الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك من المواقف التي تحافظ على العلاقات الودية بين الطرفين (1).
هجرة العلماء
تحدثنا من قبل عن الهجرة الداخلية للعلماء حيث ينتقل بعضهم من مدينة إلى أخرى طلبا للعلم أو الحظوة أو الوظيف، أو من قرية إلى مدينة حيث الثقافة أكثر انتشارا، أو من المدينة إلى الريف للفرار من أوضاع معينة. ولكننا هنا نود أن نعالج ناحية أخرى من حركة العلماء وهي هجرتهم إلى خارج القطر الجزائري. وسنقصر حديثنا عن نوعين من الهجرة الخارجية: الهجرة المؤقتة والهجرة الدائمة. فأما الأولى فقد كانت في أغلب الأحيان لطلب العلم أو مجاورة بيت الله الحرام، وأما الثانية فقد كانت أغلبها هروبا من أوضاع غير مرضية، وللنوعين من الهجرة أسباب نود أن نأتي عليها باختصار.
ويمكن حصر الأسباب في عوامل السياسة والاقتصاد والدين والعلم، فقد هاجر بعض علماء الجزائر، ولا سيما من تلمسان ونواحيها، إلى المغرب عقب استيلاء العثمانيين على مملكة بني زيان، وظلت موجة الهجرة نحو المغرب مستمرة حتى بعد أن استقرت الأوضاع للعثمانيين. وهناك عائلات انتقلت بأسرها إلى المغرب، ولا سيما فاس. والذي يقرأ (دوحة الناشر) و (البستان) يعرف الكثير من أسماء العائلات التي هاجرت إلى المغرب خلال القرن العاشر. ومعظم العائلات العلمية التي شاع أمرها بتلمسان في القرن التاسع انتقلت إلى هناك في القرن الذي يليه (2).
(1) من ذلك تعزية أحمد الزروق البوني سنة 1158 للباي بوحنك في وفاة ولده. انظر فايسات (روكاي) 1868، 308.
(2)
جاء في ترجمة أحمد العبادي أنه هاجر من تلمسان إلى فاس سنة 968 (في جملة فقهاء تلمسان حين وقعت الفتنة بينهم وبين الترك واستغاثوا) فتم نقلهم إلى فاس وأعطاهم السلطان هدية مناسبة لكل منهم. انظر عباس بن إبراهيم (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) 2/ 37، وهو ينقل عن (دوحة الناشر)، الذي ترجم للعبادي.
ولم تكن معاملة الأتراك هي السبب المباشر في هذه الهجرة، ذلك أن الحروب الداخلية التي عرفتها المملكة الزيانية في أخريات أيامها وعلاقتها بالإسبان في وهران وضغط بني وطاس عليها من الغرب والعثمانيين من الشرق قد جعل العلماء لا يشعرون بالراحة ولا بالجو الملائم والاجتهاد في الرأي والحياد السياسي. فما كان من العديد منهم إلا أن حمل أمتعته وأهله وترك البلاد جملة حتى يهدأ غبار الفتن والمعارك. ومن أشهر من هاجر في تلك الظروف أحمد الونشريسي صاحب (المعيار) الذي درسناه في الفصل الأول. وقد كان وحده خزانة علم ودائرة معارف فقدت البلاد بهجرته ركنا أساسيا من أركان الحياة العلمية. وقد ظل ابنه عبد الواحد في فاس أيضا. وهو لا يقل شهرة عن والده. وقد قال عنه معاصروه انه (كان شاعرا مجيدا لا يقارعه أحد من أهل عصره) وأنه امتاز بالمهارة (في صناعة الإنشاء وعقد الشروط والوثائق). وكان لعبد الواحد مجلس خاص لا يحضره إلا أكابر العلماء. وقد تولى الفتيا والقضاء والتدريس. وظل قاضيا ثماني عشرة سنة ثم تفرغ للإفتاء. واشتهر بأنه كان لا يخشى صاحب السلطة في أمور الدين. وكان ذلك سببا في قتله على يد عملاء السلطان محمد المهدي الشيخ السعدي عندما رفض عبد الواحد الونشريسي مبايعته وخلع بيعة أحمد الوطاسي. وهكذا مات مقتولا عند أحد أبواب جامع القرويين سنة 955 ضحية التقلبات السياسية (1).
