الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنشاء أو الدواوين. فكما كانت إسطانبول (تستورد) رجال الدين كذلك كانت الجزائر في هذا العهد، فأوجه الشبه بين العاصمتين إذن أكثر من أوجه الاختلاف في هذا المجال.
مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم
وظهور العلماء كفئة متميزة ليس وليد العهد العثماني لا في الجزائر ولا في غيرها من العالم الإسلامي، فقد بدأ - كما نعلم - منذ استولى على شؤون المسلمين حكام جهلة ليس لهم صلة بالحضارة الإسلامية واللغة العربية ولا بأمور الدين، ومن ثمة منذ ضعفت الدولة الإسلامية. فجهل الحكام هو الذي مهد لظهور العلماء كفئة متميزة ليسدوا الفراغ كمستشارين ومشرعين ومفسرين. وأصبح شعار العلماء هو أنهم هم (حماة الدين) و (مصابيح الظلام)، بينما لم يكن الأمر كذلك حين كان الحكام علماء والعلماء حكاما. وبالنسبة للجزائر فإننا نعرف أن دولة بني زيان مثلا قد اتخذت من العلماء مستشارين ومن المثقفين كتابا ومادحين ولكنها لم تفتح وظيفة باسم (شيخ الإسلام)، ونفس الشيء يقال عن قسنطينة تحت الحفصيين ومدينة الجزائر قبل أن يجعلها العثمانيون عاصمة للقطر كله.
ولعل كون الحكام العثمانيين في الجزائر غرباء عن الثقافة العربية وعن تاريخ الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي هو الذي جعلهم، كولاة وسلاطين، يتأثرون بشؤون الحكم من سياسة واقتصاد وجيش وإدارة، تاركين القضايا الأخرى التي لها مساس مباشر بالدين في أيدي فئة أخرى هي فئة العلماء، وهكذا بدأوا في تطبيق القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية، وهو ما يسميه الأوروبيون الفصل بين الدين والدولة. وقد أضاف سلاطين آل عثمان، وعلى رأسهم سليمان القانوني، مجموعة من القوانين المستمدة من العرف ومن حضارات أخرى ومن حالات الضرورة، وأصبحوا هم كحكام المشرفين على تنفيذها، بينما القضايا المستمدة من روح الشريعة الإسلامية
ومن تقاليد السلف قد تركت لفئة العلماء تتفذها وتبدئ فيها رأيها. وهكذا بدأ الفصل في تطبيق الأحكام في الدولة الإسلامية الواحدة التي من المفروض أن ولاتها يمثلون الدين والدولة معا، وأن جميع القوانين فيها مستمدة من الشريعة الإسلامية. وبذلك أصبح للحكام مجالهم الخاص في التنفيذ كما أصبح للعلماء مجالهم. فإذا تعارض الأمران تغلب أصحاب الجانب الأول لما لديهم من القوة والسلطان، وليس لما لهم من الحق والبرهان.
وكان الباشوات في الجزائر هم الذين يعينون العلماء في وظائفهم بينما لم يكن للعلماء دخل في تعيين الباشوات. فقد كان الأوجاق هم الذين يقررون مصير الباشا، فإذا رضوا بقي في الحكم وإذا غضبوا وقعت الثورة وسقط الباشا مضرجا في دمائه أو مدلي من حبل المشنقة، وفي بعض الأحيان كان الأوجاق يأخذون في الاعتبار سخط العلماء على الباشا، ولكن ذلك لم يكن أمرا ضروريا للإطاحة به إذ كان يكفي تجمع عدد من الجنود عند القصر ودخول طليعة منهم للقبض على الباشا وإعدامه. وكان دور العلماء في هذه الحالات سلبيا، فهم ينتظرون انجلاء غبار الثورة لكي يباركوا للباشا الجديد ويتقدموا إليه بالبيعة والتهنئة وعروض الولاء. وقد وقف بعض العلماء أحيانا مواقف سياسية من بعض الولاة فكان نصيبهم الإعدام. كما حدث للمفتي أحمد قدورة مع الباشا محمد بكداش. وكان عزل العلماء من وظيفتهم أخف الضررين. كما أن النفي كان أحد طرق التخلص من العلماء.
