المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: ‌سلوك بعض المتصوفين

السانية قرب وهران، لأن الناس كانوا في حاجة إلى الملح (1).

ويتضح مما سيق أن التصوف في العهد العثماني قد شمل مختلف القطاعات ولم يكن مقصورا على القارئين والمتنورين بل جذب إليه العامة وأشباهها. وقد كثر في هذا الجو المشبع بالروحانية المدعون للتصوف والمتكسبون بالدين وبالولاية. وقد رأينا أن هذه الظاهرة قد غطت العهد من أوائل القرن العاشر (16 م) إلى أوائل القرن الثالث عشر (19 م). والذي يدرس الوضع الاجتماعي والسياسي، كما صوره المداحون الشعبيون أواخر العهد العثماني يدرك مدى عمق هذه الظاهرة وانتشارها.

‌سلوك بعض المتصوفين

من دراستنا لسير رجال الدين خلال العهد العثماني نخرج بثلاثة أصناف: صنف العلماء الموظفين والفقهاء المستقلين الذين لا صلة لهم بممارسة التصوف العملي، وهذا الصنف هو الذي تعرضنا له في الفصل السابق. والصنف الثاني هم العلماء الذين غلب عليهم التصوف، وهم في الغالب لا يميلون إلى الوظيفة وإلى التقرب من السلطة إلا إذا أجبروا على ذلك بوجه من الوجوه. أما الصنف الثالث فيضم (المتصوفة) الذين كانوا يدعون العلم، وإذا شئت المنتسبين إلى التصوف والولاية لغرض من الأغراض والذين ساعدتهم الظروف السياسية والاقتصادية على الظهور واستغلال العامة. وفي هذا الفصل نركز على الصنفين الثاني والثالث.

وبناء على كل التعاريف المقبولة والمعقولة فإن التصوف الحقيقي هو الذي تتوفر فيه شروط أساسية منها معرفة الكتاب والسنة معرفة دقيقة والعلم بهما والجمع بين العلم والعمل والسعي إلى معرفة الله حق المعرفة عن طريق التأمل والنظر والتفكير في مخلوقاته، بالإضافة إلى التقى والورع والتجرد عن هوى النفس وحب الدنيا والابتعاد عن مغريات السياسة والسلطة وعدم

(1)(الرحلة القمرية) كما لخصها هوداس (المجموعة الشرقية)، 63.

ص: 481

التعاون مع الظلمة والمتجبرين. ورغم أن هذه الشروط قد تبدو خيالية أو صعبة المنال فإن الشواهد كثيرة على وجود من توفرت فيه أو كادت. ولعل سيرة عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الأخضري وعمر الوزان وأمثالهم خير شاهد على ذلك. فهم قد أضافوا إلى العلم الزهد والتصوف والتجرد عن الهوى.

فإذا اهتم بعضهم بعلوم الباطن فقط فقد انحرف عن الطريق الحقيقي للتصوف وتحول من العلم إلى الخرافة ومن الولاية إلى الشعوذة. وهذا هو ما حدث لدى الكثيرين في عصر ساد فيه التخلف ونامت فيه أعين الرقباء. فقد ظهر أشخاص هنا وهناك يدعون دعوات ضالة مضرة بالمصلحة العامة، ومع ذلك لم يوقفوا عند حدهم، بل سمح لهم بالنشاط والنمو والانتشار حتى طغوا وعاثوا في الأرض فسادا. وقد تولد عن ذلك انتشار الفوضى الدينية وكثرة الخرافات وحلول السحر محل العلم. ولكن القليل فقط من هذه الأمور قد سجله المؤرخون واهتم به الناقدون والملاحظون. ولا شك أن ما لم يسجلوه أعظم وأخطر. فبالإضافة إلى كتاب الفكون وبعض اللقطات في كتابات ابن العنابي وابن عمار، نجد في كتب الرحالة الأوروبيين كثيرا من الملاحظات الهامة والدقيقة على انتشار (المرابطية) والسحر والتخلف العقلي والعلمي عند هذه الفئة من الناس. وإذا كان الفكون وابن العنابي قد حكما على أصحاب تلك الأمور بأنهم دجاجلة وزنادقة فإن الأجانب قد نظروا إلى ما كانوا يقومون به على أنه من ظواهر التخلف العقلي والاجتماعي عند المسلمين. ولذلك لا نستغرب أن يقول أحد الأوروبيين بأن جميع علوم أهل الجزائر لا تخرج عندئذ عن السر وأن علماءهم (وهو يقصد المرابطين الدراويش) سحرة، كما لا نستغرب أحكام بعضهم على فئة العلماء عامة في الجزائر إذا بدت لنا أحكاما قاسية ومؤلمة.

ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه علماء أوروبا ينادون بالحرية العقلية لتحرير العامة من ربقة الخرافات ويبدعون علوما وفنونا للنهوض بالإنسان، كان مرابطو الجزائر يلبسون على العامة ويستغلونها أشنع استغلال ويغرقون

ص: 482

العقول في ظلام دامس. فهذا قاسم بن أم هاني، الذي سبقت الإشارة إليه، قد اتخذ طريق الشعوذة لكي يرد ما كان لأسلافه من زكوات وأعشار. وقد قيل عنه انه بدأ بالإكثار من الصوم والصلاة (وهو أمر لا مجال فيه للاستغراب) ولبس الغرارة المرقعة وأكل الشعير، حتى اشتهر أمره بين الناس. وكان قاسم يكثر من الاتصال بأهل البوادي وبأهل قبيلته التي كانت تقطن نواحي نقاوس. وكان هؤلاء يشيعون عنه أخبارا خاصة وخوارق حتى يخيفوا منه اللصوص. ولما أحس بأن دعوته قد نضجت أظهر البدعة فاتخذ الأتباع (الفقراء) والحضرة، وكانوا يذهبون إلى البوادي وينصبون خيمة إزاء القبيلة، وهناك ينادي الشرطي (وهو أحد فقراء الشيخ) بأن شيخه يبرئ من العاهات، ونحو ذلك من أنوع الكرامات، ويقول الشرطي لرئيس القبيلة بأن الشيخ يطلب كذا كذا وإلا فإن القبيلة لا تفلح، وكان الشيخ إذا رأى فرسا جميلة يذهب إلى صاحبها ويقول له إياك أن تبيعها! ثم يأخذها منه إما بدون ثمن وإما بثمن بخس. وإذا رفض صاحب الفرس العرض يهدده الشيخ بالنكبات. ومع ذلك فقد تصدر الشيخ قاسم لإعطاء العهد الصوفي (1).

وأمثال الشيخ قاسم كثير. فقد بدأ الشيخ محمد الحاج حياته في نواحي أم دكال (امدكال) متنسكا ومعتزلا للناس، ثم ظهر في البوادي واتخذ زوايا ورعايا تزكي عليه ويأخذ منها الأعشار والجبايا. وأصبح هو يولي من يشاء ويعزل، ويعطي العهد ويمنع. وكان أتباعه يحلفون برأسه. وكان الشيخ الجليس قد ظهر عليه الجذب وكثر الخنا على لسانه والتفوه به، كما يقول الفكون أمام الذكور والإناث على السواء، وكان يأكل الحشيشة ويعطيها لمن يزوره، بل إنه يلزمه بأكلها. وعندما مات له قط (وكانت له قطط كثيرة) أسف عليه وصنع له كفنا وجعل له مشهدا ومدفنا. والغريب أن خاصة وعامة قسنطينة قد جاؤوا للجنازة وتعزية الشيخ في فقيده! (2).

(1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط.

