المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويتضح مما سبق أن عدد المساجد في الجزائر لم يكن - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ١

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: ويتضح مما سبق أن عدد المساجد في الجزائر لم يكن

ويتضح مما سبق أن عدد المساجد في الجزائر لم يكن قليلا. وقد اشترك في تأسيسها الأهالي والعثمانيون على السواء. وكان هؤلاء يهتمون ببناء المساجد بدوافع دينية محضة في أغلب الأحيان كما جعلوها لخدمة المذهب الحنفي، بل إن وظيفة المدرس عندهم كانت لا تخرج عن ذلك أيضا. فمعظم الأوقاف تنص بشأن التعليم على كون المدرس متخصصا في التفسير أو الحديث أو غيرهما من العلوم الشرعية. فكانت الأوقاف تعرف في أغراض دينية كالقيام بشؤون الجامع والخطبة والإمامة والأذان، أو بأمور تعبدية صرفة كقراءة تنبيه الأنام والمحمدية ودلائل الخيرات والتعريف ونحوها. ثم ان الأوقاف لم تسلم من الاختلاس وسوء التصرف سواء من السلطة نفسها أو من الوكلاء. ومع ذلك فإن وجود الأوقاف والمساجد على النحو الذي تحدثنا عنه كان يعطي للجزائر العثمانية طابعا إسلاميا موحدا تلتقي فيه اهتمامات الحكام والمحكومين، بل كان مظهرا من مظاهر الجهاد والإحساس المشترك الذي عالجناه في غير هذا. ولعل هذا الطابع الموحد يتجلى بصورة أكثر وضوحا في العناية ب‌

‌الزوايا والرباطات

والقباب ونحوها من مظاهر خدمة الدين وأهله.

الزوايا والرباطات

1 -

من أبرز ميزات العهد العثماني في الجزائر انتشار الطرق الصوفية وكثرة المباني (الزوايا ونحوها) المخصصة لها. ففي المدن والأرياف، في الجبال الشاهقة والصحارى القاحلة عاش معظم المتصوفة يبثون عقائدهم ويلقنون أتباعهم الأذكار والأوراد مبتعدين عن صخب الحياة الدنيا مؤثرين العزلة والعبادة، وكثيرا ما كانوا يعلمون المريدين والعامة مبادئ الدين أيضا. فإذا اشتهر أحدهم بين الناس أسس له مركزا يستقبل فيه الزوار والغرباء

= وراء قتله. انظر الزهار (مذكرات)64. وهناك عدد من المصادر تتحدث عن سيرته وعهده مثل العنتري وابن المبارك، وفايسات والأنبيري.

ص: 262

والأتباع ويعلم فيه الطلبة. ويتبرع الناس لهذا المركز فيكبر ويثرى ويتضاعف قصاده ومريدوه، ويصبح اسم المتصوف (المرابط) علما على المكان، ويصبح المكان يدعى بين الناس زاوية سيدي فلان أو رباط سيدي فلان. فإذا مات (سيدي فلان) يدفن في الزوايا أو في الرباط، ويصير الضريح علامة على الزاوية، وهذه علامة على الضريح. ويرث الأبناء والأحقاد مكانة وعمل (سيدي فلان) وتزداد قداسة الزاوية أو الرباط بين أهل الناحية وتنتشر سمعتها ونفوذها إلى نواح أخرى بعيدة، وهكذا.

وكانت كل مدينة كبيرة أو صغيرة، محروسة بولي من الأولياء، فهو الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة ومن طمع الطامعين. فهناك صلحاء تلمسان ومدينة الجزائر ومدينة قسنطينة وبجاية والمدية الخ. وقد ذكر ابن مريم كثيرا من صلحاء وأولياء تلمسان، وأضاف محمد بن سليمان قائمة أخرى منهم في كتابه (كعبة الطائفين) الذي لم يكتف بأولياء وصلحاء تلمسان بل شمل صلحاء مدن أخرى. وكتب محمد الموفق المعروف بابن حواء عن صلحاء الشلف في أرجوزته (سبيكة العقيان) وكتب محمد الجوزي عن أولياء أغريس في شرحه على (العقد النفيس)، كما نظم البوني ألفيته (الدرة المصونة في صلحاء بونة)، وغطى الفكون في (منشور الهداية) عددا منهم في الشرق الجزائري، وخصوصا قسنطينة وعنابة، وامتلأت رحلة الورتلاني بعدد كبير من هؤلاء المتصوفة مع ذكر زواياهم ومقاماتهم وكراماتهم والأساطير المنسوجة حولهم.