والعلماء فئة احتكرت مجالات معينة في المجتمع، وهي الإفتاء والقضاء والتعليم والإمامة والخطابة. ورغم تعدد هذه المجالات فإنها كانت ضيقة ومحددة، ولذلك كثر التنافس عليها بينهم. وكان هذا التنافس بدوره سببا في إضعاف دورهم السياسي لأن الباشوات والبايات كانوا يضربون هذا بذاك ويغلبون فريقا على فريق وعائلة على عائلة عند الضرورة. ورغم قرب القضايا التي يعالجونها والوظائف التي يؤدونها من الشعب فإن العلماء،
وخصوصا في المدن، قد ابتعدوا عن الشعب وأصبحوا ينظرون إليه نظرة فوقانية (1)، وكادوا لا يفترقون في تصورهم للمجتمع الجزائري عن العثمانيين أنفسهم الذين كانوا غرباء عن الشعب، كما سبق القول. فمصالح العلماء كانت إذن في إرضاء الباشوات وكسب ودهم وليس في خدمة الشعب والتقرب منه ورفع مستواه. ومن ثمة أصبحت فئة العلماء طبقة متميزة بالمعنى الحديث للكلمة، لها خصائصها ومصالحها ونمط عيشها، وحتى مؤامراتها ومناوراتها.
وكانت بعض الأسر العلمية تتميز بالثراء الغزير. فقد لاحظ التمغروطي في أواخر القرن العاشر أن علماء الجزائر تغلب عليهم المادية، فقال (إن حب الدنيا وإيثار العاجلة والافتتان بها غلب عليهم)(2)، وقد لاحظنا أن المفتي سعيد قدورة كان ذا مال يشارك به بعض التجار، وجاء في كتاب ابن المفتي أن عمار بن عبد الرحمن المستغانمي كان ينفق على ضيوفه بين ثلاثين وأربعين ريالا في الليلة الواحدة (3) وقيل عن المفتي أحمد الزروق بن داود أنه كان صاحب ثروة، وكذلك كان العالمان سعيد المقري في تلمسان وعمر الوزان في قسنطينة. ومن المعروف أن عائلة الفكون وابن باديس وابن آفوناس في قسنطينة كانت من العائلات الغنية. والمحافظة على الثروة ومحاولة الاستزادة منها كانت السبب في التنافس الشديد الذي سنذكر نماذج منه بين هؤلاء العلماء. ولكن العلماء لم يكونوا جميعا أغنياء. فقد كان فيهم الفقراء بكثرة، وخصوصا أولئك الذين كانوا خارج الوظيف أو الذين كانوا يمتهنون التعليم.
ومصادر تكوين أو تخريج العلماء ثلاثة: الأول المدرسة الجزائرية (بما في ذلك المساجد والزوايا) التي كانت تصل بالمتعلم إلى نهاية المرحلة
(1) جاء في رسالة لأحمد بن عمار أن العوام كالهوام. انظر ذلك في فصل الأدب (النثر) من الجزء الثاني.
(2)
التمغروطي (النفحة المسكية) مخطوط رقم 2829.
(3)
نور الدين عبد القادر (صفحات)، 283.
الثانوية وبداية العالية، والثانية المدرسة المزدوجة، ونعني بها المؤسسة التي يجمع فيها الجزائريون بين دراستهم في الجزائر ودراستهم في الأقطار الإسلامية ثم يعودون لتولي الوظائف. أما المصدر الثالث فهو المدرسة الإسلامية عموما، ونعني بها المؤسسة التي جاءت منها طائفة من علماء المسلمين الذين لم يكونوا جزائريين في الأصل، ولكنهم استوطنوا الجزائر وتولوا فيها وظائف مختلفة من الإفتاء إلى الإمامة وغيرهما.
وكان العثمانيون في أول الأمر يجلبون معهم علماءهم، إما لعدم ثقتهم في علماء الجزائر وإما للقيام بشؤون المذهب الحنفي الذي كانوا يتبعونه. كما أنهم ولوا الوظائف الدينية وكلفوا بالمهمات الدبلوماسية علماء من مختلف الأقطار الإسلامية. ولم يعتمدوا في ذلك على علماء الجزائر، على الأقل في بداية عهدهم. ومهما كان الأمر فإن المدرسة الجزائرية كانت غير كافية لسد جميع الفراغات في الوظائف المفتوحة أمام العلماء. ولعل عدم توحد المدرسة في الجزائر قد أضعف أيضا من فعالية فئة العلماء، ذلك أن أصول تعليمهم وطموحاتهم كانت مختلفة في النهاية.
