المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومجانبة أهل الحكم واتباع قواعد الدين، كما سنعرف بعد قليل. - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ١

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: ومجانبة أهل الحكم واتباع قواعد الدين، كما سنعرف بعد قليل.

ومجانبة أهل الحكم واتباع قواعد الدين، كما سنعرف بعد قليل. ولكن كثرة هذا الصنف المنحرف خلال العهد العثماني وسكوت أرباب السلطة عليه وتبادل الرشى والهدايا بين الطرفين تدل على المرض الذي أصاب المجتمع الجزائري آنذاك، دينيا وسياسا وأخلاقيا. فهذا الصنف من أدعياء التصوف كان يستعمل جميع الوسائل لاستغلال العامة ونشر الجهل والخرافة بينها.

‌حالة التصوف

منذ أواخر القرن التاسع (15 م) حث محمد السنوسي على العناية بالأولياء والصلحاء المعاصرين، بدل الاهتمام بالغابرين منهم. وقد نقل عنه أنه قال (إن النفوس في هذه الأزمنة المتأخرة قد يمنعها من الاجتهاد في العمل الصالح ورياضة النفس عنها أن الولاية قد طوي بساطها فترى أن الاجتهاد لا فائدة فيه)(1).

وبوحي من هذا الرأي اندفع تلاميذ السنوسي ابتداء من القرن العاشر يؤرخون للمرابطين والأولياء والصلحاء الغابرين والمعاصرين على حد سواء. ثم كثر الاعتناء بالمعاصرين على الخصوص. وبذلك ظهرت تآليف ابن صعد والملالي والصباغ والبطيوي وابن مريم والفكون وابن سليمان والورتلاني وغيرهم. وجميعهم كانوا يتناولون بالدرس والتعريف تراجم الأولياء والصلحاء في مختلف العصور، ولا سيما الذين عاصروهم واتصلوا بهم عن طريق التلمذة مباشرة أو غير مباشرة.

وكثرت العناية أيضا بدراسة التصوف وما يتصل به من مناقب وأذكار ومرائي وعلوم أهل الباطن. وقد عرفنا أن عددا من الأساتذة كانوا يتناولون تدريس التصوف في مجالسهم العلمية. فقد عرف سعيد قدورة بتدريسه كتاب (الحكم) و (التنوير) لابن عطاء الله لطلابه. وكذلك كان علي بن عبد الواحد الأنصاري يدرس التصوف من بين المواد الأخرى. وكان عمر الوزان منكبا

(1) ابن مريم (البستان)، 6. عن حياة السنوسي. انظر الفصل الأول.

ص: 472

على دراسة كتب التصوف وعلوم أهل الباطن حتى أصبح له فيها اليد الطولى. وكذلك كان موسى بن علي اللالتي، ناظم قصيدة (حزب العارفين)، يقرئ تلاميذه في تلمسان كتب الصوفية ويحدثهم عن أخبار أهل التصوف وأحوالهم (1). وقد جاء في رحلة الورتلاني أنه كان يكثر من دراسة أهل التصوف مستندا على مقالة الإمام مالك بن أنس من أن الصوفي الذي لا يتعلم الفقه يعتبر زنديقا وأن عالم أصول الدين الذي لم يدرس التصوف يعتبر فاسقا (2). وسنلاحظ في دراستنا لإنتاج هذا العهد في الجزء الثاني كثرة التآليف والأشعار المخصصة لعلم التصوف حتى كادت تطغى على جميع الإنتاج الآخر.