2 -

فهذه مدينة الجزائر عاصمة الدولة، كانت تعج بالزوايا والأضرحة والقباب المقامة على الأولياء والصالحين. فبالإضافة إلى زاوية وضريح عبد الرحمن الثعالبي وزاوية الولي داده، وزاوية عبد القادر الجيلاني التي ذكرناها، هناك قائمة طويلة أخرى نذكر منها زاوية سيدي محمد الشريف وزاوية سيدي أحمد بن عبد الله الجزائري صاحب (المنظومة الجزائرية)، وسيدي الجودي، وسيدي جمعة، وسيدي الكتاني، وسيدي السعدي،

ص: 263

وسيدي الفاسي، وسيدي أبي التقي، وسيدي يعقوب، وسيدي أيوب، وسيدي بوعنان، وسيدي بوعتيقة الخ. وهناك أيضا (الرجال السبعة)(1). وفي النواحي المجاورة لمدينة الجزائر كانت زاوية القليعة وزاوية المربوسي بالأربعاء وزاويتا النملي وخير الدين ببني موسى، وزاوية عيد بين بوفاريك والدويرة، وزاوية البركاني قرب شرشال الخ.

وفي مدينة قسنطينة ونواحيها قائمة طويلة أخرى بلغت، حسب بعض الإحصاءات، ست عشرة زاوية (2). فهناك زوايا وخلوات سيدي الكتاني، وسيدي المناطقي (3)، وسيدي عبد المؤمن (4)، وسيدي مسيد، وسيدي مخلوف، وسيدي ميمون، وسيدي عفان، وسيدي راشد، وسيدي

(1) انظر (أغنية جزائرية في القرن الثامن عشر)(المجلة الإفريقية) 1894، 325. وقد روى الورتلاني أن سيدي الجودي قد (بلغ حالة التربية). فقد حال بشبحه بين طالب وامرأة شغف بها حبا. وذكر أن سيدي الجودي قد عاش في القرن الحادي عشر (17 م). الورتلاني، 49. والغالب أن يكون سيدي الجودي هذا ليس من سكان مدينة الجزائر.

(2)

وجدنا في وثيقة وطنية تعود إلى سنة 1006 أن عدد الزوايا بمدينة قسنطينة قد بلغ ثمانية. وهو بلا شك عدد قليل.

(3)

توفي عبد الرحمن المناطقي سنة 1022. ولم يذكره الفكون في من (ادعى العلم والولاية) رغم أنه كتب كتابه في تلك الفترة. ويقال إن المناطقي قد جاء من المغرب إلى قسنطينة وأقام فيها يتعبد في خلوة ويقرأ القرآن. وقد بني قائد الدار وهو شيخ المدينة في ذلك الوقت مسجدا باسم المناطقي. انظر شيربونو (روكاي) 1856 - 1857، 94. والظاهر أنه غير المناطقي، دفين تونس.

(4)

الظاهر أنه هو ضحية الخلاف الذي وقع في قسنطينة بين أنصار العثمانيين وخصومهم. وكان عبد المؤمن من خصومهم، كما سبق. ولكن لمكانته الدينية وكثرة أتباعه بنيت له زاوية (ومسجد أيضا) تعرف بزاوية عبد المؤمن. وقد جددها سنة 1183 صالح خوجة بن مصطفى الذي تزوج أيضا من أسرة عبد المؤمن. نفس المصدر 106. وعن أولاد عبد المؤمن انظر أيضا أرنست ميرسيه (روكاي) 1878، 218. وقد ذكر ميرسيه أن أصلهم من مرابطي الساقية الحمراء. انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

ص: 264

التلمساني (1). كما كانت للعائلات الكبيرة بالمدية زواياها الخاصة مثل زاوية أولاد الفكون وزاوية ابن نعمون وزاوية أولاد جلول. وكانت هناك زوايا خاصة بالأتراك والكراغلة مثل زاوية رضوان خوجة الذي كان قائد الدار والذي بنى الزاوية لنفسه ودفن فيها بعد وفاته سنة 1220. وفي نواحي قسنطينة اشتهرت زاوية خنقة سيدي ناجي وزاوية بني بو مسعود وزاوية بني مقران، وزاوية محمد بن يحيى المتوفي حوالي سنة 1091 الواقعة عند أولاد عبد النور (2)، وزاوية مولاي الشقفة بين جيجل والقل.