ولا شك أن أعلى وظيفة كان يتولاها العالم هي الفتوى، ذلك أن الفتوى تحتاج إلى درجة عالية من العلم والتعمق في مسائل الفقه ومعرفة قوية للقرآن وعلومه وعلوم الحديث والقياس ونحو ذلك. كما تتطلب قوة الشخصية والنزاهة والعلاج والشجاعة في الرأي والثبات على قول الحق. وكانت شهرة العالم بين الناس في هذه الأمور من بين عوامل ترشيحه لهذه الوظيفة. ونحن نعرف من تاريخ القضاء في الإسلام أن كثيرا من العلماء كانوا يرفضون وظيفة القضاء (ومنها في العهد العثماني وظيفة الفتوى) ويفرون منها ويتحايلون بشتى الحيل حتى لا يغضبوا الحكام برفضهم لها. أما في العهد الذي ندرسه فلا نكاد نسمع أن أحدا من العلماء قد رفض أو اعتذر عن قبول وظيفة المفتي أو القاضي (1). بل إننا سنرى أن التنافس عليها كان على أشده،
(1) ذكرنا في ترجمة عمر الوزان أنه اعتذر عن وظيفة القضاء. وذكر محمد بن ميمون في =
ولم يكونوا يقومون بحقها حق القيام، بل إن معظمهم كانوا ينظرون إليها على أنها مكسب للرزق ومطلب للجاه. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضعف العلم وضعف أخلاق العلماء أيضا.
ولم يكن الإفتاء وظيفة رسمية قبل العثمانيين. فقد كان العلماء قبلهم يستشارون في المسائل الفقهية وغيرها كأساتذة وشيوخ علم وليسوا كموظفين ملحقين بمصلحة من المصالح في الدولة. فكان العالم إذا اشتهر أمره بين الناس وشاع عنه الورع والنزاهة والتمكن من العلم تتوافد عليه الأسئلة من الجهات الشعبية والرسمية فيسجلها عنده ويجيب عنها بما توصل إليه علمه مضيفا إليها عبارة (والله أعلم). وقد وجدنا من هذه الآثار نوازل وفتاوي كتبها علماء كانوا مرجعا في عهدهم وعاشوا قبل العهد العثماني. ولم يكونوا موظفين. لدى ولاة زمانهم. ومن ذلك نوازل المازوني (الدرر المكنونة في نوازل مازونة)، وفتاوي الونشريسي التي ضمنها موسوعته (المعيار). وكان المذهب الذي يفتي به هؤلاء العلماء هو مذهب الإمام مالك لأنه المذهب الذي كان يتبعه جميع السكان باستثناء أتباع المذهب الإباضي.
ولما جاء العثمانيون أحدثوا تغييرات في هذا النظام. فقد جعلوا الإفتاء وظيفة من الوظائف الرسمية. ورغم أنهم كانوا كبقية السكان من أهل السنة فإنهم جعلوا الفتوى على مذهبين: مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك. وجعلوا المذهب الأول هو المذهب الرسمي، لأنهم كانوا أحنافا، ولكنهم لم يتدخلوا في المذاهب الأخرى. ونظرا لعدم وجود علماء أحناف في الجزائر قبل العثمانيين، ونظرا لعدم الثقة الكاملة سياسيا في علماء الجزائر، فإن سلاطين آل عثمان كانوا يعينون الباشا وكذلك القاضي الحنفي مدة سنتين في أغلب الأحوال، ويرسلونهما لتمثيلهم في الجزائر، الأول يمثل السلطة السيفية، والثاني يمثل السلطة العلمية (وهذان التعبيران كانا شائعين
= (التحفة المرضية) أن الباشا محمد بكداش قد (أجبر) الشيخ محمد بن أحمد البوني على قبول الإفتاء رغم اعتذاره، ص 174. وهكذا نرى أن المعتذرين عن هذه الوظيفة قد وجدوا ولكن بقلة.
عندئذ للدلالة على فئة الحكام وفئة العلماء). وقد سمى الحكام العثمانيون في الجزائر القاضي الحنفي (وهو أيضا المفتي فيما بعد) شيخ الإسلام كما كان يسمى زميله في إسطانبول، وجعلوه مقدما على زميله المفتي المالكي في الحظوة والاعتبار والرأي، رغم أن الأخير كان يمثل مذهب السكان. وبعد عدة أجيال على هذا النمط أصبح المفتي الحنفي لا يعين من إسطانبول وإنما يعين من أبناء العثمانيين المولودين في الجزائر، وذلك بعد أن أصبح الباشا أيضا يعين في الجزائر نفسها من طرف الأوجاق. ويذكر ابن المفتي أن والده، حسين بن رجب شاوش، كان أول مفتي حنفي يعين من أبناء العثمانيين في الجزائر، وهم المدعوون بالكراغلة. والمعروف أن حسين بن رجب هذا قد تولى بتاريخ 1102 (1).
