الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتخبه. وغاية الأمر أن الفرمان سيؤكد وضعا قائما ويزيد في قناعة السكان بشرعية الحكم كما أنه قد يكون حجة ضد الثوار عند الضرورة.
فئات المجتمع
1 -
هناك ثلاثة عوامل خارجية أثرت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال العهد العثماني، الأول هجرة الأندلسيين التي بدأت خلال القرن التاسع وتقوت خلال العاشر. والثاني الوجود العثماني نفسه. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك عاملا ثالثا وهو الوجود المسيحي واليهودي. فقد حل بمعظم المدن الساحلية الجزائرية عدد كبير من المهاجرين الأندلسيين الفارين من اضطهاد الإسبان الذين استولوا على أملاكهم وديارهم وهددوهم في عقيدتهم ولغتهم. وأشهر المدن التي حلوا بها هي: شرشال وتنس ومستغانم ومدينة الجزائر ودلس وبجاية وعنابة. وقد وجد هؤلاء المهاجرون في الجزائر أرضا كأرضهم وأهلا كأهلهم فاستوطنوا وأسهموا في الحياة الاجتماعية بإدخال عنصرين رئيسيين، الأول مضاعفة الكفاح ضد الإسبان في البحر والثغور دفاعا عن النفس، والثاني نشر أنماط حضارتهم بين الجزائريين. وكانت الأندلس إلى آخر عهدها، رغم ضعفها السياسي، هي المرحلة الراقية من تطور الحضارة العربية الإسلامية. فارتقت بوجودهم في الجزائر العمارة وصناعة الطب والموسيقى والزراعة والصنائع والحرف والتجارة والتعليم والخط والوراقة وصناعة الكتاب. وقد كان على الأندلسيين في بادئ الأمر (وقد هاجروا بنسائهم وأطفالهم) أن يواجهوا مشاكل اجتماعية جمة أهمها الفقر. لذلك أنشأوا لهم أحباسا خاصة تعرف بأوقاف الأندلس يستفيد منها فقراؤهم ويأوي إليها مهاجرهم الضعيف والبائس والغريب والعاجز (1). ورصد أغنياؤهم لهذه الأوقاف كثيرا من أموالهم. وهكذا أصبح الأندلسيون، على مر السنين، يشكلون عنصرا بارزا مؤثرا من السكان بحركتهم التجارية
(1) انظر الفصل الخاص بالمؤسسات الثقافية (قسم الأوقاف) من هذا الكتاب.
وذكائهم وعلمهم وصنائعهم ومهارتهم في البحر- وقد طبعوا المدن الجزائرية، وخاصة الساحلية، بطابعهم العمرافي الذي ما يزال باقيا إلى اليوم (1).
وأثر العثمانيون بدورهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للجزائر. وأول هذا التأثير هو ربط المجتمع الجزائري بالمجتمع الشرقي - فقد جاء العثمانيون بوسائل حضارية شرقية إلى الجزائر من مآكل وملابس ومشارب وألقاب وصنائع وتقاليد. ولم تكن نساؤهم تأتي بكثرة (ونحن هنا نتكلم عن كبار المسؤولين وليس عن الجنود الذين كانوا يأتون بالضرورة عزابا)، ولكن القليل منهن قد نشرن أشياء لا عهد للمجتمع الجزائري بها (2). كما أن العثمانيين قد أدخلوا المذهب الحنفي إلىالجزائر وجاؤوا معهم بطرق صوفية لم تكن معروفة أو على الأقل لم تكن منتشرة بين السكان. ومن جهة أخرى أثروا في العمارة كالمساجد والأضرحة، وفي الموسيقى والخط، والمنشآت العسكرية والبحرية، وفي اللغة والملابس ونحو ذلك. وقد أنشأوا هم أيضا الأحباس التي تخدم جميع الأغراض الاجتماعية والعلمية. ومن أهمها وأشهرها أوقاف (سبل الخيرات). ومن المعروف أن العثمانيين مدينون حضاريا للحضارات العربية والفارسية والبيزنطية، بالإضافة إلى تراثهم الخاص. لذلك يمكن القول بأن الجزائر العثمانية قد ذاقت من كل هذه الحضارات خلال العهد
(1) عن أثر الأندلسيين انظر أيضا د. إبراهيمي (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) 9، يوليو 1970، 39.
(2)
كان بعض المسؤولين كالباشوات والمفتين والقضاة، يأتون معهم بأزواجهم وأطفالهم وأمهاتهم وأخواتهم، كما حل بالجزائر عدد من التجار العثمانيين وغيرهم كاليونانيين والعرب. وقد لاحظ الكاتب دابر، أنه كان في مدينة الجزائر في وقته (القرن 11 هـ - 17 م) ستمائة عائلة تركية وهذا بخلاف اليولداش والإنكشارية ورياس والبحر والأعلاج. انظر كتابه (وصف إفريقيا)، 177. أما عن تأثير الأتراك في العمارة فانظر رشيد الدوكالي (مساجد مدينة الجزائر في العهد العثماني)، 1974، 73.
العثماني، وهذا العامل ما زال لم يحظ باهتمام المؤرخين بعد.
أما العامل الثالث (المسيحي واليهودي) فهو لا يرقى في الأهمية إلى العاملين الآخرين (الأندلسي والعثماني) ولكنه جدير بالذكر. فالجزائر العثمانية قد شهدت نشاطا أوروبيا بحريا كبيرا على سواحلها وفي مدنها الرئيسية. فكان ذلك النزاع البحري الطويل الذي استغرق أجيالا. والحرب عامل تأثير، رغم سلبيتها، لأنها وسيلة اتصال وتعارف. فعن طريق الحرب عرف الجزائريون (بني الأصفر) أو الروم كما كانوا يسمون أحيانا، وتبادلوا معهم التجارب والمهارات العسكرية كالصنائع البحرية وبناء السفن وطرق معرفة البحر وحماية المراسي وتحصينها، وغير ذلك.