وقد ذكر ابن مريم جملة من هؤلاء العلماء الذين هاجروا إلى المغرب. فهذا محمد بن مرزوق الخطيب الذي دخل فاس وأجاز بها والذي كان حيا سنة 918. وهذا أحمد الواعزاني الذي استوطن فاس وتوفي بها سنة 981.
وهذا محمد بن شقرون الوجديجي الذي نزل فاس وتولى الإفتاء في مراكش وأدركته الوفاة في فاس سنة 983. وكذلك محمد بن عزوز الديلمي الذي انتقل من البادية إلى الحاضرة ثم قصد فاس حيث توفي. ونفس الشيء يقال
(1) انظر الكتاني (سلوة الأنفاس) 2/ 147، و (الإعلام بمن حل مراكش) 4/ 157.
عن محمد بن محمد العباس الذي رحل إلى فاس. ولكن ابن مريم يقول إنه رجع بعد مدة إلى تلمسان (1).
وأكبر موجة من الهجرة نحو المغرب حدثت بعد فشل الحملة السعدية على تلمسان. فقد رافق السلطان السعدي عند عودته إلى بلاده كثير من العلماء الذين كانوا قد أيدوا تدخله في تلمسان. وكان ذلك حوالي سنة 968 هـ. ومن الذين هاجروا في هذه الأثناء محمد بن أحمد المعروف بابن الوقاد التلمساني الذي تولى عدة وظائف رسمية كالقضاء والإفتاء والتدريس في مدن مختلفة من المغرب كفاس ومكناس وتارودانت وسجلماسة. وقد أدركته الوفاة بتارودانت سنة 1001 هـ. وقد قيل إن ابن الوقاد رغم هذه الوظائف التي تولاها والظروف التي عاشها في تلمسان وفي المغرب على العهد السعدي قد حذر من العمل لدى الحكام حتى نسب إليه هذا البيت: كل التراب ولا تعمل لهم عملا
…
فالشر أجمعه من ذلك العمل (2) ومن الذين كانوا ضحية هذه الأوضاع بين العثمانيين والسعديين محمد بن عبد الرحمن المغراوي المعروف بابن جلال. فقد ولد بتلمسان سنة 908 واشتهر بعلومه ومكانته وارتبط بالسلطان السعدي هناك. ولما حان وقت عودة السلطان إلى فاس رافقه ابن جلال إليها سنة 958، فكان محظوظا لديه حتى قلده وظيفة الفتيا والتدريس والخطابة بجامع الأندلس ثم جامع القرويين. وظل في الموضعين أكثر من عشرين سنة. وقد أصبح ابن جلال عارفا بعلوم الوقت كالمنطق والفقه والعقائد والبيان والحديث والتفسير. وكانت له شخصية قوية حسب من ترجموا له. وفي فاس أصبح له تلاميذ معترف لهم كأحمد المنجور صاحب الفهرس. ويكفي ابن جلال أنه علم ابنه
(1) ابن مريم (البسان)، 258، 261.
(2)
أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 78. وإبراهيم حركات (الصلات الفكرية بين تلمسان والمغرب)، 1975، 189.
المعروف بمحمد المرابط والذي تولى مثله الخطابة بالقرويين وجامع الأندلس (1).
