوفٌ".

فأقول: كنت صحَّحْتُ الحديث في "الصحيحة"، فعاكسني -كما عاكس المصنّف- فأعلّه بالوقف تقليدًا بغير بيّنة، وقوله:"لا يحتمل. . . " هُراءٌ متكرِّرٌ منه لا يُحتمل!

وكونُ سهل عنده بعض الخطإ لا يستلزمُ ردَّ حديثه، و (الهدَّام) مهما كابر فلا يُمكن أن ينكر أنَّ عنده بعض (! ) الخطإ! فهل يردُّ حديثه كلّه؟ !

وأمَّا سترُهُ لسرقِته فلتقديمِه في الذكر (ابن السني) على (النسائي)! وهذا شيخُ الأول -كما لا يخفى على المبتدئين في هذا العلم-، بل ومن طريقه رواه ابن السني -كما ذكرت في "الصحيحة"-؛ فخرج عن الجادّة في التخريج سَتْرًا لسرقتِه ومُعاكسةً، كما خرج عنها في التضعيف المذكور، وخَفِيَ عليه شاهدُه الآتي من حديث أسماء بنت عُمَيس، والسببُ التقليدُ -أيضًا-، ولمن؟ ! لمن يُعاكِسُه بغير حقّ في التصحيح، وهو أنا -الألبانيُّ - كما سترى قريبًا-.

ص: 252

‌138

- "وقالت أَسماء بنت عُميس: علَّمَني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولُها عند الكرب: اللَّه، اللَّه ربي، لا أُشرك به شيئًا":

جزم به المؤلِّف، فأصاب.

وأعلّه (الهدَّام) بجهالة (هلال مولى عمر بن عبد العزيز)؛ فقال: "وهو أبو طُعمة، مجهولُ الحال"، وبضعف شاهديه؛ من حديث عائشةَ في "صحيح ابن حبان"، وحديث ابن عباس عند الطبراني.

فأقولُ: لا يزال (الهدَّام) ضالعًا في مخالفة قاعدة العلماء بتقوية الحديث بالطرق، فهذه ثلاثةٌ منها، ليس فيها متهمٌ ولا شديدُ الضعفِ، ومع ذلك فهو يُصِرُّ على عدم تقويته بها!

وهذا -كلُّه- يُقال على فرضِ التسليمِ بقوله في هلال أبي طُعمة: "مجهول الحال"؛ فإِنَّه مرفوضٌ، وقد كنتُ ذكرت شيئًا من هذا في تعليقي على "الكلم الطيب" -أعني: الجهالة-، لعدم انتباهي -يومئذٍ- أنَّ هلالًا -هذا- هو أبو طُعمة نفسُه؛ في تحقيقٍ كنت أجريته في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(2755)، تبيّن لي منه أنَّ الرجلَ، ثقةٌ، روى عنه جماعةٌ من الثقات، وقد وثّقه ابن حبان، وابن عَمّار الموصلي، والحافظ، والذهبي.

فقول (الهدَّام) فيه: "مجهول الحال" مما يُضرب به وجهُه! ولا سيّما وقد فاته أنَّه قد توبع في طريقٍ أخرى عند البخاري في "التاريخ"، قد خرَّجتُها هناك، ومن المحتمل أنَّ (الهدَّام) علم بها، ولكنه كتمها -كما هي عادته-! كما كتم تقويةَ الحافظِ للحديث في "الفتح"(11/ 148)!

‌139

- "وفي "مسند الإِمام أحمد" -مرفوعًا-: "دعوات المكروب: اللهم رحمتَك أرجو، فلا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عين، وأصلِح لي شأني كلَّه، لا إله إلّا أنت":

ص: 253

حسّنته في "الكلم الطيب"(73/ 121)، ثم في "صحيح الأدب المفرد"(رقم 539)، وسبقني إليه الهيثمي في "المجمع"(1/ 137)، والحافظ في "تخريج الأذكار" -فيما نقله ابن علّان (4/ 8) -، ولذلك سكت عنه في "الفتح"(11/ 148)، وأقرّ ابن حبّان على تصحيحه إيّاه.

وأمّا (الهدَّام) فشذّ عن الجماعة -كعادتهِ- فَضَعَّفها، ثم عزاه إلى ابن حبان وغيره، وقال:

"وجعفر بن ميمون ضعيفٌ"!

قلت: والحق أنَّه مختلفٌ فيه، و (الهدَّام) -كعادته- يأخذ من الأقوال ما يتوافقُ مع (منهجه) في التعنُّتِ في التضعيفِ، ولا يلتزمُ قواعدَ علم الجرح والتعديل، فهو يقدّم الجرح مطلقًا، حتى لو كان الموثّق من المتشدِّدين!

