المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علاقة العلماء بالحكام - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ١

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: ‌علاقة العلماء بالحكام

الجزائر، لأنهم طالما لجأوا إلى نفي العلماء الخطرين عليهم والضغط عليهم لكي يختاروا هم منفاهم بأنفسهم، بقي أن نذكر أن بعض العلماء عندما وجدوا باب الوظيف مسدودا أو غير أخلاقي ظلوا في الجزائر ولكنهم اختاروا التجارة وغيرها من الأمور غير العلمية.

‌علاقة العلماء بالحكام

كان العلماء يمثلون الرأي العام في الجزائر خلال العهد العثماني. فهم رغم ترفعهم الطبقي كانوا على صلة بالناس في الدروس ومجالس الفتوى والقضاء والزوايا وخطب الجمعة ونحو ذلك. وكان بعض العلماء يجلسون في المقاهي ويختلطون بالناس في الأسواق أيضا. وكان بعضهم يكثر عليه الازدحام في الدرس والخطبة حتى يلفت النظر لنفسه فتخشاه السلطة كما مر بنا. ومن جهة أخرى كان الناس يثقون في رجال الدين أكثر مما كانوا يثقون في رجال السياسة والحرب، ولهذه المكانة التي كانت للعلماء كان العثمانيون يقدرونهم ويخشونهم ويتقربون منهم ويطرونهم ويمنحونهم الهدايا، وكانوا أحيانا يلجأون إليهم في موقف تأييد وغير ذلك. كما أن العلماء كانوا في حاجة إلى الباشوات والبايات طمعا في مال أو وظيفة أو تأييد ضد منافس. وكانت هذه العلاقة في الواقع علاقة مطردة، فإذا وقع نفور من أحد الطرفين أو معاملة غير جيدة فذلك يعود إلى تصرف الأفراد في فترة معينة وليس إلى العلاقة في حد ذاتها.

ويمكننا أن نقسم هذه العلاقة إلى طيبة وسيئة. وقبل كل شيء نود أن نلاحظ أن حديثنا سينصب في الغالب على علماء الجزائر أو من في حكمهم وليس العلماء الذين كانوا يفدون مع الباشوات من إسطانبول لمدة معينة. فقد كان الحاكم العثماني ملتزما بمبدأ عريق عنده، وهو أنه رجل محارب وسياسي وأن حروبه وسياسته قائمة على الدفاع عن الدين والجهاد في سبيله. فهو يعترف أنه من رجال السيف وأنه لا شأن له بالطرف الآخر من القضية،

ص: 409

وهو الدين والعلم. فهو ليس من رجال الدين كما أنه لا يريد منهم أن يتدخلوا في حروبه وسياسته. وهو بالمقابل لا يتدخل في شؤونهم الدينية والقلمية. فإذا ما حاولوا أن يقتربوا من حدوده غضب وسخط، ويا ويل رجال الدين والقلم من الحاكم العثماني إذا ما غضب وسخط! هذه هي الحدود بين الطرفين، فهي حدود قائمة على الاحترام المتبادل واعتراف كل طرف سيادة الآخر في مجاله (1). ولكن الدين الإسلامي لا يعترف بهذه الحدود التي وضعها الإنسان لغايات غير دينية. لذلك كان بعض العلماء لا يصبرون على هذا الوضع فكانوا يطمعون فيما ليس لهم فيلقون جزاء أليما وعقابا شديدا.

وأكبر عمل يستطيع العالم أن يقوم به نحو الحاكم هو (نصحه) وتوضيح ما هو ديني وما هو غير ديني، وحتى هذا النصح كان يغلف في قالب لا يحس منه الحاكم أن العالم يتدخل في شؤونه. وكان بعض العلماء قد وجدوا من التحريض على قتال الإسبان في وهران مجالا حرا للتعبير عما في أنفسهم نحو السلطة ونحو الدين ما دام الباشوات أنفسهم عازمين على حرب الإسبان وعلى الجهاد بصفة عامة. وهذا الموقف لا يسمى تدخلا من العلماء وإنما يعتبر تأييدا لما كان العثمانيون يقومون به ويعتبر تأليبا للرأي العام ضد الإسبان. وكان هؤلاء العلماء يغتنمون الفرصة لكي يطرحوا قضاياهم الخاصة كحرمانهم من مال الأوقاف وسوء أحوالهم المادية، والإشارة إلى انتشار الظلم في البلاد والإجحاف في المعاملات، والتعبير عن كون العلماء هم حماة الدين وممثلو الرأي العام.

