الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأرضية التي قامت عليها الحياة الثقافية خلال العهد الذي نطلق عليه من الآن العهد العثماني، والجو العام الذي تشكلت فيه هذه الحياة والعلاقات بين العثمانيين والسكان، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين
ومن الخطأ إطلاق اسم (الأتراك) على الوجق وأهل السلطة خلال العهد العثماني في الجزائر. ذلك أن الوجق كان يتكون من عثمانيين (1)، وهو بهذه الصفة كان يضم أجناسا مختلفة اللسان والعرق والجغرافية ولكنها جميعا تتفق في الولاء للإسلام والسلطان. فالصفة الموحدة للوجق إذن هي (العثمانية) وليست (التركية). ذلك أن الوجق كان فيه أناس من أناضوليا ومن روميليا ومن الأقاليم العربية ومن البلقان وبقية أجزاء أوروبا، من ذوي الأصول التركية والعربية والصقلية واللاتينية والإغريقية، وهلم جرا. وقد ذكرت المصادر المعاصرة للعهد العثماني عددا من المسؤولين كالباشوات والأغوات والدايات (وهم الممثلون للسلطة في أعلى مستوى)(2) كانوا من أصول غير تركية ابتداء من خير الدين نفسه الذي تذكر هذه المصادر أنه من
= وعهد الدايات إلى سنة 1830. وهي تسمية لا معنى لها إذ أنه لم يحدث خلال العهود المذكورة ما غير من سمة الحكم نحو الجزائريين. وكل ما كانت تعنيه بعض التغيير في علاقات الولاة بالسلطان. وقد درج الفرنسيون أيضا على إطلاق تسمية مماثلة على العهد الفرنسي في الجزائر مثل فترة التردد وفترة الحكم العسكري وفترة الحكم المدني الخ وهي كسابقاتها أيضا تسمية مضللة لأنها لا تعني شيئا بالنسبة للجزائريين.
(1)
رغم أن الكتاب الجزائريين المعاصرين للعهد العثماني، مثل ابن مريم وابن سليمان والورتلاني، كانوا يستعملون عبارة الترك أو (الأتراك) وليس (العثمانيين). أما عبد الكريم الفكون فقد استعمل عبارة (العجم) للعثمانيين ويشترك معه غيره أيضا في ذلك. وكان الرحالة الأوروبيون ورجال الدين يسمونهم (الترك) أيضا.
(2)
توجد مصادر كثيرة عن خير الدين وأخويه. انظر مثلا هايدو وغزوات عروج وخير الدين ومقالة سوشيك المذكورة.
أصل إغريقي، والحاج حسين ميزمورطو الإيطالي الأصل، وعرب أحمد وصالح رايس ذوي الأصول العربية، ومن رياس البحر والجنود عدد كبير من ذوي الأصول غير التركية مثل الرايس مراد الذي غزا إيسلاندا وجزر الكناري وبريطانيا وإيرلاندا والذي يقال انه من أصل الماني أو فلامانكي (1) والرايس حميدو الذي دوخ أساطيل الأعداء في المحيط الأطلسي والبحر الأبيض، كان من أصل عربي جزائري (2) فالرابطة بين هذه العناصر من جهة ثم بينها وبين الجزائريين من جهة أخرى هي الإسلام والخلافة، أو العقيدة الإسلامية ثم الولاء للسلطات، ويجمع بين هذين المبدأين الرابطة العثمانية. ولكن الحكام العثمانيين لم يحترموا هذا المبدأ كما سنرى (فتركوا)(بتشديد الراء). الحكم ونظروا للجزائريين نظرة الغالب للمغلوب.
وباسم العقيدة الإسلامية والولاء للسلطان دخل الجزائريون أيضا في الرابطة العثمانية (3). وكان المفروض أن يطبق الحكام العثمانيون تعاليم الإسلام في الحكم، وأن يؤاخوا بينهم وبين السكان وأن يشاوروهم في الأمر
(1) انظر عنه مورقان في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وخلاصة الأثر للمحبي 4/ 355 وبرنارد لويس (مجلة الغرب الإسلامي) 15، 16 (1973) 139 - 144 وبليفير (جلادة المسيحية)، 52.