وكان المفتي يتولى أيضا وظائف أخرى، كما عرفنا، مثل التدريس ووكالة الأوقاف والإمامة والخطابة. وليس من الضروري أن يجمع المفتي كل هذه الوظائف دفعة واحدة. فقد كان له أن ينيب غيره في بعضها، بمن في ذلك أبناؤه، كما فعل سعيد قدورة، وكان يحضر مجلس الشورى الأسبوعي وجلسة الديوان إذا دعي إليها. وإذا اختلف المفتيان تنعقد مناظرة عامة يحضرها القضاة والعلماء والباشا أو ممثله. ويؤخذ الرأي بالأغلبية أو بترشيح الباشا للرأي الذي يميل إليه هو. وفي معظم الأحيان كان الباشا يأخذ برأي المفتي الحنفي، وأحيانا كان يعزل المفتيين معا عند النزاع ويعين بدلهما آخرين، مثل ما وقع لمحمد بن العنابي الحنفي وزميله المالكي سنة 1232. ولم يكن الإفتاء مقصورا على مدينة الجزائر، بل إن كل عاصمة إقليمية أو مدينة كبيرة كانت على نمط العاصمة، فيها أيضا المفتي الحنفي والمالكي،
(1) يذكر ابن المفتي أن أول من أدرك خطه من الكراغلة هو محمد بن قرمان الذي توفي سنة 1036، وكان معاصره في الفتوى المالكية هو أحمد الزروق بن عمار بن داود. انظر أيضا الفكون (منشور الهداية) 242، و (ديوان ابن علي) مخطوط خاص. ففي الأول أن أحمد بن داود قد توجه إلى قسنطينة للدراسة على الشيخ محمد التواتي، وفي الثاني يوجد رثاء محمد القوجيلي له.
وكانا يقومان بنفس الوظيفة ويخضعان لنفس الظروف ولكن يعينهما الباي أو الحاكم الإقليمي. ومن المعروف أن العثمانيين قد جعلوا في قسنطينة وظيفة شيخ الإسلام في عائلة الفكون وذلك للدور السياسي الذي لعبته في الانتصار للعثمانيين من جهة ولأهمية مدينة قسنطينة من جهة أخرى (1).
ويأتي القضاء بعد الإفتاء في الأهمية، بل إن وظيفة القاضي الحنفي في المرحلة الأولى من الوجود العثماني كانت هي الأساسية لأنها كانت (وظلت كذلك) وظيفة سياسية - دينية. وكان القاضي بحكم اتصاله المباشر بمشاكل الحياة اليومية، على خلاف المفتي، من خصومات وعقود زواج وطلاق، وعقود بيع وشراء، وعقود وقف وكراء - في وضع أخطر من وضع المفتي. وإذا كانت أهمية وظيفة المفتي تعود إلى المكانة والاعتبار فإن أهمية وظيفة القاضي تعود إلى التنفيذ والممارسة لشؤون المجتمع. ولذلك كان بعض الفقهاء، كما أسلفنا، يعتذرون عنها خوفا من عدم القدرة على القيام بمتطلباتها وتقديرا منهم لخطورتها، وقد كان قضاة الجزائر قبل العثمانيين مالكية، كما كان للأباضية قضاتهم.
ومع الباشوات جاء القضاة أيضا إلى الجزائر للحكم بمقتضى المذهب الحنفي، ولذلك أصبح في الجزائر قاضيان في كل مدينة رئيسية، أحدهما للمذهب الحنفي والآخر للمالكي. وتحت هذين القاضيين مجموعة من القضاة المنتشرين في أنحاء الأقاليم. وكان القضاة أحيانا ينيبون عنهم غيرهم أيضا أو يعين الباي خليفة للقاضي. ومن هذا النوع ما تحدث عنه الفكون في كتابه (منشور الهداية) وسماه (نيابة قضاء العجم)، وهو يعني بهم الأتراك. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك قضاة يتبعون الحملات العسكرية في الداخل والغزوات البحرية في الخارج وكانوا يسمون بقضاة العسكر ولهم أهمية كبيرة. وكان منصب القضاة أيضا مدعاة للتنافس بين العلماء. ففيه بالإضافة
(1) عن تنافس هذه العائلة مع عائلة ابن عبد المؤمن انظر شيربونو (روكاي) 1856 - 1857، 97، وميرسييه (روكاي) 1878، 227 وما بعدها، وفايات (روكاي)، 1867 - 329. انظر أيضا الفصل الثاني من هذا الجزء.
إلى الجاه والنفوذ، المال وأكل مال الأوقاف وأموال اليتامى. كما اشتهر معظمهم بالجهل لأحكام الدين وإصدار الأحكام جزافا.
