الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الاثنين أبو راس وأحمد المقري والفكون. غير أن هؤلاء لم يكونوا في توازن في الجمع بين الخطتين. فالأول مثلا قد غلب عليه التدريس رغم كثرة تآليفه والثاني قد غلب عليه التأليف رغم كثرة تدريسه، وهناك مدرسون لم يتركوا إلا قليلا من التأليف كمحمد التواتي (1) وعمر الوزان وسعيد المقري (2). وهناك من ترك بعض الشروح والحواشي والتعاليق ك
سعيد قدورة
.
1 -
سعيد قدورة:
بلغ نفود عائلة قدورة في الجزائر أنها تولت الإفتاء المالكي بالجامع الكبير بالعاصمة أكثر من قرن بدون انقطاع. وكان مؤسس هذه الأسرة علميا هو الشيخ سعيد بن إبراهيم قدورة الذي تولى الإفتاء سنة 1028 واستمر فيه إلى وفاته سنة 1066. ثم تولاه ابنه محمد من ذلك التاريخ إلى وفاته أيضا سنة 1107، ثم خلفه أخوه أحمد الذي استمر في الإفتاء من هذا التاريخ إلى مقتله سنة 1118. وبعد انقطاع قصير تولى الفتوى أيضا سعيد بن أحمد قدورة من سنة 1122 إلى سنة 1129. كما تولى الإفتاء آخرون يتصلون بعائلة قدورة بالمصاهرة مثل عبد الرحمن المرتضى (3) الذي كان ابن أخت أحمد قدورة. وإذا كانت بداية هذه الأسرة في وظيفة الإفتاء سعيدة فإن نهايتها كانت مأساة. فقد لعبت السياسة لعبتها القذرة واتهم أحمد بن سعيد قدورة بمعاداته للباشا محمد بكداش فحكم عليه بالسجن ثم بالموت خنقا فمات موتة حزينة (4) ولكن هذه لم تكن كل النهاية لهذه الأسرة التي لعبت
(1) له (كتاب الخبر في عجائب البشر) الذي أشرنا إليه. وقد حصلت على صورة لأوراق منه. وهو كشكول أدب وتاريخ وأخبار. وقد توفي التواتي بباجة تونس سنة 1031 وهو أستاذ الفكون بقسنطينة وأصله من المغرب.
(2)
انظر ترجمة الوزان والمقري بعد قليل.
(3)
كان المرتضى متوليا قبل ذلك نقابة الأشراف.
(4)
كانت التهمة الموجهة إليه هي أن له يدا في نفي بكداش عندما كان ما يزال موظفا في حكومة الباشا السابق له حسين خوجة الشريف، ورغم شهرة بكداش بتقدير العلماء فإن انتقامه من أحمد قدورة يعتبر نقطة سوداء في سيرته. وهو نفسه قد قتل قتلة شنيعة على يد المنقلب عليه.
دورا بارزا في شؤون الجزائر السياسية والعلمية والدينية.
ولا ندري بالضبط متى ولا أين ولد سعيد قدورة، فهو لم يذكر ذلك في ترجمة حياته التي سنتعرض لها، وابن المفتي الذي كان معجبا بفضله (ولم يكن معاصرا له وإنما كان معاصرا لأبنائه وأحفاده). لم يجزم في الموضوع. فقد قال مرة ان سعيد قدورة قد ولد لوالديه بمدينة الجزائر بعد انتقالهم إليها من قدورة، القريبة من جزيرة جربة على ساحل تونس، وقال مرة أخرى انه ولد لأبويه في قدورة ثم جاء به أبوه إلى مدينة الجزائر وهو صغير السن. ومهما كان الأمر فإن نسبه هو سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن. وشهرته قدورة، وقد اشتهر أيضا بنسبته (الجزائري)(1). ولا ندري ما كانت صناعة والده قبل قدومه إلى الجزائر ولا سبب مجيئه إليها غير أننا نعلم من بعض المصادر أنه أصبح فيها فرانا أو خبازا. وهي حرفة لا علاقة لها بحرفة المتعلمين. ولعل تعلق قدورة فيما بعد بالتجارة قد ورثه من والده ومن تقاليد أهل جربة.