(2)
عنه انظر مردخاي نوا (نوح)(رحلات في انكلترا وفرنسا وأسبانيا وشمال إفريقية) سنوات 1813، 1814، 1815، لندن 1019، 371 - 372. وكذلك ديفوكس (الريس حميدو) الجزائر، 1859.
(3)
كان الجزائريون يستنجدون بالجيش العثماني (القرصان) منذ أواخر القرن التاسع حين عجزت الإمارات المحلية ودولة بني زيان ودولة بني حفص على صد هجوم الأسبان عن السواحل. وقد تكرر هذا التعاون بينهم وبين العثمانيين في بجاية وجيجل ووهران وعنابة ودلس ومدينة الجزائر. ولم يكن استنجاد سليم التومي، زعيم إمارة الثعالبة في متيجة، بالعثمانيين أوائل القرن العاشر إلا صورة أخرى من هذا التعاون الذي كان يفرضه الواجب الإسلامي. غير أن قتل عروج له وضم خير الدين القطر الجزائري إلى الدولة العثمانية وإن كان خارج نطاق هذا التعاون المعتاد، كان بدون شك لصالح القضية الإسلامية، إذ لم يكن في استطاعة التومي ولا أمثاله من الأمراء المحليين عندئذ الوقوف وحدهم في وجه التحدي الأسباني.
وأن يفسحوا المجال أمامهم، وأن يختلطوا بهم ويخالطوهم. ولكنهم في الواقع أساؤوا التصرف، كمعظم الحكام عندئذ فحكموا كفئة متميزة واحتكروا الحكم في أيديهم طيلة الفترة الثانية واستبدوا بالسلطة واستذلوا السكان واستعلوا عليهم وعاملوهم معاملة المنتصر للمهزوم.
إن العثمانيين قد دخلوا الجزائر أساسا بطلب من أهلها وربطوا مصيرهم في الغالب بمصير أهل البلاد وتحالفوا معهم، كما سنرى، تحالفا شديدا سياسيا وعسكريا. فامتلأت القلاع والثكنات والرباطات والسفن بالجنود الجزائريين الذين خاضوا حروب الجهاد في البر والبحر، جنبا إلى جنب مع العثمانيين، أحيانا قوادا وأحيانا مقودين، كما تحالفوا معهم في الداخل لتوطيد الأمن والاستقرار وتقدم التجارة والسفر (1).
وقد ظل الوجود العسكري هو الظاهرة المميزة للحكم العثماني في الجزائر بل هو الظاهرة المميزة أيضا لهذا الحكم في جميع أنحاء الدولة العثمانية. فقد كان الجهاد البحري (وهو الذي يطلق عليه الأوروبيون اسم القرصنة والذي كان في الأول ضد إسبانيا فقط لموقفها العدائي من مسلمي الأندلس والمغرب العربي، ثم أصبح عاما ضد جميع الدول الأوروبية التي لا تدخل في اتفاق سلمي مع دولة الجزائر) هو الباعث على وجودهم على شواطئ شمال إفريقية. وقد تطور هذا الجهاد فكان أقوى ما يكون في القرن الحادي عشر ثم ضعف تدريجيا لأسباب أهمها ضعف الدولة العثمانية نفسها وتوقف موجة التقدم العثماني في أوروبا وقوة الدول الأوروبية، وخصوصا بريطانيا وفرنسا، ثم دخول أمريكا إلى حوض البحر الأبيض آخر القرن الثاني عشر. وكانت قوة الحكام المحليين تقوى أو تضعف في نظر السكان بقدر ما يحققونه من انتصارات في البحر الأبيض ضد (دار الحرب) أو أوروبا
(1) شهد هايدو الأسباني والمتعصب دينيا أن الجزائريين والأندلسيين كانوا يحاربون جنبا إلى جنب مع العثمانيين ضد العدو الخارجي، كما حاربوا إلى جانبهم ضد المتمردين في الداخل. انظر أيضا (عنوان الأخبار) للمريني.