فهذا أبو حاتمٍ قال في (جعفر) هذا: "صالح".

وكذا قال ابن مُعِين في رواية.

ولذلك قال الحافظُ فيه: "صدوق يخطئ".

وقولُ أحمد والنَّسائي فيه: "ليس بالقويِّ": لاينافيه، لأنّه لم ينفِ عنه القوّةَ مطلقًا -كما لا يخفى على أهل المعرفة بهذا العلم-، ولذلك ذكره الذهبي في "الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرّد"(82/ 83)؛ مع ذكره فيه لقولِ أحمدَ هذا.

وينتجُ من ذلك أنَّ الرجل وسطٌ حسنُ الحديث، واللَّه أعلم.

‌140

- "وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ اللَّه خلق خَلْقَه في ظلمةٍ، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النورُ اهتدي، ومن أخطأ ضلّ":

ص: 254

خرَّجه (الهدَّام) من ثمانية مصادر، قال (2/ 167):". . . من طُرُقٍ عن عبد اللَّه بن الديلمي، عن عبد اللَّه بن عمرو، وابن الديلمي ثقة".

كذا قال، ولم يصَحِّحه! معاكسةً منه لمن صحَّحه، كالحاكم، والذّهبي، وابن حبّان، وحسَّنَه التِّرمذي فقصَّر، ومع ذلك لم يقلِّده (الهدَّام)، بينما قَلَّده في إعلال الحديث المتقدم (136)! !

وفي ظنّي أنَّه إنَّما لم يُصَحِّحه مع توفُّر كل شروط الصحة فيه -لتوهُّمه- لجهله بفقه الحديث - أنَّه يُفيد الجبرَ! وليس كذلك، ولا مجالَ الآن لبيانه، وقد صحَّحه الحافظ في "الفتح"(11/ 492) بإقراره تصحيح ابن حبان إيّاه.

‌141

- "وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم: النساء، والطِّيب، وجُعلت قرَّة عيني في الصلاة":

صحَّحه المؤلف رحمه الله؛ وهو الصواب.

وأمّا (الهدَّام) فقال (2/ 171): "حديث منكر، وقد تقدّم".

وكذب في الأمرين؛ فلا هو، تقدّم! -وفي فهرس الكتاب ما أشار إلّا إلى هذا المكان-، ولا الحديث مُنْكَرٌ! ! وقد صحّحه الحاكم، والذهبي، وجوَّد إسنادهَ الحافظُ العراقي في "المغني"(2/ 30)، وحسَّنه الحافظ ابنُ حَجَر في "التلخيص"(3/ 116)، وصحَّحه فى "الفتح"(11/ 345)، وهو مخرَّج في "الروض النضير"(رقم 53)، و"الصحيحة"(3291).

(تنبيه): اشتهر على الألسنة زيادة لفظة: "ثلاث" في هذا الحديث، وهي مُفسِدةٌ للمعنى -كما هو ظاهر-، وقد جاء ذكرها في الحديث في فهرس الطبعة الأولى من "الإغاثة"(ص 379)، والظاهر أنّها قد تكون من محفوظات

ص: 255

الواضع للفهرس، ومثله يكون -عادةً- من غير العلماء! ولعلَّ (الهدَّام) توهّم ورودها في الحديث، فأنكره! !

‌142

- "عنه صلى الله عليه وسلم: "من ابتُلي من هذه القاذورات بشيء، فليستترْ بستر اللَّه؛ فإنّه من يُبدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتاب اللَّه".

جزم به المؤلّف؛ وهو الصواب.

وأعلّه (الهدَّام) بالإرسال، وقال (2/ 181):"وَرُوي موصولًا، ولا يصحّ"!

كذا قال مخالفًا (السبيلَ) -كعادته-، وقد صحَّحه الحاكمُ، والذهبي، والحافظ، وهو مخّرجٌ في "الصحيحة"(663)، وملخّصه:

أنّه رواه جمعٌ من طرق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري: حدّثني عبدُ اللَّه ابن دِينار، عن ابن عمر. . . مرفوعًا.

وقال الحاكم:

"صحيحٌ على شرط الشيخين"، ووافقه الذّهبي، وأقرّه الحافظ في "الفتح"(10/ 487).

وأزيد هنا فأقول: له شاهدٌ مرسل قويٌّ، رواه مالك (3/ 43)، ومن طريقه البيهقي (8/ 326، 330)، عن زيد بن أسْلَم. . . فذكره مرسلًا، وفيه قصّة.

وزيد بن أسْلَم تابعيٌّ ثقةٌ، فقيهٌ جليلٌ، كثيرُ الرّواية عن عبد اللَّه بن عُمر رضي الله عنهما في "الصّحيحين" -وغيرهما-، فلا يَبْعُدُ أن يكون قد تلقّاه عنه، فيكون متابعًا لعبد اللَّه بن دينار.