ويحدثنا سعيد قدورة عن ثقافته الأولى في أوراق كتبها بنفسه. فيقول إنه كان بمدينة الجزائر عندما كانت سمعة الشيخ محمد بن أبي القاسم المطماطي (2) كبيرة، ولم يقل إنه أخذ العلم على المطماطي عندئذ، ولكنه ذكر أن الشيخ قد ذهب إلى الحج مع أبي علي بن آبهلول المجاجي سنة 993. والظاهر أن سعيد قدورة كان في هذا التاريخ (أي سنة 993) في سن المراهقة. فقد ذكر أن والديه قد توفيا سنة 1001 أو 1002 في وقت واحد تقريبا إذ لم يفصل تاريخ وفاتهما سوى نحو الأسبوع. وقد بقي بعدهما ثلاث سنوات في مدينة الجزائر، لعله كان خلالها يحضر دروس المطماطي في الجامع الكبير. ولكن الطلاب في هذه السن كانوا كما لاحظنا، لا يستقرون في دراستهم على شيخ واحد، بل كانوا يحبون السفر والتغرب في طلب العلم
(1) عن حياة سعيد قدورة وأبنائه ونشاطه انظر نور الدين عبد القادر (صفحات)، 279، وديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 286، وكلاهما أخذ عن ابن المفتي. وكذلك ترجم له القادري في (نشر المثاني).
(2)
لا ندري ما إذا كانت هذه النسبة إلى مطماطة الجزائرية أو التونسية.
ويعدون ذلك فضيلة وجهادا، وكذلك كان شأن سعيد قدورة. فقد بدأ تغربه وجهاده في طلب العلم بالسفر إلى زاوية الشيخ (العارف بالله) محمد وأخيه أبي علي بن آبهلول الواقعة قرب تنس، ولا ندري لماذا اختار قدورة هذه الزاوية بالذات. فهل كانت شهرة آبهلول في العلم كبيرة عندئذ؟ أو هل كانت حجة شيخه المطماطي مع الشيخ آبهلول سنة 993 لها علاقة بسفر قدورة إلى الزاوية المذكورة سنة 1004 أو 1005؟ والغالب أنهما الأمران معا. فقدورة يؤكد أن ابني آبهلول (محمدا وأبا علي)(كانا شديدي الاعتناء بالعلم وفنونه كالتفسير والحديث والأصول والمنطق والبيان بعد الفقه والتوحيد وغيرهما). وكان الشيخ محمد بن علي مشهورا في التفسير خصوصا. وقد انتهى فيه قبل وفاته إلى سورة الإسراء (1).
ولم تكن الظروف قد واتت سعيد قدورة في زاوية آبهلول كل المواتاة. فبعد حوالي ثلاث سنوات من التتلمذ هناك، قتل شيخه محمد آبهلول قتلة شنيعة سنة 1008 حين طعنه بعضهم بخنجر طعنة ظل بعدها حيا بعض الساعات فقط ثم لفظ أنفاسه الأخيرة. وقد تأثر قدورة بما حدث لشيخه فرثاه واعتبره (شهيدا) وصلى عليه مع أخ الفقيد. وتعتبر مرثيته فيه من الشعر المتوسط في ذلك الوقت (2)، وقد جرى الحادث أمامه وهو ما يزال يافعا،
(1) ذكرنا زاوية آبهلول في عدة مناسبات من قبل، وسنشير إلى تفسير آبهلول في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(2)
نص القصيدة في كتاب أبي حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة)، مخطوط، 149 - 156، ويذكر فيها قدورة أن قاتل الشيخ من بني نائل وأن سبب القتل كان يود إلى فتوى الشيخ بعدم جواز تزوج المحرض على القتل من سيدة والظاهر أن بني نائل الذين ذكرهم ليسوا هم أولاد نائل المعروفين في جنوب الجزائر. والأولون هم قوم يحيى الشاوي الملياني النائلي الذي سيأتي الحديث عنه في الجزء الثاني وسنعرض للقصيدة في فصل الشعر من الجزء الثاني. وقد ذكر الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 432 أن محمد بن علي آبهلول قد توفي سنة 1002، وهو في نظرنا خطأ وكان محمد آبهلول من العلماء الشعراء والمتصوفة. انظر بعض أخباره أيضا في: ابن سليمان، (كعبة الطائفين) 2/ 111.
