الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الثانية
* في ذكر كتاب "الجامع" لأبي عيسى وفضله:
قال ابن عساكر: أبنا المبارك بن أحمد بن عبد العزيز: ثنا محمَّد بن طاهر المقدسي قال: سمعتُ الإِمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمَّد الأنصاري بِهِراة -وجرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه- فقال: "كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم؛ لأن كتابي البخاري ومسلم لا يقف على الفائدة منهما إلّا المتبحّر العالم، وكتاب أبي عيسى يصل إلى الفائدة منه كل أحد من الناس، وذكر عن أبي عيسى قال: "صنّفتُ هذا الكتاب وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومَن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم"".
وقال: يوسُف بن أحمد: "لأبي عيسى فضائل تُجمع وتُروى وتُسمع، وكتابه مِن الكتب الخمسة التي اتفق أهل العقد والحل والفضل والفقه من العلماء والفقهاء وأهل الحديث النبهاء؛ على قبولها، والحكم بصحة أصولها، وما وَرَد في أبوابها وفصولها، وقد شارك البخاري ومسلمًا في عدد كثير من مشايخهما، وهذا الموضع يضيق عن ذكرهم وإحصائهم وعددهم، ورُزِقَ الرواية عن أتباع الأتباع متصلًا بالسماع"، ثم قال -بعد كلام-:"وكَتَبَ عنه إمام أهل الصنعة محمَّد بن إسماعيل البخاري، وحسبه بذلك فخرًا".
قلت: أمّا الثلاثي فلا يُعْلَم له في جامعه منه إلَّا حديثًا واحدًا.
وأمّا رواية البخاري عنه؛ فحديثه عن عليِّ بن المنذر، عن عليِّ بن فضيل، عن سالمِ بنِ أبي حفصة، عن عطيةَ، عن أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: "لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك".
قال عليُّ بن المنذر: "قلت لضِرار بنِ صُرْد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنبًا غيري وغيرك. قال الترمذي: سَمعَ مني محمَّد هذا الحديث".
وقال يوسف بن أحمد: "قرأتُ على أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف في كتابه الموسوم بـ "مذاهب الأئمة في تصحيح الحديث"، قال: وأمّا أبو عيسى فكتابه على أربعة أقسام:
1 -
صحيح مقطوع بصحّته، وهو ما وافق فيه البخاري ومسلمًا.
2 -
وقسمٌ على شرط أبي داود والنسائي، كما بيَّنَّاه.
3 -
وقسَّم أخرجه للضد، وأبان عن علته.
4 -
وقسمٌ رابع أبان عنه، فقال:"ما أخرجتُ في كتابي هذا إلّا حديثًا قد عَمِلَ به بعض الفقهاء"(1).
قال: وهذا شرط واسع، فإن على هذا الأصل كل حديث احتج به محتجّ، أو عمل به عامل سواء صح طريقه أو لم يصح، وقد أزاح عن نفسه الكلام، فإنه شَفى في تصنيفه، وتكلّم على كل حديث بما فيه".
قوله: "وهذا شرط واسع"، ليس كما ظهر له، إلّا لو كان الترمذي التزم أنْ
(1)"قواعد التحديث"(246).
يذكر (1) كل حديث هو بتلك المثابة، وإنما قال: أنه توسع في كتابه بأنه لم يشترط فيما أخرجه زيادة على أن قال به بعض الفقهاء.
قلت: على أن الترمذي قد استثنى حديثين من هذه القاعدة فقال في "العلل": إنه لم يقل بهما أحد من أهل العلم. والله أعلم.
وأمّا قوله: "وما أخرجت في كتابي إلَّا ما كان كذلك"؛ فلا يلزم منه ذلك المراد.
وقد أطلق عليه الحاكم أبو عبد الله: "الجامع الصحيح"، وأطلق الخطيب أبو بكر عليه أيضًا اسم "الصحيح"، وذكر الحافظ أبو طاهر السِّلفي الكتبَ الخمسة، وقال:"اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب". وهذا محمول منه على ما لم يصرح بضعفه منها مُخَرِّجُهُ أو غيره.
وقال القاضي أبو بكر بنُ العربي: "ليس في قدر كتاب أبي عيسى مثله، حلاوة مَقْطَع، ونفاسة مَتْرَع، وعذوبة مَشْرَع، وفيه أربعة عشر عِلْمًا فرائد: صنف وذلك أقرب إلى العمل، وأسند وصحح، وأشهر، وعدد الطرق، وجَرح وعدَّل، وأسْمى وأكْنى، ووصل وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الردّ والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، فرد في نصابه".