على أنَّ عبد اللَّه بن دينار من الثقةِ والقوّةِ والحفظِ ما يُغنيه عن متابع، وكذلك يقال في الرّاوي عنه (يحيى بن سعيد الأنصاري).

وللحديث شاهدٌ من حديث أبي هريرة؛ خرّجته هناك.

ص: 256

‌143

- "قد قال صلى الله عليه وسلم "شارب الخمر -أو قال: مُدمن الخمر- كعابد وَثَن":

جزم المصنفُ رحمه الله بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابَ.

وعارضه (الهدَّام) مستهلًّا تخريجه إيّاه بقوله (2/ 187): "حديثٌ ضعيفٌ، لم أجد له طريقًا صحيحًا"! !

قلت: هذا النفيُ -وحدَه-؛ ممّا يدلُّ على جهلِه، وانحرافِه عن {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ وذلك لأنّه ليس من الضروري -عندهم- أن يكون للحديث الصّحيح طريقٌ صحيحٌ، فقد يكون الطريق حسنًا لذاته، فيصيرُ الحديث صحيحًا لغيره -بطريقٍ آخرَ أو بطرقٍ أُخَر-، وقد يكون ضعيفًا، فيصير حسنًا، أو صحيحًا لغيره؛ بحسْب طرقهِ؛ قلّةً، وكثرةً، وهذا الحديثُ -بالذّات، وإن أطال النّفَس (! ) في تخريج طرقه وتضعيفها (2/ 187 - 188) - فهو ممّا يتقوّى بالطرق، ويصير بها -على الأقلّ- حَسَنًا كما كنتُ انتهيتُ إليه حين خرَّجته في المجلد الثاني من "الصحيحة"(677)، ولذلك عاكسني (الهدَّام).

-كعادته- كما عاكس المؤلّف الذي جزم به -لطرقه-؛ فإِنَّ مثلَه لا يخفى عليه أنَّ في إسناد أحمد مجهولًا لم يُسَمَّ، ولم يَخْفَ ذلك على (الهدَّام)!

لكنّ هذا (الهَدَّام) -لجهلهِ وضيقِ عَطَنهِ- لا ينظر إلى مجموع الطرق؛ وإنَّما إلى مُفرداتِها، كالقاضي الجاهل ينظر إلى أنَّ شهادة المرأة على النصف، والآخرى كذلك! ومع ذلك فهو لا يقبل شادتَهما معًا، فكأنَّ لسانَ حالهِ يقول:(نصف"زائد" نصف = نصف)! وكذلك لأمر عند (الهدَّام):

(طريق "زائد" طريق = طريق)! بل طريق واحدة "زائد" خمسة طرق يساوي عنده في الحكم طريقًا واحدًا!

ص: 257

على هذا المنطق السخيف جرى في تضعيفه الأحاديث الصحيحة بمجموع الطرق! ! فلا جرَمَ أنَّه خالفَ بذلك اتفاقَ العلماءِ -كما تقدّم التنبيه عليه مرارًا وتكرارًا! -.

‌144

- "قال -تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]:

نزلت في الجُدّ بن قيس لمّا غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تبوك، قال له:"هل لك يا جُدُّ في بلاد (1) بني الأصفر؛ تتخذ منهم السَّرَاري والوُصفاء؟ "، فقال جُدٌّ: ائذن لي في القُعود عنك، فقد عرَفَ قومي أني مُغْرَمٌ بالنساء، وإني أخشى إنْ رأيتُ بنات بني الأصفرِ أن لا أصبرَ عنهنّ! فأنزل اللَّه هذه الآية".

ضعّفه (الهدَّام)(2/ 195)، وعزاه للطبراني من حديث ابن عباس من طريقين ضعيفين؛ فأوهم أمرين اثنين:

أحدهما: أنَّ الحديثَ عند الطبراني بهذا التمام الذي في الكتاب، والواقعُ أنَّه مختصرٌ عنه، وبخاصَّةٍ الطريق الثاني منها، انظر "المجمع"(7/ 30)، وإنَّما رواه بتمامه الواحديُّ في "أسباب النزول"(ص 185) معلَّقًا، وكذا في "الوسيط"(2/ 502)، ووقع فيه:(جهاد)، مكان:(بلاد)! وفي الذي قبله: (جلاد)؛ وهو الصواب الموافق لرواية "سيرة ابن هشام"(4/ 170)، ولحديث جابرٍ الآتي.