المسيحية، لذلك كان الباشوات والرياس الذين حققوا مثل هذه الانتصارات يلقبون بالمجاهدين. وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك حروب داخلية وأخرى ضد بايات تونس وسلاطين المغرب، ولكنها لم تكن حروبا جهادية ولا يأخذ خائضوها شرف لقب المجاهدين. فالواجب العسكري العثماني في الجزائر كان يقوم على الحرب الجهادية ضد (دار الحرب) بالدرجة الأولى.
وأهم الدول الأوروبية التي طالت الحرب بينها وبين الجزائر في هذا العهد هي اسبانيا وتليها البرتغال. وليس من الصعب العثور على السبب المباشر لهذه الحرب بين الطرفين. ففي نهاية القرن التاسع تمكن الإسبان من إسقاط آخر قلعة للمسلمين في الأندلس وأساؤوا معاملة من بقي من المسلمين هناك ثم خيروهم بين الطرد وبين تغيير عقيدتهم الإسلامية. وبالإضافة إلى ذلك تابع الإسبان مطاردتهم للفارين من المسلمين الأندلسيين إلى سواحل شمال إفريقيا. وأدت هذه المتابعة إلى ثلاث نتائج هامة: الأولى استقرار الحاميات الإسبانية في عدد من المراكز الاستراتيجية على سواحل شمال إفريقية مثل مدينة الجزائر والمرسى الكبير ووهران وبجاية وجيجل وعنابة في القطر الجزائري، وأمثالها في أقطار تونس والمغرب وطرابلس. والثانية تسلح مهاجري الأندلس ضد الإسبان واتخاذهم مواقع الدفاع على وطنهم الجديد وبنائهم السفن والمعدات الحربية للجهاد ضد الإسبان في البحر والاستيلاء على ما يمكن أن يقع في أيديهم من أسطول العدو. وقد حاول الإسبان، من جهتهم، تحطيم هذه القوة في عدة محاولات أشهرها حملة شارل الخامس في منتصف القرن العاشر وحملة أوريلي الأقل شهرة منها في آخر القرن الثاني عشر. أما النتيجة الثالثة لنشاط الإسبان ضد الأندلسيين والجزائريين فهي دخول الدولة العثمانية رسميا في الحرب ضد إسبانيا بعد أن أصبحت الجزائر ايالة (ولاية) من ايالات الدولة العثمانية.
إن المظهر العسكري (الجهادي) للوجود العثماني في الجزائر ثم
استمرار التهديد الأجنبي قد طبعا الحكم العثماني، على طوله، بالخوف الدائم من الخارج والاستبداد المطلق في الداخل. وكان لهذا وذاك أثره على حياة الثقافية، كما سنرى. فرغم تصفية الوجود الإسباني من مدينة الجزائر وجيجل وبجاية وعنابة ومستغانم ودلس فإنه ظل قائما في وهران والمرسى الكبير وكان وجوده مصدر قلق مستمر للسلطة والسكان. ويمكن القول إنه كان مصدر تحالف بينهم أيضا لأنه كان خطرا على كلا الطرفين. وهناك حروب كثيرة دارت بين الحكام العثمانيين والإسبان من أجل استرداد وهران ونحوها من بقايا الجيوب الإسبانية. ومن أهم ما نجح فيه العثمانيون إخراجهم الإسبان من وهران سنة 1119 (1708) ثم إخراجهم نهائيا. منها سنة 1205 (1791 م). إن هذا النزاع المستمر بين الجزائريين والإسبان قد أدى إلى إنتاج أدبي غزير كما لعب فيه الدين والتصوف والدروشة دورا رئيسيا (1).
أما الاستبداد فقد أدى بدوره إلى العنف في الحكم. ولعله هو أبرز سمات المظهر العسكري للوجود العثماني في الجزائر. فسواء نظرنا إلى شكل الحكم نفسه أو إلى علاقته بالسكان أو إلى الأحكام الصادرة عنه فإن ظاهرة العنف كانت هي البارزة في كل ذلك. وكان الحكام في البداية يأتون من إسطانبول (2) رفقة القاضي الحنفي وقضاة العسكر، وكانت مدة ولايتهم ثلاث سنوات غالبا، ثم يأتي من يخلفهم، وهكذا. وكان هؤلاء الباشوات (المبعوثون من السلطان) هم أهل الحل والعقد، بينما الوجق يسمع ويطيع.
