الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الياء
شيخنا الشيخ محيي الدين المصري
يحيى بن (1) يحيى بن أحمد بن حسن القبابي المصري ثم الدمشقي شيخنا الإمام العلامة أقضى القضاة محيي الدين أبو زكريا شيخ الشافعية، في آخر رفقته ومفتيهم ومفننهم في العلوم الكثيرة ومدرسّهم ومحققهم، ولد في أول سنة إحدى وستين وسبع مائة ومات أبوه وهو صغير فقعد في مكتب الأيتام بمدرسة السلطان حسن المشهورة بالقاهرة فقرأ بها القرآن العظيم، ثم اشتغل بالعلوم على مشايخ عصره منهم الشيخ وابن الملقن والأبناسي ولزمه الملازمة الكثيرة وكان كثير التعظيم له.
وأخذ الحديث عن العراقي والأصول عن الشيخ عز الدّين ابن جماعة والنحو عن الشيخ محب الدّين ابن هشام.
وتميّز وفضل وحفظ الحاوي الصّغير بعد التنبيه ومختصر ابن الحاجب والألفية وغير ذلك من المحفوظات، وكان يعرف الحاوي معرفة جيدة، وأذن له الشيخ بالإفتاء وكذلك غيره من مشايخه.
ثم قدم دمشق في سنة خمس وثمانين فاشتغل على مشايخها الأعلام
(1) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 4/ 10 (783)، الضوء اللامع للسخاوي 10/ 263 (1051)، الأعلام للزركلي 8/ 176، معجم المؤلفين 13/ 235.
كالزهري وابن الشريشي والقرشي وأثنوا عليه حتى قال الشيخ شهاب الدين الزهري: ما قدم علينا من مصر مثله.
وكان مشهوراً حين قدومه إذ ذاك، يحفظ الروضة وقرأ نصف المختصر لابن الحاجب على الزهري وأذن له بالإفتاء، وكذلك بقية مشايخ الشافعية بدمشق -كما ذكر ذلك في إذنه لي بالإفتاء في أول سنة ست وثلاثين وثمان مائة- قال: وكان أذن لي قبل رحلتي بالقاهرة في سنة ثلاث وثمانين ولي ثلاث وعشرين سنة.
وسكن بدمشق حال الطلب بالقيمرية مع جماعة من الفضلاء منهم الشيخ شهاب الدين ابن نشوان وعُدّ من طبقته، وصحب والدي وكان يثني عليه، وكان كثير الملازمة والتردد لوالدي.
وجلس للإشغال بالجامع وقرأ عليه جماعة من الفضلاء ثم ترك ذلك واشتغل بعمل المواعيد فاجتمع عليه خلق كثير لفصاحته وحسن أدائه وتفقه به جماعة من العامة -لكن ضيّع نفسه مدة طويلة بذلك.
ودرّس بدمشق بالدولعية استقلالًا والشاميتين والعذراوية والرّكنية نيابة، وأعاد بالظّاهرية والشّامية الكبرى وتصدّر بالمسرورية مدة ثم أخذت منه.
وناب في الحكم عن الأخنائي والقاضي نجم الدين ابن حجي فمن بعدهما من القضاة وكان عارفاً بصنعة القضاء فاضلًا في كل شيء، وقرأ البخاري للأمير نوروز الحافظي مرتين.
وكان فصيحاً ذكيّاً جيّد الذّهن سليم الصّدر سهل الانقياد مطّرح التكلف، قليل الشّر حسن الظّاهر والباطن، وله في المجالس العامّة الكلام النافع بحيث إن غالب من حضره من مذهبه وغيره من أقرانه يمتثلون قوله ويتبعونه لحسن أدائه ومعرفته، وكان ثقة ضابطاً لما يقوله ويرويه.
ثم إنّه في أواخر عمره بعد موت أقرانه دخل إلى جامع دمشق فدرّس الطّلبة وأقرأ المنهاج والتنبيه والحاوي كل منهم قسمه في سنة.
وحضرت عنده إذ ذاك وقرأت عليه في المنهاج وذلك في سنة اثنين وثلاثين، ثم حضرت عليه في بقيّة الكتب.
وكان حسن التّقرير والأداء بحيث البليد يفهمها بقوله ويرجع إلى العلم، وحضر عنده غالب الفضلاء، ولما فرغ من ذلك أذن لي ولجماعة بالإفتاء.
