المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

"أخرجه"! ليوهم القراء أنَّ هذا الأثر أخطأ فيه البَزَّار، فرفعه! - النصيحة بالتحذير من تخريب «ابن عبد المنان» لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: "أخرجه"! ليوهم القراء أنَّ هذا الأثر أخطأ فيه البَزَّار، فرفعه!

"أخرجه"! ليوهم القراء أنَّ هذا الأثر أخطأ فيه البَزَّار، فرفعه! وهذا كذبٌ محضٌ وافتراءٌ، فقد رواه -أيضًا- كالبزار -مرفوعًا-: أبو بكر الشافعي، والضياء المقدسي -وغيرهما- عن أنس، وهو على علم بذلك من كتابي "الصحيحة"(427)، فقد نصب نفسه لمعاكستي في تصحيح ما فيه وفي غيره ما وسعه الأمر (حَسَدًا وبغيًا)؛ والعياذ باللَّه -تعالى-!

والأُخرى: إطلاقه الضعف على (شَبِيب بن بِشْر) خطأٌ محضٌ، بل هو جَوْرٌ واعتداءٌ عليه، فإِنَّه مختلَف فيه، وقد وثَّقه ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم:"لَيِّن"؛ كما قال الذهبي في "الكاشف"، فهذا يُشعر بأنَّ الرجل وَسَطٌ، أي: حسن الحديث.

ونحوه قول الحافظ في "التقريب": "صدوق يخطئ".

فالإسنادُ حَسَنٌ، ثم يرتقي إلى الصحة بمتابعة عيسى بن طَهْمان إياه، وهو مخرَّجٌ في "الرَّدِّ" -المشار إليه آنفًا-؛ وهو فيه الحديث الثاني من ستة أحاديث صحيحة في تحريم المعازف التي يستَحِلُّها (الهدَّام)؛ تقليدًا لابن حزم.

وتزداد قوَّتُهُ بحديث عبد الرحمن بن عوف -الذي تكلّمت عليه آنفًا-؛ لأنَّ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، إنَّما ضَعْفُهُ من قبل حفظه؛ فهو صالحٌ للاستشهاد به، واللَّه ولي التوفيق.

‌79

- "عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال: حدّثني أبو عامر -أو أبو مالك- الأشعري رضي الله عنهما، أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونَنَّ من أمتي قوم يستحلّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازِف"؛ هذا حديثٌ صحيحٌ، أخرجه البخاري في "صحيحه" محتجًّا به، وعلّقه تعليقًا مجزومًا به، فقال: وقال هشام ابن عمار: حدّثنا صَدَقَةُ بن خالد: حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدّثنا

ص: 170

عطية بن قيس الكلابي: حدثني عبد الرحمن بن غَنْمٍ الأشعري. . . ":

ثم ردَّ ابن القيم مفصَّلًا على ابن حزم الذي قدح في صحة هذا الحديث بزعم الانقطاع بين البخاري وشيخه هشام، ردّه عليه من وجوه خمسة، واحدةٌ منها كافيةٌ، فكيف بها مجتمعةً؟ ! والخامس منها متابعةُ (بشر بن بكر) الثقة؛ عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. . . به (1)، وهذه متابعةٌ قويَّةٌ، لم يسع (الهدَّام) إلّا الاعترافَ بها -رغم مجادلاته ومراوغاته الكثيرة المعروفة-، ولكنّه مع ذلك غلبت عليه شِقْوَتُهُ وطبيعتُهُ، فتَمَلَّصَ منها بِكَذِبَةٍ لها قرنان؛ فقال:

"ولكن ليس فيها نَصٌّ صريحٌ على المعازف، لأنَّها رُويت في "سنن البيهقي" و"تغليق ابن حجر" ضِمن (وهي مطبوعةٌ خطأً: فمن! ) رواية هشام المتقدّمة"! ! يريد أنَّه ليس في رواية (بشر) التصريح بذكر المعازف؛ والواقع خلافُهُ، فقد ساق الحديث البيهقي، والعسقلاني من طريق هشام وبشر مسياقًا واحدًا إلى آخره، متل سياق ابن القيم، إلّا في لفظٍ واحدٍ كما يأتي، ثم قالا في آخره -واللفظ لابن حجر-:

"ولفظ (دُحيم) عن بِشْر مثله؛ إلّا أنّه زاد فيه لفظة واحدة، قال: "ويمسخ منهم قردةً" والباقي؛ مثله سواء"!

قلت: ومع دلالة السياق على أنَّه لا فَرْقَ بين رواية هشام وبِشْر في إثبات لفظة (المعازف) التي أنكرها (الهدَّام)، فقول الحافظين المذكورين عَقِبَ الحديث صريحٌ في ذلك؛ لأنّهما صَرَّحا بأنَّه لا فَرْقَ بينهما في شيء من السياق إلّا في حرف:"منهم"؛ فثبت كذبُهُ فيما ادّعاه من النفي!

