الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا سيما الحلي والمطروزات. ولم ينتشر الرسم إلا قليلا بين الجزائريين، كما سنرى، وانتشر بدلا منه الخط والمنمنمات (1).
الجهاد أو الإحساس المشترك
1 -
والإحساس المشترك بين الجزائريين والعثمانيين هو الذي نود أن نعالجه في هذه الفقرة. ذلك أن أهم ميزات العهد العثماني في الجزائر هي استمرارية فكرة الجهاد ضد الكفار بالمعنى التقليدي للكلمة وبالمعنى الذي آمن به العثمانيون منذ كانوا رعاة في هضاب آسيا الصغرى والوسطى ومنذ أصبحوا جنودا على حدود الدولة العثمانية يغيرون على بيزنطة فيستشهدون أو يغنمون. هذا المعنى للجهاد هو الذي جاء به العثمانيون للجزائر أيضا، فهو من تقاليدهم العريقة. وقد انضاف إليه جهاد الأندلسيين وأهل شمال إفريقية ضد دار الحرب، وهؤلاء كانوا أيضا يستعملون الجهاد في معناه التقليدي الذي ورثوه عن أجدادهم، أمثال عقبة بن نافع وعبد الرحمن الغافقي وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وابن تومرت وعبد المؤمن. إن العثمانيين وأهل الأندلس وشمال إفريقية يتشابهون كثيرا في هذه النقطة التي تحتاج إلى دراسة مقارنة أكثر عمقا. فجميعهم كانوا جند حدود في الدولة الإسلامية الكبرى. وجميعهم كانوا أصحاب ميول حربية، وجميعهم أيضا آمنوا بالإسلام بعقيدة راسخة واتخذوا من الجهاد طريقا للدفاع عن هذه العقيدة. ويمكننا أن نضيف أن جميعهم كانوا من أهل السنة. ولعل من أسرار التواجد العثماني طيلة قرون في شمال إفريقية أوجه التشابه هذه التي ذكرناها بين الطرفين.
والجهاد الذي مارسه العثمانيون (والسكان معهم في ذلك) نوعان:
جهاد بحري عام وجهاد بري خاص. فالجهاد الأول كان في البحر لا يعرف حدودا سوى حدود الغلبة والهزيمة، فهو حرب بكل معنى الكلمة. كان
(1) عن انتشار الخط انظر فصل المؤسسات الثقافية، فقرة المكتبات، من هذا الجزء.
العثمانيون خلاله يجوبون البحر الأبيض والمحيط الأطلسي وبحر الشمال، ووصلوا بمغامراتهم ومطارداتهم لأعدائهم إلى شواطئ إفريقية الغربية وجزر الكناري وشواطئ إنكلترا وشمال أوروبا بالإضافة إلى إيسلاندا (1). ولعلهم قد وصلوا إلى ما هو أبعد من ذلك، غير أن الوثائق لا تساعدنا الآن. وكان هذا الجهاد موجها ضد كل الدول المسيحية التي لا تعقد معاهدة صداقة ووئام مع الجزائر. ويقتضي ذلك مطاردة سفن العدو في البحر والاستيلاء على ما فيها من غنائم، وأخذ ملاحيها وركابها أسرى إلى الجزائر انتظارا للفدية أو البيع في سوق الرقيق. وقد امتلأت خلال القرن العاشر والحادي عشر دور الجزائر ومحلاتها بهؤلاء الأسرى الذين كبا بهم الحظ. وقد اشتهر من أبطال الجهاد البحري الأخوان بربروس ومراد رايس وابن الحاج موسى وابن مبارك وحميدو وعلي البوزريعي. وقد أدى حماس العثمانيين للجهاد البحري ومطاردة خصومهم في عقر دارهم إلى مساندة الجزائريين لهم في ذلك والعمل معهم في سفنهم والتحالف معهم ضد العدو المشترك. كما أن سكان الشواطيء الجزائرية كانوا يأمرون بدورهم من وقع في قبضتهم من العدو ويسلمونهم للسلطة. فهناك إذن معركة واحدة مستمرة اشترك فيها العثمانيون والجزائريون على السواء. وقد كانت البابوية ودول أوروبا تمارس نفس المعاملة على السفن الجزائرية والإسلامية عامة.