وقد اشتهرت أيضا تلمسان ونواحيها بزواياها وأضرحتها ومشاهدها نذكر منها هنا زاوية سيدي الذيب، وزاوية سيدي بومدين، وزاوية محمد السنوسي، وزاوية أحمد الغماري، وضريح سيدي الحلوى الأندلسي، وزاوية عين الحوت، ومما يذكر أن الباي حسين قد أوقف سنة 1173 وقفا على زاوية مولاي الطيب الوزاني حين اشترى لها دارا بستين مثقالا ذهبا. وفي سنة 1174 بنى الباي إبراهيم الملياني، بأمر باشا الجزائر، ضريحا للولي محمد بن علي حفيد الولي عبد الله بن منصور، كما أن الباي مصطفى المانزالي قد جدد، سنة 1218، ضريح هذا الولي (أي عبد الله بن منصور)(3).

وتعتبر زواوة وبجاية من أغنى مناطق الجزائر بالزوايا. فقد تصل فيها إلى خمسين زاوية. وليس غرضنا هنا ذكر قائمة بها ولكن الإشارة إلى أهمها في ميدان التعليم ونشر الوعي الديني بين السكان. وقد كانت زاوية تيزي راشد (وتسمى أيضا زاوية ابن أعراب) ذائعة الصيت يقصدها التلاميذ من النواحي المجاورة والبعيدة. وممن تخرجوا منها محمد الفريرا المشهور بالذباح الذي تولى ولاية التيطري. وكانت زاوية الشيخ محمد التواتي ببجاية

(1) هو علي التلمساني الذي توفي سنة 946. وقد بنيت له زاوية ومسجد. وكان يعتبر قطبا ربانيا.

(2)

عن زاوية بني بومسعود وبني مقران انظر فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 348. وعن زاوية محمد بن يحيى انظر فيرو أيضا في (روكاي)، 1864، 134. وما بعدها.

(3)

بروسلار (المجلة الإفريقية)، 1860، 16، 171.

ص: 265

أيضا قد أخرجت أجيالا من المتعلمين وكانت لها أوقاف كبيرة. وقد ظلت على عهدها بالتعليم إلى سنة 1228 حين أمر حسين باشا بغلقها بعد حادث وقع به (1). وكانت تضم أكثر من مائتي طالب. واشتهرت بنشر التعليم أيضا زاوية الأزهري بآيت إسماعيل، وزاوية ابن علي الشريف بآقبو، وكذلك سيدي منصور بآيت جناد. ومعظم أصحاب هذه الزوايا كانوا ساخطين على الأتراك. فقد لمح ابن علي الشريف في كتابه (معالم الاستبصار) إلى ذلك. وكان سيدي منصور أيضا من خصومهم، كما كان معاصراه أحمد بن إدريس وأحمد بن مالك (2). والذي يقرأ رحلة الورتلاني (وهو أيضا ساخط على الترك) يدرك تلك الثورة المكظومة ضدهم هناك. ولا بد من ذكر زوايا عبد الرحمن اليلولي، وأبي القاسم بو جليل، وابن أبي داود، ومحمد السعدي الواقعة نواحي دلس، بالإضافة إلى الزاوية الزروقية، وزاوية أحمد بن يوسف وغيره (3).

وكانت للزاوية في الريف أرض موقوفة يحرثها المسلمون ويعتنون بها ويستعمل إنتاج هذه الأرض في صيانة الزاوية وتغطية أجور المدرسين ومعيشة التلاميذ. كما أن الزاوية الريفية عادة ما يقدم إليها مسلمو الناحية جزءا معينا من إنتاجهم الفلاحي سنويا. فالزاوية بالنسبة إلى سكان الناحية كانت على غاية كبيرة من الأهمية (4).