بالإضافة إلى فقد والديه دفعة واحدة. فلم يلبث بعد ذلك إلا حوالي سنة في هذه الزاوية دارسا فيها على أخ الفقيد الشيخ أبي علي آبهلول وغيره، قبل أن يعود إلى الجزائر، وهو يخبرنا أنه قد وجد هناك شيخه المطماطي قد تولى وظيفة الفتوى والإمامة بالجامع الكبير، وكان المطماطي مدرسا أيضا بنفس الجامع، لذلك عكف الشاب سعيد قدورة يدرس على الشيخ المطماطي جملة من العلوم منها مختصر خليل وابن الحاجب في الفقه وكذلك الفرائض والتوحيد، وكأنه كان في نفس الوقت يتدرب على المسرح الذي سيمثل عليه هو نفس الدور بعد بضع سنوات.
وكعادة الطلاب الطموحين الراغبين في الاستزادة من العلوم المهمة سافر سعيد قدورة بعد ذلك إلى تلمسان حوالي سنة 1012، أي بعد إقامة حوالي ثلاث سنوات بمدينة الجزائر، وكانت شهرة سعيد المقري بتلمسان عندئذ قد بلغت القاصي والداني، وخصوصا في العلوم العقلية. فقصده قدورة وتتلمذ عليه في الحديث والمنطق والبيان وغيرها. وكانت دروس المقري بالجامع الكبير بتلمسان. وقبل أن نعرف المدة التي قضاها قدورة في تلمسان وأثر المقري فيه سافر إلى صحراء فجيج وتافيلالت وسجلماسة ولقي في هذه النواحي بعض العلماء أمثال أحمد بن عبد الله السجلماسي الشاعر والكاتب والمتصوف الذي ثار واستولى على سجلماسة ودرعة ومراكش. وتقول بعض المصادر أن قدورة قد ذهب إلى الشيخ أحمد السجلماسي، (المعروف أيضا بابن أبي محلى)، مع وفد تلمسان والراشدية لتهنئته على دعوته وثورته (1) ولا ريب أنه ذهب أيضا إلى فاس التي كانت مقصد الراغبين في الدراسات العالية. وقد أطال قدورة الإقامة في الغربة، بحثا عن العلم، إذ
(1) ذكر الناصري في (الاستقصاء) 6/ 30 أن ابن محلي نفسه قد ذكر في كتابه (أصليت الخريت) أن قدورة كان من تلاميذه. وكان ابن أبي محلي أديبا وصاحب تآليف. وقد قام بدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل إنه ادعى المهدوية وبالغ في التصوف، وقد مات حوالي سنة 1022. وذهاب وفد تلمسان إليه أمر يلفت النظر ويحتاج إلى دراسة نظرا للعلاقات العثمانية - الشريفية غير المتوازنة.
أنه لم يعد إلى مدينة الجزائر إلا سنة 1019، أي بعد حوالي سبع سنوات، وكأنه كان على موعد في الجزائر مع شيخه المطماطي ليودعه الوداع الأخير، ذلك أنه بعد أن لقيه فيها ثانية بوقت قصير توفي المطماطي في نفس السنة (أي 1019). ولا نعرف أن قدورة قد رثاه أو تأثر لوفاته كما رثى وتأثر لوفاة شيخه محمد آبهلول، كما أنه لم يهتم بوفاة شيخيه الآخرين، أبي علي آبهلول وسعيد المقري إذ أنه اكتفى بالقول في الأوراق التي لدينا أن الشيخ أبا علي قد توفي بعد المطماطي ببعض سنين، وكذا (شيخنا سيدي سعيد المقري فيما
بلغنا) (1).
وقد قلنا إن قدورة كان على موعد مع أستاذه المطماطي لأن نشاطه العلمي قد بدأ بوفاة شيخه، ذلك أن المصادر تتحدث عن تداول الإفتاء المالكي بينه وبين أحمد زروق بن عمار بن داود. وأثناء تولي أحمد بن داود لوظيفة الإمامة والتدريس بالجامع الكبير كان قدورة متوليا إمامة جامع البلاط والخطابة في جامع سيدي رمضان. ولا ريب أن قدورة كان أثناء ذلك يدرس أيضا في أحد هذين الجامعين. ومهما يكن من أمر فإنه قد انفرد بالإفتاء أواسط سنة 1028 حين عزل عنه أحمد زروق بن داود (2)، وقد ظل قدورة في هذا المنصب الخطير إلى وفاته سنة 1066، ولعله هو الذي سعى إلى هذا المنصب الذي كان يتهيأ له منذ عاد من زاوية آبهلول وبالتأكيد منذ عاد من رحلته في تلمسان والمغرب. فقد كان مثل هذا المنصب محركا لتنافس كبير بين العلماء، إذ فيه الجاه العريض والمال الغزير، وتدرج قدورة في الوظائف فهو إمام جامع البلاط وخطيب جامع سيدي رمضان ثم هو إمام وخطيب ومدرس الجامع الكبير، بالإضافة إلى كونه مفتي المالكية ووكيل أوقاف
(1) هذه المعلومات مأخوذة من أوراق سعيد قدورة المشار إليها.