أما النوع الثاني من الجهاد فهو الجهاد البري الخاص والموجه ضد إسبانيا بالذات. ذلك أن إسبانيا، كما عرفنا، قد أجبرت على الخروج من جميع النقط الساحلية التي احتلتها في الجزائر ما عدا وهران ومرساها الكبير. وكان الإسبان قد دعموا هناك وجودهم بالتحصينات والعدد والعدة. وكانوا بعد أن فشلوا في تحالفم مع آخر ملوك بني زيان واستيلاء العثمانيين على
(1) انظر دراسة بيرنارد لويس من حملة مراد رايس إلى إيسلاندا (في مجلة الغرب الإسلامي) عدد 15، 16 سنة 1973، 139 - 144. وقد ترجمناها إلى العربية. وعن حملة أخرى له إلى جزر الكناري انظر دراستي عن كتاب مورقن في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر 1978.
تلمسان، قد بدأوا في التحالف مع بعض الجزائريين المقيمين حول مدينة وهران، كبني عامر، الذين أجبرتهم الظروف الاقتصادية على التعامل مع الإسبان (1). وكان هذا محاولة لمد النفوذ الإسباني داخل البلاد. كما أن الإسبان قد حاولوا الاستيلاء على مستغانم وإيجاد قلعة بحرية جديدة لهم تكون أقرب إلى مدينة الجزائر من وهران. وهذه المحاولات لإضعاف الوجود العثماني في الجزائر بالإضافة إلى عدة حملات أوروبية بزعامة إسبانيا ضد الجزائر (حملة شارلكان، وحملة أوريلي، الخ) قد جعلت العثمانيين في الجزائر في حالة حرب مستمرة، ولا سيما في إقليم الغرب. فإذا كان إقليم الشرق (قسنطينة) وإقليم الوسط. (التيطري) قد نعما بالهدوء النسبي، فإن إقليم الغرب كان في حالة توتر، بل حالة حرب مستمرة. وقد أثر هذا الوضع على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما أثر على الحياة الثقافتة (2). كما سنرى.
ولكن أكبر تأثير لهذا الوضع كان على الإدارة المركزية من جهة وعلى العلاقات بين العثمانيين والجزائريين من جهة أخرى. ذلك أن الموقف من جهاد إسبانيا هو الذي كان يقرر مصير الباشا أحيانا. فالتواني في حربهم أو
(1) ذكر بيتز الذي أقام خمس عشرة سنة في الجزائر وشارك في الحرب ضد إسبانيا في وهران خلال القرن الحادي عشر (17 م) أن الإسبان كثيرا ما كانوا يغيرون على القرى المجاورة ليلا ويأخذون معهم الرجال والأطفال والنساء والماشية وكل شيء. وهم يحملون الجميع إلى إسبانيا ويعتبرون أولئك الأهالي أسرى. وفي الأحوال العادية كان الإسبان أيضا يستفيدون اقتصاديا من وجودهم بوهران. ذلك أن الجزائريين المجاورين كانوا يحضرون إلى أسواق وهران القمح والشعير والزبدة والعسل والغنم والشمع ونحوها فيأخذها الإسبان إلى بلادهم. انظر بيتز (حقائق)121.
(2)
ألفت عدة كتب وقيل شعر كثير في فتح وهران الأول سنة 1119 والثاني سنة 1205. كما ساهم العلماء في الحروب أمثال الرماصي وابن حوا وأبي راس وابن زرفة. وتأثرت بعض المدن من انتقال السلطة منها أو إليها مثل مستغانم ومازونة ومعسكر وتلمسان ووهران. كما تأثر بعض السكان في علاقاتهم الاقتصادية بالإسبان أو انقطاعها حسب ظروف الحرب.