قال الإمامُ أبو عبد الله محمدُ بنُ عمرَ بنِ رُشَيْد رحمه الله: "هذا الذي قاله القاضي أبو بكر رحمه الله في بعضه تداخل، مع أنه لم يستوفِ تعديد علومه، ولو عدد ما في الكتاب من الفوائد -بهذا الاعتبار- لكانت علومه أكثر من أربعة عشر: فقد حسَّن، واستغرب، وبين المتابعة والانفراد، وزيادات الثقات، وبين
(1) في الهامش: يخرج.
المرفوع من الموقوف، والمرسل من الموصول، والمزيد في متصل الأسانيد، ورواية الصحابة بعضهم عن بعض، ورواية التابعين بعضهم عن بعض، ورواية الصاحب عن التابع، وعدد مَنْ روى ذلك الحديث مِن الصحابة، ومَنْ ثبتت صحبته، ومَنْ لم تثبت، ورواية الأكابر عن الأصاغر
…
إلى غير ذلك. وقد تدخل رواية الصاحب عن التابع تحت هذا، وتاريخ الرواة، وأكثر هذه الأنواع قد صُنّف في كل نوع منها، وفي الذي بيناه ما هو أهم للذكر.
والأجرى على واضح الطريق أنْ يقال: إنَّه تضمّن الحديث مصنّفًا على الأبواب، وهو علم برأسه، والفقه عِلْم ثان، وعلل الأحاديث، ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم، وما بينهما مِن المراتب علم ثالث، والأسماء والكنى رابع، والتعديل والتجريح خامس، ومَن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه سادس، وتعديد مَن روى ذلك الحديث سابع. هذه علومه الجُمْليّة.
وأما التفصيلية: فمتعددة، وبالجملة فمنفعته كبيرة، وفوائده كثيرة" انتهى ما ذكر ابن رشيد.
ومما لم يذكراه ولا أحدهما: ما تضمّنه من الشذوذ وهو نوع ثامن، ومِن الموقوف وهو تاسع، ومِن المدرج وهو عاشر، وهذه الأنواع ممّا يكثر في فوائده التي تُستجاد منه، وتستفاد عنه.
وأمّا ما يقل فيه وجوده مِن الوفيات، أو التنبيه على معرفة الطبقات، وما يجري مجرى ذلك، فداخِل فيما أشار إليه من فوائده التفصيلية، وسيأتي الكلام على هذه الأنواع، وما للناس فيها مِن تعريفات ورسوم تامة أو ناقصة، عند ذكر العلل في آخر الكتاب، حيث هو موضوع فيه، حاشا الحسن وما قد يقترن به مِن صحيح تارة، وغريب أخرى، في قوله:"حسن صحيح"، وآخر:"غريب"، أو الجمع بينهما،
وما استدعى ذلك الكلام عليه مما هو واقع في طريقه على سبيل الاختصار، فإني أذكره ها هنا لغرضين:
* الأول: فلأنه -أعني الحسن- كثير في كتابه، قليل عمّنْ تقدمه، لا سيما على الوضع المصطلح عليه عنده.
* الثاني: أنَّه ربما جَرَّ الكلام عليه إلى ما يقتضي الجواب عمّا ظاهره التناقض مِن تصرفاته في مواضع:
• أحدها: الحكم بالإسناد الواحد -أو ما هو في معناه- على الحديثين، أو الأحاديث، بالحُسن في أحد الطرفين، والصحة في الآخر، مما يُورد ذلك عليه، كما فعله ابن القطان وغيره، لما هو المعروف من أن خلّ الحكم على الحديث إنما هو مع الحكم على سنده.
• الثاني: حيث يقول: "حسن صحيح" في الحكم على الحديث الواحد، لما هو مستقر مرتبة الصحيح، وما قرره الترمذي في قصور الحسن عنده عن مرتبة الصحيح، فأثبت له مِن الصحة ما نفاه عنه بالحُسْن.
• الثالث: "حسن غريب" لما قرر في الحَسَنُ مِن أنَّه لا يكون شاذًا، وأنه يُروى مِن غير وجه نحو ذلك، وهذا ظاهره ينافي الغرابة، وربما جَمَعَ فقال:"صحيح حسن غريب".
فنقول: قال الإِمام أبو عمر وابن الصلاح رحمه الله: "كتاب الترمذي أصل في معرفة الحسن، وهو الذي نوّه باسمه، وأكثر من ذكره في "جامعه"، ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه، والطبقة التي قبلهم، كأحمدَ بنِ حنبل، والبخاري"(1). ولكن لم يذكر الإِمام أبو عمرو هل هو في مصطلح من تقدم الترمذي
(1)"علوم الحديث" مع "التقييد والإيضاح"(38)، وفي الأصل بعد: والبخاري: والفصل وقد تكررت في الكتاب في مواضع.