ولم يكن أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) قد اشتهر أمره في تلمسان عندما هاجر منها إلى فاس. ذلك أن شهرته العلمية قد بدأت أثناء وجوده بالمغرب ثم بالمشرق. وعلى كل حال فقد قصد هو أيضا فاس وتولى بها الوظائف وانغمس في حمأة السياسة حتى كادت تأتي عليه رياح الفتنة التي أتت من قبل على عبد الواحد الونشريسي. ومهما كان الأمر فقد انفلت من ذلك الوضع بذهابه إلى مدينة الجزائر ومنها إلى المشرق حيث ظل إلى أن توفي، كما سنرى (2).
وهناك عالمان كان لهما شأن عظيم في المغرب خلال هذا العهد، الأول محمد بن عبد الكريم الجزائري، والثاني محمد بن أحمد القسنطيني المعروف بابن الكماد. ولا ندري موطن ابن عبد الكريم ولكنه يبدو أنه كان من علماء العاصمة لأن نسبته (الجزائري) عادة نسبة إلى مدينة الجزائر في ذلك الوقت. ومن جهة أخرى نعرف أن (عمدته) في التعليم هو سعيد قدورة، وهو من علماء العاصمة البارزين في وقته. كما أنه أخذ العلم على عدد من علماء مصر مثل علي الأجهوري والبابلي والفيشي والزرقاني والشنواني. أما في المغرب فمن مشائخه عبد القادر الفاسي وأبو علي اليوسي. وقد هاجر ابن عبد الكريم إلى فاس سنة 1083 وكان قد تردد عليها قبل هذا التاريخ. ولعل ذلك كان بإغراء من علماء السلطان إسماعيل. فقد قدم على هذا السلطان الذي (أكرمه مرارا وكان يجله ويعظمه). ويبدو أن كفاءته العلمية هي التي مهدت له هذا الطريق لدى السلطان. فقد قيل إنه كان حسن الحديث والمحاضرة ممتع المجالسة. وإنه كان (دائرة للأدب
(1) الكتاني (بلوة الأنفاس) 2/ 27. وهو يذكر أن ابن جلال قد توفي سنة 981، كما توفي ابنه في فاس أيضا سنة 1008. عن ابن جلال انظر أيضا ابن عسكر (دوحة الناشر)، 211.
(2)
سنترجم له في فصل النثر من الجزء الثاني.
والتواريخ)، وهذا ما كان يرغب فيه السلاطين المتذوقين للآداب والأخبار بخلاف ولاة بلاده الجزائر. وقد توفي ابن عبد الكريم في فاس سنة 1102 (1).
أما ابن الكماد (محمد بن أحمد القسنطيني) فقد رحل من قسنطينة إلى المغرب، وهو من عائلة شهيرة بالعلم والشرف تولت القضاء والتدريس والإفتاء في قسنطينة جيلا بعد جيل. وقد ذكرنا منها عمر الوزان. ولكن المنافسين كانوا كثيرين، وكانت طرق المنافسة غير شريفة. لذلك اختار عدد من العلماء الهجرة على الدخول في حمأة المنازعات الشخصية، ومنهم محمد بن الكماد الذي كان ينتسب إلى الشرفاء ويضيف إلى اسمه نسبة (الحسني). فبعد أن درس في زواوة على محمد المقري وفي العاصمة على محمد بن سعيد قدورة واشتهر بالحفظ، قصد فاس التي كانت موئل العلماء، لوجود جامعة القرويين من جهة ولأنها عاصمة سياسية غير عثمانية تحترم فيها العربية وعلومها. ولعلمه وفضله ازدحم الناس عليه ولا سيما عند تدريس الأصول على جمع الجوامع للسبكي. ولفت ذلك إليه نظر السلطان وارتفعت مرتبته (لدى أرباب الدولة ونال حظوة كبيرة) وكان دؤوبا على المطالعة لا يراه الرائي إلا دارسا أو مطالعا أو مقرئا. فهو منقطع للدرس كثير الصمت حتى (واجتمعت الكلمة على أنه أحفظ علماء عصره) وكان ابن الكماد قد دخل أيضا تطوان. ويبدو أنه لم يجد فيها الاستقبال اللائق به فقال بيتا ذهب مضرب المثل:
لهف نفسي على كسوف
…
شمس العلوم وذلة الغرباء
ولانقطاعه للتدريس لم يؤلف الكتب. ويذكر له مترجموه أجوبة على نوازل مختلفة كانت ترد إليه من العامة والخاصة. ولكننا لا نعرف ما إذا كانت
(1) الكتاني (سلوة الأنفاس) 3/ 151. وقد ذكر الكتاني أن صاحب (المنح البادية) قد ترجم لابن عبد الكريم الجزائري، وعد له هناك سبعين شيخا. وكذلك ترجم له القادري في (نشر المثاني) ، ومن تلاميذه أحمد بن عبد القادر التستوني (أو التستاوني) صاحب المؤلفات العديدة. انظر (إتحاف أعلام الناس) 1/ 329. انظر أيضا الخزانة العامة بالرباط، ك 1016 مجموع.