وكانت الخطابة هي الوظيفة الثالثة في الأهمية، وكانت مقاييسها صعبة لأن الجمهور يشترك في الحكم على الخطيب بخلاف المفتي والقاضي اللذين يتوليان وظيفة سياسية - دينية. ومن شروط الخطيب الفصاحة وجودة الصوت وسعة الاطلاع والجرأة الأدبية. ومن الطبيعي ألا تكون هذه هي كل الشروط التي وضعها الجاحظ للخطيب، ولكن في الجزائر العثمانية كان يكتفي ببعضها على الأقل. وكان الخطيب يؤدي صلاة الجمعة وصلاة العيدين، وأحيانا يجمع إلى ذلك الصلوات الخمس. فهو بذلك إمام أيضا. غير أن بعضهم كان يقوم بالإمامة في جامع والخطابة في آخر، كما كان سعيد قدورة في أول الأمر. وكان العلماء يتنافسون على وظيفة الإمامة والخطابة كما يتنافسون على الإفتاء والقضاء. وكان بعض الخطباء لجرأتهم وفصاحتهم وصلتهم بالجمهور يثيرون خوف الحكام فيحذرون منهم. وقد يبثون حولهم العيون إذا تكاثر الناس من حولهم. وقد يعزلونهم أو ينقلونهم إتقاء لشرهم، كما وقع لقرباش أفندي، خطيب الجامع الجديد. وهناك خطباء يفخمون الخطبة ويجعلون لها شأنا عظيما وسمعة كبيرة، مثل مصطفى بن عبد الله البوني. وهناك العييون والخجلون الذين يهينون الخطبة وينفرون الناس من سماعها. ونفهم من ابن المفتي الذي عالج هذا الموضوع أكثر من غيره فيما نعلم، أن محمد خوجة بن مسلم قد صان الخطبة وجعل لها شأنا بالبقاء في داره بدل الجلوس في المقهى، كما كان يفعل بعض من سبقه (1). ولأهل الحي دور في اختيار الخطيب، فهم الذين يرشحون للباشا من استحسنوا صوته وفصاحته وعلمه وأخلاقه ليكون خطيب جامع حيهم. وليس هناك سلطة للمفتي على الإمام والخطيب. ومتى عزل؛ وتخلى عن الخطابة والإمامة يعود العالم إلى عمله الأصلي وحياته العادية كبقية الناس.
(1) نور الدين عبد القادر (صفحات)، 275.
ورغم ما قلناه عن الخطيب الناجح فإن بعض الخطباء كانوا من العي والجهل بحيث أصبحوا مضرب المثل. ومن هؤلاء المفتي عمار المستغانمي الذي كان، رغم علمه، عاجزا عن الخطبة يعتريه خجل حتى يتصبب عرقا. وكان لا صوت له في الخطبة بينما كان جهيره في الدرس (1). لذلك كان المستغانمي ينيب عنه في الخطابة صهره أخ زوجه. وقد روى الفكون أنه هو الذي كتب خطبة الجمعة لأحمد بن باديس عند توليه إفتاء وخطابة جامع القصبة في قسنطينة (2). وجاء في رحلة العياشي أن خطيب الجمعة في توات ألقى (خطبة عظيمة وعظية حسنة تلقفها من صحيفة، إلا أنه أكثر فيها اللحن)، ولاحظ نفس الكاتب أنه حضر صلاة الجمعة في جامع ورقلة (وخطب الخطيب بخطبة أكثر فيها اللحن والخطأ والتحريف والتقديم والتأخير مع إدغام أكثر حروفها حتى كأنها همهمة)، حتى خاف العياشي أن صلاته قد لا تجوز معها، بل اعتقد أن الخطبة كانت تعود إلى زمن الموحدين لأن فيها دعاء للمهدي بن تومرت (3). وحكم الفكون أيضا حكما قاسيا على أحمد بن حسن الغربي الذي تولى خطة الفتوى وكان (أمي الخطابة والكتابة) وكان لا يعرف الخط ولا الرسم ولا الهجاء حتى أنه كان يطلب ممن يجالسه إصلاح فساد الرسم (4). وهكذا نجد أنه بقدر ما كانت الفصاحة مدحا كان العي ذما. ولكن المسألة هنا ليست العي مع العلم ولكن العي والجهل معا. وما أكثر النماذج على ذلك.
ومن الوظائف العامة للعلماء وظيفة المدرس. وقد سبق لنا الحديث عنها في فصل التعليم. غير أننا نود أن نلاحظ أنها كانت أحيانا تابعة لوظائف أخرى، فالمفتي والخطيب يتوليان التدريس، ولكن العكس غير صحيح. ذلك أن أكثر المدرسين لم يكونوا مفتين ولا خطباء، وإنما كانوا يلقون
(1) نفس المصدر، 283 عن ابن المفتي.