كما هو في مصطلحه، أو لا؟
بل لعلّه عند قائليه من المتقدمين يجري مجرى الصحيح، يدخل في أقسامه، فإنّهم لم يرسموا له رسمًا يقف الناظر عنده، ولا عرفوا مُرادَهم منه بتعريف يجب المصير إليه، ولم يذكر الترمذي في التعريف به ما ذكر حاكيًا عن غيره، ولا مشيرًا إلى أنه هو الاصطلاح المفهوم من كلام من تقدمه، بل ذكر ما ذكر مِن ذلك حاكيًا عن مصطلحه مع نفسه في كتابه "الجامع"، فقال:"وما ذكرنا في هذا الكتاب: "حديث حسن"، فإنما أردنا حُسْن إسناده، عندنا كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًا، ويُروى مِن غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن".
فهذا كما ترى إخبار عن مصطلحه في هذا الكتاب، فلو قال في كتابٍ غير هذا عن حديث بأنه "حسن"، وقال قائل. "ليس لنا أنْ نفسر الحسن هناك بما هو مُفَسَّر به هنا إلَّا بعد البيان"؛ لكان له ذلك.
وأمّا غير الترمذي من طبقته وما قاربها، فإنّ الإمام أبا عمرو رحمه الله زَعَم أن مِن مظانّ الحسن "كتاب أبي داود"، وإنّما أخذ ذلك من قوله:"ذكرتُ فيه الصحيح وما يشبهه، وما يقاربه".
وقد قال أبو داود (1) إنه يذكر في كتابه في كل باب، أصحّ ما عَرَفه في ذلك الباب، وقال:"ما كان في كتاب مِن حديث فيه وهن شديد فقد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح مِن بعض"، فلم يرسم شيئًا بالحُسن، وعمله في ذلك شبيه بعمل مسلم -الذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره- أنه اجتنب الضعيف الواهي، وأتى بالقسمين الأول والثاني، وحديث مَن مَثل به مِن الرواة مِن
(1)"الرسالة"(22، 27).
القسمين الأول والثاني موجود في كتابه، دون القسم الثالث.
فهلَّا ألْزَم الشيخ أبو عمرو مسلمًا مِن ذلك ما ألْزم به أبا داود؟ فمعنى كلامهما واحد، وقول أبي داود:"وما يشبهه"؛ يعني: في الصحة، و"ما يقاربه"؛ يعني: فيها أيضًا، وهو نحو قول مسلم:"إنه ليس كل الصحيح نجده عند مالك، وشعبة، وسفيان، فاحتاج إلى أنْ ينزل إلى مثل حديثٌ ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، لِما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق، وإنْ تفاوتوا في الحفظ والإتقان، ولا فرق بين الطريقين، غير أن مسلمًا شرط الصحيح، فَتَحَرج مِن حديث الطبقة الثالثة، وأبا داود لم يشترطه، فذكر ما يشتد وهذه عنده، والتزم البيان عنه، وفي قول أبي داود: "إن بعضها أصح مِن بعض"، ما يشير إلى القدر المشترك بينهما مِن الصحة، وإنْ تفاوتت فيه، لِما تقتضيه صيغة: "أفْعَل" في الأكثر، قال الإِمام أبو عمرو: "فعلى هذا، يكون ما وجدناه في كتابه -يعني أبا داود- مذكورًا مطلقًا، وليس في واحد مِن الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن ميز بين الصحيح والحسن، عرَّفناه بأنّه مِن الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره".
وقد تَعَقَّب أبو عبد الله بن رشَيْد هذا، بأنْ قال:"ليس يلزم أنْ يستفاد مِن كَوْنِ الحديث لم ينص عليه أبو داود بضعف، ولا نص عليه غيرُه بصحةٍ، أن الحديث عند أبي داود "حسن"؛ إذْ قد يكون عنده صحيحًا، وإنْ لم يكن عند غيرِهِ كذلك".
وهذا تَعَقبٌ حسن، لكنَّه ربما نَبَّه عليه قولُ الإِمام أبي عمرو:"وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره". فمِن هنا يلوح لقائل أنْ يقولَ: وقد يكون في ذلك ما هو صحيح عنده، وليس صحيحًا عند غيرِهِ؛ لأنّه جوز أنْ يخالفَ حكمُهُ حكمَ غيرِهِ في طرف، فكذلك يجوز أنْ يخالفه في طرف آخر.