فقد حرض الشاعر محمد بن آقوجيل الباشا حسين خوجة الشريف على قتال الإسبان بوهران (وكان الباشا بدأ فعلا في الاستعداد لذلك). ثم انتقل من التحريض على القتال إلى الحديث عن حالة العلماء في الجزائر. فنصح

(1) حول هذه النقطة انظر ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 207. وكذلك كتاب ليباير، وكتاب جيب وباون عن تركيبة النظام العثماني كله.

ص: 410

الباشا بأن يشاورهم في الأمر وأن يدع عنه الغواة لأن العلماء ورثة الأنبياء وأن في الجزائر عددا كبيرا منهم اشتهروا بالتفسير والحديث والنثر والشعر وحفظ الأسانيد والأنساب والفقه والمناظرة، ولكنهم مع ذلك لا يجدون مساعدة لأن الباشوات قد أهملوهم فكانت النتيجة أن ضاع العلماء وجاعوا. وكان المفروض أن يأخذوا حقوقهم المعروفة من بيت المال أو من الأوقاف ولكنهم كانوا محرومين من هذا وذاك بينما هناك من يتمتع بهذه الأموال ويستعملها في الفساد الاجتماعي كالخمر وشرب الدخان. وفيما يلي بعض الأبيات من

قصيدة ابن آقوجيل الهامة في هذا الموضع في فاتح القرن الثاني عشر (18 م)، وهو يوجه كلامه إلى الباشا المذكور:

شاور ذوي علم ودين ناصح

ودع الغواة وكل ذي تزوير

فالعلم ميراث النبوة ناله

قوم لهم حظ من التنوير

كم في بلادك من نجيب حافظ

ومشارك في النظم والمنثور

ومحقق ومدقق ومناظر

من كل دراك الحجى نحرير

لكنهم فقدوا الإعانة واغتدوا

ما أن يراعيهم ذوي التأمير

ضاعوا وجاعوا لا محالة وابتلوا

في ذا الزمان الصعب بالتقتير

منعوا حقوقهم بمال الله لا

يرجى لهم طمع ولو بنقير

حتى حبيس كان يلتقطونه

حرموه، هذا غاية التنفير!

لا ينبغي أن يحرم الأحباس من

إن يعطها يعرف بكل ضرور

والبعض يمنحها ويصرفها لدى

شرب الدخان وخسة وخمور

فاردد حبيسا، قل، يمتصونه

مص النواة ونقرة القطمير

يا أيها الملك الذي نرجو به

عدلا ينوط بذي الغنى وفقير

إني نصحتك والنصيحة ديننا

فاقبل، ولم ينصحك دون خبير (1)

ويعتبر ابن آقوجيل شجاعا عندما (نصح) الباشا هذه النصائح التي لا

(1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 111. والقصيدة تبلغ سبعين بيتا. وسنتعرض للشاعر في فصل الشعر من الجزء الثاني.

ص: 411

شك أنه لا يريد سماعها، فهو يحدثه عن الفساد الاجتماعي وحرمان العلماء من حقوقهم وأن الناس يرجون من الباشا العدل الذي يعم الغني والفقير، ولكنه لف كل ذلك في عبارة عامة ودامغة وهي قوله (إني نصحتك والنصيحة ديننا). والباشا لا يستطيع أن يرفض هذه النصيحة رغم أنها تؤذيه. ولا شك أن الشاعر كان يصف العلماء في وقته وأن قصيدته قد وجدت صدى بعيدا في وسطهم فارتاحوا لها وروجوها بينهم وتناقلتها الأجيال حتى وصلت إلينا.

