الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهاب الدين أبو العباس الحلبي ثم الدمشقي.
اشتغل في العلوم وفضل في الفقه وشارك في غيره.
قال بعضهم: وكان من خيار الفقهاء ولي قضاء كرك نوح (1) عليه الصلاة والسلام من البقاع والخطابة بها مدة، وولاه القاضي سري الدين قضاء القدس الشريف، وناب في آخر عمره في خطابة الجامع الأموي، ودرس بالبادرائية نيابة، وكان من الفضلاء البارعين.
توفي في ذي الحجة سنة خمس وثمان مائة، ودفن بمقابر الحمرية إلى جانب الشيخ علي بن أيوب الصوفي كهلًا -رحمهما الله تعالى-.
* * *
شيخ الإسلام الوالد -رحمه الله تعالى-
-شهاب الدين الغزي- نفعنا الله به
أحمد بن عبد الله (2) بن بدر بن مفرّج بن بدر بن عثمان بن جابر بن ثعلب بن ضوء بن شديد بن عامر أبو نعيم العامري الغزّي ثم الدمشقي ثم المكي القرشي، الإمام العلامة العلم الحجة الحافظ القدوة المحقق المدقق الفقيه الأصولي النحوي المتكلم النظّار المفتي في العلوم، شيخ الإسلام مفتي الفرق، آخر المجتهدين الأعلام عالم البلاد الشامية بالاتفاق، بل عالم
(1) كرك نوح: قرية كبيرة قرب بعلبك بها قبر طويل يزعم أهل تلك النواحي أنه قبر نوح عليه السلام -وهي غير قلعة الكرك المشهورة -معجم البلدان- ياقوت الحموي 4/ 514.
(2)
طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 4/ 78 (760)، العقد الثمين للفاسي 3/ 55 (566)، إنباء الغمر لابن حجر 7/ 363، الضوء اللامع للسخاوي 1/ 356، شذرات الذهب 9/ 224، البدر الطالع للشوكاني 1/ 75 (42)، الأعلام للزركلي 1/ 159 - معجم المؤلفين- كحالة 1/ 285.
الدنيا على الإطلاق، الجامع بين المعقول والمنقول والمتبحر في علمي الفروع والأصول، إمام زمانه وفارس ميدانه.
قال فيه صاحبه ابن شيخه العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر بن الزهري في عرضي عليه المنهاج بدمشق في أوائل سنة ثلاث وعشرين وثمان مائة: هو شيخ الشام وعالمه ومفتيه، ومن انتهت إليه مشيخة المذهب ولم يدرِ الطالب بعده أين يذهب، شهاب الدين حجة الإسلام علامة الأنام.
وقال فيه العلامة محب الدين بن الإمام جمال الدين بن ظهيره المكي قاضي مكة وعالمها وابن عالمها في عرضي عليه أيضاً بعد ترجمتي: سيدنا وشيخنا الإمام العلامة أوحد العلماء العاملين وعمدة المحققين وبقية المفننين المتقنين الجامع بين المعقول والمنقول والمتبحر في علمي الفروع والأصول.
وقال فيه إمام وقته وعلامة مذهبه بل علَّامة زمانه عالم المملكة الرومية في عصره بالاتفاق شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد بن محمد الشهير بالفناري الرومي الحنفي في ترجمته في عرضي عليه أيضاً في أوائل سنة ثلاث وعشرين وثمان مائة بدمشق وكان المذكور قدم في السنة الخارجة حاجّاً وهذه عبارته بعد الخطبة: أبو عبد الله رضي الدين محمد بن سيدنا العلامة الفهّامة حجة العلماء بقية السلف مفتي الفرق شيخ الإسلام بقية الكرام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن العبد الصالح جمال الدين بن بدر العامري الغزي الشافعي.
وقال في ترجمته في عرضي عليه المنهاج أيضاً بمكة المشرفة بعد فوت الوالد بأيام يسيرة، الإمام العلامة فقيه مكة ونحويها في عصره عبد الواحد المرشدي وكان بينه وبين الوالد ما يكون بين الأقران وأمور في المباحث وهذه عبارته: سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة حجة العلماء قدوة البلغاء شرف الزّهاد بقية السلف مفتي الفرق وحيد عصره وفريد دهره وواسطة عقد الفضائل والمبرز في علومه على الأواخر والأوائل، شيخ الإسلام بقية السلف العظام، الفائق النظراء والأمثال، المتصف من المحاسن بما يضرب به الأمثال، أبي العباس أحمد بن شهاب الدين بن الشيخ الصالح
المرحوم عبد الله جمال الدين بن بدر العامري الغزّي الشافعي حول الله روحه في أعلا عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وكان قبيل موت الوالد بمدة وأظنه في شهر رمضان، حصل بينه وبينه مناقشة عظيمة في البحث بالمسجد الحرام، والفضل ما شهدت به الأعداء.
