الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معهم بل يستحي كثير منا أن ينسب بالتلمذة لمن كان خاملا، ويكون جل انتفاعه بذلك الخامل، فيعدل عن الانتساب إليه إلى من هو مشهور عند الظلمة .. ويرحم الله المشارقة ما أكثر اعتناءهم بمشائخهم وبالصالحين منهم خصوصا) (1).
وهذه الأمور (الحكام، وأحوال العصر، وموقف الناس من العلماء الصالحين) مجتمعة ومتفرقة هي التي جعلت عددا من علماء الجزائر خلال القرن التاسع يهاجرون منها. ويكفي أن نلقي نظرة على تراجم بعضهم في كتب التراجم مثل (الضوء اللامع) للحاوي و (نيل الابتهاج) للتنبكتي و (البستان) لابن مريم و (انباء الغمر) لابن حجر لندرك مدى الخسارة التي منيت بها الثقافة الإسلامية في الجزائر بهجرة العلماء.
التاريخ والسير
ترك الجزائريون أعمالا هامة في التاريخ والتراجم والسير خلال القرن التاسع (15 م) بعضها ما يزال مرجعا إلى اليوم. حقا إن جل هذه الأعمال كان مرتبطا باسم سلطان من السلاطين أو دولة من الدول المحلية غير أن الجهد العلمي بقي محتفظا بقيمته رغم مرور القرون عليه. ومما نلاحظ أن بعض هذه الأعمال قد كتبه علماء تغلب عليهم تخصص آخر غير التاريخ، مثل التنسي الذي اشتهر بدراسته الحديث والفقه والأدب، ومثل ابن القنفذ الذي تغلبت عليه العلوم كالحساب والأسطرلاب والفلك، ومثل الثعالبي
(1) ابن مريم، 7 ويعني السنوسي (بالخامل) العالم الصالح الذي اعتزل عن الشهرة ولم يتقرب للسلطان، وهو المعنى الذي يوضحه في حديثه عن الشرقيين. فلهذا لا يهتم أهل تلمسان (وهو يعني الجزائر لذكره المغرب من قبل) بالعلماء الصالحين بل بأصحاب الشهرة لدى السلاطين. وهي ظاهرة ما تزال موجودة إلى الآن. فالجزائري اليوم يحترم الموظف في الدولة أكثر من احترامه لأي مثقف مستقل مهما بلغت قيمته. ونفس المقولة نقلها عن السنوسي أيضا محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) 2/ 99. نسخة باريس.
الذي عرف بالزهد وعلوم الدين، ومع ذلك فإن آثار هؤلاء التاريخية ما تزال تحتفظ بقيمتها، كما سنرى.
ورغم قرب العهد بابن خلدون وملاحظاته النافذة على المجتمع السياسي والاقتصادي لعصره فإن مدرسته لم تجد صدى بين كتاب التاريخ في جيل القرن التاسع. حقا إن محمد بن الأزرق قد تأثر به كثيرا في كتابه (بدائع السلك) ونقل عنه الفقرات الطويلة، ولكننا لا ندري ما إذا كان ابن الأزرق الأندلسي الموطن، قد أثر هو في جيله أثناء إقامته بتلمسان. فنحن لا نجد آراءه ولا آراء أستاذه ابن خلدون قد تسربت إلى كتاب التنسي وأمثاله من مؤرخي القرن التاسع (1).
1 -
ولكن الذي يلفت النظر هو أن الجزائر لم تلد مؤرخا كبيرا كابن خلدون الذي طرح في القرن الثامن أبرز النظريات في العلوم الاجتماعية التي عرفها المسلمون. وبينما كان ابن خلدون يكتب مقدمته المشهورة كان أخوه يحيى يكتب (بغية الرواد)(2) الذي خصصه لتاريخ وآثار دولة بني عبد الواد. وكان أحد الجزائريين المجهولين يكتب تاريخا سماه (زهر البستان)(3).
(1) عن ابن الأزرق انظر مقالتي (رحلتي إلى المغرب) الثقافة، 1973، عدد 18 وأحمد المقري (أزهار الرياض) و (دوحة الناشر) لابن عسكر 213 (الترجمة الفرنسية). و (بدائع السلك) تحقيق محمد بن عبد الكريم، 1977.
(2)
ليس من غرضنا هنا التعريف بهذه الكتب لأنها خارج العصر الذي اخترناه لكتابنا. وقد نشر (بغية الرواد) ألفريد بيل سنة 1904. وبلغني أن عبد الحميد حاجيات يقوم بتحقيقه.
(3)
أثناء جمعي لمواد هذا الكتاب عثرت في (فهرس مخطوطات مكتبة ريلاندر) ببريطانيا على اسم هذا الكتاب الذي نسبه المفهرس إلى حبيب بن يخلف وجعل تاريخه حوالي 796 هـ ووضعه تحت رقم 283 ولما كنت أعرف اهتمام زميلي عبد الحميد حاجيات بتاريخ تلمسان ومتيقنا أن هذا الكتاب يقع خارج خطتي أشرت به إليه فسر بذلك واستجلبه من بريطانيا عن طريق مكتبة الجامعة. وقد بلغني أنه يعمل الآن على تحقيق الجزء الموجود منه وهو الثاني. انظر أيضا محمود بوعياد الثقافة عدد 13، 1973.
أما محمد بن مرزوق (الجد) فقد اهتم بوضع سيرة الأمير أبي الحسن علي المريني وسمى كتابه (المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن). وقد برر اختياره له بكونه قد أكرمه ودافع عن الإسلام والعلم، وبكونه يعرف أشياء كثيرة عن الأمير فأراد أن يسجلها في الدفاتر. وقسم كتابه إلى مقدمة وأبواب وخاتمة وجعل المقدمة في الخلافة ورأى العلماء فيها وفي فضلها ووجوب طاعة السلطان وتفضيل الحكام على المفتيين والأئمة (وهو رأي غريب وخطير). وخصص بابا كاملا لنسب بني مرين وتحدث أيضا عن تربية الأمير المذكور وخصاله وسلاحه وطعامه. وأفاض في الأبواب الأخيرة الحديث عن إقامة العدل وتقاليد ليلة المولد النبوي الشريف ورعاية الأمير لأهل الله، وعن كرمه وما كان يؤثر من العلوم، وعن وزرائه وجلسائه، وعن مآثره من المدارس والمستشفيات والقناطر وعن ثناء الناس على هذا الأمير. وجعل الخاتمة في اتصاله هو بالأمير وفي أفضاله عليه (1).