وقد اشتهر بعض الباشوات بتقريبهم للعلماء ومراعاتهم، إما حبا في الدين والعلم وإما طمعا في تأييدهم وإما حبا في المدح والثناء. وكان عدد هؤلاء الباشوات قليلا لأننا عرفنا أن طبع الحكام العثمانيين غير ثقافي وأنهم لا يتقربون من العلماء إلا عند الحاجة القصوى. ومن هؤلاء القلة يوسف باشا الذي تولى الحكم عدة مرات خلال الخمسينات من القرن الحادي عشر (17 م). فهو الذي أفسح المجال أمام علي بن عبد الواحد الأنصاري الذي ترجمنا له، وعظمت لديه مكانة عيسى الثعالبي الذي سنترجم له. وقد عثرنا على ما يؤكد كلام العياشي من أن يوسف باشا كان يفهم مقاصد العلماء رغم أنه تركي. فقد تبادل هذا الباشا الرسائل مع بعض علماء عنابة مثل محمد ساسي البوني. وملخص إحدى هذه الرسائل أن هذا الباشا يقدر البوني كثيرا ويعرف مكانته في بلده ولذلك أطراه وأشاد به وطلب معونته، كما أخبره بخطته السياسية والعسكرية وطلب منه التدخل لجلب طاعة الرعية، وذلك أثناء محاولة الباشا القضاء على ثورة ابن الصخري (1). وقد رد محمد ساسي البوني على الباشا مبديا استعداده للتعاون ولكنه طلب العفو على أهل عنابة. وتؤكد المراسلات أن الباشا قد استجاب لطلب الشيخ لمكانته عنده وفي قومه (2).

(1) ان من خطة يوسف باشا العدول عن حرب الإسبان في وهران والتوجه إلى إقليم قسنطينة للقضاء على ثورة الذواودة والحنانشة بقيادة ابن الصخري. عن هذه الثورة انظر الفصل الثاني من هذا الجزء.

(2)

انظر هذه الرسائل مخطوطة في باريس رقم 6724. وتاريخ رسالة الباشا هو سنة =

ص: 412

ويبدو أن الباشا محمد بكداش كان من نوع يوسف باشا لو طال به العهد. ورغم حكمه بالإعدام على المفتي أحمد بن سعيد قدورة، وهي الحادثة التي أشرنا إليها، فإنه كان حسب رواية مادحيه، وخصوصا محمد بن ميمون، يتقرب من العلماء على خلاف زملائه. وهناك قصص قد نسجت حول شخصيته كما نسجت أخرى حول شخصية يوسف باشا، فقد قيل إنه نزل بعنابة قبل توليه الباشوية وأخذ البركة والطريقة من عالمها أحمد بن ساسي البوني. وقيل أيضا انه وعد بأنه إذا أخذ الولاية سيحكم بالعدل، ونحو ذلك من الأخبار التي روجها المعجبون به أو المتزلفون إليه. وعلى كل حال فقد تولى الحكم فعلا سنة 1117 وقتل سنة 1122. وقد قرب بكداش، بالإضافة إلى البوني، عددا من العلماء، ومنحهم الهدايا والعطايا.

كان محمد بكداش إذن يتراسل مع أحمد البوني وكان البوني يتمتع بسمعة دينية وعلمية ليس في عنابة فقط ولكن في خارجها أيضا. فقد أخذ العلم في تونس ومصر والحرمين. ولا شك أن تقرب الباشا منه لم يكن لغرض صوفي، كما تذهب بعض الروايات، ولكن لغرض سياسي شبيه بغرض يوسف باشا من محمد ساسي. وقد قابل البوني هذا الموقف بموقف آخر أحسن منه. ذلك أنه نسب إلى بكداش (الذي لا شك أنه غير عربي وأن اسمه يذكر بصاحب الطريقة البكداشية) الشرف والنسب الهاشمي. فالبوني يقول من أرجوزة وجهها إليه (1).

يا طالبا للفضل

والجود ثم العدل

= 1050. وقد قمنا بدراسة لهذه الرسائل وقدمناها للنشر بنصوصها. مجلة الثقافة، 51، 1979. وكذلك كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة).

(1)

حسب مخطوط رقم 1847، المكتبة الوطنية بالجزائر، إن هذه الأرجوزة قد وجهها أحمد البوني إلى الباشا حسين خوجة الشريف (الذي حكم مباشرة قبل بكداش). ونحن نميل إلى ما ذهب إليه ابن ميمون من أن الأرجوزة موجهة إلى بكداش لأن اسم هذا الباشا يرد فيها ولأنه هو الذي كان على صلة بالبوني قبل توليه الحكم وبعده. ولعل للبوني أرجوزة أخرى في حسين خوجة الشريف غير هذه.

