الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحسين الورتلاني وأبي راس ومحمد الزجاي، وبعضهم يظل في مهجره.
وقد زاد من المخاطر التي كان العلماء يتعرضون إليها، بالإضافة إلى ما ذكرناه، كثرة الأوبئة والنكبات الطبيعية. وإذا كانت هذه النكبات تترك آثارها على كل الناس وتصيب كل المجتمع فإنها بدون ريب كانت تترك آثارا أخطر على فئة العلماء، لأن (الكرام قليل) وعدد المثقفين كان قليلا حقا. وتتحدث كتب التراجم عن العلماء الذين أودى بحياتهم الطاعون. فصاحب (البستان) يذكر الطاعون الذي حدث سنة 981 ووفيات العلماء الذين كانوا ضحية له، أمثال محمد أبو السادات، ومحمد الجابري، ومحمد بن موسى الوجديجي. ويذكر الفكون أيضا الطاعون الذي حدث سنة 982 وسنة 1031 ويذكر ضحاياهما من العلماء أمثال شيخه محمد التواتي وأحمد بن ثلجون وبركات المسبح وعبد اللطيف بن عبد الكريم بن سعيد. وهناك مصادر أخرى تتحدث عن أثر الوباء على العلماء مثل رسالة (أنيس الغريب والمسافر) لمسلم بن عبد القادر. فإذا أضيف ذلك إلى عوامل السجن والنفي والإعدام والإبعاد عن الوظائف السياسية ونحوها أدركنا الجو الذي كان يعيش فيه علماء الجزائر في العهد العثماني وأدركنا بالضرورة أنه لم يكن جوا يساعد على الاستقرار والإنتاج الثقافي.
العلماء المسلمون في الجزائر
من الصعب تحديد عدد العلماء المسلمين الذين وردوا على الجزائر خلال العهد العثماني وبيان وظائفهم وذكر بلدانهم ونوع ثقافتهم وأهدافهم. فالعالم الإسلامي كان وطنا واحدا يتنقل فيه العالم من طرفه إلى طرفه الآخر دون أن يسأله أحد أين هو ذاهب. وكان العلماء من حيث المبدأ لا وطن لهم، فهم حيث مصالحهم الخاصة والعامة. ومع ذلك فقد وجدت ظروف ساعدت على هجرة العلماء من بلد إلى آخر. وقد عرفنا منها الظروف السياسية والاقتصادية وطلب العلم.
وكان العلماء يترددون على الجزائر ويعملون فيها حتى قبل مجيء العثمانيين. فقد نزلها علماء الأندلس قبل نكبة 897 (1492) وبعدها (1). ورافق بعض العلماء الحملات العثمانية على سواحل المغرب العربي، كما رافقوا الباشوات الذين عينوا من إسطانبول لإدارة البلاد وتمثيل السلطان. وكان بعض هؤلاء العلماء موظفين رسميا كالقاضي الحنفي. ولكن بعضهم كان يأتي بدون تعيين. فهو باحث عن الفرص والمال أو عن نشر العلم والطرق الصوفية. وكان بعض العلماء يتعاطون أيضا التجارة في بلدانهم فجاؤوا إلى الجزائر إما للاستمرار في التجارة وإما للتدريس بدلها. ولم يكن كل العلماء الذين وردوا على الجزائر على جانب كبير من العلم والنزاهة فقد كان فيهم المغامر والانتهازي ودعاة المذاهب السرية. وكان بعضهم قد استقروا في الجزائر ولم يعودوا إلى بلدانهم. فقد كانوا يتزوجون ويظلون مع أزواجهم وأطفالهم حتى بعد الانتهاء من الوظيفة التي عينوا للقيام بها - وقد ذكر ابن المفتي عددا من هؤلاء. ومن العلماء القادمين على الجزائر من لم يكن عالما بمعنى الكلمة وإنما كان في ركاب أهل العلم كالخطاطين والنساخين والوراقين وغيرهم. وقد ذكرنا بعضهم فيما مضى (2).