وإذا كان ابن مرزوق قد جعل بطله هو الأمير أبو الحسن المريني فإن عمر بن أحمد الجزائري الراشدي قد جعل بطله أحد رجال الزهد والتصوف وهو أحمد بن عروس. وسمى تأليفه (ابتسام العروس في التعريف بالشيخ أحمد بن عروس)(2). وكان عمر الراشدي بذلك قد أضاف لبنة جديدة في التركيز على تيار التصوف الذي أخذ يضرب أطنابه في المغرب العربي. ونحن نذكر كتابه هنا لأنه مساهمة منه في باب التراجم والتاريخ الذي نحن بصدده.
(1) الخزانة العامة بالرباط، ف 111 وهو في 348 ص. وقد توسعت في الحديث عنه رغم كونه خارج القرن التاسع لأنه غير معروف حسب علمي. عن هذا الكتاب انظر بروفنصال (هسبريس) 5، 1925. 821. وعن ترجمة بن مرزوق الجد (الذي توفي سنة 782) انظر الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 394 وفي نفس الوقت (القرن الثامن) اشتهر أحمد بن أبي حجلة التلمساني بتآليفه في التاريخ والأدب. وهو ما يزال في حاجة إلى عناية علماء المشرق والمغرب معا.
(2)
توفي ابن عروس في 8 صفر 888 وتوجد عدة نسخ من كتاب الراشدي عنه، منها واحدة في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 1872 (قسم يهودا).
2 -
ومن قسنطينة عالج التاريخ عالمان: حسن بن أبي القاسم بن باديس وأحمد بن الخطيب المعروف بابن القنفذ. وقد وجد ابن باديس (كتاب السير) لأحمد بن فارس الرازي مختصرا فقرر أن يشرحه بشرح سماه (فرائد الدرر وفوائد الفكر في شرح المختصر) ولكنه توفي سنة 787 قبل أن يكمله. وقد تناول في شرحه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ الصحابة، وقسمه إلى مسائل تناول في كل مسألة موضوعا من مختاراته (1) وإذا كان ابن باديس مقلا في آثاره التاريخية فإن ابن القنفذ كان مكثرا. فقد تناول في كتاباته موضوعات محلية (أو وطنية بلغة اليوم) وليست عامة (أو إسلامية) كما فعل زميله ابن باديس. وهناك أعمال كثيرة ألفها ابن القنفذ في التاريخ والتراجم والرحلات والأنساب. ومن ذلك (الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية) و (الوفيات) و (أنس الفقير وعز الحقير) و (تحفة الوارد في النسب من قبل الوالد) و (طبقات علماء قسنطينة)، و (المسافة السنية في الرحلة العبدرية) وغيره (2).
والظاهر أن ابن القنفذ لم يؤلف (الفارسية) طمعا في مال أو حظوة ولكنه ألفه لأسباب أخرى. فالسلطان عبد العزيز الحفصي، المكني بأبي فارس، كان من مواليد قسنطينة (كما كان والده السلطان أحمد المكني بأبي العباس). فكانت هذه الحقيقة كافية في دفع ابن القنفذ إلى إهداء كتابه إلى السلطان (القسنطيني) الذي كان يحكم من حاضرة تونس. وبالإضافة إلى
(1) عنه انظر (وفيات) ابن القنفذ، وهو أستاذه وله ترجمة في وفيات الأعيان ورحلة العبدري وكفاية المحتاج. وقد بلغ في شرحه 165 ورقة.
(2)
لابن القنفذ (برنامج) ذكر فيه شيوخه ومؤلفاته أيضا في (الوفيات) التي نشرها هنري بيريز، مصر 1939 وسرد مؤلفاته أيضا ابن مريم في (البستان) 808 - 309، كما ذكرها ناشرا (الفارسية) تونس 1968، وبناء على كل ذلك فإن مؤلفاته تنيف على الثلاثين كتابا. وقد اطلعت على بعضها مطبوعة ومخطوطة. وتوفي ابن القنفذ سنة 810 (حسب أشهر الروايات). انظر عنه أيضا ابن القاضي (جذوة الاقتباس) ط حجرية، المغرب 1891، 81.
ذلك فإن ابن القنفذ كان في خدمة الدولة الحفصية (وكان والده في خدمتها أيضا) كما كان جده لأمه. ولعله شعر أن واجب الخدمة يقتضيه أن يكون معترفا بالجميل وقد يكون أراد بتأليفه وإظهار مكانة قسنطينة فيه، تبرئة مواطنيه من تهمة الثورة ضد السلطان أبي فارس. فقد قامت ثورة في قسنطينة ضد هذا السلطان وخشي ابن القنفذ أن يكون لغضب السلطان على أهلها نتائج سيئة فألف كتابه لا اعتذارا عما وقع ولكن إبرازا لمكانة قسنطينة وأهلها في خدمة الدولة الحفصية ومكانة أسرته هو خاصة في ذلك. ومع ذلك فقد يكون الغرض الشخصي وراء تأليف هذا الكتاب. ذلك أن ابن القنفذ كان قاضيا وقد عزله حاكم قسنطينة الذي لم يكن يرتاح إليه. ولكن السلطان قد أعاده إلى وظيفته فكانت (الفارسية) عبارة عن تحية عرفان وعربون ولاء (1). والنسخة المطبوعة من (الفارسية) تقع في حوالي مائة صفحة. وقد بدأهبمؤسس الدولة الحفصية ثم وصل إلى أبي فارس. وهو ينتقل من موضوع إلى آخر بالحديث عن ولاية كل أمير من أمراء هذه الدولة. وهو يلصق باسم كثير منهم عبارة (المجاهد) أو (المقدس) أو هما معا. وبعد أن يذكر سنة تولية الأمير يعرض الأهم من الأحداث التي جرت في عهده فيذكر مآثره وحروبه وخصومه وانتصاراته بشيء من الافتخار والزهو وأوصاف المدح والتمجيد. ومن بين ما يذكره ابن القنفذ وفيات العلماء ونحوهم في عهد الأمير المدروس. ورغم (عقلنة) ابن القنفذ المؤلف في الحساب والفلك ونحوهما فإنه يتحدث عن الأولياء وبعض الكرامات بشيء من البساطة والسذاجة مما يدل على أن فكرة التصوف السلبي والخرافي قد انتشرت في عهده. ولا غرابة في ذلك ما دام جده لأمه كان أيضا صاحب زاوية في قسنطينة.
