الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فترة معلومة قبل أن يسمحوا لها بالدخول إلى الميناء ولركابها بالنزول سواء كانت السفينة قادمة من بلاد إسلامية أو من بلاد مسيحية (1) وكانت أوروبا تفعل ذلك أيضا مع الجزائر، فقد كانت تغلق مراسيها في وجه السفن الجزائرية أو القادمة من الجزائر إذا ثبت انتشار الوباء فيه (2).
ولكن هذا لا يعني أن الولاة العثمانيين لم يلتفتوا البتة إلى النواحي الصحية. فقد قيل إن حسن باشا بن خير الدين قد بنى حماما في الجزائر على غرار حمام والده في إسطانبول وكان يدخر مدخوله لنفسه. كما قيل إنه بنى مستشفى أو اثتين. ولعل صالح باي ومحمد الكبير قد قاما بأعمال من هذا النوع أيضا. ولكن الملاحظ على هذه المنشآت أنها قليلة بل نادرة، وأنها لم تكن لمصلحة الناس عموما وإنما كانت لمصلحة منشئيها أو للعثمانيين فقط. غير أن الحمامات عموما كانت شائعة في المدن الجزائرية، وكانت من إنشاء أهل الحضر، وأهل الخير أيضا، بالإضافة إلى الحمامات المعدنية الطبيعية.
دور المدن
1 -
ولنذكر الآن نماذج للمدن الجزائرية خلال العهد العثماني، مبتدئين بالعاصمة. فقد تحولت هذه المدينة من مرسى صغير يلجأ إليه الصيادون ويأوي إليه المسافرون كمحطة ثانوية عند هبوب العواصف إلى مرسى كبير يستقبل مختلف السفن والبضائع ويقصده تجار الداخل والخارج على السواء. كما تحولت من قرية مجهولة وعرة المسالك معلقة على صدر الجبل إلى عاصمة للقطر كله كثيرة العمران وافرة السكان. ولم يكن للقطر الجزائري، قبل القرن العاشر، وحدة سياسية جغرافية كالتي عرفها بعد ذلك. ولذلك لم
(1) في رحلة ابن حمادوش خبر عن تطبيق الحجر على سفينة حجاج كانت قادمة من الإسكندرية.
(2)
أورد الأمريكي ناثانيال كاتنق الذي أرسله جورج واشنطن في مهمة خاصة إلى الجزائر أن أوروبا قد قطعت صلاتها بالجزائر إثر انتشار الطاعون فيها سنة 1793. انظر (المجلة التاريخية) - الأمريكية - 1860، 262.
يكن له عاصمة سياسية واحدة. فلم تكن مثلا تلمسان الزيانية ولا قسنطينة الحفصية عاصمة للقطر كله كما أصبحت مدينة الجزائر في العهد العثماني. وكان الموقع الوسطي لمدينة الجزائر وكونها مدينة بحرية ووقوعها عند المنافذ الجبلية الطبيعية المؤدية لمختلف الاتجاهات الأخرى في الداخل وتحصيناتها الطبيعية بالجزر التي كانت أمامها وبجبل بوزريعة الذي يحميها من جهة الجنوب الغربي ووادي الحراش الذي يحميها شرقا ثم موقعها عند سهل متيجة الغني الواسع - كل ذلك قد أهلها لأن تصبح عاصمة سياسية عن جدارة يصل سلطانها بسهولة إلى الجهات الثلاث المسكونة (الشرق والغرب والجنوب).
