الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجهين على الآخر، لأنَّ كُلًّا من (العُمَرَيْنِ) قد روى عن زيد بن أسلم، لكن لم يذكروهما في شيوخ أبي داود الحرّاني، لكن ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته في "تاريخ دمشق"(15/ 386) أنَّه سمع بدمشق جماعة، كما أنَّه ذكر في ترجمة (عمر بن محمد)(13/ 352) أنَّه قدم دمشق، فروى عنه من أهلها جماعة، فمن المحتمل أن (عمر) هذا -الثقة- سمع منه أبو داود الحَرَّانيُّ، بخلاف (عمر بن صهبان) -الضعيف-؛ فإنَّه -مع كونه مَدَنيًّا-، فإنّهم لم يذكروا له قدومًا إلى دمشق؛ واللَّه أعلم.
وقد يُضاف إلى ما تقدم مرجِّحٌ آخر، وهو قُرْبُ عهدِ ابن عبد البر من البزّار، فتكون الثقة بروايته ونقله عنه أقوى من نقل بعض المتأخرين عنه.
-كالهيثمي وغيره-.
هذا ما بدا لي من الترجيح، فإن أصبت فمن اللَّه، وإن أخطأت فمن نفسي، وإذا تم طبع "مسند البزار" المسمى "البحر الزخّار" فسينكشِفُ به ما يزيد الأمر وضوحًا وبيانًا -لصوابه أو خطإِه-.
وما كانت النيّةُ متوجِّهةً للخوض في هذا، لولا ضرورةُ بيان كتمان هذا (الهدَّام) للعلم الذي يكون حُجَّةً عليه، فنقل عن الهيثمي تضعيفَ حديث أبي سعيد وراويهِ (عمر بن صهبان)، ولم ينقل تصحيح ابن عبد البر إياه، وتوثيقه لراويهِ (عمر بن محمد) -وقد وقف عليه-، فقد عزا إليه روايته لحديث حمزة ابن المغيرة -كما تقدّمت الإشارة إليه-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
69
- "قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبد اللَّه ابن نافع: أخبرني ابنُ أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
"لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا علي، فإنَّ صلاتكم تبلُغني حيث كنتم"، وهذا إسناد حسنٌ رواته كلهم ثقات مشاهير":
قلت: كذا حَسَّنه المؤلِّف رحمه الله، وهو كذلك أو أعلى -لما يأتي بيانه-.
وأمّا (الهدَّام) فوضع فيه ضعفًا، فقال -بعد أن عزاه لمصدرين آخرين-:"وفي إسناده عبد اللَّه بن نافع؛ وفيه ضعف"! ولم يَزِد! !
قلت: فيه تدليسٌ خبيثٌ، وتضليلٌ للقراء شديدٌ، وبيانه من الوجوه الآتية:
أوّلًا: في الرّواة بهذا الاسم (عبد اللَّه بن نافع) سبعةٌ، فيهم الثقة والصدوق والمجهول والضعيف، فعَمَّى أمرَه ولم يبيِّنه، لغايةٍ في (نفس يعقوب) معروفة! وهو هنا (الصائغ المخزومي -مولاهم- المدني).
ثانيًا: قال: "فيه ضعف"! فإنْ كان يَعْني ضعفًا لا يُنافي صِحَّةَ إسناده فضلًا عن حسنه -لأنَّ الحَسَن من طبيعته أن فيه ضعفًا- كما نبّهت عليه مرارًا-، أقول: إنْ كان يعني هذا، فهي معاكسةٌ مكشوفةٌ لتحسين المؤلِّف إياه، ولغيره من الحفّاظ المصحِّحين له -كما يأتي-، فكان الواجبُ عليه أن يوافقَهم ولو على التحسين فقط، ولكنْ. ..
وإن كان يعني ضعفًا ينافي التحسين على الأقل؛ فهو مبطلٌ مكابر؛ وهذا -منه- (شِنْشِنَةٌ نعرفها من أخْزَمَ)! فإنَّ المخزومي هذا لا يبلغ حالُه إلى الضعف المطلق -كما يتبيّن ذلك للباحث في ترجمته-، فلا أُطيل الكلام بذكر ما قيل فيه، وإنَّما أنقل كلمات بعض النّقاد الذين أحاطوا بأقوال الحفاظ المتقدمين فيه، ولخّصوها في جُمل قليلة:
فقال الذهبي في "الكاشف": "قال (خ): في حفظه شيء، وقال ابن معين: ثقة".