وقد خصص ابن القنفذ كتابه (أنس الفقير وعز الحقير) لترجمة أبي
(1) انظر (الفارسية) 26، 93. وقد كان ابن القنفذ لأمه هو صاحب الزاوية المعروفة باسمه في قسنطينة (الزاوية الملارية).
مدين (شعيب بن الحسن) دفين تلمسان وبعض أصحابه ومعاصريه. وبذلك يكون هذا الكتاب نوعا من التراجم لعدد من رجال القرون الثلاثة السابقة لحياة المؤلف. ومن الذين تحدث عنهم بالإضافة إلى أبي مدين، الذي أطال في ترجمته، يحيى بن أبي علي الزواوي البجائي ومحمد الصفار الذي كان معلما لأخوات المؤلف في قسنطينة. وقد ذكر ابن القنفذ أن بعض أصدقائه وإخوانه في الدين في قسنطينة قد طلبوا منه سنة 787 أن يكتب لهم طرفا عن حياة أبي مدين ويسجل لهم شيئا من كلامه فاستجاب لهم وكتب عن (هذا الشيخ والتعريف (به) وما وصل إلي من خبره ومناسبته مع مناسبة جلبتها هنا قاصدا بذلك سبيل الاختصار على العادة في ذكر الأمثال وسميت هذا التقييد أنس الفقير وعز الحقير) (1).
وبذلك يتضح لنا شيئان: الأول أن الكتاب يكاد يكون حديثا عن أبي مدين وفي ذلك دلالة واضحة على اهتمام ابن القنفذ بالصلاح والولاية والتصوف. الثاني أن المؤلف قد أطلق على كتابه عبارة (تقييد) للدلالة على الاختصار. فهو لم يخطط لكتاب كبير ولكنه قصد التعريف بهؤلاء الرجال مع ذكر أخبارهم ووفياتهم، وأحيانا ولاداتهم. فالكتاب كله يقع في 78 صفحة، وهو يذكر فيه أن والده كان من تلاميذ أبي مدين وأنه كان قد نشر العلم والطريقة في قسنطينة وأنه كان مؤلفا وحاجا. ومن ثمة يتضح أن ابن القنفذ كان على صلة (بالطرقية) سواء من جهة والده أو من جهة جده لأمه الشيخ الملاري. فلا غرابة إذن أن نجده يعتني بسيرة أبي مدين (الغوث).
أما (الوفيات) فقد ألفه ابن القنفذ بطريقة غريبة ذلك أن اهتمامه بعلوم الحديث ورجاله هو الذي أدى به إلى العناية بتسجيل وفيات علماء الحديث. فقد كتب شرحا لقصيدة (غرامي صحيح) سماه (شرف الطالب في أسنى المطالب) وجعله مقدمة لفهم القصيدة المذكورة ووسيلة لفهم أنواع علوم
(1) مخطوط في مجموع ك 2305 الخزانة العامة بالرباط. ويوجد نسخة أخرى منه. ك 2666 وهي مستقلة. وفي المكتبة الملكية بالمغرب نسخ كثيرة منه. انظر أيضا ابن سودة (دليل مؤرخ المغرب) ط 1/ 214. وقد نشر هذا الكتاب محمد الفاسي.
الحديث. ولما كان أهل الحديث قد حافظوا كثيرا على وفيات الصحابة والمحدثين فإن ابن القنفذ رأى أن يذكر في كتابه ما حضره من ذلك ويضيف إليه وفيات العلماء والمحدثين والمؤلفين. وقد رتب هذا السجل على المئين من السنين قائلا إن أحدا لم يسبقه إلى هذه الطريقة. وبذلك يكون (الوفيات) الذي طبع منفصلا، كالذيل لكتابه (شرف الطالب). وقد ابتدأ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أي المائة الأولى ووصل فيه إلى المائة التاسعة. وآخر من ترجم له فيه هو محمد بن عبد الرحمن المراكشي (من أهل بلدنا ببونة) المتوفي سنة 807.
ويجد الباحث كثيرا من الأخبار في هذا الكتاب عن أسرة ابن القنفذ وعن حياة المؤلف نفسه الذي يظهر عليه الاعتزاز ببلاده وبرجالها، فكثيرا ما يذكر عبارة (بلادنا) أو (بلدنا) في الحديث عن عالم أو مسجد أو نحو ذلك. ويعتبر (الوفيات)، على غرابته واختصاره، من الكتب المفيدة التي يعود إليها الباحثون عن أخبار رجال بجاية وقسنطينة وتلمسان وكذلك أخبار علماء المغرب والأندلس وتونس وغيرهم (1).