(2)
رغم أن المصادر لا تذكر هذا فالظاهر أنه هو جد أحمد بن عمار الذي تولى أيضا الإفتاء المالكي سنة 1182 والذي سنتحدث عنه في الجزء الثاني. انظر أيضا مقالتي (إجازة ابن عمار الجزائري إلى محمد خليل المرادي) في مجلة الثقافة، سبتمبر 1978.
الجامع الأخير. وبذلك يكون قد وصل إلى قمة السلم الوظيفي والعلمي. وهو ما يزال في مقتبل العمر. وقد عرفنا أن الباشا هو الذي كان يعين في الوظائف المذكورة.
وأهم ما كان يستدعي التنافس الشديد بين العلماء على وظائف الجامع الكبير هو الأوقاف الطائلة التي كان يتمتع بها. فقد عرفنا أنها كانت من أغنى مصادر الوقف في الجزائر. ولم يكن قدورة بالرجل السهل. فقد كان ذكيا غاية الذكاء طموحا أقصى الطموح عارفا بأحوال العصر وأهله. وتذكر المصادر أنه كان غنيا أيضا حتى أنه كان يتاجر بأمواله مع بعض كبار التجار، كما كانت له أرض حراثة. والمعروف أن القرن الحادي عشر (17 م) كان العصر الذهبي للتجارة ووفرة غنائم البحر ورواج السلع والدراهم في الجزائر. ولهل سعيد قدورة كان يستعمل ما له في هذه الأمور التي كانت تدر عليه أموالا طائلة. وقد كثرت أشغاله وارتفعت قيمته حتى أصبح يقدم عنه أربعة من النواب. (ومنهم الشاعر ابن رأس العين) لينوبوا عنه في الخطابة ويدفع إليهم من ماله الخاص. وأخيرا جرؤ على تقديم ابنه محمد بدله في الفتوى والتدريس والخطابة بالجامع الكبير، وهو عمل قل من يجرؤ عليه، لأن الوظيفة شخصية وليست وراثية أو حرة. ولكن قدورة الذي خبر الناس في عصره وعرف كيف يوقف تدخلهم تمكن من كل ذلك دون معارض (1).
ورغم أن المعجبين به، كابن المفتي، يقولون إن سعيد قدورة كان
(1) وقد ذكر ابن المفتي أنه كان لقدورة أربعة نواب في الخطبة، وهم محمد بن قرواش، وسيدي مزيان، وابن رأس العين. أما الرابع فلم يذكر اسمه، وكان قدورة يدفع إلى هؤلاء أجورهم من ماله الخاص وليس من أوقاف الجامع لأنه كان غنيا ولأن النيابة كانت شخصية وليست رسمية، ويمكن القول إن هؤلاء كانوا هم حزب قدورة من علماء الوقت، ولما اشتهر أمره ولم يعد أحد يقدر على عزله عين ابنه محمد نائبا عنه. أما ابن رأس العين فقد كان شاعرا ماهرا، وسنعرض لشعره في الجزء الثاني انظر ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 288. انظر (مختارات مجهولة من الشعر العربي).