كذلك كثرت المقارنات بين أهل التصوف في القديم وأهل التصوف المعاصرين، فبالإضافة إلى مقالة السنوسي السابقة نسب إلى أحمد بن يوسف الملياني أنه قارن بين عصره وعصر عبد القادر الجيلاني، قائلا ان الجيلاني كان في القرن السادس والزمن غير فاسد وأهله فضلاء، بينما هو (الملياني) كان يعيش في القرن العاشر المليء بالفساد وانحطاط الأخلاق (3). وروي عن الملياني أيضا أنه تناقض مع محمد بن علي الخروبي الطرابلسي المتصوف أيضا فقال له هذا (أهنت الحكمة في تلقينك الأسماء للعامة حتى النساء) فرد عليه الملياني بقوله:(قد دعونا الخلق إلى الله فأبوا فقنعنا منهم بأن نشغل جارحة من جوارحهم بالذكر). وقد لاحظ الخروبي بأن الملياني كان على صواب في ذلك، قائلا:(فوجدته أوسع مني دائرة)(4).

وبعد أن روى الفكون عن الغزالي ما قاله عن انحراف متصوفة زمانه وسرد خصالهم الخارجة عن دائرة التصوف الحقيقي، قال: أهذا في زمنه،

(1) انظر دراستي عن كتاب (كعبة الطائفين) في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

(2)

محمد الحاج صادق (عبر شمال إفريقية من خلال رحلة الورثلاني)، 320.

(3)

بودان (المجلة الإفريقية)، 1925.

(4)

الناصري (الاستقصا) 5/ 51.

ص: 473

فكيف بزمننا؟). وهكذا نجد أن بعض الدارسين قد شعروا بتردي الأحوال الصوفية وضعف الأخلاق بالمقارنة إلى الأزمنة الغابرة. ولا نكاد نجد من (الثوار) الذين رفعوا صوتهم ضد انحراف التصوف عن جادته الحقيقية إلا بعض الأصوات. وكان أقواها بدون ريب هو صوت عبد الكريم الفكون. فهو الذي انتقد متصوفة عصره بشدة ورمى معظمهم بالزندقة واتخاذ التصوف ذريعة للوصول إلى الدنيا واستغلال عقول العامة.

ففي مقدمة (منشور الهداية) أوضح الفكون دواعي تأليفه فقال إنها انتشار البدع وسيادة الجاهل وكساد العلم وانحراف أهل الطرق الصوفية عن التصوف الحقيقي وتحالف هؤلاء مع الظلمة واللصوص والولاة الفاسدين. وقد اعتبر الفكون هؤلاء جميعا أنصارا (لحزب الشيطان)، وقام هو للدفاع عن (حزب الله) والجهاد في سبيله بكشف فسادهم وانحرافهم. ولطول المقدمة فإننا نورد منها بعض المقتطفات للدلالة على ما وصلت إليه حالة التصوف في عهده (القرن الحادي عشر - 18 م). ولنشر هنا إلى أن الفكون كان هو نفسه متصوفا ولكنه من متصوفة السلف، كما سنشير إلى ذلك في موضعه. ومما جاء في هذه المقدمة. (أما بعد، فلما رأيت الزمان بأهله تعثر، وسفائن النجات (كذا) من أمواج البدع تتكسر، وسحائب الجهل قد أظلمت، وأسواق العلم قد كسدت، فصار الجاهل رئيسا، والعالم في منزلة يدعى من أجلها خسيسا، وصاحب أهل الطريقة قد أصبح وأعلام الزندقة على رأسه لائحة، وروائح السلب والطرد من المولى عليه فائحة، إلا أنهم، أعني الطائفتين، تمسكوا من دنياهم بمناصب شرعية، وحالات كانت قدما للسادة الصوفية، فموهوا على العامة بأسماء ذهبت مسمياتها، وأوصاف تلاشت أهلها منذ زمان وأعصارها، ولبسوا، بانتحالهم لها، على أهل العصر أنهم من أهلها. وربما صارت الطائفة البدعية مقطعا للحقوق، وقسما يقسم بهم في البر والعقوق. والطائفة الأخرى سطرت أناملهم في قراطيس السجلات ما يوهم من لم يرهم ممن يأتي في غابر الزمن أنهم من حزب العلماء، بل ومن مشائخهم الأعلين.