ولله در القائل وهو الأديب الفاضل زين الدين شعبان الأثاري المصري وتقدمت ترجمته في هذا الديوان في قصيدة له دالية تعرض في آخرها لذكر شيخ الإسلام فقال:
وفي كل علم أنت سيد أهله
…
لذاك حلا للطالبين التردد
وكتب له صاحبه العلامة جمال الدين الطيماني -وكان إماماً في علوم كثيرة وستأتي ترجمته في ورقة: - وقفت عليها وهي عندي بخط المذكور، السلام التام والتحية والإكرام على سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام ومفتي الأنام الإمام العالم العلامة بركة الوقت الشيخ شهاب الدين الغزي العامري، جمع الله بيننا وبينه بدار السلام -وكان بينهما ما يكون بين الأقران- سيما في المباحث كما هو معلوم عند أهل الشام ولو شرعت أعد من ترجمه بشيخ الإسلام وبغيرها من التراجم العظيمة لطال الكتاب ولخرجنا عن موضوعه، وإنما المقصود الإشارة إلى الأئمة الأعلام الذين ترجموه بذلك وبعضهم مثله أو يقاربه أو من أقرانه.
ولد الشيخ -رحمه الله تعالى- ببلدة غزة من الأعمال المقدّسة سنة ستين وسبع مائة وقال الشيخ تقي الدين ابن قاضي شهبة في طبقاته: أنه ولد في ربيع الأول منها وقال: أن الشيخ أخبره بذلك.
وقرأ القرآن العظيم والتنبيه والعمدة ومختصر ابن الحاجب الأصلي والحاوي الصغير والألفية لابن مالك.
واشتغل في صباه ببلده على العلامة علاء الدين بن خلف بن كامل الغزي أخي صاحب الميدان الشيخ شمس الدين وهذا المذكور أسنّ منه،
وأخوه المذكور وإن كان أشهر منه فقد قرأ عليه أولًا وبرع عليه في مدة قليلة، ثم رحل إلى القدس الشريف فأخذ عن علمائها ومنهم الشيخ تقي الدين إسماعيل القلقشندي وكان المذكور عين العلماء ببيت المقدس إذ ذاك وقرأ عليه الأصول والفقه وأتقنه في قريب السنة، ثم رحل إلى دمشق وهو عالم قد ناهز الإفتاء قبيل الثمانين.
وقال الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة:
وكانت رحلته في سنة تسع وسبعين -بتقديم التاء في الأولى فقطنها وأنشد لسان الحال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر
وأخذ عن الأئمة الأعلام إذ ذاك كالشيخ شهاب الدين الزهري وشرف الدين الشريشي ونجم الدين ابن الجابي وهؤلاء الثلاثة هم مشايخ الشافعية إذ ذاك بالشام. وأطبق على الاشتغال بقلب وإقبال وطالع غالب كتب المذهب المشهورة كالروضة وأصلها وابن الرفعة وغير ذلك وبلغني أن كلًا من هذه الكتب مرّ عليه مرات حتى تميّز على الأقران.
وانتهى في الشامية البرانية سنة ثلاث وثمانين وسبع مائة، ولم تكن له فقاهة بها إذ ذاك، بل كتب على أربعين مسألة على العادة ما بهر به المشايخ وأذن له مشايخه المذكورون بالإفتاء.
ثم حجّ إلى بيت الله الحرام ورفيقه العلامة برهان الدين الباذلي الصنهاجى عالم المالكية ومفتيهم، وجاور بمكة سنة سبع وثمانين وحصّل فيها علماً كثيراً ثم رجع إلى الشام وقد صبّ الله عليه العلم صباً.
وتصدى للإشغال والإفتاء وشيوخه متوافرون وانتفع عليه جماعة من الفضلاء حتى تركوا المشايخ ولازموه، وبلغني عن بعض شيوخه أنه كان يرسلهم إليه ويغبطهم به ويحضهم على ملازمته.