هذه الأجوبة مدونة ومحفوظة أو هي قد ضاعت (1). وقد توفي سنة 1116 وترك تلاميذ من أبرز علماء المغرب في وقتهم مثل محمد بن عبد السلام البناني الذي تحدث عن شيخه في فهرسه (2). وإدريس بن محمد المنجرة الذي ترجم له أيضا في فهرسه. وكان ابن الكماد متمكنا من علوم شتى كالمنطق والتوحيد والحديث والفقه وفروعه (3).
ويعتبر سعيد المنداسي من أبرز الشعراء المهاجرين إلى المغرب لأسباب سياسية أيضا، وهو من الشعراء المهرة في الفصيح والملحون، وصاحب القصيدة الشهيرة (بالعقيقة). وقد قال في الترك شعرا يهجوهم فيه هجاء مقذعا. وسنعود إليه عند حديثنا عن الأدب. وقد قيل إن السلطان محمد بن الشريف العلوي قد منح المنداسي نحوا من خمسة وعشرين رطلا من خالص الذهب جائزة له على بعض أمداحه فيه (4).
ولكن هجرة الجزائريين نحو المغرب لم تكن كلها لأسباب سياسية، فقد كان طلب العلم أهم مقصد لهم. غير أن بعض العلماء كانوا يجدون بعد ذلك الحياة في المغرب أفضل وأرحب منها في الجزائر فيختارون الإقامة، ثم أن عددا منهم كانت لهم جذور تاريخية من أسر وأنساب وتجارة وغير ذلك. وقد كان الجو العلمي في المغرب أفضل منه في الجزائر رغم تقلب الأحوال السياسية فيه، فقرب المغرب من الأندلس وكثرة مراكز التعليم والعواصم العلمية ووفرة المكتبات ووجود القرويين وتقدير ولاة المغرب لأهل العلم - كل ذلك لعب دورا في جلب علماء الجزائر إلى هناك. وسنعرف بعد قليل أن
(1) في الخزانة العامة بالرباط رقم 1016 مجموع، عدد من النوازل التي ذكرها أحد تلاميذه. وهي منسوبة له، ومحمد بن عبد الكريم الجزائري وأحمد المقري.
(2)
هذا الفهرس مذكور في رحلة ابن حمادوش. وقد اطلعنا عليه.
(3)
الأفراني (صفوة من انتشر) 218، و (سلوة الأنفاس) 2/ 30. وقد ترجم له أيضا القادري في (نشر المثاني) كما توجد أخبار عن عائلة الكماد في (منشور الهداية) للفكون و (ذيل بشار أهل الإيمان) لحسين خوجة.
(4)
(الاستقصاء) 7/ 31.
بعض علماء المغرب كانوا يقصدون الجزائر لأغراض مختلفة.