قد ذكرنا ما نُقِل عن الترمذي في "الحسن".
وقال الإِمام أبو سليمان الخطابي: "الحسن: ما عُرِفَ مَخْرَجُه، واشتهر رواته"، قال:"وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء".
وقال بعض المتأخرين: "الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل، هو الحديث الحَسَنُ، ويصلح للعمل به".
قال الإِمام أبو عمرو: "كل هذا مستبهم، لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصلُ الحسنَ مِن الصحيح، وقد أمْعَنْتُ النظرَ في ذلك والبحث جامعًا بين أطراف كلامهم، ملاحظًا مواقع استعمالهم فَتَنَقَّحَ لي، واتضح أنّ الحديث الحسنَ قسمان:
* أحدهما: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده مِن مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مُغفَّلًا كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذب في الحديث، أي لم يظهر منه تعمَّد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مُفَسق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرِف بأن رُويَ مثله، أو نحوه مِن وجه آخر أو أكثر، حتى اعتضد بمتابعة مَن تابع راويه على مثله، أو بما له مِن شاهد وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أنْ يكون شاذا أو منكرًا، وكلام الترمذي على هذا يتنزل.
* القسم الثاني: أنْ يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال مَنْ يُعَدُّ ما ينفرد به مِن حديثه منكرًا، ويعتبر في كل هذا -مع سلامة الحديث مِن أن يكونَ شاذًا أو منكرًا- سلامتُهُ مِنْ أنْ يكونَ مُعَلَّلًا، وعلى القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي".
قلت: قد اشترط الترمذي في الحسن ثلاثة شروط:
- أحدها: يرجع إلى الإسناد، وهو:"ألّا يتهم راويه بالكذب".
- والثاني والثالث: يرجعان إلى المتن، وهو:"ألا يكون شاذًا، ويروى مِن غير وجه نحوه".
ولعلّهما إذا حُقِّقا كانا واحدًا، وسيوضح ذلك التعريف بالشاذ ما هو؟ وحيث أحال في تعريف الحسن عليه، ولم يسبق تعريفه، وَجَبَ أنْ تبين ما ذكره العلماء فيه ليتبين المراد مِن قوله:"وألا يكون شاذًا"، وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه-:"ليس الشاذ مِن الحديث أنْ يروي الثقةً ما لا يروي غيرُهُ، إنّما الشاذ أنْ يروي الثقةُ حديثًا يخالفُ ما رَوى الناسُ".
وذكر أبو عبد الله الحاكم: "أنَّ الشاذ هو: الحديث الذي ينفرد به ثقة مِن الثقات، وليس له أصل متابع لذلك الثقة".
فكلاهما جَعَلَ الشاذ: "تفرد الثقة"، غير أنّ الشافعي ضَمَّ إلى ذلك شرط مخالفة ما رَوَى الناسُ.
والذي يظهر مِن كلام الترمذي التوسع في ذلك، وأن تفَرَّد المستور داخل في مسمى الشاذ، لِما أَذِنَ به كلامُه، مِن أنّ رواية المستور الذي لا يتهم بالكذب على قسمين:
• ما شُورك فيه، وهو داخلٌ عنده في مسمى "الحسن".
• وما لم يُشارك فيه، والذي سماه:"شاذًا"، ولم يُلْحقْه بالحسن.
وينبغي إذا كان تفردُ مستورٍ عنده يجبره متابعةُ مَن تابَعه -وهو محتاج إليها، لانحطاطه عن درجة الثقة- أنْ يكون ما تفرد به الثقة عنده مقابلًا بالقبول، إذا لم
يُخالَفْ، أو التوقف ليظهر بينهما فرق، وهو خلاف ما ذكره الحاكم رحمه الله ونحو مما ذكر الخليلي، حيث يقول:"إن الذي عليه حفاظ الحديث أنَّ الشاذ: ما ليس له إلَّا إسناد واحد، يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فهو متروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه، ولا يحتج به".
وأورد عليه أبو عمرو: "ما تفرّد به العدلُ الحافظ كحديث الأعمال بالنيات".
قلت: وفي لزومه نظر، للفرق بين الوصف بالثقة، والوصف بالعدل الحافظ، فيحتمل الثاني ما لا يحتمل الأول، لتفاوت الدرجتين، كما قلنا في الثقة والمستور.
فتلخص من هذا: أنَّ الحديث الذي ينفرد به راويه غير مخالف فيه، قد يتأتّى فيه أحوال ثلاثة:
• الصحة مع الحفظ.
• والحسْن مع الثقة.