وهناك صنف آخر من الأوروبيين عرفهم المجتمع الجزائري عندئذ، وهم التجار. وكان لهؤلاء محاكم ومستشفيات وكنائس وفنادق ومخازن وعملات يتعاملون بها وبضائع يتاجرون بها. وملابس يظهرون بها ولغة يتخاطبون بها مع السكان وعمال من الجزائريين يعملون عندهم في بيوتهم وإداراتهم. ونفس الشيء يقال عن القناصل الذين كان لهم أيضا عمال جزائريون كتراجمة مرافقين أو مقيمين معهم في أماكن العمل. وإلى هؤلاء وأولئك يمكننا أن نضيف الأسرى المسيحيين الذين كانوا أحيانا يقدرون بالآلاف، وفيهم النساء والأطفال وأصحاب المهارات والأدباء. وكان هؤلاء الأسرى يعملون، في انتظار فديتهم، في شتى أنواع العمل كالزراعة والبناء والنظافة والطب. وبعض هؤلاء الأسرى قد اعتنقوا الإسلام وأصبحوا أتراكا (عثمانيين) لغة وجنسية وارتقوا إلى مراكز النفوذ (1). وقد سجل هؤلاء
(1) إذا اعتنق الأوروبي الإسلام يصبح (تركيا) وهي الطريقة التي كان أتراك الجزائر يكثرون بها من عددهم. ويصبح المسلم الجديد جنديا له راتب ثابت ويقيد في سجل العسكر. وهو يعلن إسلامه أمام الباشا والديوان ويطاف به في الشوارع على جواد مسرج ومزين وتضرب له الموسيقى ويرافقه الجنود وتجمع له الدراهم. انظر بيتز (حقائق)، 141. هذا عن المسلم الذي يختار الإسلام وحده. وهناك من كانوا يكرهون على الإسلام. وفي هذه الحالة لا يحتفل بهم ولكنهم يتمتعون بحقوق =
الأوروبيون حياتهم بأنفسهم في الجزائر في المذكرات والكتب التي نشروها بعد تحريرهم. ومن كتاباتهم نعرف أنهم لم يكونوا بمعزل عن المجتمع الجزائري بل كانوا يختلطون بأهله ويعملون معهم، وفيهم من لعب دورا بارزا في الحياة اليومية للسكان، وأحيانا في المغامرات السياسية. بل لقد كان فيهم من قربه أهل الحكم والحظوة إلى السلطة نفسها فأصبح يؤثر فيها كمستشار أو وزير أو قائد أو مدرب عسكري. وكل هؤلاء الأوروبيين (بأصنافهم التي ذكرناها) قد أثروا في الحياة الاجتماعية الجزائرية، كل حسب تغلغله وحسب إمكانياته في التأثير. ويعود تأثير هؤلاء الأوروبيين إلى القرن العاشر. فهذا كاتب أوروبي (جوزيف مورقان) يروي أن حسن باشا بن خير الدين قد ترك سنة 1567 عند مغادرته الجزائر عددا من المسيحيين والعبيد، (من بينهم عدد كبير من الفنانين المجيدين في مختلف الأنواع المفيدة)(1) ومن جهة أخرى نعرف أن قسما من سكان الغرب الجزائري كان على صلة مستمرة بالإسبان في وهران، كما أن قسما من سكان الشرق كانوا على صلة بتجار جنوة ثم الفرنسيين نواحي القالة وعنابة.
وتثيت الوثائق أن الجالية اليهودية كانت قوية خلال هذا العهد وأنها كانت تعيش في أهم المدن وخاصة عواصم الأقاليم ومدينة الجزائر نفسها. وقد مرت بنا بعض أخبار اليهود في القرن التاسع عندما تعرضنا لحياة المغيلي. وكانت هذه الجالية قد تقوت بهجرة يهود الأندلس مع المسلمين في الفترة المشار إليها. وقد جاء بعض يهود أوروبا إلى مدينة الجزائر في القرن
= الجندي فيسجلون في دفتر العسكر ويشاركون في غنائم البحر الخ .. انظر أيضا دابر، 177.
(1)
مورقان (التاريخ الكامل)، 475. وتمتلئ كتب الأوروبيين (غير الأسرى) بالأختبار عن الوجود الأوروبي في الجزائر ومدى التسامح الذي كان الجزائريون يبدونه نحوهم. انظر مثلا مردخاي نوا (رحلات)، 368. وقد وجدت في الأرشيف العثماني أن عددا من أهل الذمة كانوا يتمتعون بكراء الأوقاف الإسلامية. انظر مثلا (184) 32 - MI 228.
الثاني عشر (18 م) واستوطنوها مثل عائلتي بكري وبوشناق. وكان اليهود يشتغلون ببعض الصنائع الدقيقة والثمينة كالخياطة والصياغة واختبار جودة الذهب والفضة، بالإضافة إلى التجارة في الصرافة والدخان والعطارة ونحوها. وقد مرت عليهم عهود كانوا فيها مغمورين إلى حد ما ولكنهم في بعض العهود قد وصلوا إلى درجة كبيرة من النفوذ والجاه ولا سيما في آخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر. وكان منهم من يؤثر في الحياة السياسية الداخلية، وبطريق التجارة مع أوروبا أيضا حتى أن مدينة ليفورنيا كانت عبارة عن مدينة جزائرية لكثرة يهود الجزائر بها. وكانوا يحتكرون تصدير بعض البضائع. وبالإضافة إلى اختبار العملة الرسمية ودخولهم إلى خزينة الدولة كان منهم التراجمة بحكم معرفتهم للغات الأجنبية. وبهذه الوسائل الهامة كانوا يطلعون على أسرار الدولة ويصلون أيضا إلى تغيير بعض القرارات الحكومية. وكان لهم أصدقاء من أهل السلطة في أعلى المستويات. ورغم أنهم كانوا يعيشون كأهل ذمة لهم حدودهم الدينية والسياسية، فإنهم من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية كانوا يلعبون دورا هاما في المجتمع الجزائري. ولم يكن تأثيرهم مقصورا على العاصمة بل تجاوزها إلى المدن الأخرى وخاصة قسنطينة (1).
2 -
ولكن ما ذكرناه لا يعدو أن يكون عوامل مؤثرة خارجية. فالمجتمع الجزائري ظل، مع ذلك محتفظا بقيمه العربية الإسلامية. حقا أن هذا
(1) ذكر نوا، وهو من يهود أمريكا، أن عددهم في مدينة قسنطينة كان حوالي خمسة آلاف (من مجموع ستين ألف نسمة) وكدلالة على نفوذهم السياسي والاقتصادي ذكر أن الداي قد عين إبراهيم بوشناق وزيرا له لدى بلاط فرنسا وناثان بكري قنصلا له في مرسيليا، وأخاه قنصلا له في ليفورنيا. كما كان الداي يستشيرهم في المسائل الخارجية. وكان يأخذ من المال اليهودي كلما احتاج إليه. وكان القناصل الأجانب يقترضون منهم أيضا عند الحاجة. انظر كتابه (رحلات)، 368 - 380) 426. انظر أيضا (حياة ورسائل جول بارلو) لشارل بورتاد، 115 - 150 ويذكر أراندا أن اليهود كانوا ينصبون طاولات في الشواع ويبدلون العملة وأنهم كانوا يربحون من ذلك أموالا كبيرة وأن ذلك قد شاع بينهم كما شاع بينهم غش العملة، صفحة 152.