(2)

نفس المصدر. وعن نشاط الطريقة الشابية بشرق الجزائر انظر علي الشابي (مصادر =

ص: 483

وفي عنابة ونواحيها ظهر الشيخ طراد وجماعة الشابية وغيرهم. وكان الشيخ محمد ساسي البوني وأبو محمد عبد الكافي من أتباع الشيخ طراد. وكان هذا قد اتخذ طريقة خاصة به كما سبق، وحارب شطر قبيلته واستحل أموال المعارضين له. وشاع عنه أنه كان يأخذ النساء المحصنات ولا يبالي بذوات العدة. وكان يفتخر بأنه (قطب الولاية) وقد أصبح محمد ساسي وهو من الذين جمعوا بين الفقه والإفتاء والتصوف، والشيخ أبو محمد عبد الكافي، وهو عندئذ خطيب وإمام جامع سدي أبي مروان، من أتباعه وكانا يعتقدان فيه العصمة. وقد انتصب محمد ساسي للتدريس في جامع الجمعة (سيدي أبي مروان) وصار عند أهل عنابة رئيس علم الظاهر والباطن. واعتقد فيه أهل البلاد بأنه وريث الشيخ طراد وخليفته. وكان يأخذ الأركاب معه لزيارة قبر شيخه، وادعى مقام الأكابر من الأولياء فذكر في شعره الكثير عبارات مثل الدنان والحان، وزعم أنه قد شرب من كأس الصفوة وجلس على بساط القرب. ومع ذلك لم يقدر أحد أن يرد قوله أو يعترض عليه، بل كان مسموع القول عند الخاصة والعامة (1).

وللشيخ محمد ساسي (يوم الختم محفل من ذكور وإناث، وإنشاد واشعار بالجامع الأعظم، ورقص وغناء). ويؤثر عنه أنه قال في كلام غنى به كنت صاحب الخضر والآن أنا سيده. وكان يذكر في قصائده أنه عرج إلى السماء وكشف له الحجاب. وقد اتخذ في داره مستحما سماه (حمام أهل الصفا)، وكان يجمع الأموال على كل طفل في البلد وكان يأخذ من أهل البادية زكوات وجبايات، كما كان يأخذ الأموال من أهل الأندلس القاطنين

= جديدة لدراسة تاريخ الشابية) في (المجلة التاريخية المغربية)، 13، 14 يناير 1979. 55 - 81.

(1)

انظر علاقة محمد ساسي بالباشا يوسف في دراستنا (أربع رسائل بين باشوات الجزائر وعلماء عنابة)، مجلة الثقافة، 1979. عدد 51 وهو جد أحمد بن ساسي البوني الذي كان مقربا أيضا لدى الولاة كما سبق. وسنعود إلى مؤلفات محمد ساسي في الجزء الثاني.

ص: 484

في عنابة - وقد قدم عليه رجل مغربي يدعى علي خنجل كان في طريقه إلى المشرق، وكان يدعي أنه (شيخ المشائخ) فاجتمع له الناس وعلى رأسهم محمد ساسي، وجعلت له (ليالي من آلات وتصفيق وشطح وأناشيد)، وعند وداعه حمله الشيخ محمد ساسي على كتفيه إلى السفينة. وكان (أي محمد ساسي) ينشد الأشعار والجمع يرد عليه، بينما كان علي خنجل (يزجل بزجله) أيضا، والجمع يصفق ويشطح ويصيح (1).

وكان في تلمسان ونواحيها عدد من هؤلاء المتصوفة الذين خلطوا بين العلم والدروشة وقد ذكر ابن سليمان عددا وافرا منهم. وهو لا يتبع في ذلك طريقة الفكون في نقدهم بل كان يشيد بهم ويتبع خطاهم ويطلب بركاتهم. ومن هؤلاء شيخه موسى اللالتي ومجموعة من الشيوخ. سماهم (وأهل الله)(2). ومما ذكره عن أحمد بن بوجلال أنه كان حاضرا معه بباب الجياد بتلمسان وكان يقرأ له (أي ابن سليمان) كتاب الاحياء للغزالي، فصار بوجلال يعلو ظهره، وقد قال عنه إن من عادة بوجلال (إذا سمع آية أو كلاما حسنا يحترق بالمحبة، فيتواجد مما وجد حتى لا يملك نفسه فتراه يرتفع في الهواء بجميع جسده وهو جالس، حتى كأنه صبي تقفزه أمه، وتراه يسحب فوق الأرض وهو ماد رجليه ويديه، حتى كأنه يطير بجناحيه أو محمول على الأكف)، وقد توفي الشيخ بوجلال مسموما (3). دون معرفة الدافع أو الفاعل.