وإنَّ مما يؤكّد كذبَه -ويحسُنُ التنبيه عليه- أنَّ رواية (بِشْر) هذه

(1) عزاها ابن القيم لأبي داود، وأبي بكر الإسماعيلي في كتابه "الصحيح".

ص: 171

المصرِّحة -أيضًا- بلفظ (المعازف) هي من رواية الإسماعيلي في "صحيحه" التي احتجَّ بها ابن القيِّم (ص 371)؛ فتجاهلها (الهدَّام)، وحملها -تضليلًا للقراء- على رواية أبي داود المختصرة -التي ليس فيها اللفظ المذكور-؛ قلبًا للحقائق الذي هو صناعتُهُ ورأسُ مالهِ! ومعاكسةً منه للحفّاظ الذين أثبتوها وصحَّحوها، ليظهر هو بمظهر المحقِّق المتفوِّق عليهم! متغافلًا عن قوله -تعالى-:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} ؛ فقد ذكر الحافظ في "الفتح"(10/ 54) رواية أبي داود المختصرة، ثم أتبعها بقوله:

"ساق الإسماعيليُّ الحديثَ من هذا الوجه عن (بِشْر بن بكر) بهذا الإسناد؛ فقال: "يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف. . . " الحديث".

فهل بعد هذه الحقائق والبراهين المثبتة لهذه اللفظة يتراجَعُ (الهدَّام) عن نفيه لها، ويتوب إلى اللَّه، ويتّبع {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} في تصحيح الحديث؟ !

ذلك ما نرجو، لكنَّ تمام كلامه لا يُبَشّر بخير، فقد استمرَّ في المعاندة والمكابرة، وادَّعاء التحقيق الذي لا يَعرفُ إلّا اسمه! فقال -وكأنَّه يعترف بلسان الحال أن نفيه المذكور (تجاهلُ عارفٍ! ) -:

"أما أنا (! ) فأرى أنَّ عِلّته عطية بن قيس الحمصي؛ فإنَّه ليس معروفًا بالضبط والإتقان، ولم يُوَثِّقْهُ غير ابن حبان، وليس قول أبي حاتم: "صالح الحديث" بتوثيقٍ؛ وقد فسَّرها ابنه في "مقدّمة الجرح" (2/ 37) فقال: "وإِذا قيل: صالح الحديث، فإنَّه يكتب حديثه للاعتبار، وَجَعَلَها أدنى من مرتبة: شيخ".

قلت: هذا لا يعني أنَّه لا يُحْتَجُّ بحديثه؛ ولو بمرتبة الحسن؛ بل العكسُ هو الصوابُ، وخير ما يفسَّر به كلام الحافظ إنَّما هو كلامُهُ نفسُهُ، فقد قال أبو

ص: 172

حاتم في آخر ترجمة (سعيد بن إياس الجُرَيري):

"تغيّر حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فهو صالح، وهو حَسَنُ الحديثِ".

ولذلك قال أعرفُ الناس بالرجال -ألا وهو الحافظُ الذهبيُّ- في كتابهِ "المغني في الضعفاء":

"لم أذكر فيه من قيل فيه: محلّه الصدق. . . ولا من قيل فيه: هو شيخ؛ أو: هو صالح الحديث، فإِنَّ هذا بابُ تعديلٍ".

وعلى هذا جرى خاتمة الحفَّاظ ابن حجر؛ فقال في "الفتح"(10/ 54) -اعتمادًا على كلمة (صالح) -:

"عطيّة بن قيس؛ شامي تابعي، قوّاه أبو حاتم وغيره".

وقال في "التقريب": "ثقةٌ مُقرئ".

وغيرُهم كثيرٌ، من المتقدّمين والمتأخّرين ممن صحَّح حديثه هذا؛ كابن الصلاح، والنووي، وابن كثير، والحافظ السخاوي، وغيرهم ممّن كنت سمّيتهم في مقدّمة كتابي "ضعيف الأدب المفرد"(ص 14)؛ ممّن هو على علم به بعد ما اطَّلع عليه، ومع ذلك فلم يَرْعَوِ ولم يهتد، وظَلَّ سادرًا في جهله وضلاله وعناده.

ومِن مكرِه وقلبه للحقائق؛ أنَّه -بعد ما طعن في رواية عطية، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي عامر- لم يَسَعْهُ إلّا أن يذكر متابعة إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حِمَايَةَ، عمّن أخبره، عن أبي عامر؛ فعل ذلك ليحرِف المتابعة عن طبقتها ومحلِّها، وجمونها متابعة قوية لعطيّة الذي ضعَّفه ظلمًا وعدوانًا ومشاكسةً؛ فقال:

ص: 173

"وإسناده ضعيف، لإبهام بعض رواتِه، ويحتمل أن يكون عطيّة بن قيس".