ومن أسباب هجرة العلماء الجزائريين تورط بعضهم في المشاكل السياسية المحلية. وقد حدث ذلك لعيسى الثعالبي الذي كان محظي يوسف باشا، كما أسلفنا، وحدث أيضا ليحيى الشاوي. وكلاهما هاجر إلى المشرق. ومنهم أيضا ابن الترجمان، وهو علي بن محمد الجزائري (من مدينة الجزائر) الذي قال عنه الجبرتي إنه كان (أحد أذكياء العصر، ونجباء الدهر، من جمع متفرقات الفضائل، وحاز أنواع الفواضل، الصالح الرحلة ..) وقد ولد ابن الترجمان بمدينة الجزائر سنة 1130، وهو من عائلة تنتمي إلى الشرف. وقد حصل كثيرا من العلوم. وممن أجازوه المنور التلمساني.
وكانت لابن الترجمان حياة مليئة بالمغامرات والتقلبات. ولعل ذلك كان سبب بلائه وموته بعيدا عن بلاد الإسلام. فقد أقام بمصر طويلا وبنى بها دارا حسنة قرب الأزهر. وكانت له بها مكانة خاصة لدى الأمير أحمد آغا، أمين دار ضرب السكة. فكان لا يفارقه وهو الذي أغدق عليه العطايا. وكان ابن الترجمان أيضا كثير الشعر والترحال. وكان رغم ترحاله يدعي أنه لا يستغني عن النساء، فكان يصطحب معه واحدة أو اثنتين منهن. وقد سافر إلى أناضوليا وحظي عند (أرباب الدولة) بمقام كبير، واشتهر عنه أنه صاحب عشرة حسنة. وصادف سفره إلى إسطانبول استعداد الدولة العثمانية للجهاد ضد روسيا. فكتب ابن الترجمان إلى السلطان مصطفى يخبره أن من قرأ استغاثة أبي مدين الغوث في الجهاد حصل له النصر على عدوه. ولكن السلطان كان أذكى منه إذ دعاه أن يشترك بنفسه في الجهاد وأن يدعو بنفسه أيضا باستغاثة أبي مدين. وتذكر المصادر أن ابن الترجمان قد توجه (رغم أنفه مع المجاهدين) ولكن الدائرة دارت على الجيش العثماني فأسر ابن الترجمان مع الأسرى المسلمين وأخذ إلى روسيا ومات مأسورا في موسكو (شهيدا غريبا) لأن أحدا لم يتقدم لافتدائه أو يفاوض عليه، كما يقول الجبرتي. وكانت وفاته سنة 1185.
وقصة ابن الترجمان تذكر المرء بقصة رحالة آخر ومغامر مثله، وهو عاشور القسنطيني المعروف بالفكيرين. فقد كان والده من علماء قسنطينة، وتنقل عاشور في الأرض كثيرا فدخل بلاد السودان وتونس وحج وتولى وظائف التدريس وخصوصا في تونس. ولما رجع إلى قسنطينة صادف (مظلمة) فاختار الخروج منها ثانية ولم يعد إليها. فقد أدركته الوفاة مهاجرا في مكة المكرمة سنة 1087 (1). ومهما يكن من شيء فإن الأوضاع السياسية والاقتصادية والمظالم هي التي كانت السبب في هجرة عاشور الفكيرين الأولى والثانية.
وهناك شخصية غريبة أخرى اختارت مصر مستقرا لها، ومع ذلك لا نعرف عنها إلا القليل، فقد روى الجبرتي أن أحمد الجزائري (ويسميه أبا العباس المغربي) الذي كان من صحراء عمالة الجزائر قد دخل مصر صغيرا وتتلمذ على مشائخها، مثل علي الصعيدي، ومهر، كما يقول الجبرتي (في الأدب والفنون)، ثم أذن له في التدريس فصار يقريء الطلبة برواق المغاربة، وشاع أمره وذاعت أخباره لفصاحة لسانه وجودة حفظه. وبعد أداء الحج سنة 1185 والمجاورة بالحرمين عاد إلى مصر وأصبحت له فيها مكانة عالية، وعظم أمره حتى أشير إليه بالمشيخة في الرواق ولكن تعصب البعض ضده، فلم يحصل له ذلك. وكل ما حصل عليه أحمد الجزائري هو نظارة المدرسة الجوهرية. وكان لذلاقة لسانه وكثرة أتباعه له خصوم أيضا. فقد قال عنه الجبرتي إنه كان (يتقى شره). وقد توفي سنة 1202 (2).