والآخر: أنَّه ليس له شاهدٌ يقوّيه، والواقعُ خلافُه، فإنَّ له شاهدًا من حديث جابر في "تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 51/ 1)، وآخر من مرسل مجاهد بسندٍ صحيح عنه؛ عند ابن جَرير الطبري، وهما مُخَرّجان في "الصحيحة"

(1) كذا في مطبوعة (الهدَّام)! ومثلُهُ في الطبعة الأولى التي قلّدها (الهدَّام) ولا يخرج عنها إلّا نادرًا! ! وذلك من تمام تحقيقهِ المزعوم (! ) والصواب (جلاد)؛ كما بينت أعلاه.

ص: 258

(2988)

؛ فأين التحقيقُ الذي يزعمه (الهدَّام)؟ !

‌145

- "رُوى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبُ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما، وعليهما قميصانِ أحمرانِ يَعْثُرانِ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما؛ فأخذَهما، فوضعَهما في حِجْره على المنبر، وقال: "صدق اللَّه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ؛ رأيتُ هذين الصبِيَّينِ؛ فلم أصبر عنهما".

ضعَّفه (الهدَّام) -بعدما عزاه لأصحاب "السنن" وأحمد- معلِّلًا إياه بقوله: "فإِنَّ الحسين بن واقد يروى عن ابن بُرَيدة أحاديث منكرة؛ كما ذكر ذلك أحمدُ"!

كذا قال (الهدَّام)(2/ 196) -قطع اللَّه دابِرَه! - غيرَ مبالٍ بين وثّقه -وهم الجمهورُ-، ومنهم أحمدُ في روايةِ الأثرم عنه؛ قال لأحمد: ما تقولُ في الحسين بن واقد؟ فقال: "لا بأس به"؛ وأثنى عليه

ذكره المِزّيُّ.

كما أنَّه لم يَعْبَأْ بمن صحَّح حديثَه، كابن خُزيمة، وابن حِبّان، والحاكم، والذهبي، وعبد الحقّ (1/ 319 - 320)، وحَسَّنَه التِّرمذي، وقال "إنَّما نعرفُه من حديث الحُسين بن واقد"، فتعَقَّبه المنذريُّ في "مختصره" بقوله (2/ 20):

"والحسين بن واقد ثقةٌ، احتجّ به مسلم في "صحيحه"".

قلت: وروى له عن عبد اللَّه بن بُريدة -كما ذكر المِزي-، وهذا من روايتِه عنه.

على أنَّ ما عزاه (الهدَّام) لأحمدَ أنَّه قال: ". . . أحاديث منكرةٌ"! ليس له أصل عنه بهذا اللفظ، وإنَّما ذكروه بألفاظٍ أُخرى لا تعطي المعنى المذكور -نفسَه-.

ص: 259

والأقربُ إليها ما نسبه الحافظُ الذهبي إليه بقوله في "الميزان": "واستنكر أحمدُ بعضَ حديثه"، ثم ساق له حديثًا عن ابن عمر.

وحينئذٍ فالخطبُ سهلٌ، ولا يتعارض قوله هذا مع قولِه الآخر المتفِق مع قول الجمهور؛ فتأمّل!

ولذلك قال الحافظُ فيه: "ثقةٌ، له أوهام".

والحديث مخرَّجٌ في "المشكاة"(6159)، و"صحيح أبي داود"(1016).

‌146

- "وفي أثر آخر: "إنَّ اللَّه إِذَا أحبَّ عبدَه حماه الدّنيا، وطيِّباتِها وشهواتِها، كما يحمي أحدُكم مريضَه":

قلت: هكذا وقع في الكتاب: أنَّه (أثر)، وبزيادة (طيّباتها وشهواتها) وفي ذلك كلِّه نَظَرٌ:

أمّا أنَّه (أثر)؛ فلأنه حديثٌ مرفوعٌ في جميع طرقه والمصادر التي روته.

وأمّا الزيادةُ المذكورة؛ فهي منكرةٌ، لأنَّها لم تَرِدْ في شيء من الطرق المشار إليها، ولعلَّ ذلك كله من تحريفات بعض النُسَّاخ؛ فقد أورد المصنِّف رحمه الله هذا الحديث في كتابه المشهور "زاد المعاد في هدي خير العباد"(4/ 104 - طبع المؤسَّسة) على الصواب -دون الزيادة-، ومصدِّرًا إيّاه بقوله:

"وفي حديثٍ محفوظٍ عنه صلى الله عليه وسلم. . . ".

