الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل حال فإنه لم يقتصر على ما ذكره لأننا وجدناه يتحدث فيه عمن دخل إفريقية أيضا من الأمراء والأولياء والعلماء وأخبارهم. والنسخة التي اطلعنا عليها مبتورة الأول، ولذلك فهي بدون عنوان سوى ما جاء في عبارة المؤلف السابقة. وقد رتبه على ثلاثة أبواب: الأول فيمن دخل إفريقية من الصحابة والتابعين، والثاني فيمن دخلها من الأمراء (وهو لم يذكر هذا الباب وإنما الغالب أن يكون عنوانه كذلك) والثالث في رجال من الأولياء والعلماء وذكر بعض كراماتهم. ومن أولياء بسكرة الذين ذكرهم، أبو الفضل البسكري. أما العلماء فقد ذكر منهم مالك بن أنس وسحنون. وكان ينقل أخباره عن (وفيات) ابن القنفذ وعن ابن الرقيق القيرواني وغيرهما. وقد جاء بسند ابن القنفذ الذي أخبر أنه أخذه عليه ولعل ذلك كان بقسنطينة أو بتلمسان. والمهم أن روح التصوف قد غلبت على عيسى البسكري حتى في هذا العمل التاريخي. ولعل هذا الخلط بين معلومات الباب الأول والثالث جاء من غيره أيضا.
وبالإضافة إلى (الوفيات) ألف أحمد بن يحيى الونشريسي، الذي سنتحدث عنه في قسم الفقه، رسالة في التاريخ أيضا سماها (تنبيه الحاذق الندس على خطا من سوى بين جامع القرويين والأندلس) أجاب بها بعض الطلباة أثناء وجوده بمدينة فاس (1). وبعد فذلكة تاريخية أجاب الونشريسي بأن صلاة الجمعة بجامع الأندلس أولى من أدائها بجامع القرويين.
الأدب واللغة
لم تنجب جزائر القرن التاسع شاعرا متميزا كابن خميس في السالفين وابن علي في اللاحقين، بل إنها لم تنجب أديبا بارزا يغشى بأدبه بلاطات
(1) توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 350 مجموع (قسم يهودا) وكان أحد الطلاب قد سأل على هذه المسألة الشيخين محمد السنوسي وأحمد الونشريسي. وبعد أكثر من عشرين سنة أجاب الونشريسي بجوابه المذكور أي سنة 911 بعد أن رحل إلى فاس. والرسالة مصورة عندي وهي مطبوعة ضمن كتابه (المعيار).
السلاطين ومجالس الطرب واللهو كما فعل الشاعران الحوضي والخلوف (إذا ثبتت جزائرية الثاني) والمؤرخان ابن القنفذ والتنسي. إن الأدب، والشعر أخصه وأرقه، قد اختلط بالتاريخ كما كان الحال عند التنسي أو اختلط بالتصوف والمدائح النبوية كما كان الحال عند الحوضي، أو طغت عليه الشروح والمتون. ومن الغريب أن نتحدث عن التأثير الأندلسي في الحياة الاجتماعية والثقافية ثم لا نجد (طريقة) أندلسية جزائرية في الأدب تميز بها القرن التاسع وتلاقحت فيها قرائح الأندلسيين ومواهب الجزائريين.
1 -
وكما كان هناك مؤرخان بارزان رسميان أحدهما في غرب البلاد والآخر في شرقها، كان هناك شاعران بارزان رسميان أيضا أحدهما في تلمسان وهو محمد بن عبد الرحمن الحوضي والثاني في تونس وهو أحمد بن محمد الخلوف. الأول شاعر بلاط الزيانيين والثاني شاعر بلاط الحفصيين (1). ولكن كليهما اشتهر بشعر المدح والشعر الديني أيضا. فللحوضي مجموعة أشعار في مختلف الأغراض منها، بالإضافة إلى ما ذكرنا، الغزل والرثاء والتصوف. أما الخلوف فله ديوان كامل في المدح النبوي، بالإضافة إلى المدح السياسي. وقد كان ملازما للسلطان الحفصي أبي عمرو عثمان مادحا له ومشيدا بآثاره. وكان يجمع بين النثر والشعر حتى لقب بذي الصناعتين. وله قصائد طوال.