ودرّس بالعذراوية والناصرية لمّا ولّي إعادتهما قبل الفتنة باعوام وحضره الأعلام من مشايخه وغيرهم، ودرس بالشامية الجوانية والأتابكية بالصالحية والكلاّسة.
وتصدى للتصنيف وكتب بخطه الكثير، ومن مصنفاته المكملة المجموع الذي وسمه بمختصر المهمات في خمسة أسفار، وشرح الحاوي الصغير في خمسة أسفار بدأ في تصنيفه من البيوع إلى آخر الفقه، ثم شرع في مجاورته الأخيرة التي توفي فيها في تكملته فوصل إلى أثناء التيمم -وقد شرعت في تكملته، ومنسكه الكبير في مجلد كبير جمع فيه فأوعى، وشرح مختصر جمع الجوامع للسبكي وهو بديع، والجواب الرّاسي لمسألة الفاسي وهو مصنف بديع مبتكر لم يسبق إليه، وله على مختصر ابن الحاجب شرح بديع بسيط احترق في الفتنة وكذلك على التنبيه لخص منه تعليقه الشيخ برهان الدين بن الفركاح.
وأما التي لم تكمل وعاجلته فيها المنية فمنها القطعة الكبيرة الحافلة في أسماء رجال البخاري بيّن فيها أموراً عجيبة وقعت للحفاظ المتأخرين كالمزّي والذهبي فمن بعدهم، وكلامه فيها شاهد معدّل له بالمرتبة العليا في علم الحديث وكان قد تعلق به آخراً.
والقطعة الحافلة على المنهاج للنووي كتب منه مجلدين إلى كتاب الصلاة وبُيضت، وقطعة على منهاج البيضاوي، وقطعة على ألفية ابن مالك، وشرح عمدة الأحكام وصل فيه إلى أثناء الصداق -وقد كمّلته بحمد الله ببركته فصار شرحاً بديعاً لم ينسج على منواله.
وأما فتاويه وتعاليقه فهي كثيرة لا تحصى. . . . إن شاء الله، وصنف في كل شيء حتى في التعبير والتاريخ، وغالب هذه المصنفات المذكورة بعد الفتنة مع اشتغاله بالقضاء والدروس العامة، وسؤال الطلبة في الأسبوع أربعة أيام وهذه كرامة من الله له فإنه. . . . دون العشرين كما ستعرفه في وفاته.
وباشر إفتاء دار العدل نحو أربعين سنة لم يكن لأحد من القضاة وغيرهم إذا حضر معه كلام وإنما يمتثل الكل ما يقول، وكان أعطي من الله تعالى المهابة والقبول التام عند الخاص والعام وتخرّج عليه فضلاء عصره حتى صاروا أئمة المذهب وقضاة الإسلام، وحملت إليه الفتاوى من أقطار الأرض ذات الطول والعرض.
سمعته -رحمه الله تعالى- يقول وأعي منه ذلك: قيل لا تموت حتى تسمع الناس بأذنيك يقولون: لا نرضى إلا بفتيا أحمد الغزّي.
وتبلغ ثلاثاً وستين سنة كعمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان رحمه الله كثير الأوجاع سيما بعد الفتنة التمرية من مرض الربو وغيره، وكان سبب ذلك ما أصابه في الفتنة من المغل كسقي الكلس مذاباً في الماء وغير ذلك خلا العقوبة فإن الله تعالى كفاه إياها وغيرها مما لا طاقة له به.
فكان كلما ضعف يقول ما قرب الأجل حتى دخل في السن المذكور وسمع هذه المقالة بلفظها من جماعة من المستفتين وهو في جامع بني أمية فبهان إشغاله بزاوية الإمام الغزالي رضي الله عنه فوضع يده على لحيته الكريمة وقال: قرب الأجل، ولم يمكن بعد ذلك إلا ستة أو دونها، وهذه القضية مشهورة عند أصحابه مستفيضة بينهم وسمعتها أنا منه.
رجعنا إلى ما نحن بصدده من إكمال ترجمته مختصرة حسبما يليق بهذا المختصر.