(1) من ذلك ما يعرف بشعر الاستصراخ وكتاب (التحفة المرضية) والمدائح التي قيلت في محمد بكداش باشا، ثم الكتب التي ألفت في محمد الكبير، باي الغرب مثل (الثغر الجماني) و (الرحلة القمرية) وتأليف أحمد بن هطال و (عجائب الأسفار) لأبي راس. وكل هذه الكتب ستدرس في مكانها. كما لعب العلماء والمرابطون أيضا دورا في ذلك سنعرض إليه في حينه.
(2)
كان منصب باشا الجزائر يشترى بالمال في إسطانبول ويأتي صاحبه أصلا لمدة سنة ولكنها كانت تمدد إلى ثلاث أو أربع سنوات، ولذلك كان طابع الحكم هو الاستغلال أيضا.
وقد استمر هذا الوضع إلى حوالي منتصف القرن الحادي عشر (17 م) حين تمرد الوجق على الباشوات وطلبوا من السلطان أن يكون الحكم الحقيقي في أيديهم هم (الوجق)، أما الباشوات فيبقى لهم وجود رمزي فقط باعتبارهم ممثلين سامين للسلطان. ولكن هذا الحكم (الثنائي) لم يطل أيضا. ففي أواخر القرن المذكور انتصر العنف من جديد حين ثار الرياس (أو البحارة) وأعادوا الباشا من حيث أتى واستقلوا هم بالحكم العسكري المطلق وعينوا منهم (الداي) أو العم، حسب التقاليد العثمانية القديمة، وأصبح هو الحاكم المستبد والباشا أيضا، باعتباره الممثل الشرعي للسلطان. وقد رضي السلطان بهذا الوضع مكرها، فكان يكتفي بإصدار (الفرمان) لتثبيت اختيار الوجق في الجزائر، ولكن الدايات الذين تداولوا على الجزائر من أواخر القرن الحادي عشر إلى أوائل القرن الثالث عشر (أي إلى احتلال الجزائر سنة 1246) لم يكونوا جميعا من طائفة الرياس. فقد كان منهم من صعد إلى الحكم دون أن يكون من أهل البحر بالمهنة مثل حسين خوجة الشريف ومحمد بكداش اللذين كانا من أهل الإدارة، ومثل حسين باشا الذي كان قبل توليته، خوجة الخيل. ولكن مهما كان أصل ممثل الحكم المذكور في الجزائر، من أهل البر أو البحر، فإن النظام السياسي العام كان نظاما جمهوريا عسكريا مغلقا. فهو جمهوري لأن منصب الحاكم انتخابي وليس وراثيا، وهو عسكري لأن الحاكم كان من العسكريين، وهو مغلق لأنه نظام لا يسمح فيه إلا للوجق بممارسة السلطة. ولكن انتقال السلطة من حاكم إلى آخر كان يتم بالعنف الشديد وأحيانا بوحشية قليلة النظير.
وظاهرة الانغلاق في هذا النظام تستحق بعض التركيز هنا. ذلك أن حكام الجزائر العثمانيين كانوا من خارج البلاد ولم يكن من بينهم من ولد في الجزائر أو تربى بين أهلها أو تعلم لغة أهل البلاد وعاداتهم وأخلاقهم خلافا لمماليك مصر مثل (1). وكانت وظيفة الوجق تقتضي منهم أن يظلوا عزابا
(1) مما يذكر أن حسن باشا بن خير الدين كان من أم جزائرية وقد تولى الحكم ثلاث مرات، وكان يعرف عدة لغات منها العربية وكان محبوبا بين السكان. وقد تزوج =
مدى الحياة، فإذا تزوجوا من أهل البلاد فإن نتاجهم يعتبر أدنى منهم مرتبة، ومن ثمة لا يمكنه أن يصعد إلى الحكم والمسؤولية، فهو كرغلي (أي ابن عبد وليس ابن حر). وإذا كان نتاج العثمانيين (الأجانب) على هذه الحالة فأولى وأحرى من كان من السكان الأصليين أو من مهاجري الأندلس (1). فقد ضرب العثمانيون في الجزائر حصارا شديدا حول أنفسهم وحول مواقع القوة في أيديهم حتى لا يتسرب إليها بقية السكان ولا يرقى إليها الطامحون في الحكم منهم. وتذكر المصادر أن هناك محاولة لقلب نظام الحكم قام بها بعض أبناء العثمانيين (أي الكراغلة) من أمهات جزائريات خلال القرن الحادي عشر ، ولكن الآباء أحسوا بالمؤامرة قبل وقوعها فقضوا عليها وأشبعوا القائمين بها هلاكا ونكالا، ثم أوصدوا الباب في وجه الآخرين منهم مدى الحياة (2).