(1) توفي الحوضي سنة 900 وتوفي الخلوف حوالي سنة 899. وتوجد ترجمة الحوضي في (البستان) لابن مريم. أما الخلوف فقد قال عنه الجيلالي 2/ 67 إنه ولد بقسنطينة ولذلك نسبه إليها (القسنطيني) وهي نسبة ما زلنا مترددين إزاءها. ولذلك نكتفي بالإحالة إلى مصادر الخلوف دون اتخاذ رأي من جزائريته، وقد نسبه بروكلمان 2/ 332 إلى فارس وتونس ونسبه محمد ماضور في مقدمة (تاريخ الدولتين) إلى قسنطينة أيضا. وترجم له الزركشي في شرحه على القصيدة (الدمامينية). وقد طبع ديوان الخلوف ببيروت سنة 1873. وفي بعض الكتب أنه المغربي الأندلسي. وتوجد عدة نسخ من ديوانه منها واحدة في مكتبة زاوية طولقة (الجزائر) وأخرى في مكتبة جامعة يال الأمريكية رقم 307 ومنه نسخ أيضا في مكتبات القاهرة وتونس.
وقد حفظت لنا بعض أشعار الحوضي وأراجيزه في مختلف الأغراض، من ذلك قصيدته الغزلية (الطنانة) حسب تعبير أبي حامد المشرفي الذي أورده (1). وقد قال المشرفي عنها أيضا إنها قصيدة تفتح الشهية. ومنها هذه الأبيات:
أرذاذ المزن من عيني نزل
…
أم دموع الشوق إذ رق الغزل
أبعيني دمعة وكافة
…
أم شعيب للنوى منها انتزل
لا بكت عيني ولا أبقى البكا
…
ضوءها عن فعلها ان لم تزل
دع عذولي اللوم إني شائق
…
رق طبعي دون صنعي في الأزل
أو ينسى العهد قلب دنف
…
والهوى قبل النوى عنه نزل
لا تلمني دون علم عاذلي
…
فبسمعي صمم عمن عذل
إن في نار هواكم جنتي
…
لو علمت الحبل منكم يتصل
أمنوا روعة قلبي باللقا
…
فانتظار الوعد قرب إن حصل
ومن الواضح أن القصيدة رغم مدح المشرفي لها، فيها تصنع كثير.
ومع ذلك ففيها رقة في اللفظ وعذوبة تجعلها صادرة عن شاعرية قوية في ذلك الوقت.
ولكن الحوضي كتب أيضا في الرثاء مثل قصيدته في رثاء شيخه محمد بن يوسف السنوسي، وهي قصيدة لزومية وطويلة (41 بيتا) وقد بدأها بقوله:
ما للمنازل أظلمت أرجاؤها
…
والأرض رجت حين خاب رجاؤها (2)
ومن شعره في المديح النبوي قصيدة في 41 بيتا أيضا، وهي تذكر القارئ لها بقصائد ابن الفارض في التصوف إذ فيها مزج بين حب النبي والعشق الإلهي. ولا نعتقد أن الحوضي كان فيها متميزا عن غيره من شعراء
(1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والاول)، مخطوط، الجزء الثاني، ص 10 - 11.
(2)
نفس المصدر، 11 - 12.
هذه الصنعة سوى بقوة عارضته. واستمع إلى هذه الأبيات منها:
لا تسل عن غرام قيس وليلى
…
واستمع سورة الهوى كيف تتلى
آية الحب في المحبين وجد
…
معه لا ترى الحياة بأولى
أنا صب متيم مستهام
…
لم يدع لي من أحبه عقلا
قد سرى حبه بكلي وبعضي
…
كيف أسلو وكيف لي أتسلى (1)
وله في هذا المعنى قصيدة على وزن وقافية بردة البوصري. فالحوضي إذن كان شاعر القصر وشاعر الحب النبوي في نفس الوقت. ولا شك أنه كان بين تيارين تيار دنيوي تتجاذبه السياسة والجاه والحياة الأدبية وتيار أخروي بدأت تسيطر عليه عقائد الصوفية والخرافات. وسنعرف أكثر عن التيار الأخير بعد قليل.