وما تزال حياة أحمد بن عمار غامضة في نهايتها على الأقل. فنحن نعرف أنه أيضا قد حج وجاور بالحرمين مدة طويلة، وأنه ذهب إلى تونس
(1) انظر حياته في فصل التاريخ من الجزء الثاني.
(2)
الجبرتي، (عجائب الآثار) 2/ 178. وهناك أحمد الجزائري آخر كان حيا سنة 1243 من حيث رآه دولابورت الفرنسي ولين الإنجليزي في القاهرة يمارس السحر عن طريق النظر في مرآة الحبر، وكان مثار الفضول عند العامة وحتى عند الخاصة، لما كان يأتي به من (العجائب). انظر (المجلة الإفريقية)، 1905، 213.
ومصر، كما سنعرف (1). ولكننا لا نستطيع أن نجزم هنا أن أحمد بن عمار كان من المهاجرين نهائيا. كما أننا لا نستطيع أن نؤكد ذلك بالنسبة لمعاصره وصديقه عبد الرزاق بن حمادوش، صاحب الرحلة والآثار العلمية الأخرى. فقد ولد ابن حمادوش وعاش وتثقف بالجزائر وتوظف، ثم تنقل بين المغرب وتونس ومصر والحجاز، ولكننا لا نعرف ما إذا كان قد عاد إلى بلاده أو ظل خارجها إلى وفاته (2). ويمكننا أن نغامر فندعي بأن كلا من ابن عمار وابن حمادوش مات في مهجره ولم يعد إلى الجزائر.
ومن الذين كانوا يشعرون أيضا بمأساة خارج الجزائر لأسباب لا نعرفها (ولعل من بينها النفي السياسي) الشيخ محمد بن أحمد الشريف الذي كان دائما يكتب بعد اسمه أنه جزائري المولد والنشأة أزميري الوطن والملجأ. فقد ذكر أن من شيوخه في الجزائر محمد بن عمر المانجلاتي ومحمد زيتونة التونسي ومصطفى بن إبراهيم الأزميري. وقد ترك محمد بن أحمد الشريف عدة تآليف في الحديث والفقه سنعرض إليها في الجزء الثاني. ويبدو أنه استوطن بعد الجزائر أزمير واتخذها منفاه، ثم تنقل فذهب إلى الحجاز حيث بقي فترة مجاورا وتعرف هناك على أحد الوزراء العثمانيين، وهو أحمد باشا نعمان، الذي أصبح شيخا للحرم الشريف. وقد استجازه هذا الوزير فأجازه (تطييبا لخاطره، وتنشيطا لفكره وناظره) سنة 1154. والغالب على الظن أن محمد بن أحمد الشريف قد توفي في مهجره حوالي سنة 1159.
وتطول بنا القائمة لو حاولنا استقصاء العلماء الذين هاجروا وقضوا حياتهم في المهجر، فالأسباب عديدة وقد أشرنا إلى أهمها. والبلدان التي توجهوا إليها متعددة المشارب حسب المغريات العلمية والسياسية التي يجدها المهاجر. غير أن بعضهم كان يعود إلى وطنه كحمودة المقايسي
(1) سنترجم لأحمد بن عمار في فصل النثر من الجزء الثاني. انظر عنه أيضا مقالتنا (إجازة ابن عمار للمرادي)، مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978.
(2)
سنترجم له في فصل العلوم من الجزء الثاني. انظر أيضا دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).