وهذا يعني بكل تأكيد أنَّه وَسَطٌ في حفظه، صدوقٌ في نفسه، فهو حسن الحديث، وهو اختيار المؤلف كما رأيت.
على أنَّ لابن نافع هذا حالةً أخرى هي خيرٌ مما تقدّم، كما أشار إلى ذلك بعضُ الأئمة:
فقال البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 213/1): "يعرف حفظه وينكر، وكتابه أصَحُّ".
ونحوه قول أبي حاتم -فيما رواه ابنه عنه في "الجرح"(5/ 184) -:
"ليس بالحافظ، هو لَيِّن؛ تعرف حفظه وتُنكر -وفي نسخة: يعرف حديثه وينكر-، وكتابه أصحُّ".
وأصرحُ من ذلك قول ابن حبان في "الثقات"(8/ 348):
"كان صحيحَ الكتاب؛ وإذا حدّث من حفظه ربّما أخطأ".
وقد لخّص الحافظُ كلَّ ما قيل في الرجل بكلمات قليلة نافعة؛ فقال:
"ثقةٌ، صحيحُ الكتابِ، في حِفظه لين".
من أجل ذلك أشار الذهبي في صدر ترجمته من "الميزان" إلى أنَّه: "صحيح الحديث"، وأنَّ مسلمًا احتجّ به.
وأورده في "معرفة الرواة المتكلَّم فيهم بما لا يوجب الرّد"(130/ 192).
فقد فَرَّق هؤلاء الحفاظ بين كتابه؛ فصَحَّحوه، وحفظِهِ؛ فليَّنوه بعض التَّلْيين؛ فتجاهل ذلك كلَّه (الهدَّامُ) بقوله:"فيه ضعف"! دون أن يُبَيِّن ما يعني به -كما سبق بيانه-، ودون أن يفرِّق بين كتابه وحفظه! ! وقد عرفتَ سبب عدم بيانه المشار إليه.
وأمّا عدمُ تفريقه؛ فسببه أنَّه إنْ فَرَّق لزمه تصحيحُ الحديث، لأنَّه رأى في إسناد الحديث أن الحافظ (أحمد بن صالح) قرأ عليه -يعني من كتابه-؛ ولذلك صحّحه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام"(2/ 892).
وقال الحافظ في "الفتح": "سندُهُ صحيحٌ"؛ ولذلك كنت خرَّجته في "صحيح أبي داود"(1780).
ثم ساق له المؤلّفُ بعضَ الشواهد من حديث علي، ومن طريقين آخرين مرسَلين؛ وقد خَرَّجها (الهدَّام) وضعَّفها؛ دون أن يستفيد من مجموعها صِحَّةً-، أو على الأقل حُسْنًا -كما هي عادته-، وهو يرى الإمام ابن القيم يُعَقِّب عليها بقوله:
"فهذان المرسَلان من هذين. الوجهين المختلفين يدلَّان على ثبوت الحديث، لا سيّما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوتَه عنده، هذا لو لم يكن رُوي من وجوه مسنَدةٍ غير هذين، فكيف وقد تقدم مسنَدًا؟ ! ".
لم يستفد (الهدَّام) من هذا كله شيئًا يصرفه عن هدمه؛ بل أخذ يجادلُ بالباطل، فأعرض عن تمام كلام ابن القيم، وعلّق على قوله في المرسَلَيْن:"يدلّان على ثبوت الحديث"؛ فقال (1/ 280): "ليس كلُّ مرسَلٍ يدلُّ على ثبوت مرسَلٍ آخر. . "، وتعامى عن بقيّة كلامه، فلم يقف عند قوله:"وقد احتجّ به من أرسله"، ولا قوله:"وهذا لو لم يكن روي. . . " إلى آخره؛ فأصرَّ على تجاهله لمسند أبي هريرة الذي وَضَعَ فيه ضعفًا؛ وذلك لا ينفي صلاحيتَه للاستشهاد به، فكيف وهو عند التحقيق حُجَّةٌ بنفسه؟ ! فكيف إذا انضَمَّ إليه المرسلان؟ ! فكيف إذا انضم إليها مسند علي أيضًا؟ ! وقد أخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" -كما ذكر ابن القيم عقب حديثه، وتعامى (الهدَّام) عنه، وقد رآه أيضًا معزوًّا في كتابي "تحذير الساجد"(ص 140) إلى نسخته