وقد ظل بعض رجال العلم العثمانيين يأتون إلى الجزائر حتى بعد تقادم العهد. ففي النصف الثاني من القرن الحادي عشر ورد على الجزائر في ظروف غامضة أحد القضاة، وهو القاضي المولى علي، الذي يبدو أنه كان يتمتع بشهرة دينية واسعة، حسب رواية الفكون. فقد قال عنه إنه جاء إلى قسنطينة زمن السلطنة الأحمدية (أي السلطان أحمد 1013 - 1027) فهرع إليه عسكرها وواليها وعظموه تعظيما لا نظير له. ونزل هذا القاضي عند الفكون باعتباره (شيخ الإسلام) في قسنطينة. وكانت له مكتبة ضخمة ينقلها معه، وله مشاركة في علوم كثيرة، ومن قسنطينة توجه القاضي إلى مدينة
(1) عن هجرة العلماء المسلمين قبل العهد العثماني انظر الفصل الأول من هذا الجزء.
(2)
انظر فقرة المكتبات من الفصل الثالث.
الجزائر وأقام بها وصار له هناك صيت عظيم. واستقل أياما بالإمارة حتى صدر الأمر عن نظره. وقد تزوج بمدينة الجزائر أيضا وأصبح من أهلها. ولكن الدائرة دارت عليه. فهل جاء المولى علي ليعيد نفوذ السلطان لدي الأوجاق إلى سالف عهده ففشل؟ أو هل كانت له أغراض أخرى لم يكشف عنها إلا للمقربين إليه؟ وعلى كل حال فإن السلطات العثمانية قد قلبت له ظهر المجن بعد أن عرفت غرضه، فامتحنته امتحانا عسيرا ثم نفته من الجزائر، بل أخرجه عسكر الجزائر (وهم الأوجاق) عن أهله وماله، فذهب إلى تونس حيث توفي (1).
ومن الأتراك الذين وردوا على الجزائر في العهد العثماني الأخير الشيخ مصطفى خوجة، فقد حل بها سنة 1168 وعين منذ وصوله إماما لجامع خضر باشا حيث ظل ثماني عشرة سنة. ثم تولى وظائف أخرى إدارية مثل حامل الراية وكاتب التذكرات، وشارك شخصيا في الحرب ضد الأوروبيين أثناء حملة أوريلي الشهيرة على الجزائر، وبالإضافة إلى الإمامة والجهاد ألف بعض التآليف بالتركية عن الحوادث التي جرت أمامه وعاشها. ومن ذلك كتابه (التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر والملوك)(2) و (رسالة مضحكات وعجائبات)(3)، وهي عن الصلح بين الجزائر وإسبانيا. ولا ندري بأية لغة
(1) قصته في الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. وإذا أخذنا في الاعتبار تاريخ تولية السلطان أحمد فإن القاضي العثماني يكون قد جاء إلى الجزائر قبل 1027.
(2)
توجد منه نسخة مخطوطة بالجزائر، وهي التي اعتمدت عليها تيريز شلابوا في دراستها وترجمت أكثره إلى الفرنسية. انظر مجلة (فوليا أوريانتاليا) البولندية، 1976، 101 - 116، وسنة 1977، 49 - 64.
(3)
وهي رسالة في ثلاث عشرة ورقة بتاريخ 1200 ومعها عبارة ألفه بالتركية مصطفى خوجة إمام جامع خضر باشا سابقا. وقد اطلعنا عليها في مكتبة توبكابي بإسطانبول وهي برقم 1412. ولها مقدمة ضعيفة بالعربية تبدأ هكذا (الحمد لله الذي أنعم علينا بأنواع النعم .. أما بعد فإني أردت أن ألف تاريخا أبين مصالحة الجزائر مع إسبانيول بعد ما استولى على الجزائر ثلاث مرات، واحدة منها في البر واثنين (كذا) منها في البحر، وهزمهم الله بأنواع التهزيمات ..) والتاريخ المذكور (وهو سنة 1200) هو تاريخ نسخها بيد الحاج محمد طاهر.