عدم اتخاذ العدة اللازمة لذلك قد يؤدي بالوجق إلى الثورة أو التمرد ضد الحاكم، أو عزل الباي المسؤول. وبقدر ما كان الباشا أو الباي يستعد لحرب الإسبان أو الانتصار عليهم بقدر ما كان ذلك رصيدا لصالحه في الحكم والشعبية. ونفس الشيء يقال عن العلاقة مع الجزائريين، فقد كان العلماء يقفون إلى جانب المجاهدين من الحكام. وكان الشعراء والكتاب يحضونهم أيضا على جهاد الإسبان، ويمنون من يفعل ذلك منهم بالخير والبركة وحب الناس والفوز عند الله. وإذا انتصر العثمانيون على الإسبان، مثل ما حدث سنة 1119 وسنة 1205، لهجت الألسن بالمديح والثناء للباي والداي والمسؤولين على هذا الانتصار وللجيش الذي حققه ولقواده الأبطال. وخرج الشعراء والكتاب يسجلون هذا الانتصار، فيكون ذلك سببا في حب الناس للعثمانيين ونشر الدعاية لهم (1). وهذه الأهمية السياسية للجهاد جعلتنا نفرده بهذه السطور.
2 -
ولنذكر هنا نماذج من مواقف الأهالي من الجهاد ضد الإسبان ومواقفهم من العثمانيين ففي معركة مستغانم بين المسلمين والإسبان سنة 965 المعروفة (بمعركة مازغران) اشترك الشاعر الشعبي الشهير الأكحل بن خلوف، المعروف بالأخضر، فيها شخصيا. وقد سجل قصة المعركة في قصيدته التي مطلعها:
يا سايلتي عن طراد الروم
…
قصة مازغران معلومة
فذكر حسن باشا قائد الجيش الإسلامي وأعماله خلال المعركة والأهالي الذين ساهموا في الجهاد والطريق التي مر بها الجيش الإسباني بقيادة (الكونت دالكادوت) وتحدث عن معنويات الجيش الإسلامي والجيش الإسباني: فهنالك الشجاعة والإقدام والحزم، وهناك الذعر والخوف
(1) مثال ذلك تلك الشعبية التي كسبها محمد بكداش باشا وصهره أوزن حسن والباي مصطفى بوشلاغم في الفتح الأول لوهران والباي محمد الكبير وحسن باشا في الفتح الثاني.
والجبن. وأشار إلى موت القائد الإسباني في المعركة (1). ويهمنا أن نشير إلى نقطتين في هذه القصيدة، الأولى اعتبار الشاعر تلك المعركة أخذا بثأر غرناطة التي كان أخذ الإسبان لها ما يزال قريب العهد، والثانية إشادته بحسن باشا وبالعثمانيين، وكلتاهما تؤكد ما ذهبنا إليه من أن الجهاد كان مشتركا وأنه كان يمثل الرابطة القوية بين العثمانيين والسكان. وما يزال شعر ابن خلوف يحفظه الناس، ولا سيما مدائحه النبوية.