وقد نبهنا إلى أن الفضل في اتخاذها عاصمة سياسية يعود إلى الأخوين عروج وخير الدين بربروس. ولعل ذلك منهما كان بمحض الصدفة في بادئ الأمر. فالعثمانيون قد لبوا دعوة الشيخ سليم التومي، شيخ الثعالبة الذي كانت مدينة الجزائر عاصمة لأمارته، وقد احتل الإسبان الذين كانوا الهدف الرئيسي في النزاع مع العثمانيين مواقع أمامية لمدينة الجزائر. فوضع حامية، بعد طرد الإسبان، وإقامة جهاز حكم في مدينة الجزائر عندئذ قد جعلها تدريجيا عاصمة للنشاط العثماني بأسره في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط. ومن ناحية أخرى نذكر أن مدينة الجزائر قد أصبحت بعد ذلك منطلقا للاستيلاء على تلمسان التي كانت ما تزال في أيدي الزيانيين وعلى قسنطينة التي كانت ما تزال أيضا في أيدي الحفصيين. بل جعلها منطلقا للاستيلاء على تونس ومحاولة الاستيلاء على فاس. ولم يحن منتصف القرن العاشر (16 م) حتى أصبحت كل الجزائر الحالية ما عدا مدينة وهران ومرساها، في قبضة العثمانيين. ومن مدينة الجزائر كان ينطلق الهجوم على أوروبا أيضا حتى أصبحت هذه المدينة في نظر الأوروبيين مركز الرعب، وقد دعوها بأسماء مختلفة مثل جلادة المسيحية وعش القرصنة وغير ذلك من الأسماء التي كانت تثير عندهم الخوف والاحترام والكراهية أيضا. وقد كانوا يخيفون أطفالهم باسم الجزائر. أما عند المسلمين فهي الجزائر المحمية
والبيضاء والمجاهدة والمحروسة وغير ذلك من الألقاب الدينية والحربية.
ولم تكن مدينة الجزائر قبل العثمانيين خالية من العمران. حقا إننا لا نعرف بالضبط عدد مكانها ولا عدد منشآتها ولكن هناك أدلة على أنها كانت تضم الجامع الكبير الذي ما يزال قائما إلى اليوم، وعددا آخر من المساجد والزوايا والربط، بالإضافة إلى الحصون والدكاكين والمخازن والأسواق ونحو ذلك من أسباب العمران. وكانت أيضا موطنا لعدد من العلماء أمثال عبد الرحمن السطاح وأحمد بن هلال العروضي وعبد الله بن السكات ومحمد القلعي وأبي البركات الباروني وعبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري صاحب المنظومة الشهيرة (بالجزائرية)، وهو الذي ذكر مدينة الجزائر في الأبيات التي أوردناها في الفصل الأول والتي تدل على أنها كانت مدينة هنيئة العيش وافرة أسباب الراحة والعافية، ولكن الأحوال تغيرت عليها في وقته، ولذلك قال:
كدنا لأجل الحادثات بها
…
نختار، والله، للسكنى بواديها
من بعد عيش هني عم ساكنها
…
وبعد عافية حلت بناديها
ويبدو أن نمو مدينة الجزائر كان سريعا خلال القرن العاشر (1). ففي نهاية هذا القرن كان أهلها، وكذلك الرحالة والواصفون، يسمونها (إسطانبول الصغرى) لكثرة أسواقها وتجارها ووفرة عمرانها وسكانها. فقد وصفها التمغروطي عندئذ (سنة 999) بأنها كانت عامرة كثير الأسواق كثيرة الجند حصينة لها ثلاثة أبواب وفيها المسجد الجامع الواسع وإمامه مالكي، كما فيها ثلاثة جوامع خطبة أحدها للترك وإمامه حنفي ومرساها عامر بالسفن، وهي
(1) منذ حوالي منتصف القرن العاشر وصفها الكاتب والفنان نيقولاي نيقولاس بأنها آهلة جدا بالسكان حتى بلغوا ثلاثة آلاف موقد (حوالي 21 ألف نسمة) وفيهم الحضر والترك واليهود وغيرهم. وأخبر أن معظم الترك هناك هم مسيحيون اعتنقوا الإسلام، وأغلبهم أسبان وطليان وبروفونصال في الأصل. ولاحظ أنهم كانوا شرسي الطباع. انظر كتاب (تاريخ الترك العام) باريس 1662، 62 القسم الخاص بملاحظات نيقولاي.