ويتضح مما سبق أن كتب ابن القنفذ في التاريخ كلها صغيرة الحجم وتقع في شكل تقييد أو تذييل أو اختصار لكتاب مطول أو نحو ذلك. ولعل أكبر كتاب يذكر في ترجمته هو شرحه للرسالة الذي قيل إنه يقع في (أسفار)
(1) ولابن القنفذ كتاب آخر عرفنا وجوده ولكننا لم نطلع عليه وهو (تحفة الوارد في النسب من قبل الوالد) وتوجد منه نسخة مصورة في الخزانة العامة بالرباط وأخرى في مكتبة المخطوطات المصورة بالجامعة العربية. ولعل نسخة كاملة منه توجد في مكتبة الشيخ عباس بن إبراهيم بمراكش مؤلف كتاب (الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الإعلام). وقد قيل عنه أنه كتاب غريب في بابه. كما أننا لم نطلع على كتاب ابن القنفذ الآخر (المسافة السنية إلى الرحلة العبدرية). وعن ابن القنفذ انظر أيضا (البستان) لابن مريم 309 ومحمد بن أبي شنب (هسبريس) 8، 1928، 37، والقادري (نشر المثاني) 1/ 9 وقد أخبر القادري أنه قلد ابن القنفذ في كتابه عن حياة العلماء، وينسب بعضهم لابن القنفذ رحلة ضائعة نقل منها أحمد بابا. انظر بروكلمان (تاريخ) 2/ 616 وكذلك ابن زيدان (إتحاف أعلام الناس) 1/ 310، 349.
فإذا حكمنا من ضخامة العمل على هوية صاحبه فإننا نصل إلى أن ابن القنفذ كان فقيها أكثر منه مؤرخا. وقد عرفنا أيضا أنه تولى القضاء فترة طويلة. وله كذلك مؤلفات أخرى في الفقه وفروعه. غير أن جهود ابن القنفذ في ميدان العلوم العملية تجعله أيضا من كبار العلماء العقليين في القرنين الثامن والتاسع. وتذكرنا طاقة ابن القنفذ العملية بطاقة أبي رأس المعسكري في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة. فكلاهما كان موسوعيا في عصره. ولعل (الحس التاريخي) كان أقوى لدى الأخير منه لدى الأول.
3 -
وهناك عالمان آخران عرفا بالاهتمام بالتاريخ رغم شهرتهما في علوم أخرى. وقد ترك كل منهما عملا يشهد له بالمهارة في فرع التراجم خاصة، وهما ابن مزني البسكري وابن مرزوق الحفيد.
فأبو زيان ناصر بن مزني البسكري الذي يعود إلى أسرة عريقة حكمت منطقة الزاب مدة (إمارة بني مزني التي قضى عليها الحفصيون) كان قد شرع في وضع موسوعة تاريخية كبيرة تتضمن الأحداث وأخبار الرواة وما يتصل بذلك، ولكن فقدان بصره عاقه عن تبييضها وإكمالها. ويقول عنه ابن حجر إنه كان (لهجا بالتاريخ وأخبار الرواة، جماعة لذلك، ضابطا له، مكثرا منه جدا وأراد تبييض كتاب واسع في ذلك فأعجلته المنية)(1). ويبدو أن ابن مزني كان سيؤلف كتابا على غرار تاريخ ابن خلدون الذي كان صديقا لآبائه (أمراء بني مزني) والذي كان قد ساعده على استقراره بالقاهرة بعد أن قضى الحفصيون على إمارتهم ونكب ابن مزني في ماله وثروته. وقد خسرت الجزائر بانتقال ابن مزني إلى المشرق عالما كبيرا كان من الممكن أن يكون في مستوى أستاذه وصديقيه ابن خلدون وابن حجر. ومن الأسف أننا لا ندري الآن كم جزءا قد انتهى منه تسويدا ولا مانع المادة التي قد جمعها لكتابه ولا الطريقة التي سلكها فيه. والكتاب في حكم الضائع.
(1) ابن حجر (إنباء الغمر) 3/ 235، وقد توفي ابن مزني بالقاهرة سنة 824 بعد أن عاش فيها عشرين سنة ولما يبلغ الكهولة.
أما ابن مرزوق الحفيد فقد ألف كتابا صغير الحجم (في نحو كراسة) ترجم فيه للشيخ إبراهيم بن موسى الصنهاجي المصمودي وعدد مناقبه وأشاد به. ونحن لم نطلع على هذا الكتاب الذي ربما يكون أيضا في حكم المفقود (1). ولابن مرزوق أيضا كتاب آخر يدخل في باب السيرة النبوية وهو شرحه المطول على بردة البوصيري الذي سماه (إظهار صدق المودة في شرح قصيدة البردة)(2) ولطول هذا الشرح قام تلميذ تلميذه، عبد الرحمن بن علي بن عبد الله البجائي (3) باختصاره في جزئين أي نحو ثلثي الأصل وقد سمى البجائي كتابه مرة (اختصار صدق المودة في شرح البردة) ومرة (مسارح الأنظار ومنتزه الأفكار في حدائق الأزهار). وإذا كانت التسمية الأولى أوضع وأدل على الموضوع فإن للثانية حرارتها وهي أن المختصر قد رجع إلى حوالي مائة وأربعين تأليفا انتقى منها الفوائد التي ضمنها مختصره، ومن ذلك 650 بيتا من الشعر و 700 مرة من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم (ومسائل علمية وقضايا عينية وجمل من أخبار الملوك السالفة) بالإضافة إلى مسائل تخص أهل بيت النبوة. وقد اتبع البجائي في شرحه منهج ابن مرزوق فكان يشرح غريب اللغة ويفسر المعنى المقصود ويوضح معاني خواص الكلام المستعمل ويبين وجوه التراكيب والحقيقة والمجاز ويذكر ألوان البديع
(1) ذكره ابن سودة في (دليل مؤرخ المغرب)، 220 نقلا عن (نيل الابتهاج). وقد توفي ابن مرزوق سنة 842 أما المترجم له - إبراهيم المصمودي - فقد كان تلمسانيا وتوفي بها سنة 805 فهو إذن من أساتذة المؤلف، وله ترجمة في كتاب (النجم الثاقب) لابن صعد. انظر عن المصمودي أيضا ابن زيدان (إتحاف أعلام الناس) 1/ 262.
(2)
منه نسخة في المكتبة البلدية بالإسكندرية رقم 673 د. وأخرى في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 39 (قسم يهودا). ومنه عدة نسخ في المغرب.
(3)
يقول البجائي عن ابن مرزوق (شيخ شيوخنا) والبجائي هو تلميذ عبد الرحمن الثعالبي الذي هو بدوره تلميذ ابن مرزوق. وقد انتهى ابن مرزوق من كتابه (إظهار صدق المودة) سنة 810. وأما البجائي فقد انتهى من اختصاره سنة 889، ولابن مرزوق الحفيد تآليف أخرى هامة منها (عجالة المستوفز) في التراجم و (المنزع النبيل) في الفقه الخ.