وتثبت الإحصاءات أن عدد الزوايا والأضرحة ونحوها كان يفوق عدد المساجد والمدارس. فقد كان بتلمسان ونواحيها أكثر من ثلاثين زاوية في

(1) قيل إن الطلبة قد اختطفوا فتاة واعتدوا عليها فاشتكى أهل بجاية إلى الباشا فأمر بغلقها وطرد الطلبة. انظر فيرو (عن بجاية)(المجلة الإفريقية) 1859، 302. وقد سبق الحديث عن مكانة التواتي في القرن التاسع.

(2)

عن زاوية سيدي منصور انظر مقالة سعيد بوليفة (قانون زاوية سيدي منصور) في (مجموعة رينيه باسيه) ج 1 - 79.

(3)

رجعت في هذه المعلومات أيضا إلى الملف الذي أرسله إلي الأستاذ علي أمقران السحنوني عن الزوايا ومراكز التعليم في زواوة.

(4)

ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 203.

ص: 266

آخر العهد العثماني (1). والذي يدرس كتاب (البستان) ،لابن مريم قد يعثر على أكثر من هذا العدد رغم أنه كتبه في بداية القرن الحادي عشر (17 م). وفي عهد صالح باي كان في قسنطينة ثلاث عشرة زاوية (2). وهو عدد لا يشمل بالطبع الزوايا المحيطة بها. وقد كان في عنابة وبجاية وزواوة أعداد مشابهة (3). وذكر الورتلاني الذي كان مغرما بذكر الصلحاء والأولياء بعض هذه الزوايا والمشاهد وأصحابها. أما بالنسبة لمدينة الجزائر فإن المصادر تذكر أنه كان فيها سنة 1246 اثتان وثلاثون قبة أو ضريحا، واثنا عشرة زاوية (4). بينما ذكر مصدر آخر أنه كان بها تسع عشرة زاوية أو رباطا (5). 3 - وقد لعبت الزاوية في الريف دورا أكثر إيجابية من الزاوية في المدينة. ففي بداية العهد المدروس كانت الزوايا عبارة عن رباطات أو نقط أمامية ضد الأعداء. فكان المرابطون يقودون أتباعهم في الحروب الجهادية وينصرون المجاهدين ويطعمونهم في زواياهم ويتحالفون مع الأمراء المكافحين من أجل الدين وحماية البلاد، وعلى هذا النحو تحالف بعضهم مع العثمانيين وقدموا لهم المساعدات الأساسية فجندوا من ورائهم الشعب وجمعوا لهم المؤن والمعدات ورفعوا الروح المعنوية للمحاربين، ولكن الدوافع الجهادية كانت تضعف بالتدرج بعد القضاء على الخطر الخارجي الداهم. فعاد المرابطون إلى قواعدهم وكانوا على صلة بالشعب أكثر من صلتهم بالسلطة العثمانية. وكان على هذه السلطة أن تؤيد المرابطين بالعطايا السخية والإعفاء من الضرائب حتى لا تضعف الرابطة بينهما، ولكن بعض

(1) ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر)، 13.

(2)

فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 130.

(3)

بعث لي الأستاذ علي أمقران السحنوني ملفا هاما عن الزوايا ببلاد زواوة وبجاية فكانت أكثر من أربعين زاوية.

(4)

ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1862، 372.

(5)

جورج إيفير (المجلة الإفريقية) 1913، 241. وكذلك (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية: 2/ 1838، 223.

ص: 267

الزوايا قد أصبحت مراكز لتدريب الأتباع على الثورة ضد السلطة، ولا سيما في أواخر العهد المدروس. فقد ثار يحيى الأوراسي والزبوشي، وثار الدرقاويان ابن الشريف وابن الأحرش، وتململت الزاوية القادرية والرحمانية، كما تمردت الزاوية التجانية في عين ماضي ونواحيها.