أفضل من جميع بلاد إفريقية وأعمر وأكثر تجارا وفضلا وأنفذ أسواقا وأوجد سلعة ومتاعا حتى أنهم يسمونها إسطانبول الصغرى. وقد وصف التمغروطي جيش الجزائر عندئذ بأنه شجاع قوي الجأش يقهر النصارى في بلادهم وقال عن الجنود بأنهم (أفضل من رياس القسطنطينية بكثير وأعظم هيئة وأكثر رعبا في قلوب العدو) وعندما وصف ما حل بالسفينتين اللتين ثار فيهما الأسرى الأوروبيون على المسلمين أثناء توجههما إلى إسطانبول بهدايا الجزائر، قال التمغروطي بأن السفينتين كانتا بقيادة رياس من إسطانبول ولو كان رياسهما من الجزائر لما حدث لهما ذلك (1).
وبعد حوالي قرن حل بمدينة الجزائر أديب مغربي آخر فوصفها أوصافا أدبية تدل على ما وصلت إليه العاصمة عندئذ من عظمة وبهاء. فهي عند ابن زاكور ذات جمال باهر (غص ببهجتها كل عدو كافر، لذلك يتربصون بها الدوائر. ويرسلون عليها صواعق لم تعهد في الزمن الغابر) وقد عاين رواءها الذهبي وبحرها الأزرق فذكرته بيت الشاعر:
بلد أعارته الحمامة طوقها
…
وكساه حلة ريشه الطاووس
ففيها الحدائق الغناء والقصور الجميلة، وهي بيضاء في الصباح ذهبية في المساء. أما عن علمائها وفضلائها فقد وصفهم بالأعلام والأجلاء والأئمة الفضلاء الذين تفتخر بهم الأمة الإسملامية. وقد درس هو على بعضهم وأجازوه (2).
ونفس الأوصاف والإعجاب نجدها في كتابات عبد الرحمن الجامعي المغربي أيضا ومصطفى بن رمضان العنابي ومحمد بن ميمون وأحمد بن عمار، وجميعهم من أهل القرن الثاني عشر (18 م).
(1) التمغروطي (النفحة المسكية)، 139.
(2)
ابن زاكور (الرحلة)، 3. وقد لاحظنا أن قوة الجزائر الاقتصادية والسياسية بلغت ذروتها في القرن الحادي عشر (17 م). انظر (مختارات من الشعر العربي) من تحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1990.
والظاهر أن العاصمة في العهد العثماني كانت مدينة دولية (أو كوزمو بوليتان). فقد عرفنا أن سكانها كانوا من مختلف الأجناس، بالإضافة إلى أهلها الأصليين، وكان فيها أيضا مختلف الأديان واللغات. وكانت مفتوحة للتيارات الخارجية إلى حد كبير. وهي لذلك كانت توفر حاجات مختلف السكان. فقد كانت فيها المقاهي والبزارات والملاهي والحانات بل كان فيها البغاء المنظم عن طريق الدولة. ولا شك أن ذلك كان معمولا لسد حاجات الجند المفترض فيهم العزوبة، وكذلك حاجات غيرهم من الأجانب والجزائريين (1) أما الحانات فقد كان يديرها اليهود ويتردد عليها العرب والعثمانيون والأجانب (2).
وقد اختلفت وتضاربت الأقوال حول عدد سكان العاصمة في العهد العثماني غير أنه لا يمكن الوصول إلى رقم مضبوط لعدم توفر الإحصاءات الدقيقة. وكل ما يوجد عندنا هو مجرد تقديرات الرحالة الأجانب أو تخريجات الدارسين من سجلات رواتب الجنود وسجلات دفع الضرائب من السكان. وقد أشرنا إلى أن العاصمة قد تعرضت إلى جوائح أدت بدورها إلى هلاك عدد كبير من السكان وتسببت في عدم استقرار نسبتهم. ومهما كان الأمر فقد قدر الحسن الوزان عدد السكان بثمانية وعشرين ألف نسمة، وقدرهم نيقولاي في القرن العاشر (16 م) بواحد وعشرين ألف نسمة. أما فرنسيس نايت فقد قدرهم، أواسط القرن الحادي عشر، بحوالي ثلاثة وعشرين ألف نسمة، بينما قدرهم بعضهم، أواخر العهد العثماني، بحوالي مائة وعشرين ألف نسمة، وهناك إحصائية أخرى في نفس الوقت تحصرهم
(1) رغم، وجود البغاء المنظم والرسمي فإن الشذوذ الجنسي كان منتشرا بين الجنود العثمانيين. انظر فرنشيسكو خيمينث الأسباني في (المجلة التاريخية المغربية) 12، 1978، 199. ترجمة ونشر ميكال دي ايبالزا والهادي الوسلاتي. انظر أيضا شعر المنداسي في هجاء الترك. وكذلك تأليف جوزيف بيتز (حقائق) 17، وتأليف فرنسيس نايت (سبع سنوات) الخ.