ص: 413

والعلم والرياسة

والحكم والكياسة

اعمد إلى الظريف

بكداش الشريف

فكل من يطلب الأخلاق والكرم والعدل والعلم والنفوذ والجاه عليه أن يقصد بكداش باشا ، فهو شريف ذو حسب ونسب، وهو ظريف كيس عارف بمقاصد العلماء وحاجاتهم. وقد حذر البوني أيضا من صولة هذا الباشا وغضبه:

مهد لنا دولته

ثم قنا صولته ثم شكا إلى الباشا من سوء أحوال عنابة التي شاع فيها، حسب قوله، الظلم وساءت فيها أحوال العلم والعلماء وارتفعت الأسعار وصعبت المعيشة:

يا حاكم الجزائر

يا أنس نفس الزائر

أريد أن أخبركم

أدام ربي نصركم

بحال هذي القرية

بالصدق لا بالفرية

قد صال فيها الظالم

وهان فيها العالم

خربت المساجد

وقل فيها الساجد

حبسها قد أسرفا

ناظره فأشرفا

وأهملت أسعارها

وبدلت شعارها

والشرع فيها باطل

والظلم فيها هاطل

والخوف في سبلها

والقحط في سنبلها

وعندما يقرأ المرء الأفكار التي وردت في هذا الرجز يدرك أن ما أرسله البوني للباشا ليس شعرا وإنما هو (تقرير) عن أحوال عنابة الاجتماعية والسياسية والثقافية، استعمل فيه الرجز لأنه طريق إلى التعميم والتلميح، بدل الإحصاء والتصريح، وفيه أيضا اتقاء من نقمة الحكام. وهذا الموقف من البوني يعتبر أيضا - كموقف ابن آقوجيل - موقفا شجاعا، لأنه أعطى الباشا صورة حية عن بلاده ونواحيها. ويلتقي البوني مع ابن آقوجيل في تقديم

ص: 414

النصح للباشا أيضا. فقد استنجد به في تدارك تلك الحالة قبل فوات الأوان وأوصاه بالاعتماد على الله وبحب العلم وفعل الخير، ودعاه إلى حسن اختيار بطانته وإلى استشارة العقلاء، وتوليه الأخيار النبلاء، وعدم خلف الوعد أو الوعيد لأن ذلك يضر بسمعته وحكمه. وأخيرا شكا إليه أحواله الخاصة وحاجته إلى المال قائلا إنه حزين ومثقل بالديون. وهذه الحالة لا تليق بالعلماء في عهده (الباشا) فهو يقول:

مطالبي كثيرة

فطنتكم غزيرة

وقد ذكر ابن ميمون الذي أورد هذه الأرجوزة أن الباشا كافأ البوني (بمنقوش من صفحة القمر، وأعطاه فوق ما طلب)(1). وهو قول فيه كثير من المبالغة، ولكنه يدل على أن الباشا قد استجاب لطلب هذا العالم.

والظاهر أن الباشا هو الذي طلب من البوني بعض التحف وهي هنا مجموعة من الوصايا والحكم والمواعظ. وقد استجاب البوني وأرسل إليه قصيدة احتوت على ما كان مطلوبا من العلماء عندئذ، وهو نصح الحكام بتقوى الله وتحكيم الشرع في أمور الدولة وتعلم الفقه وتمييز الحرام من الحلال. وهذا ليس بغريب على من يقرأ الأدب العربي القديم، فطالما وجدا بعض الخلفاء يطلبون من العلماء وعظهم فيعظونهم حتى تدمع عيونهم حزنا وخوفا. ولكننا لا نعتقد أن محمد بكداش كان في حاجة إلى هذا النوع من الوعظ والنصح وإنما كان في حاجة إلى توطيد للعلاقة التي بينه وبين شخصية معترف لها بالدين والعلم مثل أحمد البوني. ومن الغريب أن يصف البوني بكداش بأنه حبيبه وخليله وصديقه وأنه قد سبا قلبه وهيج غرامه، فهذا الكلام لا يكون عادة بين الحاكم وبين أحد رعاياه.

وبعد، فإن لي حبا وخلا

سبا قلبي وهيج لي غرامي

كما أنه من الغريب أن يصف البوني بكداش بأنه:

فقيه لوذعي المعي

جميل الوجه يلقي بابتسام

(1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 28. والأرجوزة في حوالي تسعين بيتا.