المجتمع لم يكن قد وصل بعد إلى مرحلة (المجتمع الوطني) الذي نتحدث عنه اليوم. ولكنه كان بالروابط الموحدة دينيا وسياسيا وخلقيا ولغويا، قد وصل إلى مرحلة المجتمع الواعي المتماسك والمتجاوب. وكانت هناك العادات والتقاليد، المبنية بدورها على التشريع الإسلامي، التي تشكل عامل وحدة قوية في المجتمع. والذي يدرس كتابا مثل (المعيار) للونشريسي (1)، وأحكام القضاة ومجالس الفتيا وكتابات الأدباء والاجتماعيين خلال العهد الذي ندرسه يدرك أن هناك ذوقا عاما وقيما مشتركة وأحكاما ومقاييس أخلاقية وروحية يستند إليها الناس في حياتهم اليومية مهما علت مراتبهم أو بعدت منازلهم. وهذه الظاهرة وحدها كافية للدلالة على وجود المجتمع الجزائري الموحد خلال العهد العثماني.
فإذا عدنا إلى دراسة خلايا هذا المجتمع وجدنا العثمانيين يأتون في أعلى السلم (من الباشا إلى اليلداش) وكانوا، كما عرفنا، يحتكرون السلطة، فمنهم الباشوات والوزراء والبايات ورؤساء البحر أو الرياس والأغوات أو قواد البر، كما كان منهم أعضاء الديوان أو البرلمان. ولا يكاد يخلو مصدر عن العهد العثماني، معاصر أو غير معاصر مسلم أو غير مسلم، دون أن يصدمه شيوع الرشوة والفساد والجور والانحراف والظلم والاستغلال الشنيع الذي كان يمارسه العثمانيون في الجزائر. فهم، كفئة متميزة وممتازة، كانوا ينظرون إلى السكان نظرة استعلاء واحتقار وازدراء. وكانت الرشوة وجمع الأموال عن طريقها هي أساس العلاقات فيما بينهم ثم بينهم وبين السكان.
ولا يكاد يعين أحد في منصب أو يرقى إلى وظيفة إلا إذا رشى الباشا وحريمه ووزراءه وكبار الموظفين، وهلم جرا.
وكانت زيارة الدنوش التي يقوم بها البايات للعاصمة كل ثلاث سنوات والزيارة التي يقوم بها خلفاؤهم كل نصف سنة، من مظاهر الرشوة والمهاداة
(1) يمتلئ كتاب (المعيار) بتفاصيل هامة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية في المدن والريف. انظر الفصل السابق.
والفساد، بل إن الباشا نفسه كان يبقى في الحكم أو يخنق أو يعزل حسبما يوفره للجنود والضباط والأعوان من مال يأخذه هو بدوره من هنا ومن هناك. وقد قتل الباشا محمد بكداش سنة 1122 لأنه لم يجد مالا يدفعه للجنود بعد فرار باي قسنطينة إلى تونس بالأموال التي كان المفروض فيه أن يقدمها إلى الباشا (1). كما قتل معه في ذلك صهره أوزن حسن الذي كان قائد فتح وهران الأول. وفي سنة 1052 وضع الباشا يوسف في السجن لأنه لم يستطع أن يدفع للجنود رواتبهم (2). وكانت الحروب الداخلية أحيانا تعلن من أجل جمع المال. فكان الجندي البسيط يستغل المواطن الجزائري إلى أقصى الحدود، كما كان الباشا يستغل كبار الموظفين، بل ويأخذ الهدايا من القناصل الأجانب ودور اليهود التجارية. وقد سجل المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني في أوائل القرن الثالث عشر (على الحكام الترك والقضاة الشرعيين وسائر أهل النفوذ منهم أخذ الرشا، والجور في الحكم وإضاعة الحقوق)(3). وسنعرف أكثر عن هذا الموضوع من الكتاب الجزائريين الذين اتهموا العثمانيين بأكل أموال الأوقاف وتجاوزهم الحدود الشرعية والأخلاقية (4). وبعد عدة أجيال من الوجود العثماني في الجزائر ظهرت فئة جديدة من
(1) فايسات (روكاي) 1868، 287. وقد كان البايات يجمعون اموالا طائلة ويحتكرون التجارة في أقاليمهم. وهكذا كان حال مصطفى بوشلاغم وصالح باي ومحمد الكبير وأحمد باي.
(2)
ديلفان (المجلة الآسيوية)، 1922.
(3)
عبد الله كنون (أبو القاسم الزياني)، 35.
(4)
معظم الولاة العثمانيين في الجزائر كانوا من المغامرين أو من المرتدين عن المسيحية. أما الجنود فقد كان معظمهم من أناضوليا. وكان معظمهم أيضا مجهول الهوية جاء إلى الجزائر ينشد الملجأ والثروة والسلطة. وجاء في كتاب (التحفة المرضية) لابن ميمون، 145 أن الخليفة أوزن حسن، صهر محمد بكداش باشا، وقائد حملة فتح وهران، كان قبل زواجه من ابنة الباشا يكثر من شرب الخمر وكان حليس انحراف وبطالة حتى أنه (لا يغدو إلا ثملا) ثم تاب بعد الزواج. وقد قال ابن ميمون ذلك رغم أنه ألف الكتاب في مدح الباشا وصهره.
المولدين العثمانيين (من أمهات جزائريات) وكان أبناء هذه الفئة يطمحون بالميلاد واللغة والانتماء العائلي إلى الصعود إلى المرتبة الأولى في المجتمع. ولكن العثمانيين أصلا - إذا صح التعبير - منعوهم واعتبروهم كراغلة غير أصليين، أو أبناء عبيد، حتى يحافظوا هم على مقاليد السلطة في أيديهم لأن قوتهم تكمن في إبعاد أهل البلاد عنها ولو كانوا من أصلابهم. وكانت ثورة الكراغلة الفاشلة في منتصف القرن الحادي عشر سببا في إبعادهم نهائيا عن مقاليد الحكم (اللهم إلا بعض مناصب البايات) وزادت في مخاوف خصومهم منهم. ولو نجح الكراغلة لتغير وجه التاريخ الجزائري ولوجدنا الحكم فيها أكثر التصاقا بالشعب وأكثر اهتماما بمصالحه وأكثر ارتباطا بقيمه الحضارية، بل لتوقعنا أن يتحول الحكم شيئا فشيئا إلى حكم (وطني) مستقل. والغريب أن العثمانيين كانوا يرفعون أبناءهم في الجزائر إذا كانوا من أسيرات مسيحيات، ويخفضونهم إذا كانوا من أمهات مسلمات. ولكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن هدفهم الأساسي كان إبعاد العنصر الأهلي عن مقاليد السلطة.