وهذه فائدةٌ هامّة؛ وهي أنَّ الحديثَ مرفوع -أَوّلًا-؛ وهذا يؤكد خطأ كونه (أثرًا)، وثانيًا: أنَّه حديثٌ محفوظٌ صحيحٌ عند المؤلف، وهو الحقُّ؛ خلافًا لما ذهب إليه (الهدَّام) -كعادته- في المعاكسة والتفرّد بالتضعيف! وما سوى ذلك فليس يهمّه، ولا يَلتفتُ إليه -كمثل جهله أو تجاهله هذين الأمرين اللذين

ص: 260

وَقَعَا في الكتاب؛ من تصدير الحديث، بأنَّه (أثر)، ومع الزيادة التي لا أصلَ لها فيه! -، وإنَّما وجّه كلَّ هِمَّته إلى تخريج الحديث، وبيان الخلاف في إرسالهِ ووصلهِ! وانتهى إلى القول (2/ 214):

"فالحديثُ ضعيفٌ، لترجيح الرواية المرسلة على غيرها من الروايات"!

يعني رواية محمود بن لَبِيد رضي الله عنه!

فأقولُ: إنَّ مجال الرَّد على هذا التضعيف مما لا يَسَعُ له المجالُ الآن، وحسبنا فيه روايةُ محمودٍ نفسه، فإِنَّها كافيةٌ للرَّد عليه، فإِنَّ ترجيحه المذكور بناه على قول ابن حبان في (محمود) أنَّه من التابعين! وتجاهل جَزْمَ إمام المحدّثين بصحبته، وقد أثبت ذلك بروايةٍ صحيحةٍ عن عاصم نفسهِ، وكذلك أحمدُ بإيرادهِ إياها بإسنادين آخرين عنه في "مسنده"، وفيها أنَّه مَشَى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وأنَّه صلّى معه المغرب، وأنّه صلّى معه صلاة الكسوف، قال: قرأ فيما نرى {الر كِتَابٌ. . .} ؛ فهو -إذن- صحابيٌّ وبناءً عليه؛ أخرج له الإِمام أحمد في "مسنده" عدة أحاديث، هذا أحدُها، وقد حَسَّنه التِّرمذي، وصَحَّحه الحاكم، والذهبي، وكتم (الهَدَّام) ذلك كُلَّه عن قرائه -كما هي عادته-، وصحَّح له ابن خزيمة، غير ما حديث في "صحيحه" مثل (937 و 1200)، وكذلك المنذري في "الترغيب"(1/ 34)، (4/ 94)؛ وقال في الموضع الأوّل:"وابن خزيمة لا يخرِّج في "صحيحه" من المراسيل"؛ وبعضها مُخَرَّجٌ في "الصحيحة"(813 و 951).

ولَمَّا تقدّم قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب":

"قول البُخاري أولى، وقد ذكرنا من الأحاديث ما يشهدُ له".

ومنه يتبيَّن أنَّ (الهدَّام) يتشبَّثُ ببعض الأقوال المرجوحة في سبيل

ص: 261

الشذوذِ وتضعيفِ الأحاديث الصحيحة؛ انطلاقًا من القاعدة اليهوديّة: "الغاية تبرِّر الوسيلة"!

‌147

- "كان صلى الله عليه وسلم يُوصي أصحابه إِذَا أصبحوا أن يقولوا: أصبحنا على فِطرةِ الإسلام، وكلمةِ الإخلاص، ودينِ نبيِّنا محمد، ومِلَّة أبينا إبراهيم؛ حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين":

قلت: هذا الحديثُ من الأحاديث القليلة التي نَجَتْ من مِعْوَلِ هذا (الهدَّام)! فصَحَّح إسناده من رواية شعبة بسنده عن (سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزَى)، عن أبيه، ولكِنَّه أخطأ في ترجيحه إيّاها على رواية سفيان بالسندِ نفسهِ، إلّا أنَّ سفيانَ خالَفَ شُعبةَ في اسم تابعي الحديث، فقال:(عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبْزَى)؛ هذا هو الصوابُ بشهادة شُعبة نفسه؛ حيث قال: "سفيان أحفظُ مني"، وعليه جماعةُ الحفاظِ دون خلافٍ بينهم -كما حقّقته في "الصحيحة"(2989) -.

وله خطأٌ آخَرُ، فقد عزى -في آخر تخريجه- الحديثَ لأحمد (5/ 123) من حديث أُبَيّ بن كعب، وإنَّما هو في المكان الذي أشار إليه من زيادات ابنه عبد اللَّه بن أحمد على "المسند"، ومثلُ هذا الخطأ سببُه الجهلُ، أو الاعتمادُ على التحويش والتقميش؛ دون التحقيق والتفتيش، وهناك أخطاءٌ أخرى لهذا (الهَدَّام)، نُحيل القراء فيها إلى المصدر المذكور آنفًا.

‌148

- "وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخُزاعي يجرُّ قُصْبَه في النار، وكان أوّلَ من سيّب السوائب"، وفي لفظ: "وغيّر دين إبراهيم":

عزاه (الهدَّام) للشيخين من حديث أبي هُريرة، وقد أخطأ هو -والمؤلّفُ- في أمرين:

ص: 262

الأوّل: عزو اللفظ الثاني لحديث أبي هريرة، وليس فيه، وإنّما هو من حديث ابن عباس.