وهناك قصة عالم وشاعر من تلمسان سجلها ابن مريم في كتابه (البستان) وهو عبد الرحمن بن موسى. فقد وقف هذا الشاعر موقفا مؤيدا لمساعي العثمانيين في استرداد وهران من الإسبان ووصفه ابن مريم بأنه كان (فظا غليظا على كل جبار عنيد) وأنه لم يكن مغمورا في بلده تلمسان بل تجول وأخذ العلم عن علماء زواوة أيضا. وحين توفي سنة 1011 مشى الناس في جنازته (حنى الترك)(2). ولابن موسى أشعار كثيرة في المديح النبوي، ولكن الذي يهمنا هو شعره السياسي. فله شعر قاله في شيخه عند حصار وهران على يد حسن باشا بن خير الدين، وآخر عندما هدم الباشا المذكور حصن المرسى الأعلى وهرب الإسبان من ذلك إلى الحصن الأسفل. وقد هنأ بهذا الشعر الباشا على فتح الحصن بقوله: هنيئا لك باشا الجزائر والغرب
…
بفتح أساس الكفر، مرسى قرى الكلب وهو يشير بباشا الجزائر والغرب إلى وسط الجزائر وغربها على أساس أنه حاكم الجزائر كلها، بما في ذلك غربها، لأن نفوذ العثمانيين هناك كان جديدا. وكان فتح الحصن المذكور سنة 1007، حسب رواية ابن مريم. والظاهر أن ابن موسى كان من بقايا العلماء المؤيدين للعثمانيين بتلمسان. وقد كان بالإضافة إلى الشعر، ماهرا في الحساب والفرائض والنحو واللغة والفقه والحديث.
(1) المهدي البوعبدلي (الثغر الجمافني) 23 - 27. انظر أيضا مارسيل بودان (مجلة جمعية جغرافية وهران)، 1933، 253 - 262.
(2)
ابن مريم (البستان)، 130.
ومن العلماء الصلحاء الذين لعبوا دورا في الجهاد ضد الإسبان والذين كانوا محل احترام العثمانيين، محمد بن علي المجاجي المعروف بابهلول. وقد ترجم لهذا العالم الصالح أبو حامد العربي المشرفي في كتابه (ياقوتة النسب الوهاجة). كما ترجم له آخرون (1). وبناء على المشرفي فإن المجاجي كان من أهل القرن الحادي عشر وأنه كان شريفا أندلسي الأصل، تقيا سخيا، كما أخبر أن الأتراك كانوا يعظمون أسلافه. وقد حارب أحفاده أيضا الفرنسيين في صفوف الأمير عبد القادر. وكان المجاجي شاعرا أيضا. كما أن زاويته كانت مركزا للمجاهدين في سبيل الله. وقد نقل المشرفي أن حوالي ألف وثلاثمائة مجاهد خرجوا ذات مرة لقتال الكفار بثغر تنس، وكانوا جياعا فمروا بزاوية المجاجي فأطعمهم جميعا (حتى شبعوا من الرغائف والثريد والزبدة والعسل، وجاء بقصعة الزاوية وفيها ثلاثون نوعا من الطعام واللحم). وقد مات المجاجي موتة غامضة، غير أن أتباعه ينعتونه (بالشهيد) ويسمونه (بسفيان العابدين) ووصفه تلميذه سعيد قدورة بأنه كان عالما بالنحو والفقه وبالتوحيد والمنطق (2). ويهمنا من قصة المجاجي كون زاويته كانت مركزا للمجاهدين ضد الكفار، وكون العثمانيين كانوا يعظمونه ويعظمون سلفه، وكون هذا التقليد (قتال الأعداء) قد استمر فيهم حتى زمن الفرنسيين. وكثير من العلماء والصلحاء كانوا مجاهدين اما بطريقة غير مباشرة كما كان المجاجي واما بطريقة مباشرة كما فعل مصطفى الرماصي وأمثاله.
فقد روى عبد الرحمن الجامعي المغربي، الذي جاء إلى الجزائر بعد فتح وهران الأول سنة 1119، قصة مفيدة عن مشاركة العلماء في جهاد الإسبان. فقد وجد الشيخ محمد مصطفى الرماصي المعروف بالقلعي يسكن بأهله بيوت الشعر قرب غابة في رأس جبل ببلده، وكان يأوي إلى أهله ليلا
(1) منهم محمد بن أحمد المغراوي في كتابه (تمييز الأنساب) وكذلك صاحب كتاب (سمط اللال في معرفة الآل) و (كمال البغية).
(2)
أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط مصور شخهي 132، 140، 146، 149، 156.