والفئة الثالثة هي فئة الحضر، وهي تشمل سكان المدن (في مقابل سكان البادية). وهي تضم العلماء والتجار وأصحاب الحرف والصنائع والكتاب والإدرايين. ومن الخطأ الشائع إطلاق أهل الحضر على مهاجري الأندلس فقط تبعا لوصف الأوروبيين لهم (بالمور). ذلك أن أشمل وصف لهم هو سكان المدن بمن في ذلك سكان المدن الأصليون والمهاجرون الأندلسيون، كما يشمل كل من استوطن المدن من أهل البادية و (تمدن) بعد أن كان باديا. وكانت هذه الفئة، رغم دورها الاجتماعي والاقتصادي والعسكري أيضا، محرومة من التطلع السياسي لأن احتكار العثمانيين للسلطة قد أوصد الأبواب في وجهها. ولكن هذه الفئة لم تكن بدون نفوذ. فهي عن طريق الجاه المادي (النفوذ الاقتصادي) على يد كبار التجار وأمناء أهل الحرف والصنائع، والجاه الروحي (العلماء ومرابطو المدن والقضاة
والمفتون) كانت تؤثر أحيانا في ميزان القوى. ولكن تأثيرها لا يصل إطلاقا إلى درجة الحكم نفسه. وقد كان الحرمان السياسي، بل الإبعاد المقصود عن السياسة، سببا في جعل هذه الفئة تتطلع إلى ساعة الخلاص من الحكم العثماني (1).
وتأتي أخيرا الفئة الرابعة وهي كل من لم نذكرهم سابقا. وإذا كان لكل مدينة عمالها فإن العاصمة خلال العهد العثماني كان لها عمال غير مقيمين أو فعليين. وقد كان هناك ثلاثة مصادر لتزويد العاصمة باليد العاملة: زواوة وبسكرة وميزاب. ويبدو أنه كان يدخل ضمن زواوة كل العمال القادمين من المنطقة الجبلية المجاورة لمدينة الجزائر، كما كان يدخل ضمن وصف البسكري كل من جاء من جهة الصحراء الشرقية وكان أسمر أو أسود البشرة سواء كان من أهل الزاب فعلا أو من أهل تقرت ووادي سوف وغيرهم، وأما وصف الميزابي فالمقصود بهم أتباع المذهب الإباضي (2). ومهما كان الأمر فإن هؤلاء العمال كانوا يترددون على العاصمة ويعملون في دورها وفي مخابزها وحماماتها وموانيها ومصابغها ومدابغها، ونحو ذلك. وكان منهم أيضا من يعمل عند القناصلة الأجانب. ومعظم هؤلاء العمال كانوا يعودون بأموالهم إلى أهاليهم من وقت لآخر ويستثمرونها هناك في النخيل والزيتون ونحوه. وبالإضافة إلى هؤلاء هناك الزنوج الذين كانوا يعملون أجراء عند الدولة بعد أن حررهم مالكوهم. وكان عددهم يزداد أو ينخفض تبعا لحكم التجارة بين الجزائر وافريقيا (السودان في القديم). وقد تفرعت عن هؤلاء
(1) يجد المرء في كتابات الأوروبيين عندئذ وصفا صارخا لتذمر الجزائريين من الحكام العثمانيين. ويشهد على ذلك الثورات التي سنعرض إليها.
(2)
عن هجرة أهل ميزاب للعمل في العاصمة والمدن الأخرى خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر انظر بحث السيد دونالد هولسنقر وهو بحث ألقاه في مؤتمر منظمة دراسات الشرق الأوسط بأمريكا، آن آربر، نوفمبر، 1978. وكان للميزابيين مؤسسة خاصة بهم وعليها أمين منهم. وقد وجدت في الأرشيف العثماني عددا منهم يعملون في قطاعات تجارية هامة في العاصمة.
الزنوج فروع حيث تزاوجوا وقطنوا أطراف المدن. ويمكننا أن نضيف إلى العمال، الأسرى المسيحيين الذين كانوا يقومون أثناء فترة أسرهم بأعمال يدوية في العاصمة والمدن الكبرى الأخرى كما سبقت الإشارة.
وكان هناك فرق شاسع بين مجتمع المدينة ومجتمع الريف. فالنظام الإقطاعي الذي دعمه العثمانيون قد جعل الفلاح يأتي في آخر القائمة الاجتماعية. وكان الفلاح محل استغلال الشيوخ والمرابطين والقواد والخلفاء والجنود وغيرهم من أصحاب الحكم والنفوذ الذين كانوا يتلقون مسؤولياتهم من البايات أو من ممثليهم في الأقاليم. وقد نجح العثمانيون في تدعيم سلطتين في الريف الجزائري الأولى سلطة روحية تتمثل في لجوئهم لأهل الصلاح والخير وأهل الطرقية والتعرف يتزلفونهم ويحمونهم ويطلبون بركاتهم وعونهم على الرعية - والثانية سلطة دنيوية وتتمثل في شيوخ القبائل وقواد العشائر الذين كان العثمانيون يمدونهم بالسيف والبرنس ويقطعونهم الأراضي ويضيفون إلى ذلك بعض الحاميات العسكرية في الوقت المناسب لتأديب الناقمين عليهم وتخويف الباقين من السكان. وكان الجميع متعاونين على استغلال عرق الفلاحين وأهل البادية إلى أقصى حدود الاستعلال، وكان الذي لا يستطيع أن يدفع اللزمة أو الحكر أو الضريبة يصبح مخزنيا أي خادما في صفوف المستغلين، وبذلك يصبح هو بدوره مستغلا لغيره، لأن عليه، في هذه الحالة، أن يبرهن على ولائه للسلطة بمعاقبة الرعية والمغالاة في ذلك. والحديث هنا طبعا عن الجماعات وليس عن الأفراد. ذلك أن هناك قبائل بأسرها قد خرجت من حالة الرعية إلى حالة المخزنية لكي ترقى من حالة كونها موضع استغلال إلى كونها هي نفسها مستغلة لغيرها بل أداة استغلال. وقد كان كثير من الحضر ومن الكراغلة وأصحاب السلطة يملكون أراضي وبساتين خارج المدن، وكانوا يعطونها للفلاحين يعملون فيها لهم عن طريق (الخماسة) لأنهم لا يستطيعون العمل فيها بأنفسهم بحكم تجارتهم وأعمالهم الأخرى في المدن. ونحن نجد في الأرشيف وفي كتابات الأسرى
المسيحيين وكتاب (المرآة) لحمدان خوجة وغيره وصفا لعلاقة الريف بالمدينة وامتلاك أهل المدن أراضي وضيعات ودورا خارج المدن. ولم يكن أهل الريف الجزائري مكونين من رعية ومحزن فقط بل كان هناك المستقلون أيضا مقابل دفع إتاوات للعثمانيين. فالريف الجزائري إذن كان متنوع الحكم، ولكن أقسى أنواع الحكم فيه هو المسلط على الرعية طبعا. والعلاقة هنا بين السلطة والسكان علاقة استغلالية محضة.