(2)
الفكون (منشور الهداية) مخطوط.
(3)
العياشي (الرحلة) 1/ 20، 46.
(4)
الفكون (منشور الهداية) مخطوط.
دروسهم ثم يعودون إلى منازلهم. ولا شك أن تنافس العلماء على وظيفة التدريس كان أقل من تنافسهم على الوظائف الأخرى، ان التدريس كان أكثر مجلبة للفقر. وتجدر الملاحظة إلى أن بعض المدرسين كانوا يعملون كل الوقت وبعضهم كان يعمل بعض الوقت. وكان مدرسو المدن الكبيرة يعينون من قبل السلطة الحاكمة، أما من الباشا أو من خلفائه في الأقاليم (1).
وكان لقب العالم يطلق أيضا على بعض الفئات الأخرى في المجتمع. ولنذكر هنا من ذلك ثلاثة أنواع، الأول كتاب الإنشاء أو الخوجات، والثاني المثقفون الأحرار، والثالث المرابطون. فأما النوع الأول فقد كان أصحابه يكتبون للباشوات والبايات ويسجلون محاضر جلسات الديوان والمفاوضات والمعاهدات مع الدول الأخرى. وكانوا يتبعون تحركات الباشوات والبايات في حلهم وترحالهم ويسجلون أخبارهم وأعمالهم. ورغم أن هذا النوع يدخل فيما نسميه اليوم بالإدارة والبيروقراطية فإن انتماء أصحابه إلى أهل العلم يجعلنا نتحدث عنهم هنا وندرجهم ضمن فئة العلماء. وأما النوع الثاني (المثقفون الأحرار) فلا ريب أنهم يندرجون في فئة العلماء أيضا ولكن غير الموظفين. وكان هؤلاء أكثر كفاءة من زملائهم الفقهاء في الغالب. كما كانوا في ثورة دائمة على السلطة وعلى زملائهم الموظفين من جهة أخرى، بل إن بعضهم كانوا يحذرون من خدمة الحكام ويعتبرون خدمتهم بيعا للضمير وسقوطا للعلم. وإذا ضاقت الأرض ببعض هؤلاء كانوا يهاجرون من الجزائر تماما كما فعل أكثر من واحد. وأخيرا هناك المرابطون الذين خصصنا لهم فصلا بعد هذا.
وبالإضافة إلى المهمات التي ذكرناها كان العلماء يقومون بأعمال أخرى كالسفارة. ومن أقدمها سفارة محمد بن علي الخروبي الطرابلسي إلى
(1) رغم أن المؤذنين والحزابين والمسمعين لا يدخلون ضمن تعبير (العلماء) فإن لهم صلة قوية بهم ويعيشون في ظلهم، وهم يمثلون عددا كبيرا من رجال الدين ويأخذون رواتبهم من الوقف ويخضعون في التعيين لشروط غير دقيقة.
المغرب أكثر من مرة مبعوثا من باشوات الجزائر إلى سلاطين المغرب لتحديد الحدود وتأمين العلاقات بين البلدين. وقد صادف الخروبي في المغرب استقبالا حافلا وكان ذلك في القرن العاشر. وتتحدث الأخبار أيضا عن سفارة قام بها القاضي محمد القوجيلي إلى إسطانبول سنة 1065. ونحن إذا كنا لا ندري الآن فحوى هذه المهمة بالضبط فإن القوجيلي قد جاء على لسانه أنه ذهب إلى إسطانبول مقر الخلافة في شأن (الأهوال) التي مرت بها الجزائر عندئذ (1). ومن أشهر السفارات التي قام بها العلماء بسفارة محمد بن العنابي إلى المغرب الأقصى عقب حملة أكسموث الإنكليزي سنة (1816) 1231، حين أرسله عمر باشا لطلب المعونة العسكرية من السلطان سليمان. كما أننا نعرف أن ابن العنابي قد قام بغارة أخرى إلى إسطانبول سنة 1232، ولعلها كانت لنفس الغرض الذي ذهب من أجله إلى المغرب (2).
لقد كان العلماء يعيشون في دائرة اجتماعية ضيقة. فهم قبل كل شيء يعتبرون أهل حضر يسكنون المدن ويفكرون بالمادة ويتعلقون بالمصالح التي تدر عليهم المال والجاه. وكانت لديهم مشاعر الترفع على علماء الريف (3). حقا ان عددا منهم قد جاء من الأرياف كجبل زواوة وميلة ونقاوس والونشريس وغيرها. غير أن العائلات الحضرية العريقة كانت تعارض تولي علماء الريف الوظائف الكبيرة، وكان هذا واضحا في قسنطينة وتلمسان. أما في العاصمة فقد كان الأمر يختلف لأنها كانت مدينة مفتوحة كما أشرنا
(1)(ديوان ابن علي) مخطوط. والغالب أنه يشير بذلك إلى آثار ثورة ابن الصخري ومنازعات الأوجاق على السلطة.