ويظل بالنهار في داره ومسجده يطالع كتبه ويقرئ طلبته. ولما سأله الجامعي عن ذلك أجابه الرماصي بأنهم كانوا على تلك الحال على عهد الإسبان خوفا منهم لأنهم لم يكونوا يأمنون جانبهم في الدور إذ قد يطرقونهم ليلا، لذلك خرجوا لبيوت الشعر ليسهل الفرار منها إلى الغابات والجبال. كما روى الجامعي أن المرابط علي أبا حسون (أبو حسن عند أبي راس في الحلل السندسية) العبدلي أنهم كانوا في حوز تلمسان لا يهدأ لهم بال ولا منام حتى جعلوا عليهم من يحرسهم وأنه إذا نام أحدهم تجده يهذي بإغارة النصارى عليهم وقد يصرخ في نومه. وقد علق الجامعي على هذه الحالة بأنه لا يعرف قيمة حلاوة الأمان إلا من ذاق مرارة الخوف (1) ولا شك أن هذه الحالة وأشباهها هي التي جعلت التحالف مع العثمانيين ضروريا لأن هناك قضية مشتركة بينهم وبين السكان (2).
ومن العلماء من كان يحث على الجهاد عامة وتحرير وهران خاصة، ومنهم من كان يتنبأ بالفتح قبل وقوعه تشجيعا للحكام. وكانوا يقرنون التهنئة بالتولية الدعوة إلى الجهاد ويعتبرون الباشا الحقيقي للبلاد هو الذي يطلق السفن في البحر ضد العدو ويسوس الناس بالعدل والشورى. فحين تولى أحمد باشا سنة 1107 (3)، هنأه الشاعر العالم محمد بن آقوجيل وضمن شعره حثا على الجهاد ضد الإسبان في وهران والجهاد بصفة عامة، ونصحه باتباع العدل بين الناس وحكم الشورى. ولا نريد أن نذكر جميع القصيدة، وحسبنا
منها ما يلي:
فرحت جزائرنا بكم وتأنست
…
بمقامكم فيها بحال حبور
(1) عبد الرحمن الجامعي (شرح الحلفاوي) مخطوط باريس رقم 5113 ورقة 30.
(2)
ذكر ابن سليمان في (كعبة الطائفين) 2/ 222 أن الفقيه محمد بن ملوك بن عبد القادر العامري والولي الصالح محمد السائح وولده قد استشهدوا (في مقاتلة كفار وهران) سنة 1053.
(3)
سماه ابن حمادوش في رحلته الأجه أحمد، انظر (الرحلة)، أما غونزاليز فقد سماه أحمد أهجي. انظر (مشاهير مسلمي مدينة الجزائر).
ولتلتفت نحو الجهاد بقوة
…
والكفر أقطع أصله بذكور
جهز جيوشا كالأسود وسرحن
…
تلك الجواري في عباب بحور
أضرم على الكفار نار الحرب لا
…
تقلع ولا تمهلهم بفتور
وبقربنا وهران ضرس مؤلم
…
سهل اقتلاع في اعتناء يسير
كم قد أذت من مسلمين وكم سبت
…
منهم بقهر أسيرة وأسير (1)
وكان حسين خوجة الشريف باشا قد أرسل سنة 1117 المعدات للشروع في فتح وهران ولكنه عزل بعد عام فتولى مكانه محمد بكداش باشا الذي فتحت في عهده. ويبدو أن العلماء والشعراء كانوا يضغطون على العثمانيين للقيام بالجهاد والفتح. ولكن الظروف الدولية لم تكن دائما مساعدة للعثمانيين على القيام بذلك. ومن التنبؤات التي أشرنا إليها، وهي أيضا وسيلة للضغط، كما أنها وسيلة للتزلف والتقرب من السلطة، ما بعث به (الأديب السالك الناسك) محمد القرومي على لسان ابنه إلى محمد بكداش أثناء الحرب ضد الإسبان من أنه قد رأى في المنام أن وهران ستفتح على يده، وأنه (أي بكداش) إمام المسلمين (2) الخ. وقد عرض الشاعر المفتي ابن علي بالولاة السابقين لبكداش الذين انغمسوا في الملذات واستهانوا بالجهاد، بل اتهمهم بأخذ الرشوة وجمع المال والتهاون في تحرير وهران: وكل رئيس يرتجى لخطوبها
…
تشاغل في لذاته وهو نائم
ورب أمير أزمع السير نحوها
…
فيرجع لما كاثرته الدراهم
رضوا بالرشى في الدين حين تخلفوا
…
وقد رسخت في الأرض تلك الأرقام (3)
(1) محمد بن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط 112. والقصيدة في سبعين بيتا، وسنذكر ابن آقوجيل في مناسبات أخرى.