كان مصطفى خوجة يؤم الناس ويخطب عليهم ما دام قد ألف بالتركية. ولذلك قلنا في أكثر من موضع بأن الوظائف الدينية في الجزائر لم تكن تسند دائما إلى أهلها.
وقد ارتبط محمد بن علي الخروبي الطرابلسي بالعثمانيين في الجزائر من أول عهدهم وخدمهم بإخلاص حتى كانوا يثقون فيه كل الثقة. ومن الجزائر ذهب إلى المغرب في مهمات سياسية وعلمية. فدخل فاس ودرس فيها وأجاز بعض علمائها كمحمد الحضري الزروالي، ثم توجه إلى مراكش وترك هناك خزانة كتب ضخمة، وكانت معرفته بالمغرب وبعلمائه هي التي أهلته، مع ثقة العثمانيين فيه، ليتولى السفارة باسمهم لدى سلاطين المغرب السعديين وعلى رأسهم محمد المهدي الشيخ. فقد ذهب الخروبي هناك على الأقل مرتين، منها واحدة سنة 961، لعقد الهدنة وتحديد الحدود. وكان الخروبي قد أخذ العلم بالجزائر أيضا حيث يذكر بعض من ترجموا له أنه درس على محمد بن عبد الله الزيتوني وأحمد بن عبد الرحمن زروق ومحمد بن مرزوق وعبد الرحمن الثعالبي (1) وعن تلاميذ محمد بن يوسف السنوسي. وجميع هؤلاء من أقطاب الزهد والتصوف في الجزائر. فلا غرابة إذن أن يسير الخروبي على نهجهم، بل يبالغ حيث اعتدلوا. وقد تولى أيضا في الجزائر بعض الوظائف كالخطابة واشتهر بجمع الكتب. وله مؤلفات عديدة معظمها رسائل وشروح لا تخرج عن الأوراد والطرق الصوفية (2). ومهما يكن من أمر فإن نشاط الخروبي قد ساعد على إرساء قواعد الحكم العثماني في الجزائر.
(1) لا شك أن المقصود هم تلاميذ الثعالبي، وذلك أن الثعالبي قد توفي سنة 875.
(2)
انظر دراسة المهدي البوعبدلي عنه (المجلة الإفريقية) 1952، 330، وعباس بن إبراهيم (الإعلام بمن حل مراكش) 4/ 150. وقد علمت أن عمر مولود عبد الحميد الليبي قد خصص للخروبي رسالة دكتوراه وطبعها سنة 1977. وما زلت لم أطلع عليها. وقد توفي الخروبي في الجزائر ودفن بها سنة 963 ويقال إن سبب وفاته هو الوباء الذي حصل في هذا التاريخ. وللخروبي تفسير للقران الكريم.
وفي أوائل القرن الثاني عشر قدم إبراهيم القنيلي الطرابلسي أيضا على الباشا محمد بكداش ومدحه بقصيدة (1). ولا ندري كم أقام القنيلي في الجزائر ولا الوظائف التي تولاها إن فعل.
وكما كان العثمانيون يرسلون علماء مسلمين غير جزائريين في مهمات سياسية خارج الجزائر كانوا أيضا يستكتبون بعضهم في ديوان الإنشاء ونحوه. وقد عثرنا على نموذج من المراسلات التي دارت بين الباشا عثمان سنة 1064 (2) والسلطان محمد بن الشريف السجلماسي. وكان كاتب رسالة الباشا هو السيد المحجوب الحضري الذي لا نعرف عنه الآن أكثر من هذا. ولعله كان من العلماء غير الجزائريين. وقد جاء في الرسالة أن الباشا قد أرسل وفدا إلى السلطان الشريفي فيه عالمان وقائدان. والعالمان هما: عبد الله بن عبد الغفار النفزي والحاج محمد بن عبد العالي الحضري المزغناي المغراوي (3).