(2)
لم تكن ظاهرة استخدام العلماء في السفارة خاصة بالجزائر، فقد كان سلاطين آل عثمان يفعلون ذلك. ومن العلماء المغاربة الذين قاموا بالسفارة الوزير الغساني في القرن الحادي عشر وأحمد الغزال في القرن الثاني عشر. ومن زعماء تونس إبراهيم الغرياني ومحمد تاج العارفين في القرن الحادي عشر.
(3)
ساق ابن حمادوش في رحلته مثالين على الأقل على غرور علماء الريف في نظره في علمهم وضحالة معلوماتهم بالمقارنة إلى علماء المدن. وكان ابن حمادوش من علماء الحضر. كما يجد المرء في كتاب أبي راس لمحات من ذلك.
وكانت تستقبل ليس علماء الجزائر فحسب ولكن أيضا علماء المغرب وتونس وإسطانبول وسورية وتمنحهم الإقامة والوظائف. وكانت معسكر أيضا مدينة مفتوحة كعاصمة للإقليم الغربي، لكنها كانت تفتقر إلى التقاليد المحلية العريقة فكان يتوافد عليها العلماء من نواحي كثيرة ولم يتطور فيها الشعور بمضادة علماء الريف أو الغرباء.
ومن مظاهر عيش العلماء في دائرة ضيقة توريثهم الوظائف لأبنائهم وأقاربهم. وقد عرفنا أن المفتي سعيد قدورة قد أناب عنه ابنه محمدا، رغم صغر سنه، في الخطابة بالجامع الكبير. وبعد وفاته أصبح محمد هو المفتي الرسمي وظل في ذلك الوظيف حوالي أربعين سنة ثم خلفه أخوه أحمد، وهكذا. وولي المفتي محمد بن إبراهيم المعروف بابن نيكرو، ولديه خطة الخطابة (ليراهما ويسر بهما). وقد تولى محمد خوجة بن مسلم الخطابة بعد والده. وكانت عائلة ابن العنابي تتوارث الإفتاء والقضاء خلال قرن من الزمن، كما كانت عائلة ابن باديس والفكون في قسنطينة. وحين تولى الشاعر ابن علي الإفتاء الحنفي 1150 هـ، كان مستندا على تاريخ جده الذي تولى القضاء قبله بحوالي قرن، وبالإضافة إلى ذلك هناك شبه احتكار للوظائف في أسرة واحدة مدة طويلة. فالشيخ ابن الأمين كان قد تولى الفتوى عدة مرات، يعزل منها ثم يعاد إليها. وكذلك كان الحال بالنسبة إلى عائلة ابن الشاهد وعائلة ابن جعدون. وهذا يعود بدون شك إلى تغيير الحكام أنفسهم بسرعة. فالباشا كان يعزل العالم من وظيفته ويعين بدله آخر، فإذا جاء الباشا الجديد عزل العالم الذي وجده وأعاد الأول إلى وظيفته، وهكذا.
وبالإضافة إلى علاقة البنوة والأخوة في الوظيف هناك علاقة المصاهرة، ذلك أن مراجعة تاريخ الأسر العلمية تكشف عن العلاقة العائلية بينها، ولا سيما المصاهرة. فعائلة قدورة كانت تصاهر عائلة المرتضى، وهي عائلة كانت فيها نقابة الأشراف. وكانت بين عائلة الزهار، وهي من الأشراف أيضا، وعائلة ابن المبارك بالقليعة، وهي أسرة مرابطين، مصاهرة أيضا. ويذكر الفكون أن زوج ابن المفتي أحمد بن باديس كانت
أختا لوالدته. كما ذكر أنه هو شخصيا كان متزوجا من إحدى بنات المفتي أحمد بن حسن الغربي. وقد مر بنا أن عمر الوزان قد تزوج من عائلة ابن آفوناس. وكان محمد بن نعمون صهرا لعبد اللطيف المسبح. وكلاهما من أسرة علمية في قسنطينة. كما كانت بين أسرة المقري وأسرة الونشريسي مصاهرة.