• والرد مع الستر.
وإذا تقرر هذا، فالحكم بالإسناد الواحد على الحديثين بتصحيح أحدهما، وتحسين الآخر مع الثقة، أو تحسين أحدهما ورد الآخر مع الستر، بحسب المتابعة والانفراد متوجه.
وقد قال الحاكم في كتاب: "المدخل للصحيحين": "إن أئمة النقل فرَّقوا بين الحافظ، والثقة، والثبت، والمتقن، والصدوق، هذا في التعديل، وكثير مما يورد على الترمذي واضح:
الأول: أعني التصحيح والتحسين - بسند واحد.
وهذا جواب عنه مما أورد عليه الحافظ أبو الحسن بن القطان ذكره حديث:
"الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"، بسند ذكر بنحوه حديث:"أين كان ربنا قبل أن يخلق سماواته وأرضه؟ "، فصحح الأول وحسّن الثاني، ولا خفاء بما بينهما من التفاوت في الشهرة والمتابعات".
ومما وَقَع لابن القطان في الاعتراض على عبد الحق: "الحديث يخرجه معزوًّا إلى مكان، قد يُخالِف لفظه الذي عنده، لفظ الكان المعزو إليه بزيادة أو نقص، فيخرج اللفظة المزيدة ويعترض عليه بها، ثم يُلزم للاعتراض مَن وقع له ذلك، من بقية مستدل بذلك الحديث، أو مُحَدِّث ضمنه مُصنَّفه أو مُسنَده.
وليس ذلك مِن تصرفه على الإطلاق سديدًا، إذ الكلام مع كل قوم على قدر مصطلحهم، وإلزامهم ما التزموه، ولا يلزم المحدِّث المخرِّج للحديث تتبع ألفاظه إذًا عزاه إلى كتاب، وإنما يلزمُه وجود أصل الحديث عند مَن عزاه إليه، على هذا بنوا تصانيفهم وتخاريجهم قديمًا وحديثًا.
نعم قد يلزمُ ذلك المستدِل منه بلفظ غير معزو إلى مُخْرِجه، إذ هو الناظر في مدلول ألفاظه، وإذا تبيَّن هذا، فربما كان الحديث ثابتًا في نفسه منتشر الطرق معروفها، وانفرد ثقة بزيادة فيه، فحكمها عندهم بالقبول، وهذا جار على اصطلاح المحدثين، والذي التحقت به أصل لها، كالمتابعة والمشاهد لتفرد الثقة عن جارح.
وفي جري ذلك على اصطلاح المستدل نظر، إذا مشى على ما أصّله الحاكم والخليلي في معنى الشذوذ، وسواء كانت زيادة مطابقة (1) أو متضمنة خُلْفًا أو تخصيصًا.
ثم نقول: إنْ كان الترمذي يرى الشذوذ؛ "تفرد الثقة أو المستور"، من غير اشتراطٍ لمخالفة ما رَوَى الناس، كما اشترطه الشافعي؛ فالشرطان واحد، وقوله:
(1) رسمت كأنها مطلقة، واستظهرت أنها مطابقة، كما أثبتّ أعلاه.
"ويُرْوى مِن غير وجه نحو ذلك"، تفسير لقوله:"ولا يكون الحديث شاذًا"، وإن كان تفسير الشذوذ بمخالفة الناس، فيستقيم أنْ يكونا شرطين.
وأمّا الخطابي، فالذي حكاه عنه ابن الصلاح قوله:"ما عُرِف مخرجه واشتهر رجاله"، والذي ذكر أبو عبد الله بنُ رشَيد أنه رواه عن الخطابي، بخط أبي علي الغسّاني وقال:"وأنا به جِدُّ بصير -يعني: خط الغساني-: "ما غرِف مخرجه واستقر حاله".
قال: "هكذا لفظه: استقر حاله" بالقاف، مِن الاستقرار، و"حاله" وتحت الحاء علامة الإهمال بحيث لا تخفى".
قلت: ولا يسلم شيء مِن هذه التعريفات مِن الاعتراض. أمَّا كلام الترمذي؛ فقد اعترض عليه الإِمام أبو عبد الله بن الموّاق. "بأنّه لم يميز الصحيح مِن الحسن، فإنَّه ما مِن حديث صحيح إلَّا وشرطه: "ألا يكونَ شاذًا، وألَّا يكونَ في رجاله متّهم بالكذب".
وقد اعترض غيره بغير هذا الاعتراض.
وكذلك قول الخطابي: "ما عُرِفَ مخرجه
…
إلى آخره"، يدخل تحته أيضًا قسما الصحيح والحسن.