وتدل مراحل الحكم التي أشرنا إليها إلى نوع العلاقة التي كانت بين
= أيضا من جزائرية. وكان لصالح رايس أيضا ولد (يسمى محمد) تولى بعد أبيه أيضا باشوية الجزائر. ولكن الغالب أنه لم يكن من أم جزائرية. ومما يذكر أن بعض الباشوات المعينين من قبل السلطان كانوا يأتون معهم بعائلاتهم من إسطانبول مثل جعفر باشا الذي جاء معه بأمه إلى الجزائر وكذلك خضر باشا الذي جاء بأخته المسماة (قمر).
(1)
كان بعض الباشوات من أصول عربية أندلسية، ولكن من خارج الجزائر مثل عرب أحمد وصالح رأيس. والغريب أن أبناء الباشوات من أمهات مسلمات جزائريات لا يصعدون إلى مقام آبائهم بينما أبناء الباشوات من الأسيرات المسيحيات يصعدون إلى المقام آبانهم. انظر مدام بروس (عن إقامة في الجزائر).
(2)
هناك عدة محاولات قام بها الكراغلة للاستيلاء على الحكم في الجزائر. انظر فرنسيس نايت (سبع سنوات تحت الحكم التركي في الجزائر) لندن 1640. انظر دراسة لبيير بواييه عن هذا الموضوع في (مجلة الغرب الإسلامي). وكانت تلمسان ومدينة الجزائر مركزين قوين لهذه الحركة. انظر دراستي عن (كعبة الطائفين) في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). انظر أيضا كتاب ابن المفتي، دلفان (المجلة الآسيوية)، 1922، 203. انظر أيضا جوزيف بيتز (حقائق عن الدين الإسلامي)، لندن، 1704، 127 وقد عاش المؤلف خمس عشرة سنة في الجزائر.
الجزائر وإسطانبول. فقد كانت علاقة وطيدة سياسيا حين كان الباشوات يأتون من هناك ثم أخذت تضعف أثناء الحكم الثنائي حين كان ممثل السلطان مجرد موظف سام يتقاضى أجرة ويشاهد مجريات الأمور، ولكن لا يستطيع فعل شيء. وكادت العلاقة تنقطع (بل انقطعت في بعض الأحيان) حين أصبح السلطان مقتنعا بإصدار (فرمانه) إلى من يختاره الجنود العثمانيون في الجزائر. وقد ظل محافظا على الحد الأدنى من استمرار العلاقات للمصلحة المتبادلة. فاسطانبول كانت تعرف المسافة التي تفصلها عن الجزائر ومدى ضعف أسطولها فلم تحاول فرض سلطانها هناك بالقوة، بل كانت تكتفي بالضغط ومحاولة تأكيد شرعيتها الإسلامية عن طريق الباشوات والقاضي الحنفي وولاء (عبيد السلطان) والعلماء. وعندما تعجز حتى عن ذلك كانت تكتفي بأشياء رمزية كإصدار الفرمان للاعتراف بالأمر الواقع الذي يواجهها به وجق الجزائر، وإرسال الهدايا العسكرية البحرية إلى ولاة الجزائر والاستنجاد بهم عسكريا إذا دعت الحاجة. أما الجزائر فقد كانت بدورها تحاول تأكيد ذاتيتها ووضعها الخاص. كما أن طبيعة السكان الاستقلالية والثورات الداخلية التي طبعت الحكم العثماني في الجزائر ووجود المغرب كمنافس إسلامي على الحدود ثم الخطر الإسباني والبرتغالي في غرب البحر الأبيض كل هذه العوامل جعلت الجزائر في وضع خاص داخل الدولة العثمانية. فهي من جهة مسقلة أو تحاول أن تكون مستقلة عن إسطانبول، وهي من جهة أخرى تحاول أن تبقى على الحد الأدنى من الصلات الإسلامية، ولو كانت رمزية، مع الخلافة (1).