(2)
نفس المصدر، 147، انظر أيضا ما كتبه الجامعي عن بكداش من أنه (قرشي النجار) وأنه أخذ طريق التصوف عن أحمد البوني وأن والده كان مرابطا ناسكا صوفيا. انظر الجامعي (شرح الحلفاوي) مخطوط باريس رقم 5113.
(3)
الضمير المؤنث في الأبيات يشير إلى مدينة وهران. والأبيات من قصيدة طويلة وجيدة هنأ بها بكداش باشا على الفتح. وقد أوردها الجامعي في (شرح الحلفاوي) مخطوط باريس رقم 5113. انظر أيضا مراسلات يوسف باشا مع محمد ساسي =
3 -
ولم يكن الجهاد دائما هجوميا ولا ضد إسبانيا فقط. فرد غارات الأجانب والانتصار عليهم كان يعتبر من أهم أنواع الجهاد. وقد تعرضت الجزائر إلى حملات أجنبية عديدة. وهذه الحملات كانت أحيانا تضم عدة دول كحملة شارلكان (أو شارل الخامس) وحملة اكسموث وحملة أوريلي، وأحيانا كانت تقودها دولة معينة كحملة الدنمارك سنة 1184. فقد ضرب الأسطول الدنمركي مدينة الجزائر بالقنابل، ولكن النصر كان حليف الجزائريين.
وانبرى الشعر الشعبي ليسجل هذا الانتصار وليربط بين حملة شارل الخامس الفاشلة وحملة الدنمارك ولينوه ببركة الأوليات والصالحين الذين ساعدوا، في نظر الشاعر، على تحقيق النصر أمثال الولي داده وسيدي الجودي والثعالبي وأحمد بن عبد الله الجزائري وسيدي جمعة وسيدي الكتاني وسيدي السعدي وسيدي الفاسي وعبد القادر الجيلاني و (الرجال السبعة) وغيرهم من حماة مدينة الجزائر وحراسها اليقظين. كما نوه الشاعر بهذه المناسبة بالسلطان (وهو هنا يقصد الباشا - حاكم الجزائر) والخزناجي والآغا ووكيل الحرج والخوجة والرياس (البحارة) الشجعان. والقصيدة طويلة وقائلها مجهول، كمعظم أصحاب الشعر الشعبي في الجزائر. وتذهب القصة إلى أن الأسطول الدنمركي جاء لمهاجمة مدينة الجزائر ليلة احتفال أهلها بالمولد النبوي الشريف. وعندما لاحظ الغزاة أن الجزائريين قد أوقدوا
= البوني حول نفس الموضوع. مخطوط باريس رقم 6724 وقد نشرنا تلك المراسلات. وكان بعض العلماء يثيرون النخوة والشهامة في المحاربين والولاة بالحديث عن المرأة المسلمة وهي في أيدي اليهود والنصارى، ومن ذلك قول ابن محلى:
أيا معشر الإسلام أين فحولكم
…
أما أبصروا في السبت عبد الحرائر
وتحت اليهودي غادة عربية
…
يعالجها الخنزير فوق المزابر
انظر أبا راس (عجائب الأسفار) المكتبة الوطنية الجزائر، له عدة أرقام منها 1632، 1633، 2003 الخ.