ص: 474

(كل ذلك والقلب مني يتقطع غيرة على حزب الله، العلماء، أن ينتسب جماعة الجهلة المعاندين الضالين المضلين لهم أو يذكروا في معرضهم، وغيرة على جانب السادة الأولياء الصوفية أن تكون أراذل العامة وأندال (كذا) الحمقى المغرورين أن يتسموا بأسمائهم أو يظن بعضهم اللحوق بآثارهم. ولم آل في التنفير من كلتا الطائفتين (1) والتحذير منهم في كل زمان وأوان؛ وبين كل صالح من الإخوان، إلى أن أحسست لسان القول قد نطق بنسبة ما لا يليق ذكره من أفواههم، فشرح الله صدري في أن أعتكف على تقييد يبدي عوارهم، ويفضح أسرارهم، ويكون وسيلة إلى الله في الدنيا والأخرى. فهذا الجهاد الذي هو أحد من السيف في نحور أعداء الله، وناهيك بهم أعداء؛ نسخوا شرع سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم بآرائهم المسطرة بأقلامهم في سجلاتهم، وأحلوا الرشى بأفعالهم، والتمدح بها والعكوف على طلبها، والاعتناء بأخذها في أنديتهم، فهي عندهم من أرفع المكاسب وأسنى المطالب. والطائفة الأخرى أعلنوا بأن سابق الأقدار منوطة بإرادتهم. فزادت بهم العامة شغبا إلى شغبهم، واتخذت أتباعهم ألقابا باسم الشيخوخة والتحذير من أن يغاضوا أو يغتاضوا، فصارت العامة تجانبهم ولا تحط بساحتهم. وأما النكير عليهم، لأربابه في قعر حفير، وربما زاد في إفصاح أحوالهم من أن من مات منهم بنوا عليه وشيدوا بناءات وجعلوا عليهم قبابا من العود وألواحا منقوشة بأسمائهم وما اختاروا لهم من الألقاب التي لا تصلح لهم، وهي من أوصاف سادتنا العلماء العاملين والصلحاء الفاضلين الكاملين. فعظم الباعث على النصح بهذا التقييد) (2).

وانطلاقا من هذا المدخل عرف الفكون بأن الصلاح المؤدي إلى معرفة

(1) يعني بهم أدعياء العلم وأدعياء التصوف. وقد وصف غيره أيضا حالة المتصوفين في الجزائر ولكنهم اكتفوا بالوصف مع التحبيذ ولم ينتقدوا أو يتخذوا موقفا معارضا لتصرفات المتصوفة في وقتهم. ومن هؤلاء البطيوي وابن مريم ومحمد بن سليمان والورثلاني.

(2)

مقدمة (منشور الهداية)، مخطوط.

ص: 475

الله والقرب منه ليس هو التوسط بالشيخ واتخاذ الحضرة والجذب والكرامة وما إلى ذلك مما كان شائعا في عصره، ولكنه هو اتباع الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فقال ان الرجل الصالح هو المواظب على الطاعات والمتجنب للنواهي البعيد عن المتشابه، وهو الذي يكثر من ترديد اسم الله، العارف بالله وبأحكامه، المتبع للمندوبات بعد الواجبات. فهذا الشخص، في نظره، هو الجدير بأن يقصده الإنسان بالأخوة وطلب صالح الدعاء منه (ولا عليك بعد ذلك منه ظهرت عليه كرامة أم لا، كان رفيع القدر أو خامله، فإن أولياء الله متفاوتوا (كذا) الحال في الدنيا، وأما من كان على خلاف ذلك أو بعضه فيجب هجرانه لله خصوصا الطائفة أهل الحضرة المخالطين للظلمة) (1). وفي نظر الفكون ونظر من نقل عنهم كالطرطوشي والبسطامي وزروق والغزالي والأخضري، أن البدع تعتبر خروجا عن الدين وأن التكسب باسم الدين يعتبر جناية لا ولاية (2).