ويظهر الدور الإيجابي للزوايا الريفية في التعليم على الخصوص. فقد كانت بالإضافة إلى وظيفتها الدينية، معاهد لتعليم الشبان وتنوير العامة (وهذه نقطة سنعالجها في الحديث عن التعليم). وكانت الزاوية الريفية تشمل أيضا مسجدا وقبة الشيخ المرابط ومبيتا للطلبة الداخليين ومساكن للغرباء والفقراء. وقد اشتهرت بعض الزوايا والخلوات الريفية حتى أصبحت محجة للزوار والطلبة. ومن ذلك زاوية خنقة سيدي ناجي (1)، وخلوة عبد الرحمن الأخضري (2)، وضريح سيدي خالد (3) وزاوية محمد بن علي المجاجي (أبهلول)(4) وزاوية القيطنة (5)، وزاوية ابن علي الشريف (6). ويبدو أن عدد الزوايا في غرب الجزائر كان أكثر من شرقها. ولعل ذلك يعود إلى استمرار الجهاد في الغرب دون الشرق وإلى كثرة الزوايا والمرابطين في المغرب الأقصى. ثم إن حجاج ورحالة المغرب كانوا يعبرون الجزائر ويغذون فكرة المرابطية فيها وينشرون مبادئ زواياهم وشيوخهم، كما كانوا يعودون بمثل ذلك من المشرق في طريقهم إلى المغرب.

(1) انظر عنها الورتلاني (الرحلة)، 17.

(2)

انظر عنها أحمد بن داود (العقد الجوهري) مخطوط.

(3)

أشاد به عبد الرحمن الأخضري في قصيدته اللامية التي سنعرض إليها:

سر يا خليلي إلى رسم شغفت به

طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل

(4)

أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط. وكانت مجاجة، كما يقول ابن سليمان، (دار علم وتقوى) بفضل هذه الزاوية. انظر (كعبة الطائفين) 3/ 264.

(5)

أخبارها في مخطوط الأمير عبد القادر (تاريخ الأمير) مخطوط بالمكتبة الوطنية بالجزائر.

(6)

بعض أخبارها في كتاب محمد بن علي الشلاطي (ابن علي الشريف) المسمى (معالم الاستبصار)، مخطوط.

ص: 268

وظاهرة التعليم في الزوايا، ليست خاصة بالريف. ففي المدن أيضا كانت بعض الزوايا تقوم بدور إيجابي في نشر التعليم بجميع مستوياته. فالزاوية القشاشية قد تحولت تدريجيا إلى مدرسة عليا أو معهد، وهذه الزاوية تتبع جامع القشاش الذي سبقت الإشارة إليه. وكذلك زاوية شيخ البلاد في مدينة الجزائر، وهي التي سيأتي الحديث عنها. ومن الزوايا التي لعبت دورا رئيسيا في نشر التعليم في غير العاصمة زاوية الفكون في قسنطينة، وزاوية مازونة ذات الشهرة الواسعة، وزاوية عين الحوت بتلمسان، وزاوية محمد التواتي ببجاية، وغيرها. غير أن معظم زوايا المدن كانت معطلة عن التعليم لوجود الكتاتيب من جهة والمساجد والمدارس المتخصصة من جهة أخرى. وبذلك كثرت في المدن الأضرحة والقباب والزوايا التي تؤدي دورا اجتماعيا كإيواء الفقراء والعجزة والغرباء وحماية الهاربين إليها من المجرمين والسياسيين المغضوب عليهم، واستقبال التلاميذ الدارسين في المساجد المجاورة.

وبالإضافة إلى الزوايا المنسوبة إلى الأفراد هناك الزوايا المنسوبة إلى الجماعة. ومن ذلك زاوية الأشراف وزاوية الأندلسيين اللتين أشرنا إليهم (1). فقد كانت الأولى خاصة بعزاب الأشراف الذين كانت لهم أيضا نقابة خاصة. وكان يشرف عليها مجلس من أعيانهم. وفي كل مولد نبوي كان الوكلاء يعدون وجبة طعام في الزاوية يحضرها أعضاؤهم فقط. وكان الشرفاء يعيشون كجماعة مترابطة متضامنة ولكنهم لم يكونوا بالضرورة من الأغنياء. أما زاوية الأندلسيين فقد كانت لاستقبال فقراء وعجزة مهاجري الأندلس أو الذين كانوا من أصل أندلسي، كما كانت تستقبل طلبتهم عند الضرورة. وقد ظلت المؤسستان موجودتين إلى الاحتلال الفرنسي.