2 -
أما معاصره أحمد الخلوف فقد كان كذلك محتارا بين التيارين. فالزركشي صاحب (تاريخ الدولتين) قد (حلاه ونوه به ونقل من شعره) في شرحه (للقصيدة الدمامينية)(2). ولكن يبدو أن الذي نوه به الزركشي هو شعر المدح السياسي الذي قاله الخلوف في السلطان الحفصي عثمان (3). ومهما يكن الأمر فإنه بإمكاننا القول بأن جزءا من شعر الخلوف (شعر المدح خاصة) لم يضع وأنه ما زال مخطوطا في تونس.
كما أن ديوان الخلوف في المدائح النبوية (أو الشعر الديني) لم يضع أيضا. ويبدو أن الخلوف قد سار في هذا الديوان سيرة الحوضي في (الوسائل العظمى). فقد وضع في الديوان عناوين للقصائد مثل (قطر الغمام في مدح خير الأنام) ومثل (استرواح القبول بمدح طه الرسول) وهكذا. وقد أخبر
(1) هذه القصيدة وخمس قصائد أخرى (ميميتان ونونيتان وهائية) توجد ضمن مجموع بالمكتبة الملكية بالرباط رقم 7440. وفي هذا المجموع قصائد في المديح أيضا تنسب إلى أحمد المقري صاحب (نفح الطيب).
(2)
توجد من هذا الشرح نسخة مخطوطة بتونس. انظر مقدمة محمد ماضور لكتاب (تاريخ الدولتين)، تونس 1966، د.
(3)
يكنى أبا عمرو، وقد حكم من سنة 839 إلى سنة 893.
عبد الرحمن الجيلالي أنه يملك من هذا الديوان نسخة تقع في 246 صفحة واعتبر قصائد الخلوف فيه من عيون الشعر وأنها طويلة حتى أن القصيرة منها لا تقل عن مآت الأبيات (1).
ويبدو أن الخلوف قد تولى مناصب سلطانية كالكتابة. وقد تنقل بين قسنطينة وتونس ومكة والقدس والقاهرة والمغرب. وتلقى علومه في المشرق والمغرب وحج البيت وكانت له موهبة في الشعر والأدب ظهرت مبكرة وجاور بمكة قبل أن يستقر به النوى في تونس حيث توفي. وقد ترك إلى جانب أشعاره كتابا في العروض وآخر في البديع ورجزا في الصرف وعملا في الفرائض. ويتبين من هذه الآثار أن الخلوف كان أكثر اهتماما بالاتجاه الدنيوي من زميله الحوضي الذي غلب عليه، كما لاحظنا، التصوف وبالأخص في أخريات أيامه. ولعل ذلك يعود إلى ثقافة كل منهما وأثر العصر والبيئة في كل منهما.
3 -
ولقد كان الشعر وفيرا في الجزائر خلال القرن التاسع غير أن روح التصوف قد طغت عليه فلا نكاد نجد (عالما) إلا وله قصيدة (وكانوا يسمونها غالبا منظومة، وهي في الواقع كذلك) في موضوع ديني أو صوفي أو في رثاء متصوف أو زاهد، وما شاكل ذلك. وفي هذا الباب تدخل قصيدة إبراهيم التازي المعروفة (بالمرادية) و (المنظومة الجزائرية) لأحمد بن عبد الله الجزائري و (سينية) ابن باديس و (منظومة المراصد) لابن زكري. إن الشعر في هذه الفترة قد أصبح (نظما) لا وحي فيه ولا خيال وتخلى في أغلبه عن الغزل والطبيعة والأحاسيس الإنسانية الأخرى. ولذلك فضلنا أن ندمج تلك المنظومات في باب التصوف لا في باب الشعر الحق.
وإلى جانب الموضوعات الدينية والصوفية ومدح السلاطين تناول الشعراء موضوعات أخرى محددة كالرثاء والشكوى والغزل والصيد. وقد
(1) الجيلالي 2/ 64.