3 -
ولدينا شواهد كثيرة على تكوين ذوق عام في المدن الجزائرية خلال العهد العثماني، ورغم أن الوضع كان يختلف من جهة إلى أخرى، فإن الطابع الاجتماعي كان واحدا. وسيمر بنا عند الحديث عن المدن شيء من ذلك، ولكننا هنا نود أن نشير إلى انتشار ما نسميه اليوم بمرض النفاق الاجتماعي أو المجاملة وغيرها من الأوصاف اللازمة للحضارة لا للبداوة. وقد ذكر لنا عبد الكريم الفكون وصفا صارخا لحضر قسنطينة في القرن الحادي عشر وهو وصف يمكن تعميمه على أهل تلمسان وبجاية ومدينة الجزائر وغيرها. كما أن ابن المفتي وابن حمادوش قد تركا لنا وصفا آخر لحضر مديتة الجزائر في القرن الثاني عشر. وفي كتاب (البستان) لابن مريم وكتاب (كعبة الطائفين) لابن سليمان أخبار هامة عن حضر تلمسان أيضا.
ومما جاء في كتاب (منشور الهداية) للفكون وصفه لما جرى بين زعيمين من حضر قسنطينة (المفتي أحمد الغربي ونائب القاضي عبد اللطيف بن بركات). فقد قال إنه كان بينهما (ألفة الظاهر وفي الباطن مختلفان على عادة صنفهم المسمى بالحضر إذ ذاك صفة لهم لازمة بمجرى العادة لا تتخلف ولو في النادر). ومن الغريب أن هذا الكلام صادر عن زعيم آخر من حضر قسنطينة، وهو المؤلف نفسه، لأنه من عائلة مدنية ذات تاريخ حافل بالعلم والجاه الاجتماعي والروحي. وقد قال بأنه كان يعتقد أن هذه الصفة (المجاملة) قد تتخلف أحيانا عندهم ولكنه اكتشف أنها ملاصقة للحضر (فانبهر لي عموم الوصف في جميعهم إلا، أن بعضهم يعرف منه
(ذلك) ابتداء وبعضهم يخفي ما أكن إلى بلوغ قصده وأربه) (1). ونفس الملاحظة أبداها على زعيمين آخرين من مجتمع الحضر بقسنطينة في وقته، وهما أحمد بن باديس وابن نعمون. فقد قال إنهما إذا تواجها تحسبهما أصدقاء وإذا تدابرا يكنان البغضاء لبعضهما (وليس ذلك بدعا مما هو من الجنس الذي يلقب حضريا. فقد جبلوا على ذلك)(2). وقد كرر الفكون ذلك الحكم على الحضر في عدة مناسبات أخرى من كتابه.
وكانت هناك عادات اجتماعية يمارسها أهل المدن وأخرى يمارسها أهل الريف. وإذا كانت عادات أهل الريف متنوعة وتقوم على توجيهات أصحاب الطرق الصوفية في أغلب الأحيان فإن عادات أهل المدن كانت موحدة وتتأثر بما كان يجري في الأندلس أو في حواضر المشرق الإسلامي. وهي تستمد أصولها من التاريخ الإسلامي والحضارة العربية بصفة عامة. وقد وصف ابن حمادوش بعض عادات مدينة الجزائر ليلة القدر وختم صحيح البخاري وغيرهما من المناسبات الدينية (3). كما أن المفتي أحمد بن عمار قد ترك وصفا لما كان يفعله أهل مدينة الجزائر بمناسبة المولد النبوي مثل إيقاد الشموع وإنشاد التواشيح والتزين والتيطب وغيرها (من أنواع المباحات)(4). وهناك عادات اجتماعية شاعت خلال هذا العهد وأصبح المجتمع الجزائري معروفا بها في سائر المدن ، ونذكر منها حفلات الخطبة والزواج والختان وتوديع واستقبال الحجاج (5) واستقبال الدنوش بالعاصمة واستقبال المنتصرين من الرياس والعائدين بالغنائم ونحوها (6) وخروج الولاة وعودتهم في
(1) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. سنتحدث عن الفكون في الفصل السادس من هذا الجزء.
(2)
نفس المصدر.
(3)
ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. وهي الآن محققة ومنشورة.
(4)
ابن عمار (نحلة اللبيب)، 69.
(5)
عن بعض ما كان يجري للحجاج انظر رحلة الورتلاني.
(6)
انظر دراستي لقصيدة ابن ميمون في تهنئة أحد القواد في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وعن الدنوش انظر الشريف الزهار (مذكرات) تحقيق أحمد توفيق المدني، الجزائر. 1975.
مناسبات رسمية، وتولية المفتين والقضاة، وتولي سلاطين آل عثمان وميلاد الأولاد لهم، بالإضافة إلى المناسات الدينية كرمضان وعيد الأضحى.
ومن عادات شهر رمضان ختم صحيح البخاري في المساجد وإضاءة الشموع فيها وفي غيرها. وأهم ظاهرة اجتماعية في هذا الشهر هي أن المدينة تسهر خلافا لسائر الشهور. فقد جرت العادة أن لا يخرج أحد من داره من سقوط الظلام إلى شروق الشمس. وكانت المدينة تغلق أبوابها فلا ترى أحدا يمشي في الشارع ليلا. أما في رمضان فالجميع يخرجون ويسهرون حتى النساء اللائي كن يخرجن سافرات متخذات من الليل حجابا. ومن الواضح أن المرأة لا تخرج وحدها في هذه المناسبة. وهناك ألعاب كانت تجري يوم عيد الأضحى على الخصوص. من ذلك الألعاب البهلوانية التي تشبه المصارعة والتي كانت تجري يوم الجمعة أيضا. وهي لعبة لم تكن خاصة بمدينة الجزائر بل كان يمارسها الناس، وخصوصا الأتراك، في معظم مدن القطر. أما في العاصمة فقد كان يحضرها يوم عيد الأضحى الباشا وكبار رجال الدولة في المكان المعد لها وهو خارج باب الواد. وكانت هي الرياضة المفضلة عندهم.