(1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. ذلك هو ما رواه عن معاصر. وقد تبدو فيه مبالغة، ولكن انتشار وتواتر الظاهرة في شرق البلاد وغربها يدل على صحة ما ذهب إليه الفكون بصفة عامة.

(2)

(كعبة الطائفين) 3/ 264. والشيوخ هم: بلقاسم بن صابر ومحمد العبدلي وعبد القادر بن عبد الجبار والحاج أحمد بن بوجلال وعبد الله بن الداني، ومحمد بن إبراهيم الهمهام والجيلاني بن يحيى وسعيد البوزيدي ومحمد بن وارث وسيدي يخلف وبوعبدل بن لدغم، ونحوهم.

(3)

نفس المصدر، 2/ 9.

ص: 485

ولو تتبعنا أمثال هؤلاء لطال بنا الحديث، فبطون الكتب مليئة بهذه النماذج. ولا شك أن ما لم يكتب ولم يدون أكثر بكثير مما كتب ودون. والمرابطون درجات في العلم والولاية والكرامة والخوارق. فمنهم، كما رأينا، الجاهل البسيط، والعالم الفقيه، والخطيب الإمام. ومنهم من كان من أهل المدن ومنهم من كان من أهل البادية. وكان بعضهم قد تراجع عما كان فيه من ادعاء الولاية واتخاذ الحضرة وجمع الأموال عن طريقها، مثل الشيخ علي بن حمود العيساوي (من أولاد عيسى)، وأحمد بن بوزيد الأوراسي.

وكثيرا ما أدى حب المال وجمعه وادعاء الولاية سببا في تنافس هؤلاء (الأولياء) حتى تسرب ذلك إلى اتباعهم فقامت الحروب بينهم والمشاحنات وترددت بينهم الشتائم والضرب. فقد وقع خلاف شديد بين أتباع علي العابد الشابي (1) وأتباع محمد ساسي عندما دخل الشابي عنابة وانضم إليه بعض الناس. وقد كاد صيت الشابي يغطي على صيت محمد ساسي في عنابة وعلى صيت بوعكاز في غرب قسنطينة. وكان أصحاب الشابي يشيعون عنه أنه الفاطمي أو وزيره. وكان الشابي أيضا يعطي العهد ويقيم الحضرة ويجمع المال حراما وحلالا. وبعد وفاته دفن في عنابة وأصبح قبره (وثنا يعبد)، كما يقول الفكون. ومن الملاحظ أن بعض هؤلاء (الأولياء) كانوا يورثون الطريقة إلى أقاربهم، لأنها مجلبة للمال ومقصد الناس بالاحترام. فالشيخ طراد قد ورث ابنه رئاسة طريقته وأصبح يعطي الولاة الخراج والجباية للاستعانة بهم على المعارضين له. كما أن علي الشابي قد ورث ابن عمه، وهكذا.

ويبدو أن جمع الأموال كان الهدف الرئيسي من هذه الحركة. فهذا أحمد بن سليمان المجذوب قد دار عليه الفقر فأقبل على البدعة والحضرة. وهذا الشيخ مخلوف قد تحول إلى الولاية بعد أن مارس العلم ودرس النحو وأقرأ القرآن للصغار وانتشر أمره بين الناس في قسنطينة وبواديها، ومع ذلك

(1) انتشرت (الشابية) في شرق الجزائر قادمة من تونس. وقد عرفنا أن من الذين تصدوا للرد عليها في القرن العاشر الشيخ عمر الوزان. انظر ترجمته في الفصل الرابع.

ص: 486

كان يخفي دعوته على العلماء وأضرابهم. ولما توفي وجدت عنده أموال طائلة أوصى ببعضها للطلبة، وأخذت الدولة باقيها، واتهمت زوجه بإخفاء المال. وقد كان المال وراء حركة محمد ساسي أيضا لأنه كان يتقاضاه على كل طفل ومن المهاجرين الأندلسيين، بالإضافة إلى أخذه من سكان البوادي.