أشرنا إلى مرثية الحوضي في شيخه السنوسي. ونضيف إلى ذلك مرثية أحمد بن عبد الله الجزائري في شيخه وصديقه عبد الرحمن الثعالبي، وتعتبر هذه المرثية من أقوى قصائد الرثاء في وقتها. وقد تناقلها الرواة فتعددت نسخها وهي تبدأ هكذا:
لقد جزعت نفسي لفقد أحبتي
…
وحق لها من مثل ذلك تجزع (1)
ويبدو أن الجزائري كان يكثر من قرض الشعر، فقد رويت عنه أيضا أبيات في الشكوى من الأحوال التي ألمت بمدينة الجزائر بعد أن كان العيش فيها رغدا، وهي أبيات تصور، على قلتها، بعض أحوال مدينة الجزائر في القرن التاسع:
دع الجزائر لا تحلل بساحتها
…
في ذا الزمان ولا تنزل بواديها
كدنا لأجل حلول الحادثات بها
…
نختار، والله، للسكنى بواديها
من بعد عيش هني عم ساكنها
…
وبعد عافية حلت بناديها
وجل ما ضرها من أهلها نفر
…
هم في الحقيقة أضحوا من أعاديها
مد الإله عليها ظل عافية
…
مثل التي قد رأتها في مباديها (2)
ويمكن لدارس الشعر في القرن التاسع أن يجد نماذج من جميع الموضوعات التي أشرنا إليها ولا سيما التصوف والمدائح النبوية والرثاء. ومن أجود قصائد المديح النبوي قصيدة عبد الرحمن بن علي بن عبد الله الغبريني البجائي، تلميذ عبد الرحمن الثعالبي التي تقع في أربعين بيتا، ومطلعها:
حادي الركائب والأضعان في السفر
…
رفقا فلي كبد لهفى على جمر
ويا غزال النقا عز اللقاء وما
…
وقفت يوما لأحبابي على خبر
وقد ذكر الشاعر نفسه الذي أورد القصيدة في آخر الجزء الثاني من
(1) رأيت منها نسخة في ك 2867 مجموع، الخزانة العامة، الرباط. وأخرى في مخطوط رقم 49 بجامع البرواقية (الجزائر).
(2)
15 مجاميع دار الكتب المصرية. ورقة 149.
كتاب (مسارح الأنظار) أنها قد اشتهرت في المغرب والأندلس وانتقلت أيضا إلى المدينة المنورة (واعتنى بحفظها وكتبها الفقهاء الأنجاد في عدة من البلاد) وقد خمسها الشاعر أبو النور بن الحاج المبارك الياوراسي (كذا) المعاصر للشاعر وأورد الغبريني نفسه التخميس على طوله في كتابه المذكور (1).
4 -
أما النثر فقد ظل يشع من وقت لآخر في المقدمات السجعية التي كان الكتاب يتفننون فيها، وفي الإجازات التي كان العلماء يتلقونها عن بعضهم، وفي الرسائل الأخوانية التي كانوا يتبادلونها، والرسائل السلطانية التي كانوا ينشئونها ويتصنعون فيها، وفي غير ذلك من الآثار المكتوبة. وفي هذا الصدد ننوه بآثار أحمد بن أبي حجلة التلمساني وأحمد النقاوسي صاحب (الروض الأريض) و (احكام صنعة الكلام) رغم تقدمهما على العصر الذي نحن ندرسه (2). كما نذكر الرسالة التي كتبها عبد الرحمن الثعالبي إلى بعض تلاميذه ومريديه في الجهاد، وهي رسالة بسيطة العبارة ومرسلة. وقد تحدث فيها عن موضوع هام كان موضوع الساعة في الأندلس والمغرب، ولذلك خصصنا لها دراسة في غير هذا المكان (3). وألف أحمد بن أحمد البجائي المعروف بأبي عصيدة عملا أدبيا هاما سماه (رسالة الغريب إلى الحبيب)، وهو خطاب موجه منه لما كان بالمدينة المنورة إلى محمد بن أبي القاسم المشدالي البجائي الذي كان مقيما في القاهرة. وقد تفنن أبو عصيدة في هذه الرسالة وأجاد (4).