وخلاصتها أن أشهر اللاعبين يتقدمون زوجين زوجين في حوالي عشرة أزواج ويصعدون على الحلبة (المنصة) المعدة لذلك. ويجلس الباشا وأعوانه على زرابي حول الحلبة، ثم يشرع اللاعبون في مصارعتهم القائمة على خفة الحركة والمهارة في الغلبة وإظهار القوة، كل اثنين يأخذان فترة من الوقت، وهكذا إلى أن ينتهي مجموع اللاعبين. وبعد ذلك يمنح الباشا بعض النقود لكل واحد منهم.
وهناك لعبة أخرى تجري في هذه المناسبة أيضا، وتسمى لعبة العصى، وهي لعبة يشترك فيها الباشا أيضا. فقد كان الفرسان (الصبايحية) يسيرون الواحد تلو الآخر ويرمون عصيهم التي تشبه الرماح على بعضهم البعض. والفائز هو الذي يصيب صاحبه. وفي نهايتها يري الباشا أيضا فرسه ويسير
خلف أحد الفرسان ويحاول إصابته بعصاه، والفارس المحظوظ هو الذي يصيبه الباشا بعصاه، لأنه عندئذ ينزل عن فرسه ويتقدم من الباشا الذي يعطيه الدراهم، وهكذا. وقد كانت هذه مناسبة رسمية وشعبية. فالعامة كانوا يكتفون بالتفرج، أما الخاصة فقد كانوا يتراجعون إلى حيث نصبت خيمة الباشا ويقضون بعد ظهر ذلك اليوم في الأكل والشراب واحتساء القهوة (1) وهذا هو ما يشبه اليوم حفلة الاستقبال الرسمية.
ولم تكن اللعبة البهلوانية أو لعبة المصارعة خاصة بيوم عيد الأضحى بل كانت تجري كل يوم جمعة. غير أن الباشا لا يحضرها إلا في المناسبة الأولى. وكانت تجري يوم الجمعة بنفس الطريقة وفي نفس المكان أيضا، غير أن أشهر اللاعبين لا يلعبون إلا في عيد الأضحى. وكان ليوم الجمعة أيضا مظهره الخاص. ففيه تغلق المدينة أبوابها عند الصلاة كما تغلق جميع الدكاكين نوافذها، ومعظم التجار لا يعودون لفتح الدكاكين بعد الصلاة بل يذهبون في نزهات خاصة مع أهلهم أو يخرجون إلى بساتينهم القريبة أو يزورون بعضهم البعض. أما النساء فقد كن يتوجهن منذ الصباح الباكر إلى المقابر لزيارة موتاهن.
وقد كانت هناك حفلات أخرى تسلي الناس وتدفع عنهم الضجر مثل مسرح القراقوز (أو خيال الظل) الذي أدخله الأتراك. ومن ذلك أيضا حلقات إنشاد الشعر الشعبي حيت يقوم المداحون بقص السير والأخبار ومغامرات الأبطال والفرسان. وقد شاع في الجزائر عندئذ شرب القهوة بكثرة ومضغ الدخان وتدخينه في السبسي أو الغليون (2) واستعمال النشوق ونحو ذلك. ولم يكن شرب الخمر شائعا عند الطبقات العالية ولا ذوي الشأن والعلم لأنه حرام
(1) بيتز، 17.
(2)
سنتعرض إلى رأي العلماء في الدخان من الناحية الشرعية، وقد كان اليهود يتاجرون في الدخان حتى أننا وجدنا في الأرشيف العثماني أن بعض الدكاكين كانت مخصصة لبيع الدخان وأن أصحابها كانوا يدعون بـ (الدخاخنية)، وهم من اليهود. والغريب أن بعض هذه الدكاكين كانت ملكا للأوقاف الإسلامية.
ولأنه لا يليق بالمقام. أما الجنود والشباب الترك بصفة عامة فالوثائق تتحدث على أنهم كانوا يشربون بكثرة حتى يعربدوا. وهم إذا عربدوا فقدوا كل سيطرة على أنفسهم حتى أنه يصبح من الخطر الاقتراب من الجنود لأنهم قد يقتلون ويعتدون على النساء والصبيان، ولا سيما عند توجههم في حملاتهم السنوية (في الربيع، نحو الشرق والغرب والجنوب). لذلك يخرج البراح وينادي بابتعاد النساء والصبيان من طريقهم (1).
وخلافا لما كان يشاع من أن المجتمع الجزائري هو مجتمع الرجل فإن المرأة قد لعبت فيه دورا أساسيا في الميدان الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي والثقافي. فالمرأة الريفية كانت تقوم بمعظم الأعمال التي هي غالبا من اختصاص الرجل. ومن ذلك الحرث والسقي وعلف الحيوانات ونحوها. وكانت بالطبع تربي الأولاد وتقوم بأعباء المنزل. كما كانت تنتج ملابس الأسرة من برانيس وقنادير ومناديل، بالإضافة إلى نسج الزرابي والحياك وغيرها من وسائل التجارة. ومن جهة أخرى كانت المرأة الريفية تشترك في الحروب مثل علجية بنت بوعكاز التي سيأتي الحديث عنها (2).
أما المرأة المدنية فقد كانت تتاجر أيضا بعدة وسائل منها تأجير البحارة الذين يقومون لها بالحصول على غنائم البحر وبيعها في أسواق الجزائر من سلع وأسارى ونحو ذلك (3). وإذا كانت المرأة المدنية، على خلاف المرأة
(1) بيتز، 17، انظر أيضا كتاب (المجالس) لأحمد بن ساسي البوني. فقد جاء فيه أن بعض الشبان خرجوا من (دار بعض الأتراك وهم سكارى يتمايلون، وقد خلعت عنهم خلع الأستار) المكتبة الوطنية تونس، رقم 918.
(2)
انظر فقرة الثورات من هذا الفصل.
(3)
هذا بالطبع يشير إلى المرأة التي لا زوج لها. وقد كانت غنائم البحر توزع كما يلي: للمدفعي سهمان وللجندي سهمان. أما الأرقاء الذين يعملون لغيرهم على السفن فيأخذ بعضهم سهمين وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة أسهم، ولكنها جميعا تذهب إلى مالكيهم. وما عدا هؤلاء جميعا يأخذون سهما واحدا. انظر بيتز، 11.