(2)
حمدان خوجة (المرآة)، وبنانتي، 114.
في ثلاثين ألف نسمة فقط (1).
وكانت العاصمة تضم عددا من المؤسسات الدينية والعمرانية من ذلك المساجد والزوايا والقباب والثكنات، التي قدرها بعضهم بثماني ثكنات كبيرة (2)، وخمسة معتقلات كبيرة للأسرى المسيحيين وثمانية أبراج مسلحة بالمدافع، ولها خمسة أبواب، وحولها خندق عظيم. وكان فيها عدد من القصور والدور الضخمة أهمها قصر الداي الذي يتكون من قسمين كبيرين وفيه غرف واسعة وسواري رخامية. وكان أثاثه من المرايا والزرابي والساعات الكبيرة. وكانت فيها دور واسعة لا تقل رونقا عن القصور الرسمية يسكنها أغنياء الحضر والكراغلة. وما زالت بقايا هذه الدور اليوم ممثلة فيما يعرف بالدور الأندلسية أو (الموريسكية). بالإضافة إلى ما ذكرناه من أسواق وبزارات وحمامات وصنائع وبساتين يضرب بها المثل. وكانت شوارع المدينة ضيفة نسبيا لأسباب تتعلق بالأمن من جهة وبالطبيعة والمناخ من جهة أخرى. وجميع الكتابات تؤكد أن مدينة الجزائر كانت من أشهر المدن أمنا لساكنيها. وقد تغنى بعض الأدباء بطبيعة وقصور وجمال مدينة الجزائر، كما نرى ذلك في الحديث عن الأدب. وقال عنها بعض الأوروبيين أنها كانت تشبه سفينة شراعية عريضة من الأسفل ضيقة من الأعلى. وقد عدد دابر بعض الحرفيين في مدينة الجزائر وحدها فكانوا كما يلي: 3000 نساج، 1200 نحات (أو نجار)؟ 400 خباز، 300 جزار، الخ. كما ذكر أنه كان بها 107 مساجد، و 62 حماما، 9 فنادق، 6 سجون.
2 -
وتأتي مدينة قسنطينة بعد العاصمة في الأهمية خلال العهد
(1) الحسن الوزان، 2/ 347، وكذلك نيقولاي (تاريخ الترك العام)، 62، وفرنسيس نايت (قصة سبع سنوات .. في الجزائر)، لندن 1640، 50، وبانانتي، 109، ونوا، 363، وجول بارلو، 121، انظر أيضا دابر، 177.
(2)
ذكر ذلك السيد ديني (المجلة الإفريقية) 1920، 217، وذلك في القرن الثاني عشر (18 م). وعن المؤسسات الثقافية بالعاصمة وغيرها، انظر الفصل الخاص بالمؤسسات فيما يأتي.