(1) الواقع أن رفض إرادة السلطان من وجق الجزائر قد بدأ مبكرا، أي منذ القرن العاشر. ولم يتمكن عدد من الباشوات المبعوثين من إسطانبول إكمال مددهم (ثلاث سنوات) بل كانوا يجبرون على العودة. ونفس الشيء يقال عن القاضي الحنفي. ولكن الباشا إذا رجع إلى إسطانبول يبقى خليفته إلى أن يأتي الباشا الجديد. انظر هايدو (ملوك الجزائر). ولنلاحظ أن حكام الجزائر لم يجعلوا الحكم وراثيا كما فعل مثلا حكام تونس. ولو نجح أحدهم في ذلك لتغير طابع الحكم ولأصبح شيئا فشيئا (وطنيا).
ولدينا وثيقتان إحداهما تعود إلى أواخر القرن العاشر والثانية إلى القرن الثاني عشر، وكلاهما تثبت ما كنا نقول. فالأولى تتحدث عن كون السلطان قد أرسل هدايا إلى الجزائر فردت الجزائر بإرسال هدايا إلى السلطان والوزير والقبطان وغيرهم، بالإضافة إلى الجباية وأموال طائلة أخرى. كما تثبت الوثيقة أن قاضي الجزائر الحنفي كان ما يزال يأتي من إسطانبول ثم يعود حين تنتهي مدته أيضا، وأنه كان قد جاء إلى الجزائر وعاد منها بأبنائه ونسائه. ويدل ذلك من جهة أخرى على بداية التأثير العثماني، والمشرقي عموما، في المجتمع الجزائري وقد قدر الكاتب، وهو مغربي، الأموال التي كانت تحملها سفينتان إلى إسطانبول (بألف ألف مثقال). بينما قدرها آخرون (بثمانية عشر قنطارا ذهبا سوى الجوهر). غير أن السفينتين قد وقعتا في قبضة القراصنة المسيحيين. وقد أوضح الكاتب أيضا أن أجهزة الجزائر البحرية كانت أقوى من أجهزة إسطانبول. وهذا ما جعله يؤكد بأنه لو كان رياس (بحارة) السفينتين من الجزائريين لما وقعت في قبضة النصارى (1).
أما الوثيقة الثانية فقد كتبها عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري وهو يذكر فيها أن الباشا إبراهيم قد أرسل (سنة 1145) إلى السلطان محمود خان هدية عظيمة فيها أربعون نصرانيا ومكاحل وستة آلاف ريال دراهم صغارا وأمورا أخرى نفيسة، وذلك لكي يأخذ الباشا لك منه (2). ومن الملاحظ أن الهدية لم تكن ردا على هدية كما كانت الهدية الأولى. وكان إبراهيم باشا سيحكم الجزائر على كل حال سواء جاءه الفرمان من السلطان أو لم يأته. فقد كان متأكدا أن السلطان لن يمانع في ذلك ما دام الوجق بالجزائر قد
(1) التمغروطي (النفحة المسكية)، 140. ط هوداس. انظر مخطوطة باريس أيضا رقم 6898. وقد ترجمها إلى الفرنسية هنري دي كاستري. وطبعت في باريس بدون تاريخ. وعن تبادل الهدايا بين الجزائر وإسطانبول انظر أيضا كتاب (التشريفات) نشر ألبير ديفوكس.
(2)
ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط، وانظر دراستي عنه في كاتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وهو يعني بالبشالك (الباشوية).