يدفع من جيبه الخاص إلى من ينيبهم عنه فإن أوقاف الجامع الكبير في عهده لم تكن محصنة كل التحصين. فابنه محمد، وهو من أكبر العلماء في عصره، كان يتقاضى حقه في الأوقاف أثناء حياة والده لأنه كان ينوب عنه رسميا بخلاف الأربعة الآخرين. وقد استطاع قدورة أن يتفق على الجامع وأن يوفر أموالا اشترى بها كتبا لمكتبة الجامع، كما شيد زاوية قرب الجامع أصبحت فيما بعد تعرف باسم زاوية الجامع الكبير. وكذلك شيد مدرسة لفقراء الطلبة والغرباء منهم، كل ذلك من فائض أوقاف الجامع الكبير. ورغم أن الرأي العام هو الذي كان يتحكم في مصير وكيل الوقف عموما فالظاهر أن الإشاعات كانت تحوم حول تصرفات قدورة في الأوقاف. وبعد ثماني سنوات من توليه طالبه الناس بتقديم الحساب على أموال الجامع التي بلغ فائضها وحده عند توليته اثني عشر ألف ريال بوجو. وقد أبى في البداية أن يوضع في موضع الاتهام، ولكنه رضي عند إصرارهم على ذلك، فأخرج لهم الوثائق التي تثبت عدم تبذيره والتي تحصي كل ما اشتراه سواء للمكتبة أو لإصلاح الجامع. وكلها كانت وثائق بأقلام وأختام العدول ويقول المعجبون به ان حساده قد خاب ظنهم وبطلت خططهم. ولعل تسرب الكتب الذي أشرنا إليه في مكتبة الجامع الكبير قد بدأ أثناء حياته هو (1).
وبلغت من قيمة سعيد قدورة عند الباشوات أنهم كانوا يقفون له إجلالا ويقبلون يده. ولا ريب أنه عرف كيف يحافظ على مكانته العلمية بينهم وكيف يحتفظ برضاهم عنه أيضا. فخلال الفترة الطويلة التي تولاها تداول على الجزائر عدد من الباشوات وحدثت اضطرابات وثورات (2) وكان هناك الخصوم والأصدقاء. ومع ذلك فقد حافظ قدورة على توازن السفينة في وسط بحر هائج. ولقد بلغ من حرمته، على ما تذكر الروايات، أنهم كانوا يعتقدون فيه النفع والضر والبركات والكرامات. ومعنى هذا أنه لم يكن في نظرهم
(1) انظر ذلك في قسم المكتبات من الفصل الثالث.
(2)
من ذلك ثورة ابن الصخري وثورة الكراغلة بمدينة الجزائر وتلمسان، انظر الفصل الثاني.
موظفا عاديا ولكنه كان عند العامة على الأقل في منزلة المتصوف المرابط. والعامة تتبع الرأي العام بدون سؤال ولا مناقشة. وكان الرأي العام منعقدا على أن قدورة من العلماء الصالحين، وبلغ من تقدير الباشوات وأهل الديوان له أنهم كانوا يقدمونه على المفتي الحنفي (شيخ الإسلام) الذي كان يمثل المذهب الحاكم. وكانت لقدورة الدالة على زميله الحنفي أيضا في المجلس العلمي والقضائي الذي كان ينعقد برئاسة (قدورة) في الجامع الكبير. وكان يحضر هذا المجلس المفتيان والقاضيان (الحنفي والمالكي) وبعض القضاة وممثل الباشا والعلماء. ولعل انعقاد هذا المجلس في الجامع الكبير بالذات الذي ظل تقليدا طيلة العهد العثماني يعود إلى شخصية قدورة ومكانته ثم مكانة أسرته التي مهد لها هو الطريق.
ومع ذلك، فإن شخصية قدورة لم تظل بدون تحد. وهناك حادثتان بهذا الصدد الأولى تحدى المسؤولين له والثانية تحدي بعض زملائه العلماء المنافسين له. فقد وجدنا في الوثائق أن قدورة كان قد طرد (بأمر عسكر الجزائر) وأمر بالتوجه إلى إسطانبول (للتخلص منه بإشارة من حساده) وقد جاء في هذه الوثائق أن صديقه الشيخ أحمد المانجلاتي قد نظم قصيدة وبعث بها إلى إسلام بول (إسطانبول) معرفا بها مفتي حضرتها، أسعد أفندي، بمرتبة قدورة حين توجهه إليها بأمر حكام الجزائر (1). ونحن لا نعرف من غير هذا النص أن سعيد قدورة كان قد اتهم بأي شيء حتى استحق هذا العقاب والإبعاد. كما أننا لا نعرف كم بقي في إسطانبول ولا أين توجه بعدها أيضا. وكل ما نعرفه هو أنه قد عاد إلى عمله بعد (أهوال وسوء حال) مرت بها الجزائر (2) ومهما كان الأمر فقد انتصر قدورة على خصومه أو (حساده) كما
(1)(ديوان ابن علي)، مخطوط، وهو يحتوي على قصيدة المانجلاتي، وهي قصيدة طويلة هامة. (انظر مختارات مجهولة).