الريفية، لا تخرج إلا محجبة فإن ذلك لم يقلل من دورها الاجتماعي. فبيتها كان نظيفا يضرب به المثل حتى أن المرء ينتقل فيه حافيا من غرفة إلى أخرى فلا يمس قدميه أي وسخ. وكانت تعتني بتربية الأطفال حتى كان الطفل الحضري مضرب المثل أيضا في النظافة والذوق والجمال. أما أوقات فراغها فكانت تقضيها في الحمام أو في زيارة الأقارب والجيران. وسنعرض إلى بعض مظاهر تجميلها في مناسبة أخرى.
وليس صحيحا أيضا أن المرأة لم تكن تشترك في السياسة العامة للبلاد. حقا أنها لم تكن عضوة في الديوان ولا موظفة سامية في إطارات الدولة ولكنها كثيرا ما تدخلت في توجيه القرارات والتأثير على أزواجهن في اتخاذ مواقف معينة. وأول ما نلاحظه في هذا الميدان هو الزواج السياسي الذي كان يتم بين زعماء الترك والكراغلة وزعماء الجزائريين من أصحاب النفوذ والسلطان. فقد تزوج عروج من زوج سليم التومي (1). وتذكر المصادر أن مصطفى بوشعلاغم كان متزوجا من عدة نساء صاهر بهن شيوخ النواحي الغربية وقوادها، ولذلك ظل في الحكم ثلاثين سنة. وتزوج أحمد القلي، باي قسنطينة، من أسرة بوعكاز (شيخ العرب)، وكذلك الحاج أحمد باي قسنطينة الذي تزوج من أسرة المقراني وغيرها. ومن جهة أخرى نعرف أن زوج بابا حسن باشا هي التي أثرت عليه في إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين عند ضرب هؤلاء لمدينة الجزائر سنة 1688 (1100 هـ) مما جعل الوجق يثورون عليه ويذبحونه (2). وقد كانت زوج حسن باشا وراء مقتل صالح باي (3). وهناك أمثلة كثيرة على هذه التدخلات ولكنها ما زالت غير مدروسة.
كذلك أدت المرأة خدمات دينية واجتماعية وخيرية هامة. فقد وجدناها توقف الأوقاف على الفقراء والمساكين وتساهم في تحبيس الكتب ونحوها
(1) لوجي دي تاسي، مقدمة الطبعة الفرنسية سنة 1725. واسمها هناك (زفيرة) ولعل اسمها الحقيقي ظافرة.
(2)
بيتز (حقائق)، 150.
(3)
الزهار (مذكرات)، 64.
على المساجد ومراكز التعليم. كما وجدناها ذاكرة عابدة وتقوم على الطرق الصوفية عند وفاة أزواجهن ونحو ذلك، حتى أن بعض الباحثين ادعى أن المرأة وجدت مساواتها بالرجل في ميدان التصوف. وسنتحدث عن ذلك في محله من هذا الكتاب. كما أن المرأة أخذت نصيبا من التعلم، كما سنرى. أما دورها في الحياة الثقافية المحضة من أدب وشعر وتأليف فلا يكاد يذكر خلال هذا العهد (1).
ورغم المغامرات البحرية والعلاقات التجارية مع أوروبا والحروب التي أدت إلى وفرة الأسرى المسيحيين واختلاطهم بالسكان (2) فإن المجتمع الجزائري ظل خلال هذا العهد مجتمعا إسلاميا شرقيا منغلقا على نفسه. فالأفكار الأوروبية قلما تسربت إليه، وإذا حدث شيء من ذلك فإنه سرعان ما يصرف على أنه من إنتاج الكفار، كما حدث عندما سمع بعض الجزائريين بأخبار الثورة الفرنسية. فقد صرفها أحمد بن سحنون (وهو كاتب رسمي لباي الغرب) على أنها قضية تهم الفرنسيين (الكفار) وحدهم ودعا عليهم بأن يجعل الله كيدهم في نحرهم (3). وكان الحاجز الديني بين الجزائر وأوروبا أقوى من الحاجز التجاري والسياسي (4). فالجزائريون كانوا كغيرهم من المسلمين منطوين على أنفسهم فخورين بحضارتهم غير مبالين بما كانت تشهده أوروبا من تطور عقلي وصناعي وما كانت تقوم به من اكتشافات علمية وجغرافية ومن توسع تجاري واقتصادي. ولم يستيقظوا إلا عندما هاجمتهم
(1) عن مساهمة المرأة في الأوقاف والأعمال الخيرية انظر الفصل الثالث. وعن تعلمها انظر فصل التعليم.
(2)
حسبما جاء في (وصف إفريقية) لدابر 177، Dapper، أنه كان في مدينة الجزائر وحدها ستة آلاف عائلة من الأعلاج. كما وصل عدد المسيحيين الأسرى فيها إلى خمسة وثلاثين ألف نسمة. وهو رقم كبير بالنسبة لعدد السكان الكلي في المدينة.
(3)
ابن سحنون (الثغر الجماني). مخطوط.
(4)
كان عمر باشا صديقا لمحمد على والي مصر يتراسل معه ويهاديه، ومع ذلك لم يتأثر بطريقته في الحكم. وعمر باشا هو الذي وقعت الحملة الإنكليزية على الجزائر في عهده (سنة 1232) - انظر ليون روش 1/ 31.
تقنيات وأفكار أوروبا (ولا نقول إنسان أوروبا لأن هذا قد هاجمهم عدة مرات من قبل) في عقر دارهم في الحملة الفرنسية على مصر ثم على الجزائر. وأول من نعرف أنه قد وصف تأثير الحملة الفرنسية على مصر والشام هو أبو راس الناصر الذي لم ينبهر بتقدم الفرنسيين العلمي والتقني وإنما هزه ما ارتكبوه من أعمال ضد الإسلام وضد المجتمع المصري المسلم. (1) أما محمد بن محمود بن العنابي فقد تأثر بتقدم الأوروبيين ودعا إلى تقليدهم ومجاوزتهم فيما ابتدعوه من الصنائع والعلوم. (2) وهو أول من نادى بذلك من الجزائريين حسب علمنا، وكلا الرجلين (أبو راس وابن العنابي) عاش في أواخر العهد العثماني (3).