وكان العلماء، وخصوصا الموظفين منهم، ينقمون على المتصوفة ويعتبرون بعضهم انتهازيين وزنادقة، ورغم حماية السلطة لمعظم رجال الطرق وكبار الصالحين فإن العلماء (الفقهاء) كانوا ينظرون شزرا إلى نشاط المتصوفة، ولا سيما أدعياء التصوف في العهود الأخيرة. ومع ذلك فقد كان معظم العلماء منتمين إلى الطرق الصوفية. وبالمقابل كان المرابطون يضيقون ذرعا بعقلانية العلماء وماديتهم وتزلفهم للسلطة (1).
وكثيرا ما كان العلماء الزهاد والمتصوفة يتنهدون أسفا على ضياع العلم وسقوط الفقه بل وذهاب شروط التعليم (2). وامتلأت (قدسية) الأخضري بالنقمة على المتصوفين المنحرفين. وكان ابن حمادوش، وهو من العلماء العقلانيين قد عرض عدة مرات بالخروج عن جادة العلم إلى التصوف. وأكبر ثورة على أدعياء التصوف والمتاجرة بالدين، يمثلها عبد الكريم الفكون صاحب (منشور الهداية) رغم أنه لا يذكر ما يسميه بالتصوف الحقيقي. أما ابن العنابي فقد أفتى بقتل من سماهم بالدراويش والزنادقة الذين أضروا في نظره بالدين، ودعا الحكام المتنورين إلى محاربتهم، بل اعتبر تصفيتهم جهاد (3). ويمكننا أن نذكر من العلماء العقلانيين أيضا الشاعر المفتي ابن علي والمفتي الأديب أحمد بن عمار. ومهما كان الأمر فإن المثقفين في
(1) من هؤلاء الحسين الورتلاني، ورحلته مليئة بالتعريض بالسلطة والعلماء الموظفين معا. وكذلك يجد المرء في (كعبة الطائفين) نماذج على ما نقول.
(2)
نسب ذلك إلى الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية.
(3)
انظر كتابنا (المفتي الجزائر ابن العنابي)، الجزائر، 1977. و (السعي المحمود) تحقيق محمد بن عبد الكريم.
الجزائر العثمانية كانوا على الأقل قسمين: أهل الدنيا وأهل الآخرة (1).
وقد كان العلماء في حركة مستمرة داخل البلاد لطلب الوظيف أو لطلب العلم أو للهروب من وضع معين حتى تنجلي السحب. وهناك حوادث كثيرة تدلنا على هذه الحركة المفيدة. ذلك أن بقاء المثقفين في مكان واحد يركد مواهبهم ويحول اهتمامهم من الأمور الإسلامية والدولية إلى الأمور المحلية والشخصية. وهناك نقطة أخرى تتعلق بحركة العلماء داخل القطر، وهي كسر الحواجز الإقليمية وبداية ظهور الثقافة الوطنية. وأكبر حركة كانت من الأرياف إلى المدن. فالمدينة كانت تمثل مركز تجمع ثقافي لا يمكن أن يوجد في الريف: من علماء وكتب ومناظرات وزوار وأخبار ومحاضرات ونحو ذلك. وفي تراجم الفكون عدد من الأسماء التي انتقل أصحابها من قسنطينة إلى العاصمة طمعا في الوظيف وخدمة الأمراء، وفيها أيضا عدد من الأسماء التي ورد أصحابها على قسنطينة من زواوة والعاصمة ونقاوس وبجاية. وقد تنقل الورثلاني في أنحاء الجزائر كما جاء، في رحلته. وزار أبو راس عددا من المدن والمراكز العلمية، كما أخبر بذلك عن نفسه. وهام عيسى الثعالبي في أنحاء القطر وأخذ العلم أثناء ذلك عن الأنصاري في العاصمة وعن محمد التواتي في بسكرة. وفي كتاب (البستان) لابن مريم أسماء لبعض العلماء الذين توجهوا من تلمسان إلى زواوة لطلب العلم، وكان محمد الزجاي يتنقل بين معسكر وتلمسان، وقد قصد الشاعر القرومي مدينة معسكر قادما إليها من قرومة نواحي وادي يسر. وتوجه المفتي محمد بن بوضياف إلى العاصمة وأقام بها مدة. كما جاء أحمد المقري إلى العاصمة ودرس بها، وهكذا.
وكانت المراسلات بين العلماء من أهم وسائل الاتصال بينهم، وفي المراسالات تبادل للمعلومات وحفظ للعلائق الودية ووضوح للمسائل العلمية الغامضة. وكان بعض العلماء يتبادلون الألغاز ونحوها، وفي رحلة ابن
(1) انظر المزيد عن هذه النقطة في الفصل الخاص بالمرابطين.