ومحاسن الألفاظ والمعاني ويأتي على الإعراب ويلم بالإشارات الصوفية ويشير إلى مقصد الناظم. ومهما كان الأمر فإن العملين: عمل ابن مرزوق وعمل عبد الرحمن البجائي، يعتبران مساهمة هامة في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية (1).
4 -
وقد أسهم عبد الرحمن الثعالبي أيضا في السيرة والتاريخ رغم أن شهرته تكاد تكون مقتصرة على العلوم الشرعية والزهديات. ففي كتاب (الأنوار في آيات النبي المختار) تحدث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعن غزواته وسير الصحابة وغزواتهم وأوصافهم. وهو يخبرنا أنه قد حذا في ترتيب كتابه حذو ابن إسحاق في المغازي. وقد احتوى (الأنوار) على نبذة مختارة في شرف الرسول وما جاء في حقه من أخبار عن الأخيار والقساوسة والرهبان وعلماء أهل الكتاب وما وجده في أشعار الموحدين الأولين مثل كعب بن لؤي وقس بن ساعدة وما روي عن سيف بن ذي يزن وما تناقلته علماء اليهود وما جاء في التوراة والإنجيل ونحو ذلك. وقد قسم الثعالبي كتابه إلى أبواب وفصول، وهو كتاب ضخم يقع في مائتين وثمان وسبعين ورقة من الحجم الكبير (2). وكان الثعالبي متمرسا على التأليف ولذلك كانت خطته أكثر علمية من خطط بعض معاصريه.
وهناك كتاب آخر للثعالبي يدخل في كتب التراجم، وهو الذي يعرف أحيانا باسم (جامع الهمم في أخبار الأمم)(3). ولكننا أطلعنا على كتاب للثعالبي يحمل اسم (الجامع) فقط، وهو عبارة عن تذييل لكتاب آخر كان قد شرح به ابن الحاجب. وقد افتتح الناسخ النسخة التي اطلعنا عليها بهذه العبارة (لما يسر الله عليه ذلك ..) والذي جعلنا نذكر كتاب الجاح في هذا
(1) المكتبة الملكية بالرباط رقم 2466 و 1767. انظر أيضا المكتبة الزيدانية، الرباط رقم 1776.
(2)
اطلعنا على نسخة منه تعود إلى سنة 1125 وهي في الخزانة العامة بالرباط رقم د 583.
(3)
هكذا نسبه إليه ابن المفتي الذي سنتحدث عنه في الجزء الثاني. انظر أيضا نور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر)، الجزائر 1964، 278.
الباب هو أن الثعالبي قد عدد فيه، بعد أن ذكر كثيرا من كلام ابن شاس وغيره، ومناقب الإمام مالك ومناقب أصحابه، ثم تخلص إلى بعض شيوخه (الثعالبي). وبعد ذلك أخذ في تقييد (جمل وجواهر ونفائس) اختارها من كتب كثيرة طالعها. ذلك أنه كان كلما قرأ كتابا نفيسا سجل ما انتقى منه وتحرى في ذلك فاجتمعت له (جملة صالحة في أنوا وفنون من العلوم الكثيرة) وجعل أبواب وفصول الكتاب (روضات وبساتين هي غنيمة للعارفين) وقد عدد فيه كثيرا من كرامات أصحاب الإمام مالك ونماذج من الأذكار والأدعية. وبذلك يتضح أن إطار الكتاب تراجم ومناقب وتواريخ ولكن لا تخرج عما يسميه الثعالبي (بغنيمة ذوي الألباب) وهي التزود للآخرة والعمل بالزهد والتصوف واتباع جملة من الأدعية والأذكار (1).
5 -
ولكن المؤرخ الذي فرض اسمه على تراث القرن التاسع هو محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي. وشهرة التنسي تعود إلى موضوعه أكثر مما تعود إلى عمله وطريقته. وموضوعه هو التاريخ لبني زيان الذين تداولوا الحكم على تلمسان وأرسوا بها قواعد دولة تركت كثيرا من المآثر. وقد أطلق التنسي على كتابه اسم (نظم الدر والعقيان في شرف بني زيان وذكر ملوكهم الأعيان ومن ملك من أسلافهم فيما مضى من الزمان) وتوجد منه نسخ كثيرة وخصوصا في الجزائر والمغرب وتونس وباريس وفيينا. ولأهمية موضوعه تناوله عدد من الباحثين بالترجمة والتعريف والنشر والتحقيق، ومن الذين ترجموا أو عرفوا بصاحبه برجيس (2) وليفي بروفنصال (3) وشيربونو (4)
(1) اطلعنا على نسخة المكتبة الملكية بالرباط رقم 8155. وليس فيها إشارة إلى كون الكتاب هو (جامع الهمم في أخبار الأمم) كما أشار بعضهم. ولعل هذا هو اسم لكتاب آخر له، أو لعل بعضهم اختار له هذا العنوان لكون كلمة (الجامع) ترد في المقدمة ولكن محتوى الكتاب هو عبارة عن مختارات من قراءة الثعالبي في علوم شتى. والمقارنة بين الكتابين (الجامعين) ستحل الإشكال.
(2)
(تاريخ بني زيان ملوك تلمسان) للتنسي، باريس، 1852.
(3)
(موسوعة الإسلام) 4/ 681.
(4)
ملاحظات على كتاب محمد التنسي تاريخ بني زيان في (المجلة الإفريقية) 1856، 212.
من الفرنسيين وأبو القاسم الحفناوي وعبد الرحمن الجيلالي ومحمود بوعياد من الجزائريين.