وكان ضعيف البصر يطالع له بعض أصحابه ثم تزايد به حتى أضرّ قبيل وفاته.
ولما عمّر الأمير محمد بن منجك المسجد المشهور بمسجد القصب حضر فيه الشيخ محيي الدين ودرّس فيه من التفسير في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية.
وحضر عنده قاضي الشام يومئذ العلامة شهاب الدين الأموي وغيره من فضلاء دمشق، وكان درساً حافلًا حضرته معه ووقع لي مع كل منهما بحث، ولما حضرت بعد ذلك بجامع دمشق وأشغلت الطلبة فرح بذلك، وكان يحضُّ جماعته وولده ومن يقرأ عليه على القراءة عليَّ وملازمتي.
وحضر عندي هو والشيخ تقي الدين اللوبياني في الكلاسة لما درّست بها في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين، وحضرا بعد ذلك أيضاً.
وانقطع بمنزله مقتصراً على تدريس الشامية الكبرى والجامع النّاصري الذي تقدم ذكره وهو الجامع الذي أنشأه الأمير ناصر الدين محمّد بن منجك بمسجد القصب وجاء في غاية الحسن وهو في محله لكثرة جماعة ذلك المكان، وكان المسجد أولًا في غاية ما يكون من الضيق ويحصل للناس بالجمعة فيه شدّة، فأنشأه جامعاً كبيراً حسناً -تقتل الله منه ذلك.
وتمّ الشيخ على ما ذكرناه ويباشر الحكم بالعادلية إلى آخر وقت ولم يحمد في ذلك.
وكان كثير التلاوة للقرآن عن ظهر القلب يقرأه قراءة تجويد بأداء حسن ويقرئ في الجامع المذكور يوم الاثنين والخميس لبعض الطلبة إلى أن ضعف بالقولنج وتغير مزاجه وعوفي منه ثم نقض عليه وانقطع بسببه أياماً
وكثر العُوَّاد له وضاقت أخلاقه وهو طيب الخاطر عقله حاضر.
وعُدْتُهُ مرتين وهو يدعو لي ثم تزايد به الحال إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم السبت وقت العصر ثامن عشر صفر سنة أربعين وثمان مائة وله ثمانون سنة، ودفن يوم الأحد ضحوة النهار.
واتفق في تلك الليلة وفاة صاحبنا الفاضل شمس الدين محمد المكيسي كما تقدم في ترجمته، ودفنا في وقت واحد بباب الصغير بقرب سيدي بلال -رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وقباب بالقاف والباء الموحدة بعد ألف ثم جاء موحدة أخرى، من قرى أشموم الرمان من الوجه البحري من الديار المصرية، وكان والده خطيب القرية المذكورة.
وقد رثاه جماعة بعد وفاته فممّا رثاه به بعض الفضلاء هذه الأبيات:
لقد مادت الأرضون إذ قيل قد مضى
…
أبو زكريا خُلقه الفضل أجمع
كأنّ نهاراً غاب فيه ضياؤه
…
ظلام علينا دجنه ليس يقشع
فلله ما نلقى أسىً من فراقه
…
فقد كادت الأكباد منه تصدع
لقد كان يحيى سيداً متناولاً
…
من المجد حظاً فيه للناس مرتع
وما زال حتى ساورته منية
…
سواء لديها الباز. . . والأبقع
وما أحدٌ إلا ويسقى بكأسه
…
وتحضنه سوداء وحش بلقع
لعمري ما للمرء في الموت حيلةٌ
…
ولا لقضاء حمه الله مدفع
ولما عصانا صبرنا حين بينه
…
وعادت شؤون العين سلًا تهمع
صبرنا احتساباً ثم قلنا تأسياً
…
على لوعةٍ إنا إلى الله نرجع
سقى الله قبراً ضم يحيى سحائباً
…
من الجود فيه الجود والعفو ممرع
ولا زال في روض من اللطف ناضر
…
يقر به عين وتلتذ مسمع
وجار له في شفاعة أحمد
…
نَبِيُّ الهدى فهو الشفيع المشفع
عليه صلاة الله ما هبت الصبا
…
وما زال نور النجم في الأفق يلمع
* * *