ومن أهل تونس الذين تولوا الوظائف في الجزائر في عهد الباشا محمد بكداش، أبو حفص عمر بن محمد الذي تولى قضاء العسكر والذي أكد ابن ميمون عن قصد أنه كان تونسي الدار والمنشأ (4). كما أن محمد زيتون
(1) انظر شرح الجامعي على الحلفاوية، مخطوط باريس 5113 ورقة 24. والمعروف من سيرة محمد بكداش أنه ذهب إلى طرابلس قبل استيلائه على الحكم في الجزائر.
(2)
عدنا إلى القائمة التي ذكرها ابن حمادوش في رحلته لولاة الجزائر فلم نجد من بينها من تولى باسم عثمان في هذا التاريخ. ولعل عثمان هذا كان خليفة من الخلفاء الذين كانوا يملأون الفراغ لحين تعيين الباشا.
(3)
المراسلة بنصيها، الجزائري والمغربي، توجد في المكتبة الملكية بالرباط رقم 4485 مجموع. انظر أيضا (الاستقصا) 7/ 22 - 26. ولفظة (المزغناي) تدل على أنه من مدينة الجزائر ونواحيها، فإذا كان قريبا من محجوب الحضري، كاتب المراسلة، فإن هذا يكون من الجزائر أيضا.
(4)
ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 53.
التونسي قد تولى القضاء الحنفي في زمن شعبان خوجة باشا (1). ولا ندري ما إذا كان أحمد بن مصطفى برناز التونسي أيضا قد تولى الوظائف في الجزائر، غير أننا نعلم أنه قد تجول فيها والتقى بعلماء قسنطينة وزواوة والجزائر وعنابة. وجاء في رحلة ابن حمادوش بعض أسماء لعلماء تونسيين وردوا على الجزائر، وخصوصا محمد الشافعي الباجي (2). وكان محمد الشافعي وأحمد الأصرم القيرواني يبثان العلم في الجزائر مدة طويلة، وقد شرح الأول قصيدة محمد باي في المديح النبوي (شرحا بديعا في جزئين من أمتع كتب الأدب)(3)، أما الفكون فقد ذكر المراسلات التي دارت بينه وبين بعض علماء تونس مثل القاضي إبراهيم الغرياني ومحمد تاج العارفين.
ولعل مغامرات الشيخ فتح الله تعتبر نموذجا لورود علماء المسلمين على الجزائر في العهد العثماني. فقد عاش حياة متقلبة في المشرق وفي الجزائر تدل على أنه كان يبحث عن الجاه والمال أكثر مما كان يظهر علمه ليستفيد منه الناس. وقد وجد الأرض ممهدة له والاستعداد لاستقباله. فأصبح قاضيا ومفتيا وخطيبا، وكاد يدعي أشياء أخرى تصوفية. وقد ولد فتح الله (ولا يعرف حتى اسمه بالضبط) في سورية ونشأ بها ثم رحل بعائلته إلى مصر. وبعد برهة لم يجد فيها ما كان يصبو إليه فرحل إلى الجزائر وسجل أولا في دفتر الباشا حتى يكون له نصيب من عطاياه باعتباره من العلماء الفقراء والغرباء وباعتباره أيضا ينتمي إلى المذهب الحنفي. ولعله وجد الزحام على المناصب القليلة شديدا في مدينة الجزائر فتوجه إلى قسنطينة التي كانت بحق العاصمة الثانية، وتزوج بها وسعدت حاله وابتسم له الحظ ووجد
(1) ذكر ذلك ابن المفتي. انظر ديلفان (المجلة الآسيوية)، 1922، 206. وقد تولى شعبان خوجة 1101.
(2)
كان من العلماء الشعراء وقد رافق محمد باي بن حسين. وجاء في (إتحاف أهل الزمان) لابن أبي الضياف أن هذا الباي قد رافقه عالمان هما الشافعي وأحمد الأصرم القيرواني (وكانت حرفتهما بالجزائر بث العلم وصناعة التوثيق). 2/ 146.
(3)
نفس المصدر، 2/ 157.