ولد التنسي بمدينة تنس، ولكن لا يعرف تاريخ ميلاده بالضبط، ثم انتقل إلى تلمسان عاصمة الجزائر الغربية في عهده فدرس على علمائها، ومنهم قاسم العقباني وابن مرزوق الحفيد ومحمد بن العباس (1). وبعد أن نبغ هو بدوره في علوم عصره، وخاصة منها رواية الحديث والأدب والتواريخ ساهم في حركة التأليف والتدريس. وقد تخرج على يديه تلاميذ كثيرون، لاسيما في رواية الحديث، كما قلنا، حتى أصبح يلقب (بالحافظ). أما تآليفه فليست كثيرة إذ لا يزيد المعروف على ثلاثة، منها كتابه المذكور، وهو الذي اكتسب به الشهرة، ثم كتابه (راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح) وكتاب (الطراز على الخراز) وهو في رسم المصحف. وللتنسي إجابة طويلة على مسألة يهود توات التي سأله عنها المغيلي، كما سبق أن أشرنا. ويبدو أن (راح الأرواح) يعتبر كتابا مفقودا الآن، لأنه يذكر في ترجمة المؤلف، ولم يدل أحد على وجوده حسبما نعرف. أما (الطراز) فتوجد منه نسخ كثيرة.
وإذا حكمنا من محتوى (نظم الدر) ومن عنوان (راح الأرواح) فإن التنسي كان من عشاق الأدب، وخاصة الشعر ومن المولعين بتدوينه. فكتابه الأخير، كما يدل عنوانه، كان يضم شعر السلطان أبي حمو والمدائح التي قيلت فيه وما خطر ببال المؤلف من النكت والأمثال والطرائف. فكان من الموضوعات التي تقدم إلى مجالس السلاطين للتسلية والترفيه والظرف وللدلالة على الذكاء والحفظ.
أما الكتاب الذي نحن بصدد التعريف به فهو (نظم الدر) وهو أيضا موسوعة أدب أقحم فيها التاريخ إقحاما. فقد بدأه بمقدمة مسجعة في شكل
(1) من الذين حضروا دروسه عبد الباسط بن خليل سنة 869 وقد قال إنه كان في نحو ثمانين سنة أو يزيد. وكان ابن العباس عندئذ هو خطيب جامع العباد بتلمسان. انظر رحلة عبد الباسط بن خليل.
مدح وأهداه إلى السلطان الحاكم عندئذ، وهو أبو عبد الله بن أبي تاشفين (1) بن أبي حمو الزياني. وقد عبر فيها التنسي عن شرف بني زيان بالربط بين نسلهم ونسل الإمام علي رضي الله عنه والسيدة فاطمة الزهراء. فالكتاب إذن ألف على شرف السلطان المذكور ومن خلاله تحدث عن شرف بني زيان عامة وذكر أنسابهم وأحسابهم. وقد قسم الكتاب إلى خمسة أقسام كبيرة وجعل لكل منها أبوابا. ففي القسم الأول سبعة أبواب، والثاني ثلاثة أبواب، والثالث ثلاثة عشر بابا، وفي الرابع ثمانية أبواب، وفي الخامس خمسة أبواب. والباب السابع من القسم الأول هو الذي جعل عنوانه (في شرف بني زيان). أما باقي الكتاب فموضوعه في الأدب والظرف وكيفية الحكم ونحو ذلك. كما أنه أضاف حتى إلى القسم التاريخي فصولا في الأدب شعره ونثره. ومهما يكن من الأمر فإن التنسي قد انتهى من بني زيان في القسم الأول من كتابه. أما القسم الثاني فقد تناول فيه شروط الإمارة وسلوك الملوك وفضائلهم وعدلهم. وضمن القسم الثالث حكايات وقصصا وأخبارا مختلفة عن الأمم الماضية. وجعل القسم الرابع في بيان محاسن اللغة العربية شعرا ونثرا. أما القسم الأخير فقد جعله عبارة عن مقالة في الأخلاق والفلسفة. وقد انتهى كتابه بخاتمة عن أصل العرب كما أورد فيها سبع قصائد للسلطان أبي حمو الزياني (2).
ومن الواضح أن هدف التنسي من كتابه هو التقرب من الأمير ابن تاشفين بإظهار مكانة بني زيان في التاريخ وفي النسب والآثار. ولذلك مدح
(1) وهو يعرف أيضا بمحمد المتوكل وقد حكم من 866 إلى 873.
(2)
انظر بهذا الموضوع مقالة شيربونو (المجلة الإفريقية) 1856، 212، وقد أعجب الكاتب بالتنسي لأنه كتب في عصر ساد فيه الحكم المطلق، وقال إن فكرته الرئيسية تتمثل في إظهار ما امتازت به العبقرية العربية عن سواها، وإنه لم يقرأ أجمل من القسم الرابع من الكتاب منذ تأليف دي ساسي عن بلاغة المسلمين. انظر كذلك رسالة محمود بوعياد لدكتوراه الدور الثالث من كلية الآداب جامعة الجزائر، وهي عن الباب السابع من القسم الأول (أي الخاص بتاريخ بني زيان). وقد توفي التنسي في تلمسان سنة 899.
الأمير وبرهن على شرف أسلافه وأبرز مدى مساهمتهم في الحضارة ونفوذ دولتهم، مبتدئا بتاريخ إنشائها ومنتهيا بالأمير الممدوح. ولكن إذا كان هذا هو هدف التنسي، فلماذا ضخم كتابه بأقسام وأبواب هي أبعد ما تكون عن بني زيان؟ ولماذا جعل عنوان كتابه (في شرف بني زيان) بينما لا يشغل الباب الذي خصصه لهذا الغرض إلا جزءا ضئيلا من مجموع الكتاب؟ إننا لا نجد تفسيرا لذلك سوى ميول التنسي الأدبية وكونه أراد أن يقدم للأمير كتابا موسوعيا، على عادتهم عندئذ، يجمع شيئا من كل شيء على غرار ما فعل
بعض القدماء مع ممدوحيهم وأولياء نعمتهم.