(2)
في رحلة العياشي إشارة أيضا إلى (الأهوال) التي مرت بها الجزائر عند حديثه عن عيسى الثعالبي وعلي بن عبد الواحد الأنصاري. وكان ذلك هو عهد يوسف باشا الذي تولى عدة مرات، وهو الذي وقعت ثورة ابن الصخري فيه (1047) كما سبق، =
جاء في الوثيقة. فمن كان نصيره يا ترى؟ هذه أسئلة ما تزال في حاجة إلى جواب ونحن لا نملكه الآن.
أما الحادثة الثانية التي وقعت لقدورة فهي إهانته من زميله الشيخ محمد القوجيلي (ابن القوجيلي) ويبدو أن القوجيلي كان منافسا له أشد المنافسة. فقد كان عالما مثله وشاعرا قويا معتدا بنفسه. متصلا بأهل السياسة حتى أننا وجدناه سنة 1065 يقصد اسطانبول في مهمة سياسية ويقابل مفتيها. وقد تولى أيضا القضاء. والذي يهمنا الآن ليس هذا وإنما ما أورده المفتي الشاعر ابن علي بعد قرن من أن جده كان ذات يوم مع الشيخ القوجيلي فمر بهما سعيد قدورة فانحرف عنه القوجيلي وسلم على جده لأن بين قدورة والقوجيلي منافسة (1).
ترك سعيد قدورة ولدين على الأقل هما محمد وأحمد وكلاهما تولى الإفتاء بعده كما سبق، فأما محمد فقد بقي في الفتوى أربعين سنة (1066 - 1107). وكان والده قد بدأ في تدريبه على هذه المهمة وعلى تولي الوظائف الرسمية منذ صغره. فقد أنابه عنه في الخطابة والإمامة أثناء حياته وقدمه في الدرس والفتيا (2). ولم يكد يوافيه الأجل حتى كان محمد هو المرشح الأول للإفتاء في الجامع الكبير. ورغم شهرته وطول مدته وقوة عارضته في علوم الدين فإن الملاحظين ظلوا يعتقدون أنه مدين بما وصل إليه من مجد وشهرة وجاه لوالده (3). وقد وشى به خصومه أيضا إلى أحد الباشوات، كما يروي
= فهل كان نفي قدورة من الجزائر يعود إلى هذه الظروف؟
(1)
(ديوان ابن علي) مخطوط.
(2)
كان سعيد قدورة قد أناب عنه أول الأمر محمد بن قرواش ولكن الناس رفضوه، كما يقول ابن المفتي، بعد أربعة أشهر فعين لهم ابنه. وكان ابن قرواش صديقا للقوجيلي منافس قدورة. ولعل هذا هو السر في عزل ابن قرواش وليس رفض الناس له كما يقول ابن المفتي.
(3)
روى ذلك محمد بن زاكور المغربي في رحلته وكان قد عرف محمد قدورة ودرس عليه واستجازه فأجازه. انظر رحلته 26.
ابن المفتي، فعزله بعض الوقت ثم أعاده بعد أن تبين براءته (1). وعاصر محمد قدورة عددا من العلماء المنافسين له، كما عاصر عددا من المفتين الأحناف الذين كانوا يشاركونه الرأي في المجلس القضائي والعلمي بالجامع الكبير. وعاش في ظرف سياسي حرج لأن الجزائر في عهده الطويل قد شهدت تغييرات كبيرة في نظام الحكم نفسه مع ما في ذلك من إراقة دماء وانقلابات ومؤامرات (2).
أما أحمد قدورة فقد تولى الفتوى من وفاة أخيه سنة 1107 إلى مقتله سنة 1118. وكان أحمد حسب وصف ابن المفتي الذي عرفه شخصيا، قوي الجثة سمينا. ويبدو أنه لم يكن في درجة أبيه ولا أخيه العلمية. ولعله كان كبير السن عند وفاته. ومع ذلك فإن المؤامرات السياسية لم ترحمه. ورغم هذا المصير لواحد من أهم أعضاء أسرة قدورة فإن الباشوات قد استمروا، كما أشرنا، في تعيين المفتين منها تمشيا مع عقيدة بعض الناس عندئذ، وهي أن البلاد تصاب بالوباء إذا لم يتول فتواها أحد أعضاء أسرة قدورة. لذلك عين الباشا محمد بكداش (الذي حكم بقتل أحمد قدورة) عبد الرحمن المرتضى ليخلف خاله في وظيفته. وقد ظل المرتضى يتناوب هذه الوظيفة مع سعيد بن أحمد قدورة (ابن القتيل) مدة. ويقال إن سعيد قدورة (الحفيد) كان من أجهل الناس بالعلم والفتيا، ومع ذلك عينوه لعقيدة الناس السابقة في عائلته (3). ومهما كان الأمر فقد انتهى عندئذ قرن من الزمان سيطرت فيه أسرة قدورة على الإفتاء المالكي في الجامع الكبير وعلى أوقافه وعلى الحياة العلمية بصفة عامة، وخاصة التدريس.