وقد جاءت آراء الفكون في البدع الصوفية بعد أن أثمرت مدرسة محمد السنوسي وأحمد الملياني ومحمد بن علي الخروبي وأضرابهم أوضاعا معينة من التصوف والولاية حتى أصبح كل شيخ مجذوب يعتبر بركة وصالحا، وكل درويش مغفل يعتبر وليا وصاحب كرامات، وكل مستغل للعامة باسم الدين ومتقرب للسلطة باسم الطريقة يعتبر قطبا تأتيه الجبايات ويقصده الناس بالرشى والقرابين ويقصده الحكام بالعطايا والهدايا. وفي ضوء هذا الوضع كتب ابن صعد (النجم الثاقب) وتبعه ابن مريم في (البستان) والبطيوي في (مطلب الفوز) والصباغ في (بستان الأزهار) وابن سليمان في (كعبة الطائفين). وهؤلاء المؤلفون يعتبرون من مثقفي العصر وأصحاب التفكير والرأي، فما بالك بالعامة وأشباهها. فإذا كان المثقفون ينسبون معظم

(1) نفس المصدر، وهو يعني (بأهل الحضرة) منحرفة الصوفية الذين ذكر منهم عددا وفضح سلوكهم.

(2)

قارن مقالة الفكون في هذا الصدد بمقالة أبي الحسن الصغير الذي رد عليه محمد السنوسي. انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

ص: 476

الدراويش إلى الولاية والصلاح والكرامة فكيف يكون موقف بقية الناس منهم؟

فالصباغ، وقد كان قاضيا في وقته، قد نسب كثيرا من الخوارق والكرامات إلى أحمد بن يوسف. وابن مريم، وقد كان من مؤدبي الصبيان، قد نسب كثيرا من ذلك إلى معظم من ترجم لهم ولو كانوا من العلماء المدرسين. فهذا أحمد الورنيدي الذي كان من المدرسين كانت له كرامات منها إقراء الجن ومد يده لستر عورته بعد موته. وهذا سيدي حدوش قد أخبر أن النصارى لن يدخلوا تلمسان إلا مرة واحدة. وقد كلمت حمزة المغراوي فرسه بأنه أتعبها، وكان مكانه يزار ويحمل منه التراب الذي ما علقه مريض إلا شفي. وقد تجمع النحل عند قبر سعيد البجائي وأغار على قافلة حمير كانت تحمل الزرع للنصارى (الإسبان) بوهران فقتل كل الحمير إلا حمير المسلمين. وكان محمد السويدي صاحب كرامات أيضا حتى أنه أكد أنه يستطيع أن يخبر عما يدور بين الرجل وزوجه في الفراش، إلى غير ذلك مما كان يعتبر عند ابن مريم وأمثاله مكاشفات وخوارق. وكانت هذه الكرامات تتدخل في السياسة أيضا. فهذا الشيخ عبد الرحمن اليعقوبي قد تدخل في إعادة حسن باشا بن خير الدين من وادي ملوية قاصدا غزو فاس إلى تلمسان (1). ومع ذلك فإن ابن مريم لا يكاد يذكر واحدا من الأولياء والعلماء إلا نسب إليه معرفة علوم الظاهر والباطن والتعمق في العلوم المعقولة والمنقولة.

وقد سار على نهج ابن مريم تلميذه محمد البطيوي. فعدد هو أيضا في كتابه (مطلب الفوز والفلاح) كرامات ومكاشفات الشيوخ الذين ترجم لهم. ومثله محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) حيث اتبع نصيحة شيخه موسى بن علي اللالتي بأن يشرح قصيدة (حزب العارفين) ويعلق عليها ويذكر أهل الصلاح ويغض النظر عن أهل الطلاح (2). فالتصرف في القرنين العاشر

(1) ابن مريم (البستان)، 94، 104، 136، 276، 289.

