الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدم دمشق من بلده قبل الفتنة بمدة طويلة فتخرج بها على الأئمة الأعلام كابن الجابي والزهري والشريشي وغيرهم من علماء عصره.
وسكن بالبادَرَّائِيّة مدة وكان من وجوه فقهائها وتخرج عليه بها جماعة من الطلبة، وذلك في أيام مشايخه.
قلت: وهو من رفقاء شيخنا العلامة شمس الدين الكفيري المتقدم في المحمدين ورأيته يثني عليه وعلى استحضاره، وقد حصل له نصيب وافر من العذاب في الفتنة التمرية، أرجو أن يكون زيادة في خيره وثوابه إن شاء الله سبحانه وتعالى رحمه الله وعفا عنه.
* * *
قاضي القضاة نجم الدين ابن حجّي
عمر (1) بن حجّي بن موسى بن أحمد بن سعد بن غُشَيْم بن غزوان بن علي بن شرف بن تركي قاضي المسلمين بالشام وخطيبها سنين، نجم الدين أبو حفص وأبو الفتوح بن الشيخ العلامة فقيه الشام في زمنه علاء الدين بن حجي الحسباني السعدي الدمشقي، مولده سنة سبع بتقديم السين وستين وسبع مائة.
قرأ القرآن العظيم وصلّى ثم حفظ التنبيه في ثمانية أشهر وحفظ غيره من المختصرات وأسمعه أخوه الشيخ العلامة شيخ الشام في زمنه شهاب الدين المتقدم في الأحمدين في جماعة من مشايخه وغيرهم، واستجاز له، ثم سمع هو بنفسه من خلق بمصر والشام والحجاز وغيرها، وأخذ العلم عن أخيه المذكور وعن بقية المشايخ الموجودين في ذلك الوقت
(1) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 4/ 95 (772)، إنباء الغمر لابن حجر 8/ 129، الضوء اللامع للسخاوي 6/ 78 (269)، الدارس في أخبار المدارس 1/ 193، شذرات الذهب لابن العماد 9/ 280.
منهم الزُّهْرِي والشّريشي وابن الجابي وشرف الدين الغزي، وانتفع بالوالد وغيره من طبقة أخيه.
ورحل إلى القاهرة سنة تسع وثمانين وهي أول رحلاته إليها، وأخذ عن الشيخ وابن الملقن والعراقي والزركشي والدميري وغيرهم من علمائها، وأجازه الشيخ سراج الدين ابن الملقن الآتي ترجمته على الأثر بالتدريس.
وكتب بخطه من مصنفات الشيخ وابن الملقن وغيرهما، ثم لازم بدمشق الشيخ شرف الدين محمود الأنطاكي إمام النّحو في زمنه مدة طويلة وانتفع به في العربية.
وحجّ مرات وولي إفتاء دار العدل في ذي الحجة سنة اثنين وتسعين ثم تولّى مشيخة خانقاه عمر شاه بالقنوات خارج باب الجابية من دمشق.
ثم حصلت له محنة في شهر رمضان سنة خمس وتسعين.
ونزل له أخوه عن إعادة الأمينية في سنة ثمان وتسعين وحجّ سنة تسع وتسعين وجاور بمكة.
وبعد الفتنة ولي القضاء بحماة مرتين، ثم ولي قضاء طرابلس أيضاً مرتين ثم ولي القضاء بدمشق في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمان مائة ثم انفصل بعد شهرين، ثم ولي القضاء بعد ذلك ست مرات من قبل الناصر فرج والمؤيد شيخ والأشرف برسباي، ومدة مباشرته إحدى عشرة سنة وكسراً وذلك في مدة إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر.
وأُضيف إليه مع القضاء الخطابة ومشيخة الشيوخ ونظر الحرمين والأسرى والمارستان وتداريس أخر كالعادلية والغزالية ودرس بالشاميتين والظاهرية والركنية وغير ذلك.
وعظم قدره واشتهر ذكره وصار له عظمة في النفوس وحرمة زائدة وكلمة نافذة، ثم وقع بينه وبين جماعة من معاصريه من النيّاب والقضاة وغيرهم فتن وشرور، وحصل له عن وأُوذي فصبر وأظهر من الشجاعة وثبات الجنان والإقدام على الأمور ما يعجز مثله عن ذلك والله ينصره ويرفع
كلمته على من يعاديه، وحصل له من الجاه في زمنه ما لم يحصل لغيره من أقرانه بل ولا من مشايخه مع كثرة أضداده ومعانديه ومحنه.
ثم ولي كتابة السر بالقاهرة في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين فباشرها تسعة أشهر ونيفاً على وجه جميل وحرمة زائدة وعدم الاكتراث بمباشري القاهرة، وعظم عند الأشرف، حتى بلغني عنه أنه إذا وقعت حكومة شرعية عنده بعد نزول القضاة الأربع وطلب أهلها الشرع فيقول لهم الأشرف: هذا الشرع، ويشير إلى القاضي نجم الدين.
ثم عمل عليه ووقع بينه وبين جانبك الدودار فعزل منها فأخرج على وجه غير مرضي إلى غزّة وغُرّم مالاً كثيراً ودخل دمشق وخرج للقائه أعيانها من القضاة وغيرهم وهو في عقب ذلك الحال.
وتفرّغ في هذه البطالة فدرّس في المدارس المتقدم ذكرها وتصدى للإفتاء والكتابة وجمع الفوائد وعظم في النفوس وكان جيد التصرف في العلوم جيد الذهن حاد القريحة ذكياً فصيحاً يُلقي الدروس بتأنّي وتؤدة حتى قال الشيخ جمال الدين الطيماني أنه كان يدرّس أحسن من أخيه.