والآخر: عزوه لـ "الصحيح"، وإنّما أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن في الشواهد، وهو مخرجٌ مع حديث أبي هريرة في "الصحيحة"(1677).

نعم؛ قد رواه -أعني اللفظ الثاني-: ابنُ أبي عاصم في "الأوائل" -بنحوه- من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة. . . مرفوعًا بلفظ:". . . دين إسماعيل".

وهو الذي عزاه المؤلّف -عَقِبَ هذه الرواية- لابن إسحاق؛ وسنده حسن. وعزاه في "الفتح" لمسلم، وأظنّه وهمًا منه -كما بيّنته هناك-.

‌149

- "قال أبو سفيان يوم أحد: اعْلُ هُبَلُ! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قولوا له: اللَّه أعلى وأجلّ":

قال (الهدَّام)(2/ 258): "أخرجه البخاري (4043) من حديث البراء".

قلت: هذا العزو - ولو لـ "صحيح البخاري"، ومثلُه كثيرٌ-؛ مما يدلُّ الباحثَ على عدم اهتمامه بالتحقيق الذي يزعُمُه، فإِنَّ البخاري أخرج الحديث -في المكان الذي أشار (الهدَّام) إليه- من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاقَ، عن البراء، وأبو إسحاقَ هذا هو السَّبيعي، وهو معروفٌ بأنَّه كان يدلّس، وأنَّه كان اختلط، وهو في هذه الرواية قد عنعن؛ وإسرائيلُ لم يسمع منه قبل الاختلاط؛ ولذلك فالتحقيقُ يتطلّب البحثَ عن تخليص هذا الإسناد من علَّتيه، أو -إِذَا لم يمكن كُلًّا أو بعضًا- تقويته ببعض الشواهد؛ خشيةَ أن يتعلّق بهما صاحبُ هوي؛ فيضعّف الحديث الصحيح، كما يفعل (الهدَّام) -عادةً-، ولذلك فإنِّي مُبَيِّنٌ -هنا - لامبالاته بالتحقيق، وذلك من وجهين:

أحدهما: أنَّه عزاه إلى المكان الذي أشار إليه من البخاري، وفيه

ص: 263

العلّتان، وهو عنده في مكان آخر برقم (3039)؛ ليس فيه علّةُ التدليس! أخرجه من طريق زهير: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء، فصرّح أبو إسحاق في هذه الرواية بالسماع، وهذه فائدةٌ هامّةٌ، ما كان ينبغي للهدَّام أن يُعرض عن الإشارة إلى مصدرها؛ لما ذكرت آنفًا -لولا جهلُهُ! -، وبذلك زالت العلّة الأولى.

والآخر أنَّه بقيت العلّة الأخرى: (الاختلاط)، وقد جهدت للوقوف على ما يُزيلها، كمثل رواية سفيان وشُعبة ونحوهما، ممن روى عنه قبل الاختلاط، فلم أُوَفّق إلى الآن، ولذلك فإِنّي لما كنتُ خرّجت الحديث في "تخريج فقه السيرة"(ص 251 و 260 - دار القلم)، ثم في "صحيح أبي داود"(2390)؛ قوَّيت الحديثَ ببعض الشواهد، من حديثِ ابن عَبَّاس صحَّحه الحاكم، والذهبي، وسكت عنه الحافظ في "الفتح"، ومن حديثِ ابن مسعود، ورجاله ثقات.

فكان على (الهدَّام) أن يَشُدَّ من عَضُدِ هذا الحديث بمثل هذه الشواهد! لو كان يهمُّهُ التصحيح!

‌150

- "قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء اللَّه وشئتَ-: "أَجَعَلْتني للَّه نِدًّا؟ ! ": جزم به المؤلِّفُ، وهو الصوابُ.

وعاكسه (الهدَّام) فضعّفه، وعزاه لجمعٍ؛ منهم البخاري في "الأدب المفرد"(787)، ثم قال:"والأجلحُ فيه ضعفٌ، وعنده مناكير".

كذا قال! وهو شاهدٌ قويٌّ على تعنُّتهِ ومعارضتهِ للأئمة بالباطل، فقد ذكرتُ أكثرَ من مرَّة أن كون الراوي:"فيه ضعفٌ" لا يجعل حديثه ضعيفًا، وإنَّما هو حَسَنٌ على الأقل، وهو ما كنتُ حكمتُ به فى "الصحيحة"(1/ 56 - 57 - الطبعة الأولى)، فعاكسني -كعادته- بقوله هذا، وهو حُجَّةٌ عليه؛ وإلّا فما الفرقُ عنده بين الصحيح والحسن؟ !