الأبواب مفتوحة لجميع الإدعاءات فأصبح خطيبا. وهذه المهنة لا تحتاج إلى علم غزير في وسط غير مثقف ولا سيما من رجل قادم من المشرق. ثم أصبح مدرسا وادعى أنه أستاذ في الفلك والأدب والحديث ونحو ذلك.
ولم يقتصر نشاط الشيخ فتح الله على ادعاء العلم بل ادعي أيضا معرفة الكشمير وصباغة الحرير ومحلول العطور. ومعنى ذلك أنه جمع بين العلوم والحرف. وتطور به الأمر فاتصل بأرباب السلطة وأصبح خطيب جامع القصبة وناظر مدرسة سوق الغزل ثم خطيب جامع سيدي الكتاني، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. وقد وصل به الأمر أن صار مفتي الحنفية عدة سنوات وتولى وكالة الأوقاف سنتين وقضاء الحنفية. وكان مجيئه إلى قسنطينة قبيل 1185 (1). وياما أكثر العلماء الذين ادعوا العلم والولاية والمعرفة الدينية والدنيوية في الجزائر وتسلموا أزمة الأمور وأصبحوا لا منازع لهم إلا من سلموهم السلطة طبعا! وقد ذكرنا من قبل قصة ورود حسين الجزائري الخطاط.
وقصة الشيخ فتح الله تذكر المرء بقصة ابن الأحرش المغربي الذي كاد يزعزع بثورته السلطة العثمانية في الجزائر أوائل القرن الثالث عشر. كما تذكرنا بالكثير من المغامرين المعروفين باسم (محمد بن عبد الله) الذين كانوا يظهرون من وقت لآخر كأنهم المهدي المنتظر أو رجل الساعة. فقد كان لعلماء المغرب حركة واسعة في الجزائر في العهد المدروس لأسباب عديدة، منها أن المنازعات السياسية على الحكم في المغرب كانت تؤدي ببعض العلماء إلى نشدان الهدوء والاستقرار في الجزائر كما حدث لعلي بن الواحد الأنصاري وأبي القاسم الزياني. ومنها أن مجالات العمل في الجزائر كانت مفتوحة أمامهم سيما وأن العثمانيين كانوا يفضلونهم على الجزائريين لأسباب سياسية تقتضي تقريبهم وكسب ودهم ليوم الحاجة. ومنها أيضا أن
(1) ما تزال قصة الشيخ فتح الله غامضة. ويمكن الرجوع عنه إلى (تاريخ حاضرة قسنطينة) لأحمد المبارك.
المغاربة كانوا يتخذون من الجزائر طريقا للحج بحرا وبرا. وكثيرا ما كانوا ينزلون بالمدن الجزائرية ويسألون عن العلماء ويختلطون بالناس ويشترون منهم ويجيزون ويستجيزون، كما سنرى. وكان بعضهم يأتي إلى الجزائر في مهمات دبلوماسية مثل وفادة الوزير الغساني (1) وأحمد الغزال (2). وأخيرا فإن سمعة بعض العلماء في الجزائر كانت تجلب إليهم الأنظار وتجعل بعض علماء المغرب يرحلون للأخذ عنهم كما فعل ابن زاكور. ولعل بعض هؤلاء العلماء كانوا أيضا يمارسون التجارة بين المغرب والجزائر أو يبثون المذاهب الصوفية بين الجزائريين. وعلى كل حال فإن هذه الأسباب وغيرها كانت تجعل الجزائر مجالا واسعا لعلماء المغرب. ولذلك فإن كثيرا من الكتابات في هذا العهد توجد في آثار علماء المغرب.