4 -

وكان بناء الزاوية يختلف عادة عن بناء المسجد والمدرسة. فالزوايا غالبا ما جمعت بين هندسة المسجد والمنزل. وهي في الجملة قصيرة

(1) انظر فقرة الأوقاف من هذا الفصل.

ص: 269

الحيطان منخفضة القباب والعرصات قليلة النوافذ. وإذا كان للزاوية مسجد فهو في الغالب بدون مئذنة. فالزاوية من الناحية الهندسية غير جميلة، بالإضافة إلى أنها كثيرة الرطوبة والعتمة. وشكل الزاوية يوحي بالعزلة والتقشف والهدوء أكثر مما يوحي بالاختلاط والثراء والحركة. غير أن بعض الزوايا المعدة أصلا لسكنى الطلبة ونحوهم كانت واسعة وصحية.

وقد كان للزاوية أوقافها أيضا مثل المسجد. وفي عصر ساد فيه الجهل والخرافة كان الناس يميلون بأوقافهم وأفعالهم الخيرية إلى الزاوية أكثر من ميلهم إلى المسجد والمدرسة. فقد كانت بعض الزوايا غنية مثل زاوية المجاجي التي سبقت الإشارة إليها، وزاوية القيطنة. فكلتاهما كانت تطعم الأعداد الكبيرة من الزائرين وتؤويهم وتعلمهم. وكان الواقفون والمتصدقون على الزوايا من عامة الناس يعتقدون أن جزاءهم يأتي بسرعة وأن ذنوبهم تغتفر في الحال إذ يكفي أن يرضى عنهم الشيخ ويمنحهم بركاته. ومن الزوايا كثيرة الوقف زاوية الولي داده، وزاوية أحمد بن عبد الله الجزائري وزاوية سعيد قدورة التابعة للجامع الكبير، وكذلك الزاوية الطيبية بتلمسان.

وكانت بعض الزوايا متخصصة في استقبال نوع معين من الضيوف بنصوص أوقافها. فزاوية مولاي حسن بالعاصمة كانت عبارة عن دار سكنى للعزاب. وكانت زاوية سيدي أبي عتيقة تستقبل الفقراء والمرضى والعجزة. وكانت زاوية سعيد قدورة مخصصة لاستقبال فقراء العلماء. وأما زاوية شيخ البلاد فلا يسكنها إلا الطلبة العثمانيون. كما أن زاوية القاضي المالكي التي أسسها مصطفى بن مصطفى (آغا الصبايحية) مخصصة لسكنى المالكية، وهكذا. ومن جهة أخرى كانت بعض الزوايا مقصودة أكثر من غيرها لغرض فيها. فقد كانت النسوة تكثر في زاوية سيدي عبد القادر، كما كانت العامة يكثرون في زاوية علي الزواوي لاعتقادهم بأن ماءها يبرئ من العقم ويحفظ الأولاد ويذهب الحمى. وهذه الاعتقادات في الواقع ليست خاصة بزوايا العواصم، بل كانت منتشرة أيضا في زوايا الريف، ولا سيما عند قبور الأولياء

ص: 270

والصلحاء.

ومن أهم ما كان يميز بعض الزوايا والأضرحة كونها ملجأ يلجأ إليه الهاربون من العقاب والقتل مهما كانت جرائمهم. فقد كان الولاة والعامة يعتقدون في حصانة حمى الزاوية والضريح. ويكفي أن يهرب الجاني إلى هذا الحمى فلا يلحق به أحد، ولا يمسه سلطان. وقد وقعت حوادث الفرار إلى زاوية الولي داده وزاوية القليعة والثعالبي وغيرها، سواء من الولاة أنفسهم أو عامة الناس، ولا شك أن ذلك كان يدخل في عقيدة الناس في صلاح الأولياء وقدرتهم على تسليط غضبهم على من يهين حماهم. وقد قيل إن صالح باي قد بنى قبة في المكان الذي قتل فيه المرابط محمد الغراب بعد أن تحولت جثة هذا إلى غراب مخيف تطير منه الباي. وكان الثوار في نواحي قسنطينة لا يمسون من يلجأ إلى زاوية/ معمرة الواقعة في أراضي أولاد عبد النور، وكان محيي الدين مقدم الطريقة القادرية (زاوية القيطنة) يصف زاويته بأنها كمقام إبراهيم الخليل من دخلها كان آمنا.