ثم إنه حج إلى بيت الله الحرام بعد الفتنة في سنة ثمان وثمان مائة وجاور في السنة الدّاخلة وهي سنة تسع مجرّداً كالمجاورة المتقدمة في سنة ثمان وثمانين وتصدى فيها لأشغال الطلبة بالمسجد الحرام في الأصول.
وكان ذلك بإشارة العلامة الحافظ عالم الحجاز القاضي جمال الدين ابن ظهيرة رحمه الله وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة المذكور في المحمّدين كما تقدم -فقُرئ عليه مختصر ابن الحاجب والمنهاج للبيضاوي وجمع الجوامع للقاضي تاج الدين السّبكي.
وسأله بعض الفضلاء ممن حضر عليه ذلك أو قرأه أن يكتب له شرحاً على جمع الجوامع فشرع في كتابة شرحه الذي ذكرناه وهو شرح بديع، وأخذ من شرح الزركشي عليه وأشار إلى أوهامه.
وكتب بخطه تلك السنّة من مصنفات الشيخ العلامة الولي الجليل أبي
السماحة جمال الدين بن عبد الله بن أسعد اليافعي -رحمه الله تعالى- وكان ذلك بإشارة الشيخ الصالح الكبير أبي الصفا خليل الأذرعي ثم الدمشقي أحد الصلحاء الكبار الأخيار من أعيان أصحاب الشيخ الزاهد الكبير العالم أبي بكر الموصلي.
وهذا الشيخ كان الوالد حين وجوده قبل الفتنة يلازمه وبشّره بأمور، قال لي بعض أولاده: إنّ من جملة ما بشر به الوالد أنه قال له ما تموت حتى تجمع بين علم الظاهر والباطن، فكان الوالد والله كذلك فلقد كان له الحظ الوافر في علم القوم ومحبّتهم وله منهم القبول التام.
واجتمع في تلك السنة بمكة جماعة من الأولياء منهم سيدي الشيخ إبراهيم الحنبلي وغيره وطلب منه ومن غيره من السادات الدعاء له بأن الله يرزقه ولداً ذكراً عالماً صالحاً فبشّر بذلك، حتى قال له الوليّ المذكور في تلك السنة: انذر إن جاءك ولد ذكر تسميه محمداً، قال: نعم، قال الوالد فقلت له: يا سيدي قد عرّضت لي بحصول ذلك فأشتهي أن تصرح لي بالالتزام، قال الوالد: فاحمرّت عيناه وقال: التزمت لك على الله ولداً ذكراً وإن لم يأتك ولد ذكر فالعنّي، قال الوالد: فتيقنت ذلك وأفهمني حصوله الأخ في الله الشيخ نجم الدين المرجاني وقال: حصل الولد إن شاء الله، فقال الوالد: لعل الولد خلق بعد فإني لما سافرت من دمشق واقعت أهلي عقب الظهر فيكون الله قد أطلعه على صورته -كما وقفت على ذلك كله بخطه في مجموع له- ثم سافر من مكة إلى الطائف من أعمال مكة وزار فيها قبر سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتوسل به في حصول ذلك أيضاً وطلبني هناك من الله تعالى، وقد ولدت أنا عقيب هذه المجاورة في ليلة الثلاثاء سادس عشر من رمضان المعظم وذلك سنة إحدى عشرة وثمان مائة ولم يأته عقيب هذه المجاورة غيري، فأسأل الله تعالى خاتمة الخير في عافية لي ولإخواني ولمن قرأت عليه أو انتفع علي ولجميع المسلمين آمين بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين والمرسلين.
ثم إنه رجع من تلك المجاورة إلى دمشق ولازم الإشغال والتصنيف
والإفتاء ونفع الناس ورحلت إليه الفضلاء من أقصى البلدان وسارت بفتاويه ومصنفاته الركبان، وطار اسمه فملأ الآفاق حتى قال شيخنا العلامة القدوة الإمام علاء الدين البخاري رحمه الله: بلغني ذكر والدك فيما وراء النهر من أقصى معاملة العجم واشتهر هناك فضله، وناهيك بهذا المقام، وكان يطالع في بعض حواشيه على مختصر ابن الحاجب ويقول: هذا كلام الراسخين في العلم.
وأما ديانته وأمانته في ولايته وغيرها وقيامه في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم فالكلام فيه عيّ لأنه مستفيض معلوم عند الموافق والمخالف.