الشموع احتفالا بهذه المناسبة ابتداء من الغروب ظن الدنماركيون أن الجزائريين كانوا يستعدون لمهاجمتهم فظلوا يطلقون قنابلهم (أو البونبة كما يسميها الشاعر) حتى نفذت ذخائرهم - وقد افتتح الشاعر قصيدته بهذا الطالع:
باسم الله نبدي على وفا
…
ذا القصة تعيانا
قصة ذا البونبة المتلفة
…
كيف جابوها اعدانا (1)
وقد تعرض عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري في رحلته باختصار إلى علاقات الجزائر بالدنمارك في تاريخ سابق للتاريخ المذكور، أي سنة 1159 (2). وهناك أمثلة كثيرة على مشاركة العلماء والشعراء في الدعوة إلى الجهاد أو وصف المعارك التي جرت والإشادة بالانتصار الذي تحقق ومدح المسؤولين عليه. فالعصر، كما عرفنا، كان مليئا بالتوتر والحروب.
4 -
ومن ذلك فتح وهران الثاني سنة 1205. وقد عرفنا أن عاصمة الغرب الجزائري كانت تتغير من مدينة إلى أخرى، تبعا لأهمية المدينة وقربها أو بعدها عن العدو. وكان البايات هناك يختارون للقيام بمهمة الجهاد والتحضير له كلما أتت المناسبة. كما كانت الحرب ضد إسبانيا نوعا من الاختبار للتحالف الجزائري العثماني وإعادة الحماس الديني والتأييد السياسي إلى سالف عهده. وكان هؤلاء البايات يعرفون مكانة العلماء والصلحاء لدى العامة، وكانوا يعرفون أنهم هم (الحزب الديني) المنادي بالجهاد بإلحاح.
(1) أغنية جزائرية من القرن الثامن عشر. في (المجلة الإفريقية) 1894، 325، النص العربي وترجمته بالفرنسية. ومن الشعر الشعبي الذي قيل في هذه المناسبة أغنية أوردها فانتور دي بارادي الفرنسي وأخرى بالتركية كان يتغنى بها الإنكشاريون. انظر ديني (أغاني الإنكشارية) في مجموع باسيه، الجزء الثاني، 49. وكان قائد الأسطول الدنماركي المهزوم هو الكونت دي كاس. انظر أيضا عن هجوم الدنمارك الزهار (مذكرات)، 25.
(2)
ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. انظر دراستي عنه في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1.
وإذا لم يقم العثمانيون بالجهاد فإن العلماء سيتهمونهم بالتعاون في الدفاع عن الدين الإسلامي والخلود إلى الراحة والتغاضي عن العدو، كما صرح بذلك ابن علي في الشعر السابق. لذلك وضع الباي محمد الكبير العلماء في فوهة المدفع حتى يسكتهم إذ جعلهم في طليعة المحاربين ضد الإسبان. فإذا تحقق النصر كسب وكسبوا أو سكت وسكتوا وإذا كتبت الهزيمة تخلص من نقدهم.
ففي التاريخ المذكور (سنة 1205) جند الباي محمد الكبير، باي معسكر عندئذ، طلبة (العلماء وتلاميذهم) ولايته وأمرهم بحرب الإسبان في وهران ونواحيها، وأمرهم أيضا أن يتوقفوا عن التدريس في المدن وأن يدرسوا، بدلا من ذلك، في الرباطات والمراكز الأمامية كما نقول اليوم، مثل جبل المائدة المطل على وهران، للتضييق على العدو. وكان الهدف فرض الجهاد عليهم فرضا لأن عليهم في هذه الحالة أن يدافعوا عن أنفسهم قبل مهاجمة الإسبان في المدينة. وعندما كثر الطلبة أمر عليهم الشيخ محمد بن الموفق بوجلال والطاهر بن حوا، قاضي معسكر، والشيخ محمد بن علي الشارف المازوني. وقد وصل عدد الطلبة المائتين وأعطاهم الباي السلاح والعدة وأمرهم بقتال الكفار والمسلمين المنحازين إليهم. ولكن هزيمة الطلبة كانت شبه مؤكدة. فهم، كما تقول الرواية، غير معتادين على حمل السلاح ولا يعرفون فن الحرب. وكانوا سيقعون في قبضة العدو لا محالة لولا فرارهم في الوقت المناسب ومعرفتهم كيف يحمون أنفسهم قبل الوصول إلى هدفهم.