ولم تكن المدن الجزائرية كالمدن الأوروبية. فإذا كانت هذه قد أخذت في النمو المطرد نتيجة للعمران وتزايد السكان وازدهار التجارة وبداية الصناعة والحماية الصحية ووفرة رؤوس الأموال وانتشار التعليم - فإن المدن الجزائرية كانت ما تزال تعيش بأسلوب العصور الوسطى الأوروبية، في شكلها على الأقل، قالشواع ضيقة والأبواب تغلق من الغروب إلى الشروق، وليس هناك بنوك ولا تنافس رأسمالي، ومن ثمة لم يكن هناك فنادق ولا مستشفيات بالمعنى المعمول به في أوروبا، ومراكز التعليم كانت تقليدية وضعيفة المردود. ولم تكن المطبعة ولا الصحف قد دخلت الجزائر خلال العهد العثماني.
لذلك لا نستغرب أن يكتب بعض الأوروبيين في القرن الثاني عشر (18 م) نقدا لاذعا. للحالة العقلية التي كان عليها المجتمع الجزائري في
(1) انظر مخطوطة كتابه (الحلل السندسية). وقد شاهد أبو راس آثار الحملة عيانا أثناء حجه.
(2)
انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي) الجزائر، 1977، وخصوصا تحليل كتابه المخطوط (السعي المحمود في نظام الجنود).
(3)
توفي أبو راس سنة 1223 أي قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتوفي ابن العنابي سنة 1267، ولكنه كتب كتابه قبل الاحتلال.
وقته (1). وأن يكتب آخر في أوائل القرن الثالث عشر (19 م) نقدا ألذع من نقد صاحبه بعد أن لم يجد في المجتمع الجزائري ما كان يطمح إليه من أفكار وتجديد ونشاط عقلي قائلا (إن الأفكار تموت إذا لم تجد مجالا للتجديد المستمر) وقد قال أيضا بأنه كثيرا ما كان يخرج إلى شوارع العاصمة (مدينة الجزائر) فلا يجد (شيئا يسترعي انتباهه فلا مكتبة ولا مقهى فيه جريدة
…
) وهذا كله بعد أن دقت أوروبا أبواب العالم الإسلامي في حروبها مع الدولة العثمانية وفي الحملة الإنكليزية على الجزائر وفي الحملة الفرنسية على مصر والشام. ومما لا شك فيه أن فرنسا لم يكن في مقدورها أن تحتل الجزائر لو لم يكن المجتمع الجزائري ضعيفا على النحو الذي وصفه به ابن العنابي وشو وبانانتي (2) وأضرابهم (3).
4 -
وتتحدث الكتب والوثائق عن وقوع الجوائح في العهد العثماني والنتائج السيئة التي خلفها في الأرواح وفي الحياة المادية. ولم يكن ذلك مقتصرا على العاصمة بل كان شاملا لجميع أنحاء البلاد. وتشمل هذه الحوائج الطاعون، الذي يذكره بعض الكتاب باسم الوباء، والزلازل والجفاف والمجاعات الكبيرة والجراد. ويشير ابن مريم في (البستان) إلى الطاعون الذي حدث سنة 981 والذي أدى إلى وفاة عدد من العلماء والصلحاء، بالإضافة إلى العديد من الناس (4). كما تحدث عبد الكريم الفكون عن طاعون آخر حدث سنة 1031 وكانت له آثار سيئة أيضا. وفي رحلة ابن حمادوش حديث عن الطاعون الذي حدث أثناء حياته. كما ألف
(1) توماس شو، 355.
(2)
بانانتي، 86. ولاحظ هذا بأن معارضة الحكومة الجزائرية العثمانية لإدخال المطبعة لا تعود، كما كانت تدعى، إلى الخوف من فقدان النساخين حرفتهم وخبزهم، ولكن إلى معارضتها هي لنشر المعرفة. انظر 251 منه.
(3)
رغم أن ابن العنابي قد جعل موضوعه المجتمع الإسلامي على الإطلاق فإنه بحكم النشأة والتجربة كان يتحدث عن المجتمع الجزائري في وقته.
(4)
ابن مريم (البستان) 264، 281، 286.
هو كتابا في الطاعون، وألف محمد بن رجب بعده، وكذلك أبو راس، كتبا في نفس الموضوع. وفي كتاب مسلم بن عبد القادر (أنيس الغريب والمسافر) وصف أيضا لهذا الوباء ونتائجه (1) وتشير الوثائق إلى وباء آخر حدث سنة 1054 وإلى جفاف واسع حدث سنة 1057 (2) وقد دام الطاعون الكبير من سنة 1201 إلى سنة 1211 ومات من جرائه خلق كثير (3). كما حدثت عدة زلازل مثل الزلزال الذي أصاب البليدة أوائل القرن الثالث عشر. ولا شك أن المتضررين من هذه الجوائح هم العامة سيما وأن إمكانيات التغلب على آثارها عندهم ضعيفة.
وكان العثمانيون لا يهتمون بالحياة الصحية للسكان. ذلك أن معظم البايات والباشوات كان لهم أطباء أجانب يختارونهم عادة من الأسرى الأوروبيين الذين يقعون في قبضتهم أو يستجلبونهم بالأموال، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك للتخفيف على السكان من الآلام والأمراض. وكان للجيش جراحه المسلم، ولكنه كان يستعمل الوسائل البدائية بالإضافة إلى أنه لم يكن جراحا إلا بالإسم، ولقبه الرسمي هو باش جراح. لذلك اعتمد الناس على وسائلهم الخاصة واستعملوا الطب التقليدي في أدويتهم بما في ذلك الأدعية والأحجبة وبصاق الأولياء وتمائم السحرة والمشعوذين. ولم يكن هناك مستشفيات ولا مصحات، بينما كان للأجانب، كالإسبان والإنكليز، مستشفيات خاصة بهم في الجزائر. ولعل أهم وسيلة حماية طبقها العثمانيون في الجزائر هي ما يعرف بالحجر الصحي (4). فقد كانوا يبقون السفن الواردة
(1) عن الكتب المذكورة انظر مواضعها في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(2)
فايسات (روكاي) 1868، 352. كما حدث قحط آخر سنة 1184 دام ست سنوات انظر الزهار (المذكرات).
(3)
الزهار (المذكرات) 51، وقد قال إن الموتى منه بلغوا خمسمائة جنازة يوميا.
(4)
حتى هذه الوسيلة لم تكن دائما محترمة. فالوباء الكبير الذي أشرنا إليه حدث على ما قيل نتيجة وصول مركب من بلاد الترك وفيه رجل مصاب بالوباء يسمى ابن سماية. انظر الزهار (المذكرات)51. وفي مذكرات ناثانيال كاتنق الأمريكي ما يؤكد ذلك. انظر (المجلة التاريخية) - الأمريكية 1860، 262.