(1) نور الدين عبد القادر (صفحات)281.
(2)
من ذلك استيلاء الأغوات على الحكم ثم استيلاء الرياس عليه منهم ومن الحكم الثنائي (الباشا والداي).
(3)
لعل ذلك لم يكن هو السبب الوحيد وراء تعيين المفتي من عائلة قدورة. فالظاهر أن هذه العائلة كانت تحتفظ بأشد الولاء للعثمانيين، بالإضافة إلى السمعة التي تتمتع بها بين العلماء حتى خارج الجزائر، كما كانت لها علاقات تجارية مع أغنياء البلاد.
وإذا كان محمد وأحمد ابني سعيد قدورة من الصلب فإن له أبناء روحيين تخرجوا على يديه في حلقات الدرس أو بالرواية عنه أو الإجازة. وكان فيهم الذكي النابه والغبي الخامل، وفيهم الجزائريون وغيرهم. وكان يكفي أن يقال عندئذ أن هذه المسألة رويت عن سعيد قدورة حتى يسكت المعارض ويصدق السائل. وانه يكفي أيضا أن يقال إن هذا الطالب أو العالم قد درس على قدورة أو أجازه حتى يقر له بالعلم. فالشيخ كان يجمع المادة إلى الروح أو المال إلى العلم. وإذا كانت المادة إلى فناء فإن الروح إلى بقاء. لذلك انتشر طلاب سعيد قدورة في كل صقع حاملين في صدورهم الولاء له والعلم منه. وقد بالغ المعجبون والمؤمنون به حتى أنهم وثقوا فيمن روى عمن روى عنه. وظلت هذه السلسلة متواترة بين العلماء المسلمين إلى الوقت الحاضر. وإذا كانت مزية قدورة في الوظائف الرسمية قد تتساوى مع مزايا غيره فإن مزيته العلمية والدينية (وكان الدين هو أساس العلم) لا يمكن أن تتساوى مع مزايا غيره. فقد أثر في جيله بل في الأجيال اللاحقة له تأثيرا لم يبلغه إلا القليل من العلماء.
وتطول القائمة لو أردنا ذكر من نعرف من تلاميذه، فما بالك لو حاولنا أن نذكر منهم من لا نعرف. ويكفي أن نذكر هنا جملة منهم للدلالة على تأثير مدرسة هذا الرجل. فمن تلاميذه عيسى الثعالبي الشهير بأسانيده في الحديث والذي سنعرض لحياته في الجزء الثاني، ومحمد بن عبد الكريم الجزائري الذي قيل عنه إنه كان دائرة معارف في الأدب والتاريخ. وقيل إن قدورة كان (عمدته) وقد عاش محمد بن عبد الكريم في المغرب أيضا ثم رحل إلى المشرق وأخذ به العلم. وكان أيضا مقربا إلى السلطان المغربي المولى إسماعيل. وكان يحيى الشاوي الملياني من تلاميذ قدورة البارزين أيضا. وبلغت شهرة الشاوي في المشرق مدى واسعا كما سنرى في الجزء الثاني. ومن علماء الجزائر الذين أخذوا عن قدورة أيضا عمر المانجلاتي الذي كان يحب شيخه ويقدره. والمانجلاتي هو أستاذ ابن زاكور المغربي. وكان محمد بن أحمد الشريف الجزائري ممن روى عن قدورة أيضا ولكن بطريقة
غير مباشرة، وهو من العلماء الذين هاجروا إلى إزمير وجاوروا بالحرم وألفوا هناك وأجازوا.
