الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واجتماعية. وقد ذكر السيد شيلر الذي عاش في مدينة الجزائر أكثر من خمس عشرة سنة أن فيها مدارس خاصة لتعليم البنات لم يشهدها هو ولكن الناس حدثوه عنها، وأن النساء هن اللائي كن يدرن هذه المدارس (1)، وقد شمل تيار تعليم المرأة حتى بعض الرسميين، ذلك أنه ورد في بعض الوثائق أن وزير البحرية (وكيل الحرج) قد جاء بمعلم العربية إلى داره ليعلم بنتيه فكانت واحدة منهما قد حفظت ثلث القرآن وتعلمت القراءة والكتابة وعمرها لا يزيد عن أربع عشرة سنة (2). أما المرأة الريفية فقد كانت أكثر ظهورا من المرأة الحضرية، وكانت تقوم بدورها الاجتماعي والاقتصادي بدون تحرج في حدود البيئة والتقاليد والدين، ولا شك أنها أيضا كانت تتلقى في صباها قواعد الدين ومبادئ القراءة على يد والديها إذا كانا من المتعلمين أو على يد مؤدب خاص أحيانا.
5 -
الكتب:
ومن أهم وسائل التعليم أيضا الكتب والمكتبات وقد تحدثنا عن المكتبات فيما مضى، وسنذكر في حديثنا عن الأساتذة أنهم كانوا يلجأون إلى توفير الإملاءات لطلابهم فنتج من ذلك عدد من التقاييد والحواشي والشروح، وهي جميعا تتحول إلى تآليف في مختلف الفروع. فالتعليم إذن كان باعثا على التأليف (3).
المناهج
1 -
في التعليم الابتدائي:
منذ كتب محمد بن أبي جمعة الوهراني رسالته (جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما بين المعلمين وآباء الصبيان) أوائل القرن العاشر لا
(1) شيلر (موجز تاريخ الجزائر)، 58.
(2)
ليون روش (اثنتان وثلاثون سنة في الإسلام) 1/ 19.
(3)
عن الكتاب كوسيلة في التعليم انظر فقرة أساتذة الثانوي، بعد قليل.
نعلم أن مؤلفا آخر قد تناول قواعد التعليم والتربية أو مناهج التدريس في الجزائر خلال العهد الثاني، وقد كانت طريقة التعليم الابتدائي بسيطة بساطة التعليم نفسه: فالمؤدب كان يجلس عادة في صدر الكتاب متربعا على حصير أو نحوه، مسندا ظهره إلى الجدار، مرتديا عمامة وجبة وفوقها أحيانا برنس، وبيده عصا طويلة تصل إلى أبعد تلميذ عند الحاجة، وكان يلتفت يمنة ويسرة يراقب حركات التلاميذ وأداءهم لواجبهم. وعندما يحين وقت الإملاء يملي المؤدب بصوت عال على من يسأله من التلاميذ، وأحيانا ينهر تلميذا آخر يراه عابثا أو ضاحكا، وهو يحرك رأسه آذنا لمن يسأله الدخول أو الخروج.
وكان التلاميذ يتحلقون حول المؤدب في نصف دائرة وإذا كثروا تتعدد الدائرة، وهم أيضا كانوا يجلسون متربعين على حصير أو نحوه قبالة المؤدب، وبيد كل واحد منهم لوحة كبيرة أو صغيرة حسب إمكانيات التلميذ وعمره، وعلى اللوحة البيضاء والملساء من تمرير الطين عليها، كتب درسان (آيات من القرآن الكريم)، فعلى الوجه الأول درس الأمس وعلى الوجه الثاني درس اليوم، وإذا حفظ التلميذ درس الأمس واستظهره على المؤدب أجاز له محوه وكتابة درس جديد، وبذلك يحل درس اليوم محل درس الأمس، وهكذا إلى أن يأتي التلميذ على القرآن كله كتابة وحفظا، وكان كل تلميذ يمسك بلوحته بيديه إما من جانبيها وإما من خيط مثبت في أعلى وسطها. وهو في جلسته يتحرك بجسمه ورأسه أماما وخلفا وأحيانا يمينا وشمالا، وهو يقرأ الآيات المكتوبة بصوت عال، ويشترك جميع التلاميذ في ذلك إلى أن تحدث جلبة وضجيج وتختلط الأصوات، فلا تعود تسمع آيات القرآن وإنما مجموعة من الأصوات المدوية المبعثرة التي تتمازج فيها آيات القرآن. وكان مداد الكتابة هو السمق الأسود المستخرج من صوف الضأن والمصبوب بعد حرقه في الدواة، أما الأقلام فأغلبها من القصب، ولا نظن أن الأطفال كانوا، كما قال بعضهم، يكتبون ألواحهم بالطباشير (1). ولم يكن
(1) شيلر، 57. هناك وصف آخر لجلسات المؤدب والأطفال في الكتاب تجده في الأجزاء الأخرى التي تتناول العهد الفرنسي.