ص: 415

ذكي الفهم ذو نسب شريف

لطه ينتمي خير الأنام

سخي عارف بالله حقا

لأهل العلم يخضع ذو انسجام

أراد وصية مني ونصحا

أنا أولى بمن يبري سقامي

وإذا استثنينا نصحه بتحكيم الشرع في شؤون الدولة فإن كل النصائح التي قدمها إليه لا تجعل من الباشا حاكما ناجحا ولكن متصوفا يقرأ الكتب الصوفية ويتدارس علم الفقه وملازما للعزلة والتقرب إلى الله. لذلك يمكننا القول بأن هذا الشعر إما أن صاحبه لا يدرك مهمته ولا مقام مخاطبه وإما أنه كان ينافقه ولا يحترم مهنته:

عليك أيا صديقي في مضيق

بتقوى الله جل على الدوام

وحكم شرعه في كل شيء

ولازم ذكره والدمع هام

وصمتا وانفرادا واتضاعا

وتقليل المنام مع الطعام

بعلم الفقه تدرك كل رشد

وتمييز الحلال من الحرام (1)

ومع ذلك فإن السياسة كانت لا تبقى ولا تذر إذا عصفت بغير المحظوظين من العلماء. فالباشا بكداش نفسه هو الذي انتقم من المفتي أحمد قدورة فأعدمه رغم علمه ومكانة أسرته. ولقد لقي هو أيضا نفس المصير. ولا ندري ماذا كانت علاقة البوني بالباشوات الذين جاؤوا بعد بكداش والذين كانوا كثيرا ما ينتقمون من أصدقاء الباشوات الراحلين. وعلى كل فقد توفي البوني وفاة طبيعية في بلاده سنة 1134 (2).

ومن الأسر العلمية التي كانت لها علاقة بالعثمانيين أسرتا الفكون وابن باديس. وقد سبق الحديث عن مكانة الأسرة الأولى. ونحب أن نضيف إلى ذلك أن أسرة الفكون هي التي انتصرت للباشوات أيام ثورة ابن الصخري، وكذلك عند تمرد صالح باي وأثناء فتنة ابن الأحرش. وقد استحق رئيس

(1) نفس المصدر، 29. والغالب أن يكون هذا الشعر قد قاله البوني قبل تولي بكداش الحكم.

(2)

سنترجم للبوني في الجزء الثاني.

ص: 416

عائلة الفكون وقت هذه الفتنة ثناء الباشا عندئذ، فراسله بهذه العبارات (إلى العالم الأشهر .. العارف بجميع الفنون. نستكثر خيرك من شأن وقوفك وصيانتك للبلاد، ونصحك وحمايتك للعباد .. ثم نلتمس منكم الدعاء الصالح، الجالب لنا ولكم كل المنافع والمصالح ..)(1) كما أرسل الباشا إلى علماء قسنطينة يطمئنهم ويأمرهم بالوقوف والالتفاف حول الشيخ الفكون.

أما أسرة ابن باديس فقد مرت بحياة متقلبة مع العثمانيين فيها السجن والتغريم، وفيها الوظائف السامية والتكريم. وأكثر ما كانت تتولاه من المناصب هو الإفتاء والقضاء والتدريس. وكانت علاقتها مع العثمانيين طيبة. وقد مرت بنا قصة أحمد بن باديس مع أحمد الغربي، وجاء في بعض الوثائق أن حوالي أربعين شخصا من هذه الأسرة قد تولوا وظائف سلطانية في العهد العثماني (2).

ومن العلماء الذين شهدوا صعودا وهبوطا خلال هذا العهد المفتي عبد القادر الراشدي والمفتي محمد بن بوضياف. الأول من نواحي فرجيوة والثاني من نواحي أولاد خالد. وكثيرا ما التجأ الباشوات إلى العلماء في الأوقات الحرجة طالبين منهم الرأي وتجنيد العامة للوقوف مع الحكومة. وهي المناسبات التي كان فيها العلماء يشعرون بأن لهم دورا هاما يلعبونه لو كانوا يدركون كيف يستغلونه. ويظهر ذلك عند الغارات الإسبانية على السواحل وعند غارات الأجانب الآخرين على مدينة الجزائر، وعند الثورات الداخلية (3). ولكن علاقة العلماء بالباشوات قد ساءت على الخصوص منذ

(1) أحمد الأنبيري (علاج السفينة في بحر قسنطينة)، مخطوط خاص، 273، انظر أيضا دراستي عن هذا الكتاب في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

(2)

ذكر ذلك أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 77 نقلا عن فايسات.

(3)

روى ابن المفتي أن شعبان خوجة باشا قد أرسل، عندما أحس بثورة الإنكشارية ضده، المفتي الحنفي حسين بن رجب شاوش والمفتي المالكي محمد بن سعيد قدورة والقاضي الحنفي محمد زيتون التونسي والقاضي المالكي محمد بن الحاج =

ص: 417

ثورة درقاوة في فاتح القرن الثالث عشر وعانى من ذلك أبو راس والزجاي ومحي الدين والد الأمير عبد القادر وابن العنابي وبوضياف وابن القندوز.