فقد افتتح أبو عصيدة رسالته بقصيدة مطلعها، بعد الديباجة:
هذي مراسلة العبد الفقير إلى
…
كهف الأنام وفخر الوقت والسلف
(1) نسخة من (مسارح الأنظار) في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1767.
(2)
عن النقاوسي انظر السراج (الحلل السندسية) 3/ 814.
(3)
انظر كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1.
(4)
نسخة منها في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 1195. وعندي صورة منها وقد نشرنا خلاصتها.
ومما جاء فيها عن الرسالة نفسها:
وكم حوت من أمور راق مسمعها
…
ومن عتاب ومن نظم ومن طرف
وهي فعلا كذلك. فقد ضمنها الشعر والنثر المسجع والأخبار والطرائف. أما عن موضوعها ففيها أخبار هامة عن حياة المؤلف في الغربة لأنه قد رحل إلى الحجاز للحج ثم عاد عبر تونس بعد ثلاث سنوات ناويا الإقامة بالوطن، وعندما سأل في تونس عن الأهل والأصدقاء علم أن جميعهم قد توفوا وتفرق شملهم فعاد من حيث أتى وظل في الحجاز يكتب ويقرئ البخاري والشفا ونحوهما. ولولا هذه المراسلات التي كانت تدور بينه وبين المشدالي وأمثاله، لانقطعت صلته بالوطن. ولذلك ذكر أنه كتب رحلة ضمنها أخبار تنقلاته ومشاهداته في المشرق، وكان أبو عصيدة شاعرا أيضا فأكثر في الرسالة التي بلغت 75 ورقة من شعره وشعر غيره في الحب والعتاب والتودد والاعتذار ونحو ذلك. كما أن فيها أخبارا هامة عن حياة محمد المشدالي في المشرق وتآليفه وأشعاره ووظائفه. بالإضافة إلى أخبار بعض الجزائريين والمغاربة في المهجر وفي أوطانهم.
فأهمية الرسالة إذن واضحة سواء من الوجهة الأدبية أو التاريخية.
وهذه هي فاتحتها النثرية (وبعد، هذه رسالة عبد محب شائق غريب، جوابا عن مشرفة صدرت من مالك ماجد سيد حبيب، كتبها وهو قائم على قدم ولائه، مقيم على ما يجب عليه من رفع دعائه، من حضرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله. أولها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أسعد الله تعالى المقام العلي. مقام سيدنا ومولانا الشيخ الإمام دي المفاخر العلمية، والبدائع العلية والغرائب الحكمية، والمحاسن الجليلة الأدبية، والنكت الرائقة الذكية، التي سبائكها مصرية ومعادنها مغربية (1). السيد الفقيه
(1) إشارة إلى كون المشدالي كان في المغرب (بجاية) ومقيما في مصر. انظر عن المشدالي بعد قليل. وممن ترجموا له عبد الباسط بن خليل في رحلته وكان قد عرفه في القاهرة. وأثناء وجود عبد الباسط في بجاية لقي والد المشدالي (وهو أبو القاسم =
الجليل، أبو الفضل محمد ابن سيدنا ومولانا الصدر الجليل الخطيب الرحلة، أبو عبد الله محمد المشدالي).
ولأبي عصيدة كتاب في الأدب والتصوف ذكره استطرادا في رسالته المذكورة وقد أخبر عن عنوانه ومحتواه. فأما عنوانه فهو (أنس الغريب وروض الأديب) وأما محتواه فيحتاج إلى تفصيل. فقد قال إنه ترجم فيه لأبي الفضل المشدالي طويلا (ترجمت لكتابي بترجمته الفاخرة العلية، وكتبتها بالذهب الوهاج، ونثرت من ملابسها العجيبة حللأا تفوق ملابس الديباج. وألممت فيها برحلته المغربية ثم المشرقية (في القدس ومصر والحجاز) .. وذكر بعض أشياخه المرضية .. وطرزت ذلك بشيء من نظمه وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلا ولا يحاوله إلا تعليلا). وذكر فيه تراجم لرجال آخرين لقيهم في تونس والحجاز ومصر أو عرفهم في الجزائر. كما أورد أخباره هو فيه فقال إنه ضمنه (ذكر الرحلة من حضرة تونس السنية الإمامة العمرية (1) إلى الحلول بالحضرة الشريفة العظيمة النبوية. ذكرت فيها (أي المقدمة) بداية من لقيناه بها ونبدأ من ذكر تونس بعينها .. وألممت عند ذلك حال الأوطان والأهل والجيران، ونبدأ من مآثر الأصحاب والأخوان، ثم من لقيت بطريقي في سائر البلدان إلى هذا الأوان).