الأطفال في هذه المرحلة يستعملون الورق للكتابة.
ويذهب التلاميذ إلى الكتاب مرتين في اليوم، صباحا ومساء، وفي كل مرة يبقون في الكتاب حوالي ساعتين. وقد جرت العادة أن الجلسة الصباحية هي المهمة لأن الاستظهار والمحو والكتابة من جديد تتم خلالها. فالتلميذ يغدو صباحا عند طلوع الشمس صافي الذهن فيأخذ لوحته ويقرأ فيها بعض الوقت ويستظهر درسه بنفسه أو بمعاونة زميله، فإذا وثق من أنه قد حفظ الدرس تقدم من المؤدب واستظهره (أو عرضه كما يقال في بعض الجهات) عليه، فإذا شعر المؤدب أن التلميذ قد تمكن من الحفظ أذن له بمحوه، ويذهب الأطفال الواحد بعد الآخر لمحو ألواحهم وتجفيفها في الشمس والهواء أو عند المدفأة، ثم يعودون بها مصقولة جافة ويجلسون بالقرب من المؤدب في غير نظام ويكتبون آخر الآية الموجودة في درس الأمس كبداية للدرس الجديد، ثم يستملون المؤدب بالنطق بتلك الآية بصوت عال فيكمل هو ويواصل الإملاء تلقائيا إلى أن يشير على التلميذ بالتوقف عندما يدرك أن ما كتبه يكفيه بناء على مستواه وسنه، وأحيانا يتوقف التلميذ نفسه عندما يأتي بالكتابة على آخر اللوحة، وعندما ينتهي التلميذ من مرحلة الإملاء يتراجع ويأخذ مكانه في الحلقة ويشرع في قراءة الدرس القديم. فإذا انتهى الجميع من الكتابة تحلقوا حول المؤدب، يكون الوقت الصباحي قد أوشك على الانقضاء ثم يبقى التلاميذ في انتظار الإشارة من المؤدب بالسراح، وذلك بضرب الحائط بالعصا مرتين أو ثلاثا. أما جلسة المساء فهي في الغالب بالحفظ بالطريقة التي وصفناها، في الدرس القديم استعدادا لاستظهاره ومحوه في صباح اليوم التالي، وهكذا. أما العطلة فقد كانت يومي الاثنين والجمعة.
وأخف أنواع العقوبة على التلميذ في هذه المرحلة هو التأنيب بالكلام وأقساها تسليط (الفلاقة) عليه، فالمؤدب قد يؤنب الطفل بكلمات جافة أو ينهره بقوة، وقد يضربه بعصاه على أصابع يده أو حتى على رأسه، وقد يكون المؤدب غير متوازن فيضرب التلميذ ضربا مبرحا أو عشوائيا فيرمي العصا في وجهه فيفقده عينا أو سنا أو نحو ذلك، وأغلب الآباء كانوا يرضون بتصرف
المؤدب، لأنه موضع ثقتهم، ويوجهون اللوم إلى التلميذ، وقد يقولون للمؤدب (العصا لمن عصى)، وهم يعنون بذلك أن الذي يستحق العقوبة هو العاصي أو المتمرد، ومن ثمة يستحق الضرب بالعصا، ولكن اللجوء إلى هذه المعاملة نادر جدا، وهو أساسا يعود إلى مزاج المؤدب، فإذا تكرر منه ذلك وكثرت ضده الشكاوي يعفيه الآباء من مهمته، كما سبق، كما أن اللجوء إلى الفلاقة لا يكون إلا في الأحوال النادرة حين يرتكب التلميذ خطأ كبيرا كالسرقة ونحوها، وتكون الفلاقة بوضع قدمي الطفل بين حبلين ممسوكين بعصا والضغط على القدمين بالحبلين حتى لا تنفلتان، ثم توقيع الضرب عليهما عشرا أو عشرين مرة أو أكثر وأحيانا حتى تدمى القدمان، ولا يستطيع المؤدب أن يقوم بهذه العملية وحده ولذلك يلجأ إلى كبار التلاميذ ليساعدوه عليها، وكثيرا ما أدت الفلاقة وقسوة المعاملة إلى هروب التلاميذ من الكتاب وانقطاعهم مؤقتا أو دائما عن التعليم في هذه المرحلة.