غير أن بعض المتصوفة كانوا أصلا أغنياء فلم يكونوا في حاجة إلى التكسب باسم الدين، وقد ذكر شارح قصيدة (حزب العارفين) أن والده كان من الأثرياء ومن المتصوفة أيضا حتى أن ابنه (أي الشارح) قد أخذ عليه كثيرا مما يتعلق بأذواق أهل التصوف وسلوك الطريقة. ولكن البعض كانوا يدعون الولاية والصلاح لأغراض أخرى كمخالطة النساء (وقد روى الفكون من ذلك عدة نماذج)، وتوفير الطعام بلا تعب، لأن بعضهم كان يدخل البيوت فيأكل ويشرب ويخرج. كما كان بعضهم يمشي في السوق ويأخذ ما شاء من الفواكه والأطعمة دون أن يعترض طريقه أحد. فإذا حاول أحد الاعتراض عليه ضربه الشيخ ضربا مبرحا أو دعا عليه دعاء مهلكا.

ولم يكن كل المنتسبين إلى الولاية والصلاح على الشاكلة التي وصفناها. فقد كان فيهم الخيرون الذين أبت ضمائرهم إلا أن تستيقظ لفعل الخير وخدمة الصالح العام. ومن هؤلاء الشيخ بلغيث (1)، الذي كان من المتحصلين على قسط من العلم أخذه في قسنطينة وتونس حتى صار من أهل الفقه والمعرفة وذاع صيته بين الناس وكان من الصالحين (الفنانين)، إذا صح التعبير، فقد استعمل الموسيقى (أو السماع) بيده واتخذ طريقة خاصة به وبنى زوايا عديدة، ولكنه كان يبذل المال لتحرير الأسرى المسلمين الذين يقعون في قبضة النصارى وفي ترميم المساجد أو في صرفه على الفقراء والمساكين. ومن ناحية أخرى كان الشيخ الموهوب بن محمد بن علي الزواوي عارفا بالله

(1) لعله هو الشيخ أبو الغيث القشاش الذي استشاره محمد المسعود الشابي حوالي سنة 1016 في شؤون الطريقة الشابية ومحاربة الأتراك. انظر دراسة علي الشابي في (المجلة التاريخية المغرية) يناير 1979، 63. عن أبي الغيث انظر أيضا (كعبة الطائفين)، 3/ 228.

ص: 487

حاجا البيت، انتصب لتدريس النحو على المكودي، وكان لا يتوانى عن إصلاح ذات البين في أهله بزواوة وفي إطعام الطعام للفقراء، بل كان يمشي (مع القوافل والسفار المجتازين ببلادهم لكي يأمنوا عن مكر أهل ذلك الوطن)(1). وقد اتخذ الشيخ الموهوب أيضا الحجاب والخلوة.

ولا شك أن ذلك هو الدور الأساسي للمرابطين الصالحين، ولا سيما في الأرياف والبوادي حيث انعدمت السلطة أو كادت. فمرافقة القوافل ومراقبة الأمن العام ووعظ الناس وإرشادهم إلى أمور دينهم والإحسان إلى الفقراء ونشر التعليم ومبادئ الدين وإصلاح ذات البين، كل ذلك كان من مهمات المرابطين. وقد روى الورتلاني كثيرا من ذلك. بل لقد قام هو شخصيا في عدة مناسبات بإصلاح ذات البين ورد الناس في ناحيته وغيرها إلى طريق الدين. وقد لاحظ مرة أنه ذهب إلى بلاد القبائل لذلك الغرض، لأن القتال كان لا يكاد يتوقف بين المسلمين هناك وأن حكم السلطان غير نافذ فيهم لتحصنهم بالجبال حتى أن عددا من القرى قد أصابها الخراب من الفتن. وقال في مناسبة أخرى ان أقليم البابور خال من يد السلطان وأحكامه (فالوطن سائب) ولاحظ أيضا أن من عادات أهل ناحيته القبيحة قطعهم الميراث عن النساء وعملهم بإرث الأخ لأخيه، إذا مات، في ماله وزوجه (2). وكان الورتلاتي وأمثاله من أهل الزوايا يتدخلون لإصلاح هذه الحالة ويعلمون الناس شؤون دينهم وينشرون الأخوة الإسلامية بينهم. وقد جاء في كتاب (كعبة الطائفين) أخبار أخرى عن دور هؤلاء أمثال محمد بن علي العبدلي، ومحمد عاشور وعبد القادر السماحي، وبلقاسم بن صابر (3).