وعرض عليه قضاء الشافعية بالشام مرات من مشافهة الأمير نوروز الحافظي والمؤيد شيخ فامتنع، فقالوا له: من يصلح مع وجودك وأنت عالم الشام؟ فقال: ابن شيخنا القاضي تاج الدين ابن الزهري، فامتثلوا ما قاله وولوا المذكور، بعد أن عين للمنصب غيره ممن لا يصلح، ولقد حلف بالله سبحانه أنه ما ارتكب فاحشة قط ولم تصدر منه بحضرة أقرانه وتلاميذه.
وكان -رحمه الله تعالى- مواظباً على وظائف العبادات من الأوراد الواردة في السنة صباحاً ومساءاً، وكذلك على تلاوة القرآن لا سيما عن ظهر القلب وعلى صلاة النوافل، كثير الاستعانة بالله تعالى والتضرع إليه والتوسل بسيد الأولين والآخرين في كل مقام لا جرم كلما وقع في كربة فرّج الله عنه قريباً ولقد عمل على أذاه جماعة وكفاه الله إياهم.
وأما صفته -رحمه الله تعالى- فكان حسن الشكالة مليح القامة أزهر اللون نحيل الجسم متماسك القوة والحيل، بشوشاً متواضعاً مع الحرمة الوافرة، له على طرف خده الأيسر شامة حسنة، مهيب النظر منور الشيبة، ذا رأي وعقل متين وشجاعة تامة مقداماً في المهمات، كثير المروءة والسخى، يتقضى حوائج الناس بنفسه سواء كان بينه وبينه صحبة ومعرفة أم لا، لا سيما الغريب والضعيف، يقول الحق على نفسه وجماعته ليس عنده مداهنة ولا خداع ولا غل، قال شعبان العالم الشاعر:
وإن جئت في الحاجات يوماً لبابه
…
يقوم ويسعى في رضاك ويجهد
له إحسان إلى طلبة العلم وأهل الخير وعنده موافاة لأصحابه وغيرهم، وكان في آخر عمره في يومي السبت والثلاثاء يعزم الطلبة والفقراء ويطبخ لهم الألوان المفتخرة، وينبسط مع الفقراء الصالحين ويخدمهم بنفسه، كثير الاتضاع معهم، شديد النفس والارتفاع على أهل الدولة والأغنياء.
ولم يزل على ما ذكرناه من أنواع الخيرات يحاسب نفسه على الفترات لا يصرف أوقاته إلا في العلم وسائر أنواع الطاعات مقيماً على تربية الطلبة ولهم به جمال إلى أن حسدهم الزمان وشتت شملهم ونعق بهم غراب التفريق فبدد جمعهم، وأراد الله له الخير والفلاح حيث قضى له بمجاورته في أفضل البقاع فعزم على الحج إلى بيته الحرام مع أولاده في هذه الكرة الثالثة التي قضى الله بأنها خاتمة، وكنت معه عقيب صلاتي بالقرآن وأخذي في المنهاج.
فخرجنا في أوائل شوال سنة إحدى وعشرين وثمان مائة، وكانت وقفة الجمعة وحجّ فيها خلق كثير من سائر الآفاق، فلما وصلنا إلى مكة وقضينا مناسكنا عزم على المجاورة بسعادته، وفرح به المكيون وانتصب هناك للإفادة ونفع الناس، وحضره بقية العلماء من شيوخ مكة من المذاهب الأربعة وقرئ عليه. . . . لصغري واشتغالي على الفقيه بالمنهاج لأدركها وحضرت عليه بعضها.
إلى أن أتت الأشهر الثلاثة فتنكرت طباعه وبدت أوجاعه وكانت متنوعة.
وكان إذا حصل له خفة ما يخرج إلى التنعيم وأنا معه فنأتي بالعمرة، فعل ذلك في رجب وشعبان مرات.
ثم إنه اشتد الأمر وفي رمضان بعد أن صام منه أياماً وهو مع ذلك طيب الخاطر راض بما قدره الله إلى أن أتاه أجله وانقضت أيامه ودوله.
فرحل إلى رحمة الله تعالى وهو يتلو القرآن ويشير إلى الجماعة الحاضرين عند احتضاره بالسلام -كالشيخ العلامة نجم الدين المرجاني وغيره- والتوديع وهو مستقبل الكعبة على اليمين، كان أولًا مستلقياً على
قفاه كغالب هيئة المحتضرين فأشار في تلك الحالة باستدارة السرير ووضع جنبه على ما ذكرناه وذلك عند أذان الظهر يوم الخميس سادس شوال سنة اثنين وعشرين وثمان مائة.