وأمّا الذي قال: "فيه ضعف يسير مُحْتَمل"، فلم يبيّن مقدار الضعف ما هو؟ ولا أتى بما تبلغ درجته أنْ يُعرَض عليه فيه.
وبالجملة؛ فأجود هذه التعريفات للحسن ما قاله الترمذي، وعليه من الاعتراض ما رأيت، وهو أبو عُذْرة هذا المنزع، ولم يسبقه أحد إلى هذا المراد بالحَسَن، ولم يَعْدُ مَن بعده مراده، فإن الحديثَ ينقسم إلى:
• مقبول.
• ومقابلُه.
• وما تجاذبه طرفا القبول والردِّ، بانقسام الرواةِ إلى:
• عدل: وهو راوي الصحيح.
• ومجروح: وهو راوي المردود.
• ومتردد بينهما، لم يتبين فيه مقتضى القبول فيُقبل، ولا مقتضى الرد، وهم الذين لا يبتغون في العدالة أمرًا زائدًا على الإِسلام والستر.
ويردُّه آخرون، إلى أنْ يثبت مقتضى القبول -وهم الذين لا يقتصرون على الإِسلام والستر في مقتضى العدالة، فهذا قسم المستور الذي عُرِف شخصُه، وجُهِلَتْ حالُه، ممن لم يُنقل فيه جرح ولا تعديل، أو من نُقِلا فيه معًا ولم يترجح أحدهما على الآخر ببيان، حيث يُحتاج إليه، وما أشبهه.
ولكل من هذه الأقسام الثلاثة أنواع يأتي الكلام عليها في آخر الكتاب.
وربما وقع الاشتباه بين النوع الآخر مِن كل قسم والنوع الأول مِن الذي يليه.
إذا تقرر هذا، فلكل حديث مرتبة لا يعدوها، وحكمٌ لا ينتقل عنه، إلا أنْ يتغير العلم بحال راويه، فالصحيح ليس بحسن ولا ضعيف، كما أنَّ الحسن ليس بواحدٍ منهما، ومن هنا أورِد على الترمذي جَمْعُه بين الحُسْن والصحة في حديثٍ واحدٍ، حتى أجاب بعضهم:"أنَّ ذلك باعتبار طريقين"، ويَرِد عليه ذو الطريق الواحدة.
وردَّ غيره الحُسْن إلى المتن، وهو أبعد مِن الأول، إذ كل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حَسَن، سواء كان في الأحكام أو الرقائق أو غيرهما، وأيضًا فلو أراد واحدًا مِن
المعنيين لَحَسُن أنْ يأتي بواو العطف المشركة، فيقول:"حَسَن وصحيح" ليكونَ أوضح في الجمع بين الطريقين، أو السند والمتن.
وقد كان يمكن أن يجاب عنه مِن هذا النمط، أنّه صَدَقَ عليه الوصفان، باعتبار الاختلاف كي حال راويه، إذ قد يكون الراوي عند مُعَدِّل في مرتبة الصحيح، وعند غيره دون ذلك.
ويَرِدُ على هذا -لو قيل- ما لا يختلف النظر في تعديل راويه، وأنّه كان يَحسُن في مثله أنْ يأتي بلفظة "أو" التي هي لأحد الشيئين أو الأشياء، فيقول:"حَسَنٌ أو صحيحٌ". وكل هذه الأجوبة مرغوبٌ عنها.
ويلتحق بهذه الأجوبة ما ذكره الحافظ أبو عبد الله بنُ أبي بكر بنِ المواق: "أنّ الترمذي لم يَخُصّ الحسن بصفة تميّزه عن الصحيح، فلا يكون صحيحًا إلّا وهو غير شاذ، ولا يكون صحيحًا حتى يكون رواته غير متهمين، بل ثقات"، قال:"فظهر مِن هذا أن "الحسن" عند أبي عيسى صفة لا تخص هذا القسم، بل قد يشركه فيها الصحيح، فكل صحيح عنده حسن، وليس كل حسن صحيحًا.
ويشهد لهذا أنّه لا يكاد يقول في حديث يصححه إلَّا: "حسن صحيح".
قلت: قد بقي عليه أنه اشترط في "الحسن" أنْ يُروى نحوه من وجه آخر، ولم يشترط ذلك في الصحيح، فانتفى أنْ كون كل صحيح حسنًا، نعم قوله:"وليس كل حسن صحيحًا"؛ صحيح.
والجواب: أن الحكم لِلَفْظَةٍ إنّما هو حَسَن إذا انفردت، ومعلوم حينئذ أنها جاءت على الوضعِ الاصطلاحي، لِتُفيد ما تقرّر مِن المراد.