ومع ذلك فإن عددا من المؤلفين قد أشاد بالطريقة البيداغوجية الجيدة التي كانت متبعة في هذا المستوى من التعليم (1) فالعصا أساسا كانت تستعمل لإبقاء النظام وجلب الانتباه وليست للعقوبة وكانت العلاقة جيدة بين التلميذ والمؤدب، وهي تقوم على مبدأ احترام الصغير للكبير القائم عليه المجتمع كله، وعلى مبدأ آخر وهو احترام حفظة القرآن ورجال العلم من الجميع أيضا، وكان الآباء ينقلون، بالتقاليد، هذين المبدئين للأبناء، وتظل هذه العلاقة بين التلميذ والمؤدب محفوظة حتى عندما يصبح التلميذ رجلا مسؤولا فهو دائما ينظر إلى مؤدبه (أو شيخه) نظرة تجلة واحترام، يحييه ويقوم له في المجلس ويستشيره في الملمات، ويدعوه في المناسبات، ويذكره بعد الوفاة بعاطفة وتأثر. فهو حسب التقاليد، والده الروحي.
ويعتمد التعليم الابتدائي على الحفظ، فالتلميذ الذكي قد يختم القرآن حفظا وهو دون العاشرة. غير أن معدل سن حفظه كله هو الثانية عشرة
(1) بولسكي (العلم المثلث)، 22.
ويقضي التلميذ بقية السنوات (في العادة إلى الرابعة عشر أو أكثر) في تكرير القرآن على شيخه برواية ورش وقالون وغيرهما .. ومساعدته على التلاميذ الصغار، كما أنه يأخذ في إتقان الكتابة والقراءة وتعلم مبادئ الحساب وقواعد الدين وحفظ بعض المتون التي ستكون أساس تعلمه الثانوي، وخلال هذه المرحلة أيضا (الابتدائية) يتعلم التلميذ الخط ويجوده (1) وكان بعض المؤدبين يسلكون مع تلاميذهم مسلكا تربويا جيدا فيشاطرونهم ألعابهم ونحو ذلك، فقد روى محمد بن سليمان أن مؤدبه، وهو عمر بن يوسف، كان يخرج مع الطلبة يوم الخميس إلى المرجع خارج تلمسان ويلعب معهم الكرة (2).
ولولا الاحتفالات التي أشرنا إليها والتي تكون عند ختم القرآن أو عدة أحزاب منه لكان هذا التعلم مملا، فقد كانت تلك المناسبات الاجتماعية تخفف على التلاميذ، وعلى المؤدب أيضا، بعض الملل والرتابة، ذلك أن التلاميذ كانوا ينطلقون في شوارع الحي أو طرقات القرية في براءة ونشاط معلنين نجاح زميلهم ومرددين عبارات البشائر والتهاني، ثم يذهبون إلى منزله ليأكلوا ما أعدته لهم أمه وأهله الفرحون بالنجاح. ويشترك معهم في ذلك أهل الحي أو القرية، وقد تتهاطل الهدايا على المؤدب الذي بفضله نجح التلميذ، وكثيرا ما كانت الأمهات تفاخر بهذا الحادث وتنشد له الترنيمات والأغنيات فرحا بمستقبل أبنائهن.
ولم يكن الانتقال من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي يتم بطريقة منتظمة، فكثير من التلاميذ كانوا ينقطعون، ولا سيما أولاد الفقراء كما سبق
(1) شيلر، 58، وايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202. وقد ادعى هذا الكاتب أن تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن لم يكن سهلا على التلميذ لأن العربية (لغة أجنبية على الطفل) ولو درس ايمريت وأنصف لوجد أن تعلم الأطفال الجزائريين العربية وحفظهم القرآن بها كان يعود إلى كون المادتين (القرآن والعربية) تمثلان أساسا ثقافة المجتمع الجزائري.
(2)
محمد بن سليمان، (كعبة الطائفين) 3/ 284.