فقد كان الباشوات يسلكون مع العلماء أحيانا طريقة الإرهاب والتخويف. ومن الذين خضعوا لهذا الإرهاب الشيخ المهدي بن صالح. ذلك أن الباشا (وهو تلميذه!) قد حكم عليه بالنفي إلى بلاد غير عربية وأهانه إهانة بالغة عندما طلب من كل من قدم إليه هدية أن يحضر ويطلبها منه فهاجمه خلق كثير، حسب رواية ابن المفتي، في السفينة التي كانت ستقله إلى منفاه وأرغم على إعادة معظم ما أخذه من الهدايا (1) وليس من الضروري أن تكون دعوى الهدايا صحيحة، وإن كانت الرشوة أمرا شائعا كما عرفنا، ولكن التشهير بالضحية كان إحدى طرق الإرهاب التي يتخذها الولاة ضد ضحاياهم. ولو كانت الهدايا هي التي استوجبت هذه المعاملة المهنية لواحد من أبرز العلماء في وقته لا نطبق الأمر أيضا على الباشوات أنفسهم، فقد كانت الهدايا هي وسيلة عيشهم وطابع حياتهم. وقد ذكر ابن المفتي أن المهدي بن صالح كان عالما بعلم الحديث الذي برع في تدريسه حتى جلب إليه في الجامع الكبير خلقا كثيرا، وكان ممتازا في أربعة علوم (هي النحو والأصول والخطابة والحديث) أحدها يكفي. ولا شك أن الباشا قد خاف من تجمع الناس حول ابن صالح (2). أما المفتي الحنفي محمد بن مصطفى المعروف بابن المستي فقد حكم عليه الديوان بالموت ومصادرة أملاكه سنة 1138. وكان قد تولى الفتوى عدة مرات ابتداء من سنة 1112. وما زلنا لا نعرف ما هي التهمة التي وجهت إليه حتى استحق هذه النهاية. والظاهر أنه

= إلى رؤساء الفتنة لتفادي الثورة. ولكن مهمة هؤلاء العلماء قد فشلت. انظر ديلفين (المجلة الآسيوية) 1922، 206.

(1)

ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 292.

(2)

هذا الباشا هو حسين خوجة الشريف الذي عزله محمد بكداش، وقد عاد المهدي بن صالح من منفاه وتولى الإفتاء بعد ذلك في زمن باشا جديد، خلفا للشيخ سعيد بن أحمد قدورة.

ص: 418

كان كزمليه أحمد قدورة ضحية الانتقام السياسي.

وكان بعض العلماء يعانون الإهانة والسجن والتشريد، لا لذنب ارتكبوه هم ولكن لصلتهم بمن ارتكب الذنب. فقد كان القاضي المالكي محمد بن مالك من علماء مدينة الجزائر المشهود لهم بالعلم ووفرة التلاميذ. وكان على صلة بنقيب الأشراف أيضا، ولكنه كان صهرا لعلي خوجة الذي ثار على مصطفى باشا فحكم هذا على ابن مالك بالنفي إلى مدينة القليعة وإيقافه عن الدرس. ولكن لحسن حظه ومعرفته لبعض رجال الدولة وخوضه في السياسة أحيانا تدخل مستشارو الباشا لصالحه على أساس أن له تلاميذ يدرسون عليه وأنه ليس مسؤولا على ثورة صهره. وعندئذ فقط أذن له الباشا بالرجوع إلى درسه (1). وعندما عاد الشيخ حمودة المقايسي من مصر ظنا منه أنه سيجد الجو مناسبا للدرس ونشر العلم والعيش الكريم، تخلى عن ذلك واكتفى بصناعة المقايس (الأساور) ليعيش منها لأنه وجد أن المتصلين برجال الدولة هم فقط أصحاب الحظوة (2). ولكننا عرفنا أنها حظوة غير ثابتة وأنها خاضعة لمزاج الباشا ومدى خنوع العلماء وتخليهم عن مبادئهم العلمية والأخلاقية. فالجمع بين العلم والوظيف في العهد العثماني، مع المحافظة على الأخلاق، كالجمع بين الماء والنار، وصاحب ذلك كالساكن مع النمر لا يدري متى يفترسه.