ص: 264

ولذلك قال الذهبي في "المُغني": "لا بأس بحديثه".

وقال في "الرواة المتكلم فيهم بما لا يُوجب الرّد"(ص 58/ 13): "صدوق، روى عن الشعبي، وثّقه ابن معين وغيره، وقال النسائي: ضعيف".

وكذلك قال الحافظ في "التقريب": "صدوق".

ولذلك سكت عن الحديث في "الفتح"(11/ 540) مُشيرًا إلى تقويته، وحسّنه شيخُه الحافظ العِراقي في "تخريج الحياء"(3/ 162).

فهذا موقفُ العلماء من الحديث وراويهِ تقويةً، فما قيمةُ تضعيف (الهدَّام) إياهما؛ إلّا تأكيدًا لاتَّباعه {غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} !

وقبلَ الانتقالِ إلى غيره؛ أُريد أن أسترعيَ النظرَ إلى أنَّ تخريجه للحديث سرقةٌ من "الصحيحة"، بدليل أنَّه كان وقع فيه رقم عزوه للبخاري في "الأدب المفرد" خطأً:(787)؛ فنقله هو كما هو كما رأيت! وصوابه (773)! ! وله أمثلةٌ أخري، ذُكر بعضُها في موضع آخر!

‌151

- "قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} ، فبَدَّلوا، فدَخَلوا الباب يرجعون على أَسْتاهِهِمْ، وقالوا: حبَّة في شعرة، فبدَّلوا القولَ والفعلَ معًا، فأنزل اللَّه عليهم رِجزًا من السماء":

قال (الهدَّام) الجاهل: "أخرجه البخاري (3403) و (4479) و (4641)، ومسلم (3015) ".

فأقول: لقد أخطأ (الهدَّام) عليهما -وعلى المؤلِّف- خطأ فاحشًا، وذلك لجهله بالسنَّة، وعدم عنايته بحفظ متونها، فإِنَّ قولُه:"فبدّلوا القول. . . " ليس تمامَ الحديث عندهما، ولا عند غيرهما، فجعله هو من تمام الحديث بأنْ جعله بين القوسين المزدوجين في أوَّله وآخره! -كما ترى أعلاه-، وأنا فقط

ص: 265

وضعتُه بالحرف الأسود المُمَيَّز؛ تنبيهًا على إدراجه في الحديث.

و(الهدَّام) أكّد ذلك بأن وضع رقم التعليق في آخر هذه الزيادة المدرجة منه (1)! !

وكما أخرجه الشيخانِ بدون هذه الزيادة: أخرجه التِّرمذي (2959) -وصحّحه-، وأحمد (2/ 318)، والطبري (1/ 240)، وكذا النسائي في "الكبرى"(6/ 286).

وله شاهدٌ من حديث أبي سعيد الخُدري -مرفوعًا-، بلفظ:"قال اللَّه عز وجل لبني إسرائيل. . . "؛ أخرجه أبو داود بسندٍ حسن.

‌152

- "قال عَدِيُّ بن حاتم: أتيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألته عن قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فقلت: يا رسول اللَّه! ما عبدوهم؟ ! فقال: "حَرّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا الحرام، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتَهم إيّاهم"؛ رواه التِّرمذي وغيره":

جزم به المؤلِّف، وهو الصوابُ.

وأعلّه (الهدَّام) بقوله (2/ 375): "وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، غُطَيف بن أَعْيَن ضعيفٌ، وفيه جهالة"!

فأقول: لقد جمع في وصفهِ الرّاوي بالضعف والجهالة بين الضِّدَّين! وذلك لأنَّ وصفَه بالضعف يعني أنَّه معروفٌ بالضعف في الرواية، ووصفَه بالجهالة يعني أنَّه غيرُ معروفٍ بذلك! !

وهذا الجمعُ -وحده- يُنبئ الباحثَ أنَّه دخيّلٌ في هذا العلم -هذا من جهةٍ-.

ومن جهةٍ أُخرى: أنّه (قد) يكونُ أشار بقولهِ -هذا- إلى قولين مَحْكِيَّينِ

(1) ثم تنبّهتُ أنّه قلّد في ذلك التعليق على الطبعة السابقة (2/ 39)! فيا له من تحقيقٍ مقلِّدٍ! !

ص: 266

عن بعض الحفاظ:

أحدُهما: الجهالة؛ وهو قول التِّرمذي عَقِبَ الحديث: "وغُطَيف بن أَعْيَن ليس بمعروفٍ في الحديث".