(1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط.

(2)

الورتلاني (الرحلة)، 8، 13، 28، 112.

(3)

محمد بن سليمان (كعبة الطائفين)، 2/ 96 وهنا وهناك. وقد قال عن الشيخ عاشور أنه كان يعتق الرقاب ويفدي الأسرى من ماله ويغزو ويجاهد. (وقتل جماعة من الكفار)، وكان يقري الأضياف ويطعم المساكين ويحبس الأحباس على المساجد. =

ص: 488

وأهم ما كان يميز سلوك المرابطين في نظر المعاصرين لهم هو الخلوة والشيخوخة والكرامة. فكل مرابط، سواء كان حقيقة أو ادعاء، كان يختفي مدة عن أنظار الناس قبل الاعلان عن دعوته. وقد جرت العادة أن هذه الخلوة تكون في البراري والبوادي والأماكن المنعزلة حيث لا يراه الناس إلا لماما. وقد تكون الخلوة مجرد حفرة في جبل أو سقيفة في خلاء أو خيمة. فإذا اشتهر أمر المرابط أعلن الشيخوخة (كونه شيخ طريقة) واتخذ زاوية يستقبل فيها المريدين ويتلقى فيها الأموال والجبايات ويدرس فيها خططه. ولكي يقنع الناس بدعوته عليه أن يثبت، أو على الأقل أن يشيع أتباعه عليه بين الناس، أنه صاحب كرامات ومكاشفات وأحوال، وأنه يرى ما لا يراه الآخرون، ويطبع على ما لا يطلعون عليه من الأسرار والبواطن. وقد قال الورتلاني بهذا الصدد بأن المرابطين يكتبون في اللوح المحفوظ. وقد سبق أن أشرنا إلى أن موسى بن عيسى المازوني قد حذر من الاعتراض عليهم حتى بالقلب لأنهم، كما قال، (جواسيس القلوب).

ويضاف إلى هذه الميزات عند المرابطين الجذب واتخاذ الحضرة، وهي تجمع (الفقراء) المؤمنين بدعوة الشيخ للذكر الذي يتحول عند البعض وبالتدرج إلى رقص معين وبحركات موزونة وموقوتة وبأصوات منغومة تعلو وتنخفض بإشارات معينة من الشيخ أو المقدم. وقد يكون في هذه (الحضرات) أمور ليس بينها وبين الدين والعبادة أية صلة، كالغيبوبة وسيلان اللعاب والتضارب والزعاق ونحو ذلك. وقد أصبح من شعار بعض المرابطين أيضا زيارة القبور في جماعات وإظهار أحوال خاصة واتخاذ المشاهد والوعدات، وذلك لخلق مناسبة تذبح أثناءها الذبائح وتقدم الهدايا والأموال للشيخ واجتماع الناس على اختلاف جنسهم وأعمارهم للتجمع في المكان المتفق عليه الذي قد يكون زاوية الشيخ نفسها. وقد أضاف بعضهم إلى ذلك

= وقال عنه أيضا انه قسم ماله نصفين نصف للدنيا ونصف للآخرة. كما روى كلاما شبيها بهذا عن بلقاسم بن صابر وعبد القادر السماحي (بوسماحة).

ص: 489

ألفاظا معينة من الأذكار وخطوط الرمل وكتابة الأحجبة ونحو ذلك من أساليب الشعوذة وممارسة السحر. وكانت المرائي أيضا من ميزات المرابطين. ذلك أن معظمهم كان يدعي رؤية الأنبياء والرسل والححابة والملائكة، كما كانت الاستخارة هي وسيلة الرؤية الصوفية.