ويختلف موظفو الزاوية عن موظفي الجامع في كثير من الوجوه. ذلك أن المسؤول الرئيسي على الزاوية في العادة هو مؤسسها أو المرابط نفسه أو ورثته. فهي مقام الولي ومصلاه، ومجمع أوراده وأذكاره، وفيها يدرس ويستقبل المريدين، وفيها (وخاصة في الأرياف) يصلح بين الناس وينورهم في شؤون دينهم ويفتيهم ويحكم بينهم. وفي غياب المؤسس أو المرابط يتولى إدارة الزاوية عادة أبناؤه وأحفاده على نفس النمط. وهكذا كانت زاوية أو خلوة عبد الرحمن الأخضري وزاوية المجاجي وزاوية ابن علي مبارك بالقليعة. ولكن الزاوية لا تحتاج فقط إلى المرابط ومن يقوم مقامه من أبنائه وأحفاده أو عائلته بل تحتاج أيضا، كالجامع، إلى منظفين ومؤذنين ومساعدين وغيرهم. فالزاوية النشيطة عبارة عن خلية حية يتحرك فيها كل شيء كالساعة في انتظام ودقة ومسؤولية (1). وكانت بعض زوايا المدن تحت

(1) جاء في قانون زاوية سيدي منصور التي أشرنا إليها أن التلاميذ هم الذين يتولون =

ص: 271

إشراف (قيمين) أو مديريين يعينهم وكلاء الأوقاف العامة أو الخاصة كسبل الخيرات وبيت المال ومكة والمدينة، وكان هؤلاء القيمون عادة من نسل المرابط أو من الأشراف أو من أهل الصلاح والخير.

5 -

وكانت الرباطات تشبه الزوايا من بعض الوجوه. فهي مثلها في خدمة الدين والمجتمع. ولكن الرباطات كانت تمتاز بأنها قرية من مواقع الأعداء وأن تأسيسها يهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة الجهاد والدفاع عن حدود الإسلام مع أداء مهمة العلم أيضا (1). وكانت الرباطات في العهد الأول منتشرة على السواحل التي نزل فيها الأعداء أو كانوا يهددونها. فكان الطلبة جنودا وعلماء في نفس الوقت. وكان المجاهدون يجتمعون بها وينطلقون منها ويأوون إليها للزاد والسكن. وبعد إبعاد الأعداء عن معظم السواحل انحصرت الرباطات في الغرب الجزائري حيث ظل الإسبان في وهران وفي المرسى الكبير وحيث الخطر كان داهما بشكل أوضح. وقد لعبت الرباطات دورا كبيرا في فتح وهران الأول سنة 1119 والثاني سنة 1205. واشتهر من علماء الرباطات في الفتخ الأول مصطفى الرماصي وأبو الحسن (أو حسون) العبدلي (2). كما اشتهر من علماء الرباطات أيام الفتح الثاني محمد بوجلال والطاهر بن حوا ومحمد بن علي الشارف المازوني وولداه، وكذلك محمد المصطفى بن زرفة. وقد أقاموا تحت رئاسة بوجلال عند جبل المائدة قرب وهران (للتضييق على الكفار) وكانوا هناك يدرسون ويحاربون أيضا (3).

= تسييرها، تحت إشراف الوكيل فيسهرون على النظافة والتموين والأمن وأداء الشعائر الدينية ونحو ذلك.

(1)

عن نشأة ووظيفة الرباط انظر ما كتبه ابن مرزوق في كتابه (المسند الحسن) فيما نشره ليفي بروفنسال في مجلة (هيسبريس)، 1925 وقد طبع المسند الآن في كتاب. انظر أيضا الفصل الأول من هذا الكتاب. المهدي البوعبدلي (الأصالة) 13 سنة 1973، 19.

(2)

انظر عبد الرحمن الجامعي (شرح الحفاوية) مخطوط باريس، ورقة 30.

(3)

ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط باريس 41. انظر كذلك ابن زرفة (الرحلة القمرية) كما قدمها هوداس في (المجموعة الشرقية) لمؤتمر المستشرقين الرابع =

ص: 272