وأمّا إذا جاءت تبعًا للصحيح، فالحكم للصحيح، وليس ذلك المعنى الوضعي مرادًا منها؛ ولا منافاة حينئذٍ، كما لو قلت:"حديث معروف صحيح"، أو "مشهور
صحيح"، لم تكن تلك الزيادة على الوصف بالصحة مما يحط الحديث عن مرتبته، وإن كانت قاصرة عن الوصف بالصحة إذا انفردت، وليس وضع الحسن على هذا النوع مِن الحديث مما تقدم الترمذي وضعُه حتى يُشاحَحَ في إطلاقه، ويُطلب منه اطرادُ رَسْمِه، منفردًا، ومقترنا بالصحة، فقد قال الشيخ أبو عمرو (1)؛ "إن مِن أهل الحديث مَنْ لا يُفردُ الحسنَ ويجعلُه مندرجًا في أنواع الصحيح، لاندراجه في أنواع ما يُحتَجّ به، وإشارة مَن أشار إلى أنَّ ما وَقَعَ مِن ذلك في كلام أحمدَ بن حنبل والبخاري وغيرهما، محمول على الصحيح، جديرة بالصحة، حقيقة بالعثور على المراد.
ومما يُورَد على أبي عيسى رحمه الله قوله: "حسن غريب"، إذ الغريب ينافي الحسن مِن جهة أنَّه شَرَط في الحَسن أنْ يُروى نحوه من وجه آخر، وليس الغريب كذلك، فثبوت مثله أو نحوه رافع للغرابة عنه؛ فيحتاج إلى معرفة "الغريب" ما هو؟ وحينئذ يتبيّن هل هذا الإيرادُ لازم أم لا؟ فنقول: الغريب على أقسام:
• غريب سندًا ومَتْنًا.
• ومتنًا لا سندًا.
• وسندًا لا متنًا.
• وغريب بعض السند فقط.
• وغريب بعض المتن فقط.
وكلّها قد ترتقي إلى درجة الصحة -إن نهض راويها بما حَمل-، أو تَنْحَطُّ عن ذلك بحسب انحطاطه.
(1)"علوم الحديث"(45).
وليس فيها ما يقبل الحُسْن منفردًا به إلا "الغريب سندًا لا متنًا" إذا سَلِمَ راويه مِن الانحطاط عن درجة الحَسَنُ، وسواء قُيِّدَتْ غرابتُهُ براوٍ معين، كقوله:"غريب مِن حديث فلان"، أو "من حديث فلان عن فلان، لا نعرفه إلا مِن هذا الوجه"، أو لم تقيَّد.
وأمّا غرابة بعض المتن -وهي الزيادة المتصلة بالحديث- فلا يتأتى فيها التحسين؛ لأن غرابتها راجعة إلى المتن.
فقد تبيّن أنَّ الغريب قد يقبل الوصف بالصحة أو بالحُسن، أو بهما معًا على ما تقدم كما يأتي عنده أيضًا، أو لا يقبل الوصف بواحد منهما، فلا يُورَد على الغريب الموصوف بوصف آخر إلَّا مَن وجده موصوفًا به في القسم الذي يمتنع وصفه به كما بيّنَاه -وما إخاله يجدهُ-.
قد رأيت عن الحافظِ أبي الفضل محمَّد بن طاهر المقدسي قال: "وأمّا الغريب من الحديث، كحديث الزهريّ وقتادة، وأشباههما مِن الأئمة ممن يجْمَع حديثهم، إذا انفرد الرجلُ عنهم بالحديث يسمَّى غريبًا، وإذا رواه عنهم رجلان وثلاثة، واشتركوا في حديث؛ يسمَّى عزيزًا، وإذا روى الجماعة حديثًا سُمِّيَ مشهورًا".
قال المقدسي (1): "اعلم أن الغرائب والأفراد على خمسة أنواع:
• فالنوع الأول: غرائب وأفراد صحيحة، وهو: أن يكونَ الصحابيّ مشهورًا برواية جماعة مِن التابعين عنه، ثم ينفرد بحديثٍ عنه أحدُ الرواة الثقات لم يروه عنه غيره، ويرويه عن التابعي رجلٌ واحد مِن الأتباع، ثقةٌ، وكلهم مِن أهل الشهرةِ والعدالةِ، وهذا حَدٌّ في معرفة "الغريب والفرد الصحيح"، وقد أُخرِج له نظائر في الكتابين.
(1)"ترتيب الأفراد"(ق 9 / ب- 10 / أ).