وليست هذه هي المرة الأولى التي استعمل فيها الباي محمد الكبير الطلبة في الجهاد ضد الإسبان. فقد أمر ذات مرة بعض ثقاته من الطلبة بالتوجه، بعد تسليحهم وتموينهم، إلى النواحي الغربية من ولايته لتجنيد زملائهم الطلبة من هناك وترغيبهم في الجهاد. وقد نجحت البعثة حسب نفس الرواية، إذ عاد أصحابها بنحو أربعمائة طالب. ولم يتردد الباي في تسليحهم وإعدادهم ودفعهم للحرب. وكانوا يزدادون مع الزمن حتى (أربى عددهم عن
الحد). وبذلك أصبح الطلبة يشكلون فرقة عسكرية علمية بكل معنى الكلمة. وكان الباي يرسل إليهم حاجتهم من المؤونة والسلاح كل شهر (1).
ولا شك أن هذه القصة تعطي نموذجا لتحالف الجزائريين والعثمانيين ضد العدو المشترك الذي شجع على هذا التحالف من أوائل القرن العاشر إلى أوائل الثالث عشر. كما أن هذه القصة تعطي نموذجا لمساهمة العلماء في الجهاد بأنفسهم وليس عن طريق الكلام والشعر والتأييد المعنوي. ولا شك أيضا أن وجود العلماء على رأس الجيش المحارب كان يشجع الجنود والعامة على الاقتداء بهم والارتماء في أحضان المعركة بكل حماس وجدية. وكان هذا أيضا من أهداف الباي محمد الكبير الرئيسية. فتحرير وهران الثاني والأخير كان، حينئذ، عن طريق الجيش النظامي وعن طريق ما نسميه اليوم بالحرب الشعبية.
والشيخ بوجلال الذي أمره الباي على الطلبة في جبل المائدة شرقي وهران يعتبر من أبرز العلماء في عصره. وكان من أبرز المدرسين. ونعرف من إجازته لمؤلف كتاب (الثغر الجماني) أنه كان يدرس الفقه والحديث والتوحيد والمنطق والأصول والبلاغة والنحو. وقد اكتسب الشيخ بوجلال هذه العلوم بدراسته في فاس حتى اشتهر بها، كما ذهب إلى الحج ولقي علماء المشرق. وكان وقت تامير الباي له أستاذا بارزا في معسكر (2). ولعل الباي كان يحاول بتعيينه في تلك المهمة التخلص منه، كما تخلص من القاضي ابن حوا باستشهاده، ومهما يكن الأمر فإن هناك عالما آخر كتب حول هذه المناسبة وهو أبو راس الناصر الذي عاصر فتح وهران. ويهمنا من أبي راس أنه لم يكن حاضرا في معسكر عند بدء الجهاد وإنما سمع بالانتصار وهو في تونس عائدا من الحج فخف إلى وهران للمشاركة في الجهاد
(1) احمد بن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط باريس رقم 5114 ورقة 41. وقد استشهد في هذه الحملة القاضي ابن حوا المذكور. انظر أيضا (الرحلة القمرية) لابن زرفة كما لخصها هوداس (وقائع مؤتمر المستشرقين الرابع عشر) الجزائر. 1905.
(2)
ابن سحنون (الثغر الجاني) ورقة 39 - 40.