وأخبر أبو عصيدة أنه ألف كتابه أثناء إقامته بالحجاز وأنه كتاب حافل مفيد (جمعته مدة هذه الإقامة المحفوفة بالسعادة، إن شاء الله، والكرامة، بحمد الله وحسن عونه، مجموعا لطيفا وموضعا ظريفا، يسبي برونق آدابه الخواطر والعقول، ويسلي على المعاهد والطلول، يحتوي على مقدمة وأبواب وفصول ..) وقد قلنا إن الكتاب قد جمع بين الأدب والتصوف لأن
= محمد) وتتلمذ عليه وأكد له نبأ وفاة ابنه في القاهرة فزاد أسفه عليه. وفي رسالة أبي عصيدة أخبار عن أسرة المشدالي.
(1)
كانت تونس عندئذ تحت حكم أبي عمرو عثمان الحفصي، وكانت بجاية، بلد الكاتب، تابعة للدولة الحفصية.
مؤلفه أخبر بعد ذلك أنه خصص بقيته إلى العبادة والزهد ناقلا عن أهل التصوف. (أما باقي الكتاب وسائر الأبواب ففي ذكر التبتل في العبادات وأسرار الطاعات وما لا غنى للمريد عنه من جميع الإرادات .. جمعته من كتب عديدة جليلة مفيدة من جملتها كتاب الإحياء الخ). ثم عدد التآليف الصوفية التي نقل منها (1). وأخبر كذلك أنه اطلع علماء الحجاز على هذا التأليف وتنافس معهم حول أفضلية المشدالي على سائر علماء عصره. فهو إذن كتاب جيد في بابه. ولكنه يعتبر في حكم الضائع، ولولا هذه اللقطات التي وصلت إلينا ضمن الرسالة لما عرفنا عنه شيئا لأننا لا نعرف من تعرض له حتى الآن. ومهما كان الأمر فإن آثار أبي عصيدة الأدبية جديرة بالدرس والنشر.
وقد ضعف الإنتاج اللغوي، كالدراسات النحوية والقاموسية وكادت تقتصر على تعاليق سطحية في النحو والصرف. ومن الذين اهتموا بالدراسات النحوية والبلاغية في هذا العصر، أبو جميل زيان (إبراهيم) بن فائد الزواوي المتوفي ستة 857 (2). ومن نظمه في ذلك أرجوزة في النحو بلغت مائة وخمسة أبيات قصد بها، كما قال إفادة الناشئة (3). والغالب أنه هو الذي وضع عليها شرحا أيضا. كما أنه قد شرح ألفية بن مالك وتلخيص المفتاح، بالإضافة إلى أعمال أخرى في الفقه والتفسير. وربما يعتبر ابن فائد الزواوي أشهر من اهتم بالدراسات النحوية في منطقة زواوة بعد يحيى بن معطي الزواوي صاحب (الدرة الألفية في علم العربية)(4). ولكن النحو ظل أيضا
(1) سنعود إلى الكتاب في فقرة التصوف.
(2)
انظر عنه بروكلمان 2/ 926، والأعلام 1/ 51، وتعريف الخلف 2/ والجيلالي 2/ 109.
(3)
منها نسخة في المكبة الملكية بالمغرب رقم 7263 والخزانة العامة بالرباط د 2194.
(4)
عن ابن معطي انظر طاهر الطاهي (ابن معطي وتحقيق كتابه الفصول الخمسة) رسالة ماجستير سنة 1972 من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة. ومن الذين ترجموا له السيوطي في (بغية الوعاة).