• والنوع الثاني من الأفراد: أحاديث يرويها جماعة مِن التابعين عن الصحابي، ويرويها عن كل واحد منهم جماعة فينفرد عن بعض رواتها بالرواية عنه رجل واحد، لم يرو ذلك الحديث عن ذلك الرجل غيرُه، مِن طريق يصحّ، وإنْ كان قد رواه عن الطبقة المتقدّمة عن شيخ شيخه جماعة، إلّا أنّه من رواية هذا المنفرد عن شيخه، لم يروه عنه غيرُه.
• النوع الثالث: أحاديث ينفرد بزيادة ألفاظ فيها واحدٌ عن شيخه لم يرو تلك الزيادة غيره عن ذلك الشيخ، فينسَب إليه التفرد بها وينظر في حاله.
• النوع الرابع: متون اشتهرت عن جماعة مِن الصحابة، أو عن واحد منهم، فروى ذلك المتن عن غيره مِن الصحابة ممّن لا يُعرَف به إلّا مِن طريق هذا الوجه ولم يتابعه عليه غيرهُ.
• النوع الخامس من التفرّد: أسانيد ومتون ينفرد بها أهل بلد، لا توجد إلّا مِن روايتهم، وسنن ينفرد بالعمل بها أهل مصْرٍ لا تعمل بها في غير مصرهم".
قلت: يحتاج أنْ يكون المنفرد في النوع الأول، في المرتبة العليا من الثقة والعدالة والحفظ، حتى يُقبل انفرادُه في كل طبقة: الأولى والثانية، اللّتان أشار إليهما، وثالثة -إنْ وُجِدَتْ- أو أكثر من ذلك.
وأمَّا الثاني ففيه نقص لعله مِن النسخة، وقد نبّهت عليه -مقابله- في الحاشية، فهذا النوع الأول عنده.
والثاني هو: الذي أشرتُ إليه بـ "غريب بعض السند"، وقد يقبل الصحة، أو ينحط عنها كما قلنا، وقد يقبل التحسين، إنْ وَجَدت له شاهدًا، وقد لا يقبله إنْ لم يُوجد، ومِن هذا النوع: حديث أم زَرْع، قال: عيسى بن يونس يرويه عن هشام بن عروة، عن أخيه عبدِ الله بنِ عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ويرويه غيره -ممن لا يحفظ- عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، فسلك به الجادة؛ فهذه غرابة تخصّ موضعًا مِن السند، صحيحة، والحديث صحيح.
والنوع الثالث: هو الذي أشرت إليه بـ "غريب بعض المتن"، وهو أيضًا مختلف بحسب حال التفرد بالزيادة، وإلى بعضه يشير الإِمام أبو عمرو بقوله:"غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة"، قال:"وهو الذي يقول فيه أبو عيسى: "غريب مِن هذا الوجه". -وقد تقدَّم في هذا النوع بحث عند ذكر الشاذ، في حكم الزيادة-. نوضحه (1): فإذا قال أبو عيسى في حديث: "غريب من هذا الوجه"، مشيرًا إلى ذلك، أو "غريب مِن حديث فلان عن فلان" فقد أوضح مراده منه، وإنْ قال: "هذا حديث غريب"؛ أمكن أنْ يُحْمَل على الغرابتين: "المطلقة، والمقيّدة".
وأمّا النوع الرابع: فهو الغريب سندًا لا متنًا، كحديث:"الأعمال بالنيّات"؛ إذا رُويَ عن غير عمرَ بنِ الخطاب، فقد وَقَعَ لنا طريق لا ذكر فيها ليحيى بن سعيد، ولا مَن فوقه إلى عمر، وهذا إسناد غريب كله، والمتن صحيح.
وأمّا النوع الخامس: فيشمل الغريب كله سندًا ومتنًا، أو أحدهما دون الآخر، وقد ذكر أبو محمَّد بن أبي حاتم رحمه الله بسند له: أنَّ رجلًا سأل مالكًا عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال له مالك:"إنْ شئت خلِّل، وإنْ شئت لا تخلّلْ"، وكان عبد الله بن وهب حاضرًا، فعجب من جواب مالك، وذكر لمالك في ذلك حديثًا بسند مصري صحيح، وزعم أنّه معروف عندهم، فاستفاد مالك الحديث، واستفاد السائل، فأمره بالتخليل، هذا أو معناه.
وفي ذلك جمع غرائب البلدان، وما تفرد به أهل الأمصار مِن سنن، مِن جمعها وقبولها للصحة وغيرها واضح.
(1) كذا قرأتها، ويمكن أن تقرأ:(أو صحة). أو (أو صحته)، أو (أوضحته).