وقد شاهدت تدريسه فكان حسناً مرتباً مفيداً إلى الغاية، وكان مع عظمته حسن الملتقى للناس محباً للفقراء معتقداً لهم، محسناً للغرباء القادمين عليه كثير المساعدة لأهل العلم والإحسان إليهم والتودد لهم، قامعاً للظلمة والمبتدعة لا يهاب أحداً منهم ولا يبالي بهم والله يؤيده وينصره.
وحصل للفقهاء به عمر ورفعة ومحاسنه كثيرة جمّة وعليه مآخذ الله يسامحه بها ويسامحنا.
ثم قتل بمنزله بالنيرب (1) ليلة الاثنين ثاني القعدة سنة ثلاثين وثمان مائة عن ثلاث وستين سنة ودفن بالصوفية إلى جانب أخيه الشيخ شهاب الدين -رحمهما الله تعالى. انتهى ملخصاً من كلام بعض المؤرخين.
(1) النيرب: قرية مشهورة بدمشق -معجم البلدان- ياقوت الحموي - 5/ 380 (12306).
وقلت في مسودة هذا الكتاب: هو أبو حفص عمر بن حجي الحسباني الأصل ثم الدمشقي الإِمام العالم قاضي القضاة نجم الدين لسان المتكلمين أوحد البارعين خطيب المسلمين وقاضيهم بالشام مدة سنين، له الحرمة الوافرة والكلمة المسموعة النافذة، وله ابتهال إلى الله تعالى واعتقاد لأهل الخير، ويحضر وقت الفقراء والمشايخ الصالحين، وله الدروس الحسنة والخطب المستحسنة.
أخذ عن جماعة قبل الفتنة منهم أخوه الشيخ شهاب الدين وقرأ النحو على الشيخ شرف الدين الأنطاكي الحنفي.
وبرع ودرّس وأفتى وولي القضاء بحماة ثم بطرابلس ثم بدمشق مرات أول ولايته في سنة إحدى عشرة وثمان مائة، كذا سمعته من لفظه خلاف ما تقدم وذلك في حياة أخيه وأقرانه من الأئمة كالوالد وابن نشوان وغيرهما ونابا له ثم عزل ثم أعيد ثم استمر مدة ثم عزل بابن زيد البعلي مرتين في مدة يسيرة واستمر من أول سنة سبع عشرة إلى أثناء سنة سبع وعشرين مدة عشر سنين لم تتخلل فيها إلا تولية القاضي جمال الدين زيد البعلبكي مرتين الأولى في سنة تسع عشرة فكانت مدة أربعة أشهر والثانية في شعبان سنة ست وعشرين فاستمر أربعين يوماً. . . . التّوليتين، وناب له في ولايته جماعة من الأئمة منهم الوالد وابن نشوان كما تقدم والشيخ برهان الدين خطيب عذرى وشيخانا العلّامتان الشمسيان البرماوي والكفيري واللوبياني ومحيي الدين المصري والرمثاوي وغيرهم.
ودرّس بمدارس القضاء ثم بالشامية الكبرى بعد موت مدرّسها القاضي تاج الدين الزهري المتقدم قريباً، وكان يوماً مشهوداً حضره نائب الشام إذ ذاك جقمق الزيدي وغيره من أرباب الدولة.
ودرس أيضاً بالشامية الجوانية والغزالية والظاهرية والعادلية والركنية وغيرها.
وكانت دروسه حسنة بفصاحة وتؤدة وعبارة بليغة وأداء حسن وحضره
العلماء وغالب نوابه المتقدمون ومن العلماء ابن سلَّام الآتي ذكره في هذا الباب.
وتمّ على ذلك إلى أن رحل إلى القاهرة في أثناء سنة سبع وعشرين بتقديم السين فولي كتابة السر بها وولي الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف الدمشقي قضاء الشام في رجب من السنة فثقل على الجماعة بالقاهرة، وتمكن عند الأشرف برسباي، وكانت عنده عجلة وحدّة في أخلاقه يرديه غالباً إلى الضرر به وبغيره فعامل رفاقه المباشرين بالعنف وعدم الاكتراث بهم ومواجهتهم بالكلام الخشن فتحيّلوا عليه وأخرجوه منها بطالًا إلى الشام والشريف بها وذلك في أثناء سنة ثمان وعشرين فباشر وظائفه ولزم الأشغال والاشتغال والمطالعة والإفتاء فآذاه الشريف وبلَّغه الكلام السيء ومنع نوابه من الاجتماع به ومن الجلوس عنده في دروسه وهم أعيان الفقهاء بدمشق، حتى كان يقف بسوق الخيل يوم الأحد والأربعاء وهما يوما المدارس لينظر من يحضر معه في الشامية البرانية فيؤذيهم سيما نوابه.
فرحل القاضي نجم الدين إلى القاهرة بعد أن كتب محضراً بدمشق استكتب فيه جماعة من العلماء ومنهم النواب وهم الشيخ شمس الدين الكفيري وتقي الدين اللوبياني وغيرهما خلا شيخنا العلامة محيي الدين المصري فإنه لم يكتب.
ومن مضمون المحضر أن الشريف لا يجوز توليته للأحكام الشرعية لجهله وارتكابه المحرمات وغير ذلك.
فولي القاضي نجم الدين قضاء دمشق في أول سنة ثلاثين وهي آخر توليته على وجه جميل ولطف السؤال له من السلطان وغيره من أعيان المباشرين.
فقدمها في صفر من السنة وعزل الشريف وطلب إلى القاهرة في آخر السنة التي قبلها مهاناً وأخذ منه الأشرف مالًا كثيراً، فباشر القاضي نجم الدين قضاء دمشق في هذه المدة على القالب الجائر.