ولم تكن معاملة البايات للعلماء بأحسن حالا من معاملة الباشوات لهم. فالعلاقة هنا كانت كالعلاقة هناك، صاعدة نازلة وفي اضطراب متواصل. ولدينا عدة مصادر تتحدث عن ذلك، فقد روى ابن مريم في (البستان) ومحمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) طائفة من الأخبار عن أحوال العلماء في تلمسان. والمعروف أن كثيرا منهم قد فروا إلى المغرب في عدة موجات بدايتها عند دخول العثمانيين وآخرها عند ثورة درقاوة. ولم

(1) الزهار (المذكرات)، 81، 91.

(2)

الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 140.

ص: 419

يحظ الباقون منهم في ندرومة ومعسكر ومازونة ومستغانم بالمعاملة اللائقة أيضا (1) فهاجر منهم من هاجر وانزوى منهم من انزوى، وتوجه بعضهم إلى مدينة الجزائر نفسها. وهناك علماء اشتهر أمرهم في الجزائر ولكنهم توجهوا إلى غيرها مثل المنور التلمساني وعبد القادر المشرفي وسعيد المنداسي. وقد عرفنا أن العلماء قد جعلوا وقود المعركة بين الإسبان والجزائريين في وهران سواء أثناء الفتح الأول سنة 1119 أو الفتح الثاني سنة 1205. فكل من الباي مصطفى بوشلاغم والباي محمد الكبير قد جند العلماء وجعلهم في الطليعة، ولا سيما الأخير. ومع ذلك فإن كتاب الباي الأخير يذكرون من محاسنه اهتمامه بالعلماء، لأنه أغدق عليهم الهدايا وجلبهم إليه بالإحسان وأنشأ لهم المدرسة المحمدية والجامع الأعظم، كما عرفنا. لذلك كثر مادحوه ووفد عليه الوافدون وطمع في عطاياه الطامعون. ومن هؤلاء أحمد القرومي الذي وفد على الباي من نواحي الأخضرية ومدح منشآته، كما أشرنا، وعاد من عنده مملوء الوطاب على مدحته (2).

ولكن حظ العلماء لم يكن دائما كحظ القرومي وأمثاله، فهذا القائد حفيظ، حاكم تلمسان، قد أساء معاملة الشيخ ابن للو التلمساني وهو الذي اشتهر بالعلم، وخصوصا تفسير القرآن الكريم، وقد روى أبو حامد المشرفي أن ابن للو قد ختم التفسير في الجامع الأعظم بتلمسان. ورغم استرضاء

(1) ذكر ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 18 أن الترك قد قتلوا زميله الفقيه عبد العزيز الموفق (صبرا على كلمة الحق)، وأن والد القتيل (وهو الموفق بن عبد الرحمن) قد رثى ولده بقصيدة مؤثرة ودعا فيها على قتلته (فزلزل الله بهم دار ملكهم واحترق منها ما لا يحصى ..) كما ذكر أن الشيخ محمد العبدلي الذي حاول المصالحة بين الترك والأهالي في تلمسان بعد ثورة 1035 هـ قد مات أثناء عودته من الجزائر.

(2)

ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط، 11 - 12. وقد سبق في فصل المؤسسات الحديث عن شعر القرومي. ويبدو أن أسرة القرومي أسرة قديمة في العلم والشعر. فقد جاء في (التحفة المرضية) لابن ميمون، 147 أن محمد بن عبد الرحمن القرومي (وهو يكتبه الجرومي) قد تنبأ على لسان ابنه لمحمد بكداش باشا بفتح وهران على يده.

ص: 420

القائد حفيظ للشيخ بالدقيق والسمن ونحوهما فإن ابن للو قد رد كل ذلك عليه. بل تذهب الرواية إلى أن ابن للو قد أمسك بلحية القائد وجذبه منها إلى أن أخد منها شعرا، ثم أقسم أن يخرج من تلمسان (لأمر ما) ويسكن بلد النصارى. فأخذ أهله ونزل موضعا بوادي غريس ومنه إلى معسكر حيث استفتى العلماء في يمينه (1) ولا شك ان معاملة القائد التركي الآخر، وهو محمد بن سوري، للعلماء في تلمسان أيضا تستحق الذكر في هذا الصدد، وهي المعاملة التي أشار إليها صاحب (كعبة الطائفين) بالتفصيل، ويبدو منها أن مقام العلماء عندئذ كان غير محمود (2). وهنا تحضر إلى الذهن أيضا معاملة الباي حسن بوهران للشيخ محي الدين وابنه عبد القادر (الأمير فيما بعد) حين توجههما إلى الحج سنة 1243، فقد حجزهما عنده بدعوى الخوف عليهما. ولم يسمح لهما بالسير إلا بعد تدخلات وتوسلات واستعمال الرشوة.