ولا شك أنه ليس كل المرابطين كانوا على هذه الشاكلة، فبعضهم كانوا متصوفين حقيقيين، كما لاحظنا، لا هم لهم في عقائد الناس فيهم ولا في مالهم ولا في اكتساب الجاه والوظيف من السلطان، وإنما كانوا متفرغين إلى العلم والعبادة بقلب صاف وعين باصرة. وبعضهم لم يتخذ أثناء حياته زاوية ولم يعلن شيخوخة ولا طريقة وإنما أتباعه هم الذين بالغوا في ذلك ونسبوا إليه ما لم يقل أو يفعل وشيدوا له القبة أو الزاوية واعتقدوا فيه المعتقدات غير الصحيحة التي كان لا يقرها لو كان حيا. ولا شك أن بعضهم قد اتخذ تلك الأساليب وسائل كما لاحظ الفكون، للوصول إلى أغراض دنيوية معينة زالت بزوال أصحابها ولم يبق من شهرتهم وأفعالهم سوى بعض القباب أو المساجد أو الأساطير والذكريات لدى الناس. فكثير من عبارات (سيدي فلان) التي نجدها اليوم لا تاريخ لأصحابها، وعلى الباحثين أن يفتشوا عنها في ذواكر العامة لعلهم يجدون لها أصولا تاريخية (1).

ولعل من الأمور التي كان الفقهاء ينكرونها على المتصوفة والمرابطين استعمالهم الآلات الموسيقية وأكل الحشيشة وتناولهم المنبهات كوسيلة من وسائل الانتشاء. والظاهر أن الحاجة إلى الموسيقى عند أهل التصوف نبعت من استعمال الأذكار وتنغيم الأوراد في جماعة عند الحضرة وحلقات الذكر، وكما كانت الأصوات الموسيقية والغناء مساعدة للعمال على عملهم الشاق،

(1) لم يهتم الجزائريون المعاصرون إلى الآن بجمع أخبار المرابطين وعقائد الناس فيهم في القرون السابقة. وقد اهتم بعض الفرنسيين في الجزائر بجمع الأساطير والأخبار حول بعضهم استنادا إلى الروايات الشعبية الشفوية، ولا يكاد يوجد مرابط شهير في وقته إلا وكتبوا عليه في مجلاتهم وكتبهم كثيرا أو قليلا. وسنعالج ذلك حين نتحدث عن التصوف في الأجزاء اللاحقة.

ص: 490

وللرعاة على التغلب على الوحدة وجذب قطعان الماشية وللأطباء على مداواة مرضاهم، كذلك كان رجال التصوف يستعملون الموسيقى لإثارة الوجد وتحريك العواطف والتسامي بها نحو درجات النشوة والسكر بدون خمر. وقد مر بنا أن الشيخ محمد ساسي كان يستعمل في حضرته الإنشاد والأشعار والموسيقى في جماعة بالإضافة إلى التصفيق والغناء والرقص. كما عرفنا أن الشيخ بلغيث كان يستعمل الآلات الموسيقية بيده. وربما اتخذت بعض الطرق الصوفية مداحين يمدحونها بالأشعار الملحونة ويشيعون أمرها بين الناس والغناء بذلك في محلات عامة كالمقاهي ونحوها. فقد قيل إن الشيخ أبا القاسم الرحموني الحداد كان يمدح الطريقة الرحمانية والحنصالية بأشعاره التي كان يرددها في المقاهي ونحوها حيث الحشاشون والندمان (1). وقد ذكر الفكون في كتابه المشار إليه أن بعض أدعياء التصوف كانوا يتناولون الحشيشة والدخان والقهوة، وأن بعضهم كان يصرح في شعره بألفاظ الخمر والدنان (2). ويكاد يكون من المتفق عليه أن المتصوف يميل إلى التقشف والتضحية بملذات الدنيا في سبيل اللذة الأخرى التي يسعى إليها. فهو لا يأكل المرققات والمحشيات ولذيذ الأطعمة والأشربة، وإنما يكتفي من الطعام بما يقيم الأود ويسد الرمق من كسرة الشعير وشرب الماء القراح. كما كان المتصوف لا يلبس الثياب الفاخرة ولا المطرزات ولا المذهبات ولا الخواتم ونحوها. وكل ما كان يعنيه من ذلك ثياب متواضعة تقيه غائلة الحر والقر كالغرارة المرقعة والعمامة البالية والحذاء الخشن. وتلك كانت الصورة المتبادرة إلى أذهان الناس عن أهل التصوف في العهود المتأخرة، وهي صورة تقربهم إلى الدراويش والمجاذيب (وأهل الله)، وليست بالطبع هي صورة المتصوف الحقيقي كما رسمها الغزالي أو أبو الحسن الشاذلي وغيرهما من كبار رجال التصوف المعتمدين على المعرفة العلمية. فهناك إذن فرق بين صورة المتصوف العالم وصورة المتصوف الدرويش، ولسوء الحظ أن كثيرا