(2)

سندرس المؤلفات المذكورة في بابها من الجزء الثاني.

ص: 477

والحادي عشر، كما نفهمه من المؤلفات المذكورة وأمثالها كان قد اختلط بالبدعة والشعوذة والخرافة، وأصبح عند البعض وسيلة للرشوة والفساد وعند البعض وسيلة لاتخاذ الحضرة ونشر البدعة واستغلال العامة. ولم يعد هو التصوف الذي كان عليه الأوائل الذين كانوا يجمعوا بين العلوم العملية ومعرفة الله عن طريق العمل والنظر والتدبر في خلقه والذين لم يدعوا لأنفسهم كرامة ولا خارقة وإنما كانوا متبعين للقرآن والسنة مكثرين من العبادة، زاهدين في أحوال الدنيا، عاملين من أجل الفوز في الآخرة برضى الله. فثورة الفكون على أدعياء التصوف من معاصريه لها مبرراتها القوية.

ويبدو أن دعوته لم يكن لها أثر في ذلك العصر الغارق في الجهل والظلم. فقد نادى أحمد بن ساسي البوني، وهو من الذين جمعوا بين العلم والتصوف، بإسقاط التدبير تماما عن الإنسان واعتبر أن هذا الإنسان مسير لا مخير حتى كان ما أصاب الله به البلاد من تأخر ومن ظلم وفساد كان لمصلحة لا يعلمها إلا هو ولا حاجة للإنسان أن يثور أو يرفض أو ينتقد الظلمة والمفسدين والمتسببين في التخلف. وقد نسب إلى البوني قوله:

كل الأمور لمبديها وخالقها

فما إلى العبد تخيير وتدبير

فرب رأى نراه نافعا حسنا

وما حديث، لعمري، فيه تدبير

فالله يعلم ما للعبد مصلحة

فيه وقد يصحب التعسير تيسير

وقد يؤخر مولانا منافعنا

والعبد ما ضره في ذاك تأخير

فاصبر إذا المجازي حكمه برضى

أما علمت بأن الصبر مأجور (1)

وقد جاء الورتلاني في القرن الثاني عشر (18 م) فغرق، رغم علمه،

فيما غرق فيه ابن مريم والصباغ والبطيوي وغيرهم، وأكثر من الحديث عن أعمال المتصوفة ونسبة الخوارق والكرامات لهم. فقد أخذ يزور القبور ويصلي حولها ولا يكاد يسمع بصالح، حقيقة أو خرافة، إلا زاره وأخذ

(1) من مخطوط رقم 2266 مجموع ورقة 92، المكتبة الوطنية بالجزائر. وسنترجم لأحمد البوني في الجزء الثاني.

ص: 478

البركات منه. ومن جهة أخرى غاص هو إلى أعماق التصوف فدرس النظريات الصوفية من كتبها وسيرة أصحابها، وحاول صيام الدهر فلم يستطع، فقد ظل ثلاثة أيام صائما عن كل شيء إلا جرعة ماء، ثم اضطر لإبطال صومه في اليوم الرابع عندما أحس بالتعب والجوع، واعتبر اللذة التي حصلت له من هذه التجربة لا تعادلها أية لذة. وكان مذهبه في التصوف هو اتباع الطريقة الشاذلية وسلوك علم الباطن ونقد الفقهاء الذين اعتبرهم أعداء للصالحين والأولياء، واعتبر هؤلاء مقربين إلى الله، وأشاد بنبوءة سيدي خالد (خالد بن سنان العيسي)، كما لبس الثياب العادية (1). ولكن الورثلاني كان، كمعظم أتباع الطريقة الشاذلية، يبدي اهتماما بشؤون الدنيا وملذات الحياة.