ويبدو أن اختلاف النظم السياسية بين المغرب والجزائر كان رحمة على العلماء. فبقدر ما كان سلاطين المغرب يقربون علماء الجزائر ويعطونهم مثاقيل الذهب ويوفرون لهم الكساء والسكن والاحترام، بقدر ما كان باشوات الجزائر يستقبلون بعض علماء المغرب ويقدمون لهم المال والوظيف والوجاهة. فهذا علي بن عبد الواحد الأنصاري قد جاء إلى الجزائر هروبا من أوضاع سياسية كان غير راض عنها. ومن المعروف أن المؤرخ والوزير أبا القاسم الزياني قد اختار الإقامة في الجزائر وأن معظم إقامته كانت في تلمسان لأسباب سياسية أيضا (3). وقد ألف بعض أعماله في الجزائر وعثر فيها على
(1) بعثه السلطان إسماعيل إلى الجزائر للمفاوضة بعد هزيمة الجيش المغربي في معركة المشارع عند وادي ملوية. وكان ذلك سنة 1103. وقد توفي الغساني سنة 1119، وهو صاحب (رحلة الوزير في افتكاك الأسير).
(2)
جاء الجزائر سنة 1182 في مهمة تتعلق بإطلاق سراح الأسرى الإسبان في الجزائر مبعوثا من السلطان. وقد توفي سنة 1191 بفاس. وهو تلميذ أحمد بن عمار كما سنذكر في حينه. وللغزال رحلة أيضا تسمى (نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد).
(3)
انظر الزياني (الترجمانة الكبرى) تحقيق: عبد الكريم الفيلالي، المغرب 1967، 144 وهنا وهناك.
مصادر نادرة حول تواريخ سكان المغرب العربي القدماء. ومنهم أيضان محمد الحاج رئيس الزاوية الدلائية. فقد جاء هو وأولاده إلى تلمسان حين قضى السلطان الرشيد بن الشريف على الزاوية وفرق جموعها وزعماءها. وقد قيل إن محمد الحاج قال لما دخل تلمسان (كنت وجدت في بعض كتب الحدثان أني أدخل تلمسان فظننت أني أدخلها دخول الملوك فدخلتها كما ترون) وقد توفي بها سنة 1082 (1).
والتمغروطي لم يقم في الجزائر طويلا ولم يتول فيها الوظائف كما لم يأتها غاضبا سياسيا ولا مفاوضا دبلوماسيا وإنما جاءها مارا أثناء سفارته لإسطانبول، ومع ذلك لقي بعض علماء الجزائر ووصف أحوالها المادية والسياسية. ولعل من مهمته السرية تقديم تقرير عنها أيضا إلى سلطانه. وعلى أية حال فإذا حكمنا مما كتب التمغروطي عن الجزائر فإن تقريره عنها سيكون غير مشجع للسلطان على حربه (2).
وبعض علماء المغرب قد توظفوا في الجزائر وأقاموا بها طويلا دون أن نعرف الآن سبب وجودهم بها. وكان بعضهم مثالا للدرس الكفء والاجتهاد والاستقامة، بينما كان آخرون مثالا لسوء الخلق والانتهازية والتملق. فالشيخ محمد التواتي الذي كان يلقب في المغرب بسيبويه لدرايته بعلم النحو قد رحل إلى الجزائر وهو عالم بالنحو والمنطق والبيان والأصول. وقرأ بزواوة وتولى التدريس في قسنطينة واشتهر أمره حتى قصده الطلاب من مختلف جهات القطر. وكان - حسب رواية الفكون - بعيدا عن الولاة يعيش من دروسه ومن حب تلاميذه له. ومن أشهر من تخرج عليه عبد الكريم الفكون صاحب (منشور الهداية)، فهو الذي حبب إليه النحو حتى أصبح بدوره أستاذا فيه. ويعتبر النحو والبيان والمنطق من العلوم العقلية التي قل طلابها لغلبة روح التصوف وعلوم النقل. ولعله هو الذي تتلمذ عليه أيضا عيسى الثعالبي
(1) الاستقصاء، 7/ 37.
(2)
انظر وصف التمغروطي للجزائر في الفصل الثاني. وكتاب مولاي بلحميسي (الجزائر في الرحلات المغربية).