أما في قسنطينة فإن تدخل العسكر والبايات في شؤون العلماء كان أمرا ملفتا للنظر حقا. وإذا رجعنا إلى (منشور الهداية)، الذي عالج فيه صاحبه العلاقة بين العلماء والولاة، نجده يذكر الكثير من الحوادث التي سجن فيها العلماء وغرموا ونفوا وأهينوا وصودرت أموالهم حتى أن بعضهم كان يموت في سجنه، وبعضهم كان يمنع من (رفع القلم)، والمرء يحس وهو يقرأ هذه الحوادث أنه أمام رواية مضحكة مبكية في نفس الوقت. فهذا جد المؤلف، وهو عالم مفسر، يجد نفسه في قصر الباشا بالجزائر ثم يفر، رغم شيخوخته، إلى زواوة ثم يلقي عليه القبض ويعاد إلى الجزائر فيسجن ثم يطلق سراحه.

(1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول) مخطوط، 12. وأضاف المشرفي أن ابن للو قد ذهب أولا إلى وادي غريس فوجد به قوما يستعملون أسماء غير إسلامية مثل عنتر وبوعجاج فقال هنا تبر يميني، ثم ذهب إلى معسكر، الخ. ووصف ابن للو أنه (خاتمة أدباء تلمسان من المتأخرين) ويلح المشرفي على أن القائد حفيظ كان تركيا.

(2)

انظر ذلك في دراستي لـ (كعبة الطائفين) في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

ص: 421

وكان معه في هذه المغامرة العجيبة عبد اللطيف المسبح أحد العلماء الفقهاء والرياضيين. كما روى نفس المؤلف أن جده لأمه (وهو محمد بن قاسم) الذي كان يشغل وظيفة مزوار الشرفاء والذي تصدر الفتيا، قد (متحن حين أراد العسكر قتله ومنع من رفع القلم والصعود إلى دار الإمارة)(1). ونفس المصير لقيه يحيى بن باديس، فقد (امتحن حيث أشرف (هو ومحمد بن قاسم المذكور) على الهلاك من فتنة العسكر) وكان الشيخ يحيى هذا متوليا للقضاء في قستطينة وخطابة جامع القصبة. وهذا أيضا يحيى بن محجوبة قد (تعددت محنه من دار السلطنة وكثرت سجونه وكثيرا ما يفر من الأوامر الواردة في الانتقام منه وأغرم مرارا)(2) رغم أنه كان مفتيا وقاضيا. ولم يسلم الشيخ عبد العزيز النفاتي من المصير المظلم الذي كان ينتظر هؤلاء العلماء. فقد كان بينه وبين الباي محمد بن فرحات (الذي كان يحكم قسنطينة باسم العثمانيين) مغرم فطلبه منه فشح عليه به فوضعه في السجن إلى أن مات فيه.

وقد ذكرت المصادر أيضا أن مفتي بسكرة قد فر إلى سيدي عقبة خوفا من عامله (3). كما أن محمد بن بوضياف قد أساء بعض البايات معاملته حتى هدد في حياته رغم أنه تولى القضاء والفتيا (4). ولكن بعض البايات كانوا على علاقة طيبة مع العلماء، فأمرة ابن جلول وأسرة البوني، بالإضافة إلى أسرتي الفكون وابن باديس اللتين ذكرناهما من قبل، كانت في الغالب محل ثقة واحترام البايات. وكان العلماء من جهتهم يعرفون أيضا مكانتهم عند البايات فيشاركونهم في السراء والضراء، فهم يهنئون الفائز ويعزون المحزون ونحو

(1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط.

(2)

نفس المصدر.

(3)

الدرعي (الرحلة)، 193.

(4)

حياة هذا العالم متقلبة وقد ذهب إلى مدينة الجزائر ليشكو الباي إلى الباشا ورآه الباشا في جلسة الديوان فوعده بمنصب ثم منحه بغلة بيضاء وجبة خضراء وبرنوسين من السوستي ومتين سلطانيا ذهبا. انظر شيربونو (المجلة الشرقية والجزائرية) 1852، 449. وبناء عليه فإن محمد بن بوضياف قد ولد سنة 1194 بأولاد خالد.

ص: 422