العثماني. وتظهر هذه الأهمية لقسنطينة في كون وهران ظلت تحت الحكم الإسباني إلى سنة 1205 (باستثناء فترة قصيرة 1119 - 1145) وكون مدينة تلمسان قد ضعفت مكانتها خلال هذا العهد. وقد اكتسبت قسنطينة التي دخلت الحكم العثماني في حوالي سنة 932 (1) أهميتها من عدة عوامل، كونها مدينة داخلية ومحصنة طبيعيا وبعيدة عن غارات العدو البحرية التي طبعت ذلك العهد، وكونها قريبة من تونس. ومن جهة أخرى فإن بعد قسنطينة عن العاصمة جعل حكامها شبه مستقلين عن السلطة المركزية. وكان إقليم قسنطينة أكبر أقاليم القطر الثلاثة مساحة حتى أن القنصل الأمريكي شيلر، عندما ذكر سكان مدينة الجزائر كلها قد قدر أن نصفهم كانوا في إقليم قسنطينة وحده كما أن بانانتي الإيطالي الذي قدر سكان مدينة الجزائر بمائة وعشرين ألف نسمة، قد جعل سكان مدينة قسنطينة مائة ألف نسمة (2). وقال الكاتب الفرنسي ديفونتين عن قسنطينة في القرن الثاني عشر (18 م) بأنها آهلة جدا بالسكان وأنها أكبر وأجمل من مدينة الجزائر (3). وتذكر بعض المصادر الأخرى أن عدد سكان المدينة كانوا حوالي تسعة وثلاثين ألف نسمة قبل الاحتلال (4).
(1) اختلفت الروايات في تاريخ دخول قسنطينة في طاعة العثمانيين، فبعضهم، كالانبيري، يجعله سنة 927، أي في عهد خير الدين. وبعضهم، كابن أبي دينار، يجعله سنة 932 حين انتهاء الحكم الحفصي فيها. وبعضهم، كالعنتري، يجعله في ولاية فرحات باي سنة 1057.
(2)
بانانتي، 109 وقدر شيلر سكان مدينة قسنطينة وحدها بـ 25 ألف نسمة. أما نوا، الذي كان قنصل أمريكا في تونس، فقد قدر سكان قسنطينة سنة 1813 بستين ألف نسمة وقال إن الحياة فيها آمنة والمعيشة رخيصة وسكانها مهذبون. انظر نوا، 368. وقال أحمد الانبيري، مؤلف كتاب (علاج السفينة في بحر قسنطينة)، إن سكان هذه المدينة قد بلغوا أربعين ألف نسمة. وهذا بالطبع بعد احتلال الفرنسيين لها وفرار بعض العائلات منها ومقتل عدد كبير من سكانها.
(3)
نقل ذلك أندري نوشيه في مجلة (الكراسات التونسية) 1955، 373.
(4)
نفس المصدر، 374.
ومهما كان الأمر فإن مدينة قسنطينة كانت، خلال هذا العهد، ثاني مدينة في القطر أهمية وحجما. وكان ترتيب مكانها الاجتماعي لا يكاد يختلف عن تركيب سكان العاصمة عندئذ. فقد كان سكانها الحضر هم الكثرة الغالبة. ويشمل هؤلاء العائلات القديمة التي استوطنت المدينة منذ أحقاب، كما يشمل العائلات الحضرية الطارئة من الأندلس وبجاية وتونس وغيرها من المدن. وقد انضم إلى هذا الصنف المولدون من العثمانيين وجالية كبيرة من اليهود، بالإضافة إلى عدد من الزنوج القادمين من الصحراء عن طريق التجارة ونحوها. كما أن بني ميزاب والبساكرة وأهل سوف كانوا فيها بعدد غير مؤكد. وكان أهل زواوة أيضا كثيرا ما يقصدونها للتجارة والعلم والعمل اليدوي. وفوق هذه الفئات الاجتماعية كان يتربع الباي ووزراؤه وديوانه وقواده، وكانت السلطة السياسية والعسكرية في يد هؤلاء. أما السلطة الاقتصادية والروحية ففي أيدي الفئات المذكورة آنفا. فالعلم وشؤون الدين في أيدي الحضر على العموم، والاقتصاد والتجارة في أيدي الحضر والكراغلة واليهود أيضا (1). ومن أشهر العائلات الغنية في قسنطينة (غنى الأرض وغنى التجارة أو كلاهما) عائلة الفكون، وابن البجاوي، وابن جلول، باش تارزي، وابن باديس، وابن حسن، وابن نعمون. وقد مر بنا وصف عبد الكريم الفكون لحضر هذه المدينة الذين يبدو أنهم كانوا يمثلون، مع حضر تلمسان، حضر القطر الجزائري أكثر مما كان يمثلهم حضر مدينة الجزائر التي كانت كما لاحظنا، مدينة دولية مفتوحة، بينما كانت قسنطينة مدينة وطنية صميمة.