فضج الناس بالنحيب والبكاء وعزى المسلمون بعضهم بعضاً وخرج أهل مكة المشرفة بأجمعهم من القاطنين والغرباء، ولا أعلم من تأخر إلا من هو عاجز عن الحركة.
وغسّله العبد الصالح المشهور بالولاية شمس الدين محمد المرشدي أخو الشيخ العلامة نجم الدين المرجاني وصُلِّي عليه بالملتزم بين الباب والركن الأسود بعد صلاة الإمام الشافعي العصر بمقام إبراهيم.
وحمله على الرؤوس القضاة والعلماء ومنهم تلميذه العلامة قاضي القضاة محب الدين ابن ظهيرة الشافعي، وأظنه استمر مع بقية رفقته إلى المقبرة.
فدفن بالمعلاة بتربة النورين عن يمينك وأنت داخل بثنية كذا بعد العصر، وكان يوماً مشهوداً وتردد الناس إلى قبره الأيام الثلاثة.
ورثاه جماعة بمراث بديعة، وسمع من قبره تلاوة يس، ولقد أخبرني هناك جماعة من الصالحين ممن بات على قبره أن جماعة أتوا إلى قبره عليهم العباء، فصلوا عليه جماعة ومنفردين ثم يذهبون كالبرق لا يدري الرائي كيف يذهبون قبيل المغرب أو بعده بعد ذهاب الناس يوم الدفن.
ورؤيت له منامات كثيرة عظيمة، ولقد رآه صاحبه الشيخ نجم الدين المرجاني المتقدم في أوائل المحمدين وهو أحد الأئمة بمكة في المنام بعد موته بسنة ليلة عرفة وعليه ثياب بيض على هيئة المحرمين، فقال له على الفور:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} (1).
وهذا المنام له بقية وسبب، وهو أنه لما مات الوالد ورجعنا إلى الشام
(1) صورة يس، الآية:27.
طمع فينا أهل الدولة من العتاة والقضاة المفسدين، وكنت صغيراً في سن العاشرة أو فوقها بيسير فأخرجوا وظائفي المنزول لي عنها منه رحمه الله وحصل علينا نكد عظيم حتى بعنا ثيابه بعد وصيته بأنها تكون لي ألبسها حين أكبر وجرت أمور لا نطيل ذكرها، فكتبنا صوزة ما جرى في كتاب طويل وأرسلناه إلى المرجاني وكنا نكاتبه ويكاتبنا إلى أن مات رحمه الله وسألناه قراءة الكتاب على قبر الوالد ففعل ذلك وأتانا جوابه بذلك وهو كتاب طويل يقول فيه بعد افتتاحه:
وحصل لفراق سيدي شيخ الإسلام ما حصل ولا حول ولا قوة إلا بالله ثلاثاً، ثم قال: ولما وصل كتابكم، امتثلت مرسومكم وقرأت الكتاب على قبره الشريف وحصل لي في تلك الحالة -حالة القراءة- هيبة عظيمة حتى خيل لي أنه فتح لي طاقة من قبره وهو يسمعني.
ثم نمت فرأيته في تلك الليلة وكانت ليلة عرفة فقلت له: يا سيدي وقفت على الكتاب الواصل من الشام؟ فأجابني بقوله: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} الآية -يرددها ثلاثاً.
ثم قلت له: يا سيدي ابنك قرأ المحرر ومختصر ابن الحاجب، وعدّد له محفوظاتي التي قرأتها بعده، ولم يذكر له المنهاج لأني قرأته في حياته، وجرى عليه كيت وكيت فقال في جوابه:{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} (1) الآية التي في الحج.
وقد جرى ذلك في السنة الداخلة وهي سنة أربع وعشرين، حصل لنا النصر من قبل الله والكتاب طويل فيه أمور، وهو عندنا بخط الشيخ نجم الدين -رحمه الله تعالى-.
ولو شرعت أُعدد ما وقع له رحمه الله من الكرامات قبل موته وبعده لطال الفصل ولخرجنا عما نحن فيه، وترجمته تحتمل مجلداً إذا استقصيت.
(1) سورة الحج، الآية:60.