والآخر: ما حكاه الحافظ في "التهذيب" عن الدّارقطني أنَّه ضعّف (غُطيفًا) هذا، وهو وَهَمٌ مَحْضٌ على الدّارقطني؛ فإنَّه إنّما ضعَّف (روح بن غُطَيف) في حديث (الدرهم)؛ اشتبه هذا بذاك على بعض الرّواة المتكلِّم فيهم، فنبَّه الدّارقطني في كتابَيْهِ "العلل"، و"السنن" - على وَهَمِه فيه، وصرَّح بأنَّ راوي هذا الحديث إنَّما هو "روحٌ"، وأنَّه ضعيفٌ، فظنّ الحافظ أنَّه (غُطيف)! فقلَّده (الهدَّام)! ! وَجَمَع بين ضِدَّينِ يمكن أن يصدُرا من شخصين يختلف اجتهادهما في الراوي الواحد، أمّا أن يصدُرا من شخص واحد، فذلك في منتهى الجهل، ولاسيّما وأحدهما لم يقُل بما نُسب إليه!

وقد أودعتُ هذا التحقيق في "السلسلة الصحيحة" برقم (3293)، وذكرتُ للحديث فيه بعضَ الشواهدِ التي تقوّيه، وكتمها (الهدَّام) -ولا أقول: جَهِلَها-، لأنَّ أحدَها أمامَه في مصدرٍ من المصادر التي عزا الحديث إليه! !

‌153

- "والمسلمون ينتظرون نُزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، وكَسْرَه الصليب. . . وخروجَ المهدي من أهل بيت النبوّة، يملأُ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا":

قلت: هو كما قال رحمه الله، وهي عقيدةٌ تلَقَّاها الخَلَفُ عن السلف، مُدَعَّمَةٌ بعشرات الأحاديث الصحيحة في "الصحيحين" -وغيرهما من "السنن" و"المعاجم"-، ومع ذلك بيَّض (الهدَّام) لها، ولم يُخَرّج شيئًا منها، وغالب الظّن أنَّه لا يُؤمِن بها، ويُشكِّك في صحّتها، تبعًا لبعض ذوي الأهواء قديمًا وحديثًا! وإلّا؛ فلماذا يمرُّ على كلام المصنّف هذا، ولا يخرّج ولا حديثًا

ص: 267

قلت: هذه (صورةُ)(1) الحديث المراد الكلام عليه، مع تخريجهِ، وهو المُثبَتُ في الحاشيةِ، وهو تخريجٌ أقربُ إلى التضليلِ منه إلى التخريج؛ لأنَّه -وإن عزَاه للشيخين- لا يفيدُ تعيين المُصَحَّح ما هو؟ فإِنَّه -كما ترى- وضع التعليق (1) على لفظ (آدر)؛ فهل هذا، منتهى العزو للشيخين؟ ! وعزا التعليق (2) على لفظ (لندبًا)، فهل هذا القَدْرُ منه لا يصِحُّ؟ ! لأنَّه أعلّه بجهالة شيخ الطبري!

أنا أعتقد -بناءً على معرفتي اليقينيّه بِطُرُقهِ الملتوية في تضعيف الأحاديث الصحيحة- أنَّ الرجل لا يُؤمن بهذا الحديثِ لما فيه من معجزةِ الحَجَر، ولذلك وعَّرَ على القراء أن يعرفوا صِحَّةَ الحديث، مع التلبيس عليهم بعزوه للشيخين! !

والحقيقةُ أنَّ الحديثَ صحيحٌ بتمامه إلى قولُه: الآية، وسياق البخاري أتّم، وقد خَرَّجته في "الصحيحة"(3075)؛ ولمسلم فيه سياقانِ، أحدُهما أتَمُّ من الآخر، لم يقف عليهما (الهدَّام): فإِنَّ الرَّقم الذي عزاه إليه إنَّما هو في (الطهارة)! وأخشى أن يكون ذلك عن عمدٍ منه ليعزوه للطبري، فيوهّن من صِحَّته بقوله في شيخ الطبري:"بحر بن حبيب؛ لم أر له ترجمة"؛ مع أنَّ الصواب في اسمه (يحيى بن حبيب)؛ هكذا رواه عنه مسلم في "الفضائل"(7/ 99)؛ فهل كتم هذا، وأظهر المحرَّف ليضعِّفه؟ ! وإلّا فهو جاهلٌ لانطلاء التحريف عليه -أولًا-، ولعزوه ما عند الشيخين للطبري -ثانيًا-؛ فقد رواه البخاري (3404) أيضًا عن شيخٍ آخَرَ متابعٍ ليحيى بن حبيب.

ولا يُستبعد عن هذا (الهدَّام) أنْ يكونَ على علمٍ (! ) بوجه الصواب في

(1) إنّما أثبتُّ (صورةَ) تخريجه -كما قلتُ فى المقدّمة- لأنّ صَنِيعَه -لشدّة جهلهِ- لا يَكاد يُصدّق! !

ص: 269