الذي يقال إنه لازمه حتى أدركته الوفاة (1). ومع علمه وعزلته واشتغاله بالدرس لم ينج من لهيب السياسة. فقد قيل إن أحد المتهمين (ولعله من طلابه) قد فر إليه فآواه عنده فاتهم التواتي بإيواء الهاربين وكاد يفتك به ولاة قسنطينة لولا أنه فر إلى نقاوس وباجة بتونس حيث عانى من الحرمان والظلم إلى أن توفي بالطاعون، كما عرفنا، سنة 1031.
غير أنه ليس كل علماء المغرب كانوا على نمط التواتي علما وورعا.
فهناك المغامر أحمد الفاسي الذي طرق جميع الأبواب لينال حظوة باشوات الجزائر وبايات قسنطينة وقواد وشيوخ القبائل. ذلك أنه جاء إلى مدينة الجزائر ثم توجه إلى قسنطينة وكان فصيح اللسان حسن الخط شاعرا أديبا مداحا لأهل السلطة والجاه. وكان في بداية أمره ملازما للبادية يعمل كاتبا لبعض قواد عشيرة تعرف بالعبابسة، يمدحهم وينال منهم وكانوا أهل خيام وكرم. وقد وجد أحمد الفاسي في البادية من المال والوجاهة ما لم يجده في حاضرة قسنطينة. غير أنه لم يكن من العلماء بالمعنى الديني والأخلاقي للكلمة بل كان من المثقفين العابثين والأدباء الذين يعيشون حيث يجدون الملذات واللهو.
ومن أخباره أنه انضم في قسنطينة إلى جماعة كانت تسهر الليالي وتلهو بالطرب وشرب الدخان ونحو ذلك وتتظاهر بالخنا وتحب الشعر وتسمع الموسيقى وتتناول الخمور. وقد قال الفكون عن أحمد الفاسي إنه دخل (نادي أهل الفسوق وأعلنوا شرب الدخان وتظاهروا بالخنا وكانوا ينظمون الأشعار ويمدحون البندار، والمزهر والطار، ويذكرون سلافة الخمار، وكان الفاسي يثني على الخمر ويستدل عليها بأشعار من الصوفية فيها الكاس والسكر والحان والدنان). وكان الفاسي وجماعته يهجون من خالفهم من العلماء. ولا شك أن سلطة قسنطينة كانت تسكت على هذه الأحوال التي
(1) يقول العياشي إن الثعالبي قد درس على محمد التواتي في بسكرة بينما لم يذكر الفكون من البلدان التي ذهب إليها التواتي غير نقاوس وباجة. فلعل التواتي البسكري غير التواتي القسنطيني.
ينكرها العلماء الورعون قطعا. وعندما سمع علماء المغرب بما كان يفعل الفاسي في قسنطينة اعتبروه (خارجيا) وادعوا أنه يقول الشعر في سب آل علي بن أبي طالب (1).
وكانت كلمة (الفاسي) و (السوسي) قد شاعت في كتب التراجم المؤلفة في الجزائر خلال العهد العثماني. ومن ذلك محمد الفاسي الذي نزل أيضا قسنطينة وادعى أنه عالم بالفرائض والأسطرلاب فأنزله بعض علمائها مدرسة العائلة وبدأوا يأخذون عليه العلم فإذا هو عاجز لا يكاد يعرف شيئا. ومحمد السوسي الذي قدم أيضا من فاس، حسب ادعائه، ونزل أولا مدينة قسنطينة بعد رحيل محمد التواني عنها، ثم توجه إلى الجزائر، ومدح الباشوات ومن دونهم لكي ينال منهم الحظوة ووظيفة الفتوى. وقد تداخل هناك في السياسة وقال شعرا في باشا الوقت. وقيل إنه كان قبل ذلك يتزي بزي الأعراب ويتظاهر بأشياء غريبة هي أقرب إلى الدروشة منها إلى العلم. وكان قد جاء بقصد القراءة على علماء البلاد، فإذا به، وقد ساعده أولو الأمر، يصبح من المدرسين والمثقفين (2).