(1) كور (عن قصيدة الرحموني) في (المجلة الإفريقية)1919.

(2)

انظر عن موضوع الموسيقي فصل العلوم والفنون في الجزء الثاني.

ص: 491

من متصوفة الجزائر خلال العهد العثماني كانوا من الصنف الثاني.

ومع ذلك فإن هناك أمثلة على أن المتصوفة الجزائريين كانوا في أغلبهم ماديين. ذلك أن الكثيرين منهم كما أشرنا، كانوا من أتباع الطريقة الشاذلية، وهي لا تنكر التمتع بنعم الحياة. فقد قيل عن أبي الحسن الشاذلي إنه لم يقل بالتجرد عن الدنيا وملذاتها. وهو نفسه قد عاش في أغلب الظن مكرما في تونس والقاهرة، وترك أسرة، وإنما قال بتدريب النفس على فعل الخير وإعادتها بالتدريج إلى أحكام الشرع عن طريق الذكر، سواء كان بطريقة جماعية أو فردية. ولذلك عرف أتباع الشاذلية بامتلاك الثروة وتوافد الهدايا والعطايا عليهم في الجزائر، وكذلك كان أمر الزوايا اليوسفية والقادرية والتجانية والزيانية وغيرها.

وهناك أمور كانت تميز المرابط عن الفقيه، فالأول بحكم انهماكه في العبادة وبحثه عن الوسائل الروحية التي تصعد به إلى مصاف المرضي عنهم كان بعيدا عن ساحة الفقيه الذي كان اهتمامه بقضايا الناس اليومية وبما يجد من أمور وقضايا تحتاج إلى فتوى وتخريجات وتأويلات وأقيسة. وكان المرابط، من جهة أخرى، يستعمل في كثير من الأحيان لغة شعرية روحانية لا يدركها إلا هو، فهي رموز لأشياء قد وضعها بنفسه. أما الفقيه فقد كانت لغته قريبة من الواقع، وهو يستمد مسائله من النصوص والشواهد الحسية. وليس هناك بالنسبة إليه خيال ولا روحانية. ولهذه الاختلافات كانت هناك خصومة أحيانا بين الفقهاء وأهل التصوف، كل منهم يتهم الآخر بالفسوق والإلحاد والزندقة، إذا لم يهدر كل منهم دم الآخر. كان الفقهاء يميلون إلى العلوم العقلية ويدرسون النحو والبيان والفلك كوسائل لفهم القرآن والحديث ومشاكل الناس، بينما كان المرابطون يكثرون من دراسة العقائد والتصوف والفلسفة بل كان بعضهم لا يدرس أصلا وإنما يأخذ التصوف عن طريق التقليد والإجازة وانتظار الرؤيا والمكاشفة والفتح، غير أن بعض هؤلاء وأولئك لم يكونوا من المغالين. فقد درس الفكون النحو والتصوف معا ولكنه فرق بين الشعوذة والتصوف الحقيقي. ودرس الوزان التصوف وعلوم

ص: 492