ولعل من المناسب أن نذكر أن القرن التاسع قد افتتحه ابن القنفذ بكتابه (الفارسية) وختمه التنسي بكتابه (نظم الدر) فكان الأول في شرق الجزائر وأهدى كتابه إلى أبي فارس الحفصي، والثاني في غربها وأهدى كتابه إلى محمد المتوكل الزياني. فكان ابن القنفذ مؤرخ الدولة الحفصية وكان التنسي مؤرخ الدولة الزيانية، وكلا الدولتين لم تكن في أوج قوة ولم يكن أميرهاأقوى سلطان ولا حكمه أعدل حكم ولا عهده أزهى عهد، ولكن المؤرخين (ابن القنفذ والتنسي) كانا كالشعراء يمدحان للمصلحة الشخصية، فكان دافعهما العاطفة وليس العقل، ولوا كانا صاحبي حكمة وتبصر لاستنكرا أعمال الحكام ولقاوما فساد المجتمع ولنبها إلى الهاوية التي كانت تنحدر إليها الدولتان (1).
6 -
ومن تلاميذ التنسي المنتجين في موضوع التراجم محمد بن أحمد المعروف بابن صعد صاحب كتاب (النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب). وقد توفي ابن صعد بمصر سنة 901 أي بعد أستاذه بحوالي ثلاث سنوات. ويبدو أن ابن صعد كان من أهل الشريعة والحقيقة ومتأثرا بتيار العصر الجارف نحو التصوف والزهد والانعزال والعقيدة في الأولياء والمشيخة. فقد اطلعنا له، بالإضافة إلى كتابه المذكور، على قصيدة في مدح
(1) يمكن أن نعتبر (نظم الدر) للتنسي تكميلا (لزهر البستان) الذي سبقت الإشارة إليه.
الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ، وينسب له كتاب آخر في التراجم وهو (روضة النسرين في مناقب الأربعة المتأخرين) الذي اختصر فيه كتابه (النجم الثاقب) وترجم فيه فقط لمحمد الهواري وإبراهيم التازي والحسن أبركان وأحمد الغماري. وهذه الآثار جميعا تدل على انتمائه إلى نوعين من فروع المعرفة وهما الترجمة والتصوف. وقد ذكر في كتابه (النجم الثاقب) أن سبب تأليفه هو دعوة من السلطان الزياني محمد بن محمد المتوكل له بذلك، ولا ندري إن كان هذا السلطان قد كلفه فقط بوضع كتاب أو أشار عليه بنوع المادة التي اختارها لكتابه أيضا.
والمهم أن ابن صعد قد اعتمد في كتابه (النجم الثاقب) على عدد كبير من المصادر بلغت أكثر من مائة كتاب، وجمع ما شاء الله من أسماء الأولياء الذين رشحهم لكتابه ورتب أسماءهم على حروف المعجم. وقد ترجم لكل منهم في الحرف المناسب له ذاكرا، كما قال، (ما أمكن من وفياتهم وأنبائهم) لأن الكتاب (يضم أعلامهم وينشر مآثرهم وأيامهم). وقد عثرنا على نسخة من هذا الكتاب فإذا هي في سفر ضخم يحتوي على ثمانية أجزاء (2) بعضها موجود وبعضها مفقود وتمكنا من الاطلاع على الأجزاء الأول والثاني والرابع والثامن منه. والكتاب غير مقتصر على أسماء الجزائريين بل هو معجم لأولياء الله المسلمين عامة، مشارقة ومغاربه. ومن الجزائريين الذين وردت أسماؤهم في الأجزاء التي اطلعنا عليها محمد بن حسان التاونتي المعروف بابن الميلي، وسيدي واضح بن عاصم بن سليمان المكناسي (الذي كان من أولياء الله بالبلاد الشلفية)(3)، ومنهم أبو مدين
(1) توجد ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط رقم د 2404 من ص 330 - 332.
(2)
ذكر ابن عسكر في كتابه (دوحة الناشر) أن (النجم الثاقب) لابن صعد يقع في أربعة مجلدات.
(3)
أورد قصة سيدي واضح هذا مع السلطان يغمراس الزياني. فقد جاء السلطان المذكور لزيارة الشيخ في زاويته فتركه ينتظر حتى حرقته الشمس ثم أذن له فدخل عليه وأخبره أنه إنما فعل ذلك ليعرف ما يعانيه المحتاجون بباب الخليفة حين يمنعهم =
شعيب أيضا، وكذلك إبراهيم المصمودي نزيل تلمسان الذي سبقت إليه الإشارة. أما غير الجزائريين فكثيرون ومنهم إبراهيم بن أدهم البلخي (إمام الزهاد)، والقاضي عياض، ومحمد بن الحنفية والباقلاني والطرطوشي والغزالي وإبراهيم الدكالي وسفيان الثوري والتستري. وقد انتهى ابن صعد منه، حسب النسخة التي رأيناها، سنة 891 (1). ولا ندري ما الذي حمله على مغادرة الجزائر إلى القاهرة التي توفي بها. كما لا ندري متى توجه إلى المشرق. فهل كان سوء الأحوال السياسية وراء هذه الرحلة؟ أو أن الوفاة أدركته وهو في طريق الحج؟ ذلك ما لا نستطيع تأكيده الآن.
أما كتابه (روضة النسرين) فإن عنوانه الثاني (في مناقب الأربعة المتأخرين) يثير التساؤل حول علاقته بالكتاب الذي ينسب أيضا إلى محمد بن يوسف السنوسي الذي عنوانه (مناقب الأربعة رجال المتأخرين). ومما يثير الشك هو أن نفس الرجال الذين ترجم لهم السنوسي، (وهو أستاذ ابن صعد) قد ترجم لهم هذا أيضا. فهل اتفق الرجلان حذوك النعل بالنعل أو أن الكتاب في الواقع لمؤلف واحد. وإذا كان الأمر كذلك فمن يا ترى منهما المؤلف؟ إن ابن مريم صاحب (البستان) قد ذكرهما معا في مواضع مختلفة من كتابه. وقد استفاد هو من (روضة النسرين) لا محالة، كما أن عناية ابن صعد بالترجمة لأولياء الله وتعداد مناقبهم قد فتحت لابن مريم بابا واسعا عندما جعل كتابه أيضا (في ذكر الأولياء والعلماء).