وافتخر الورثلاني بأنه زار عددا كبيرا من الأولياء والصلحاء من تلمسان إلى عنابة ومن بجاية إلى سيدي خالد. وقد خصص قسما كبيرا من رحلته للحديث عن المرابطين والصلحاء والشرفاء. فعدد حوالي خمسين منهم في جبل زواوة وحوالي عشرين في بجاية وضواحيها. وغير ذلك. وكان جميعهم، في نظره، مقربين إلى الله، وأقطابا واضحين، وأطوادا شامخين في العلم والعرفان، وشموسا ساطعة للحق والبرهان، كما أورد عددا من أقطاب التصوف في المشرق الذين لقيهم أثناء حجاته وأجازوه. مثل عبد الوهاب العفيفي الذي أخذ عليه الورثلاني الطريقة الشاذلية ولقنه الذكر وجدد عليه العهد، ومثل الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الذي سماه (سلطان العارفين)، وكذلك علي الفيومي الذي أخبر أنه وجده يرقص ويشطح (2). وملأ الورثلاني رحلته بالحديث عن النبي خالد وضريح الأخضري وسيدي عقبة والصحابي أبي لبابة، وقارن الخنقة بمكة، وزار في بجاية القبر المنسوب لعبد القادر الجيلاني، وتحدث عن حياة أبي مدين الغوث في بجاية وتلمسان، وروى

(1) الحاج صادق (عبر شمال إفريقية)، 320.

(2)

عن حياة وتصوف الورثلاني انظر فصل التاريخ من الجزء الثاني، وكذلك دراستي عن الرحلات الجزائرية الحجازية. في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

ص: 479

قصة عبد الحق الإشبيلي مع زنديق بجاية وأميرها. وقال إن الأولياء والصالحين أحياء في قبورهم. وكان يروي عن المشعوذين والحمقى ويعتبر الجميع أولياء صالحين، ونسب إليهم الجذب وطريق القوم (1).

ومن الكرامات التي رواها في رحلته أن بعض الأولياء قد أمر الجبل بالانخفاض قانكشفت الكعبة، وأن حيوان المعز قد تحول إلى جلود زيت، وأن ماء زمزم كان يخرج من خلوة أحد الشيوخ، وأن بعضهم قد أقام بقرة بعد ذبحها، وأن آخر قد رقي طفلا مقعدا فقام يمشي (2) وقال عن أحد المرابطين، وهو علي بن داود، إنه من شعراء الرسول. (ولو كان كلامه بالعريبة لكان يكتب بسواد العين لما فيه من العلم اللدني). وروى أن سعيد الفاني كان عارفا بالله ومجدوبا بالحقيقة، وأنه (الورتلاني) قد سمع بنات أفكاره في الوعظ وطريق الحب الإلهي بالبربرية وأن كلام هذا الشيخ يسلب العقل وأنه يكاد يكون كلام ابن عطاء الله وإنما هذا فاقه لأنه بالعربية. واعتبر الورتلاني رتبة الولاية والصلاح غير مقصورة على العلماء والمثقفين لأن (في عالم عمالتنا للعوام المجذوبين كلام في المعرفة والمحبة والوعظ يحرك القلوب ويفتنها، غير أنه عليه كسوة البربرية، فالذي يفهمه يذوقه ذوقا معتبرا يسلب العقل)(3).

وقد عمت الخرافة المتعلمين والعلماء والدراويش والكتاب على حد سواء. فقد روي عن مفتي المدية لسنة 1172، وهو الحاج أبو القاسم المغربي، أنه طلب من الناس قراءة دعاء يوم عاشوراء ثلاثمائة وست وستين مرة (4). وهذا محمد المصطفى بن زرفة، وهو من أوائل القرن الثالث عشر، قد روى أن من كرامات أبي مدين وجود الملح في سبخة ميسرغين وسبخة

(1) الحاج صادق (عبر شمال إفريقية)، 284، 370.

(2)

الورتلاني (الرحلة)، 10، 14، 17.

(3)

نفس المصدر، 35، 187، 603.

(4)

من رقاع مخطوط وجد في مكتبة الأمير عبد القادر.

ص: 480