قلت: لم لا يُحتمَلُ أن يكون متابعًا له، فإنَّ إبراهيم هذا ثِقَةٌ من أتباع التابعين، فقد أورده ابن حبان في كتاب "الثقات" فيهم (6/ 13)، وقال:

"روى عن ابن المنكدر وحُميد الطويل، روى عنه الجراج بن مَلِيحٍ وأهلُ بلده".

ونحوه في "تاريخ البخاري"(1/ 305).

وكنتُ قد ذكرتُ -قديمًا- في "الإرواء"(3/ 325 - 326) فائدةً عزيزةً نادرةً في توثيق الإمام الطبرانيِّ له؛ فلتنظر.

وابن المنكدر وحُميد تُوُفِّيا في حدود الأربعين، فمِن بابِ أولى أن يتمكّن من الروايةِ عن عبد الرحمن بن غَنْم؛ لأنَّه توفي في سنة (78)، فيكون متابعًا لعطيّة بن قيس، هذا محتملٌ جدًا، بل لعلّه أولى من الاحتمال الذي ذكره (الهدَّام)! فلماذا اقتصر عليه دون هذا؟ !

الجوابُ عند الإمامِ وكيع بن الجَرّاح رحمه الله؛ قال: "أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلّا ما لهم"(1).

وهذه ظاهرةٌ جدًا فىِ كل تخريجات (الهدَّام) -كما تقدم ويأتي-، وإنّما لم يذكر هذا الاحتمالَ؛ لأنَّه يلزم منه تقويته الحديث، وهذا ينافي هَدْمَهُ الذي نذر نفسه له! وكأنه كان يشعر بورود هذا الاحتمال؛ ولذلك عقَّب على احتماله بقوله:

"وفوق هذا؛ فإبراهيم فيه نَظَرٌ"!

(1) رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 26).

وانظر فائدةً -في هذا- من كلام شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(27/ 479).

ص: 174

وهذه عادةٌ له كلّما وقف أمام راوٍ موثَّق من العلماء؛ تمَلَّص منه بقوله: "فيه نظر"! وهذا يعني: "عنده"، ولكنّه يُدَلِّس ولا يُفصِح! ثم هو مع ذلك لا يُبَيِّن السبب! آمرًا للقراء -بلسان حاله- بالاستسلام لحُكْمِه الجاهل، وصرفًا لهم عن اتِّباعهم لعلمائهم، وإلّا لَبَيَّن لهم، ولكنّه يعلم أنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك فهو يُلقي كلمته ثم يمشي، وعلى الناس أن يمشوا وراءه! ! الأمر الذي يدلُّ على منتهى العُجْب والغرور، وقد تَكَرَّر منه هذا في أحاديث كثيرة يأتي الكلام عليها -إن شاء اللَّه - تعالى-، فانظر (ص: 385، 387، 465، 508).

ثم ختم تخريجه -بل تخريبه- بقوله:

"وعلى أيٍّ؛ فقد فصَّلت في هذا الحديث في موضعٍ آخَرَ من تحقيقاتي؛ فانظره إن شئت"! كذا قال! ولستُ أدري -واللَّه- بأي عقل يُحيل القراء إلى موضع آخر لا يسمّيه، ثم يأمرهم بالرجوع إليه؟ ! إلّا أن يكون عُجْبُهُ وغروره زيَّن له أن القراء على علمٍ بالموضع المكتوم لشدّة تتبُّعهم لـ (تحقيقاته! )، فلا يفوتهم منها شاردةٌ ولا واردة! ! وهذه حَمَاقةٌ باردة!

والتحقيقُ الذي يشير إليه -وهو في الحقيقة تخريبٌ وجهلٌ أكثر من هذا- كان قد نشر في جريدة (الرباط) الأردنية، وقد كنت رددت عليه ردًّا مختصرًا جدًّا في مقدمة كتابي "ضعيف الأدب المفرد"(ص 14 - 15)(1)، سميت فيها عشرة من حفّاظ المسلمين -من المتقدمين والمتأخرين- أجمعوا على تصحيح هذا الحديث، واطَّلع (الهدَّام) على ذلك فلم يرتدع، واستمر يجابههم بانحرافاته وجهالاته، وترى الرّد التفصيلي عليه في "الرَّد على رسالة الملاهي لابن حزم" وهي مطبوعةٌ، وتجد طرفًا منه في الاستدراك رقم (3)

(1) وهو قسيم "صحيح الأدب المفرد"؛ وقد نُشرا -بفضل اللَّه-.

ص: 175