ولعل الفرق بين (النجم الثاقب) وبين (البستان) هو أن الأول في أولياء الله عامة، بينما الثاني في أولياء الله بالحزائر وبالخصوص تلمسان. وكان دافع ابن صعد إلى التأليف إشارة السلطان، أما ابن مريم فدافعه طلب أخ كريم ووعظ النفوس لصالح الأعمال في وقت استطار فيه شر الزمان. ومهما كان
= الحجاب من الدخول عليه. وعن سيدي واضح انظر أيضا موسى بن عيسى المازوني (صلحاء الشلف).
(1)
النسخة التي اعتمدنا عليها تعود إلى سنة 1149، وهي بالمكتبة الملكية بالرباط رقم 2491، وهناك نسخة أخرى برقم 2721 لم نطلع عليها.
الأمر فإننا نرجح أن يكون (روضة النسرين) من أعمال ابن صعد وحده وأنه قد نسب خطأ إلى السنوسي. ولعل غيرنا يكشف عن غير هذه الحقيقة.
7 -
ويشترك محمد بن عمر بن إبراهيم الملالي التلمساني مع ابن صعد في الاهتمام بالتراجم ولكن في اتجاه آخر. فقد كتب الملالي سيرة أستاذه محمد بن يوسف السنوسي وأطال في ذلك وسمى عمله (المواهب القدسية في المناقب السنوسية) وهو ترجمة واسعة لحياة أستاذه السنوسي حتى أصبح الكتاب لا غنى عنه ليس فقط لفهم حياة السنوسي (الذي أسف أثناء حياته من إهمال المغاربة لشيوخهم) ولكن لفهم عصر السنوسي أيضا. وقد كثرت نسخ (المواهب القدسية) لأنها كانت متداولة بحكم شهرة السنوسي نفسه وكثرة مؤلفته وتدريسها شرقا وغربا من العالم الإسلامي.
وقد اطلعنا نحن على نسخة منها في تونس وأخرى في المغرب الأقصى فإذا هي عمل ضخم جدير بالاعتبار. ولم يكن ينقص الملالي روح المنهجية العلمية أيضا، فقد قسم كتابه إلى مقدمة وعشرة أبواب فكان الكتاب، بعد المقدمة، على هذا النحو: في التعريف بأشياخ السنوسي، في مكاشفاته وكراماته، في عمله وشمائله وزهده، في تآليفه، في جملة من الآيات فسرها، في جملة من الأحاديث النبوية فسرها أيضا، في تفسيره لكلام أهل الحقيقة، في أوراده وأدعيته، في وفاته، وأخيرا فيما قاله من الشعر وما قيل فيه. وبذلك تنتهي العشرة أبواب التي ضمها كتاب (المواهب القدسية)(1).
وواضح من الكتاب أن اتجاه الملالي كان نحو التصوف. فقد ركز فيه على جانب التصوف عند السنوسي بينما كان السنوسي في الواقع من علماء الظاهر والباطن. وقد انتصر لأهل الحقيقة أو الباطن في رده على أبي الحسن الصغير وحبذ استعمال السبحة والخرقة وغير ذلك من شعارات أهل
(1) اطلعنا على نسخة تونس المكتبة الوطنية، رقم 6253 وهي في 219 ورقة، وهي جيدة الخط وتعود إلى سنة 1045 بخط إبراهيم العجوز، وفي المكتبة الملكية بالرباط ثلاث نسخ، منها واحدة تحمل رقم 7008. انظر أيضا بروكلمان 2/ 352.
التصوف. ومن جهة أخرى جعل الملالي مقدمة الكتاب في دراسة أحوال الأولياء في الدنيا لتنشيط النفوس لسماع ما سيأتي، حسب قوله. وقد أثر السنوسي في معاصريه بدعوته ودفاعه عن أهل التصوف، كما كان تلميذه الملالي نعم الخلف في هذا الاتجاه. فقد أثر الملالي أيضا في الجيل اللاحق أمثال ابن مريم صاحب (البستان) وأحمد العبادي الذي وضع أيضا ترجمة قصيرة للسنوسي، كما سنرى. وكان ابن مريم قد اختصر (المواهب القدسية) في ثلاث كراريس من جملة ست عشرة كراسة. وقد اعتمد الملالي في كتابه على مصادر كثيرة، ولكن أهم مصدر له هو الشيخ نفسه (السنوسي) فقد سمع منه (مهمات المسائل التي أشكلت على كثير من العلماء الأعيان في هذا الزمان (ولكنه أخبر أنه ليس كل ما سمع منه استحضره وقت الكتابة (ولا كل شيء استحضرته يمكن إثباته). ولعل الملالي يشير بهذه العبارة إلى أن هناك أسرارا صوفية كان يعرفها عن السنوسي لم يذكرها كعادة بعضهم في ذلك. وقد قيل إن الملالي قد ألف كتابه سنة 897 أي بعد حوالي سنتين من وفاة السنوسي. ورغم أننا لا نعرف الكثير عن حياة الملالي فالغالب أنه عاش عقدا أو عقدين في القرن العاشر حتى تصح دعوى ابن مريم من أنه كان تلميذا للملالي. ومهما كان الأمر فإن (المواهب القدسية) يعتبر من أهم كتب التراجم الخاصة بأحد العلماء رغم ما فيه من تأثر بالتصوف وإغفال للعوامل السياسية والاقتصادية التي أثرت في شخصية السنوسي.
8 -
وقد ألف عيسى بن سلامة البسكري، الذي كان اهتمامه بالتصوف في الدرجة الأولى، عملا في التاريخ تناول فيه فتح إفريقية من قبل المسلمين (1). ويبدو أنه اختصر ذلك من عمل غيره. غير أن الطريقة لذلك غير واضحة. فقد قال (قصدت فيه إلى اختصار فتح إفريقية ومن دخلها من الصحابة والتابعين). وهذا التعبير قد يدل على أنه ألف موجزا عن تاريخ إفريقية، وقد يدل على أنه اختصر فيه عمل غيره في نفس الموضوع. وعلى
(1) اطلعنا على نسخة منه في مجموع في مكتبة زاوية طولقة (الجزائر)، وهو في 38 ورقة وخطه واضح لكن فيه أخطاء وتشويش.