وقد كانت مساهمة قدورة في الدرس لا في التأليف وباللسان لا بالتعليم. ولذلك كثر تلاميذه وقلت تآليفه. ومع ذلك فقد نسب إليه مترجموه بعض التآليف التي لا تخرج في نظرنا عن الإملاءات التي كان يمليها على الطلاب في الجامع الكبير أو جامع سيدي رمضان. وقد اطلعنا على بعضها فوجدناها كذلك. فهي مختصرة وموضحة لبعض المسائل التي قد تفوت الطلاب، ثم إن ما اطلعنا عليه منها ليس بقلمه وإنما هو بأقلام النساخ. فلعل هذه الإملاءات كانت أيضا بأقلام الطلاب أنفسهم. وكانت موضوعاتها لا تخرج عن المواد المدروسة عندئذ، ولا سيما مواد الحديث والفقه والنحو والمنطق. وهذه هي بعض (التآليف) المنسوبة إلى سعيد قدورة. وهي في حجم الكراس ونحو ذلك:
1 -
شرح خطبة مختصر خليل في الفقه (1).
2 -
حاشية على شرح اللقاني لخطبة خليل أيضا (2).
3 -
نوازل تلمسانية (3).
4 -
رقم الأيادي على تصنيف المرادي في النحو، وهي نبذة ذيل بها شرح الخلاصة للمرادي (4).
5 -
شرح المنظومة الخزرجية في العروض (5).
6 -
حاشية على شرح صغرى السنوسي (6)، ولعلها هي الحاشية التي كتبها على شرح ابن خدة الراشدي لها.
(1) خزانة ابن يوسف بمراكش رقم 370.
(2)
الخزانة العامة بالرباط. رقم 2758 ومكتبة تطوان رقم 275 مجموع.
(3)
مكتبة تطوان رقم 30.
(4)
الخزانة العامة - الرباط، رقم 2692، نسخة غير كاملة.
(5)
زاوية تنعملت (بني ملال - المغرب) رقم 299.
(6)
الخزانة العامة - الرباط، رقم 2832 مجموع.
7 -
شرح على السلم المرونق في المنطق (1).
ولعل لقدورة غير هذه الشروح والحواشي. وتجدر الملاحظة أنه كان أيضا شاعرا وراجزا شأن أكثر العلماء عندئذ ، وتدل قصيدته في رثاء شيخه آبهلول أنه كان متضلعا في علم العروض أيضا. ولا ريب أن له أراجيز في موضوعات متعددة ولا سيما في نظم المسائل العلمية.
وكانت لقدورة أيضا مراسلات مع علماء العصر. ورغم أننا لا نعرف ما إذا كان قد حج وتعلم في المشرق (إذ لا نجد اسمه مقرونا بنعت الحاج خلافا لوالده الذي كان يدعى الحاج إبراهيم) فإنه لا شك قد تراسل مع العلماء، سواء علماء المغرب الذين درس عليهم أو تلاميذه في المشرق أو علماء الجزائر وخصوصا علماء تلمسان وقسنطينة. وممن تراسل معهم في قسنطينة عبد الكريم الفكون الذي ذكر بنفسه أنه كان يتراسل مع قدورة ولكنه لم يكشف عن أغراض المراسلة (2) ولعل قدورة قد تراسل في المشرق مع أحمد المقري أيضا. فقد كانت بينهما علاقة منذ جاء المقري للتدريس في عاصمة الجزائر أثناء وجود قدورة بها. وبهذا الصدد نذكر أن قدورة قد امتحن المقري حين تصدى للتدريس في عاصمة الجزائر بلغز سماه (هاج الصنبر). ويقول الفكون الذي روى ذلك أن المقري لم يصب الجواب في المرة الأولى وأصابه في الثانية بعد أن أعاد عليه قدورة اللغز. وكان السؤال والجواب شعرا متفق القافية (3).
وعذرنا في الإطالة عن سعيد قدورة عدة أمور:
1 -
أسرته التي كانت أسرة علم وتدريس أثرت في أجيال المتعلمين من الجزائريين، فقد كان ابناه محمد وأحمد أيضا مثله غير معروفين بالتأليف
(1) توجد منه نسخ كثيرة في الجزائر والمغرب، الخ.
(2)
الفكون (منشور الهداية)، مخطوط.
(3)
نفس المصدر وقد وعد الفكون بإيراد نص اللغز ولكنه لم يورده. وقد عرفنا أن نص اللغز قد أورده محمد قدورة (ابن سعيد) في كتابه (جليس الزائر وأنيس السائر) الذي عرفنا بوجوده عند الشيخ المهدي البوعبدلي.