ولكن ليس كل من اسمه الفاسي كان على النحو الذي ذكرنا. فقد ورد على الجزائر من فاس علماء كان وجودهم بها خيرا وبركة، وكانوا في مهمات نبيلة. ومن هؤلاء عبد القادر بن أحمد بن شقرون الفاسي. فقد مر بالجزائر أثناء الحج ولقي بعض علمائها وتبادل معهم الرأي في بعض المسائل العلمية أمثال خليفة بن حسن القماري الذي لقيه في بسكرة سنة 1193، وقد اشتهر الشيخ خليفة بنظمه لمختصر خليل. وكان من عادة القماري الخروج من قريته
(1) انظر قصته في (منشور الهداية)، مخطوط. ولا ننسى ما قلناه من أن أحكام المعاصرين على بعضهم يجب أن تؤخذ بحذر.
(2)
نفس المصدر. وقد توفي محمد السوسي في الجزائر أثناء محاولته الحصول على وظيفة سامية. والظاهر أن وجوده بالجزائر كان أوائل القرن الحادي عشر. وليس غريبا أن يكون أمثال (السوسي) و (الفاسي) قد جاؤوا إلى الجزائر لبث مذاهب وأفكار معينة ولكنهم تغطوا بشتى الأغطية حتى لا تدركهم الأبصار.
قمار لملاقاة ركب الحج المغربي فيأخذ من علمائه ويأخذون منه. وفي السنة المذكورة اجتمع الرجلان وأطلع القماري زميله الفاسي على نظمه للمختصر فقرظه وأثنى عليه (1). وكذلك فعل الناصري الدرعي، صاحب الرحلة الكبرى، سنة 1195 حين التقى أيضا بالشيخ القماري في سيدي عقبة وقرظ نظمه وأشاد به (2).
وقد سجل العياشي والجامعي وابن زاكور مظاهر كثيرة من حياة الجزائر العلمية والاجتماعية والسياسية. فقد نال الجامعي حظوة لدى محمد بكداش باشا الذي تم على عهده فتح وهران الأول. وكان قد جاء بعد الفتح بقليل فوجد النفوس فرحة فساهم بذلك بشرحه على أرجوزة المفتي الحلفاوي التي تسجل أحداث الفتح. وقد أعجب الجامعي بالشاعر المفتي ابن علي والعالم الزاهد أحمد البوني والمفتي محمد الحلفاوي صاحب الأرجوزة. أما ابن زاكور فقد أخذ العلم عن جماعة من علماء الجزائر ذكرهم في رحلته وعاد منهم إلى بلاده بمجموعة من الإجازات. ولعل ابن زاكور قد حظي أيضا برضى رجال الدولة رغم أن ذلك غير واضح في رحلته (3) وممن كان يتردد على الجزائر أحمد الورززي التيطواني الذي كانت له شهرة علمية واسعة. وكان حر التفكير حتى رماه بعض معاصريه بالاعتزال. وقد وصف ابن حمادوش إحدى زيارات الورززي للجزائر سنة 1159. كما نعرف من مصادر
(1) من رسالة (إتحاف القارئ بسيرة خليفة بن حسن القماري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري، مخطوط. ويوجد التقريظ أيضا على نسخة من النظم المذكور في مكتبة المرحوم الصادق قطايم بقمار، ويبدو أنها النسخة الأصلية.
(2)
الدرعي (الرحلة الكبرى)، مخطوط مصور في الخزانة العامة بالرباط، د 2651، 497. وسنعود إلى الحديث عن آثار القماري في الفصل الأول من الجزء الثاني.
(3)
ولد محمد بن زاكور في فاس. وتوفي سنة 1120. وقد سبقت الإشارة إلى رحلة العياشي لأننا استفدنا منها في غير هذا المكان. كما مر أحمد بن ناصر الدرعي سنة 1121 بصحراء الجزائر وسجل عنها أمورا هامة، وهو الذي نقل عنه الحسين الورتلاني كثيرا وقد قام أدريان بيربروجر الفرنسي بترجمة ما جاء في رحلة الدرعي عن الجزائر.