وكانت مدينة قسنطينة تضم أيضا منشآت عمرانية كثيرة. من ذلك
(1) كان يهود قسنطينة الذين بلغ عددهم حسب بعض الروايات خمسة آلاف نسمة يصدرون تجارة تدر عليهم ما لا يقل عن مليون دولار سنويا بعملة ذلك الوقت -وكانوا يصدرون الصوف والقمح والشعير والوبر وريش النعام والشمع والجلود والغنم والخيول والبقر والبغال والدجاج والخشب وغيرها إلى أوروبا. انظر نوا (رحلات). 368.
الثكنات والمساجد والقصور والمدارس. وقد أشار الرحالة الورتلاني في القرن الثاني عشر (18 م) إلى أن مدينة قسنطينة تضم خمسة مساجد جمعة، وعاب على ولاتها (وهو يعني الإدارة العثمانية - البايات) عدم اهتمامهم بالأوقاف والمدارس (1) وقد اكتسبت نتيجة ذلك شهرة علمية في العالم الإسلامي لا تضاهيها سوى شهرة فاس والقاهرة. ومن أشهر منشآتها قصر الباي الذي كان ما يزال تحفة فنية وأثرية (2). والإضافة إلى ذلك كانت هذه المدينة كثيرة الأسواق والدكاكين والحمامات والدور الجميلة الواسعة - كما اشتهرت بصناعة الطرز المحلي والصياغة وغيرها من الصناعات النسائية. وكان دنوش قسنطينة من أغنى دنوش الجزائر حتى أن أهل مدينة الجزائر كانوا ينتظرونه بشوق لأنه بالنسبة إليهم كان مناسبة اجتماعية واقتصادية كبيرة.
3 -
أما تلمسان فقد فقدت كثيرا من سمعتها وقيمتها خلال العهد العثماني. وكان التدهور قد بدأ يحل بها قبل ذلك. فالاحتلال الإسباني لوهران ومرساها الكبير قد أدى إلى تدهور تلمسان الاقتصادي، وكذلك السياسي. وغداة استيلاء العثمانيين على السلطة في الجزائر كان الحسن الوزان (ليون الإفريقي) يصف تلمسان (سنة 923) بأنها تحتوي على ثلاثة عشر ألف موقد (حوالي ثمانين ألف نسمة) وأنها كانت تضم عددا من المساجد وخمس مدارس (3). كما تحدث عن طبقاتها الاجتماعية فقال إنها تضم الصناع والتجار والعلماء والجيش. غير أن النزاع بين الإسبان والعثمانيين في البحر وحول وهران، ثم بين العثمانيين والزيانيين قد أدى إلى زيادة تدهور تلمسان خلال القرن العاشر وبالإضافة إلى التدهور الاقتصادي والسياسي شهدت تلمسان تدهورا اجتماعيا وثقافيا. فقد هاجر عدد من عائلاتها الغنية والعلمية إلى المغرب الأقصى فرارا من الإسبان الذين تدخلوا في شؤون دولة بني زيان عند ضعفها السياسي، ثم فرارا من حكم العثمانيين
(1) الورتلاني (الرحلة)687. من المؤسسات العلمية. انظر الفصل الآتي.
(2)
عن قصر الباي أحمد انظر دراسة فيرو عنه في (روكاي). 1867، عدد 11.
(3)
الحسن الوزان (وصف إفريقية) 2/ 333.
عند استيلائهم بالقوة على تلمسان. وبذلك فقدت هذه المدينة عددا من سكانها ذوي النفوذ الاجتماعي والتأثير العلمي. ومن العائلات الشهيرة التي هاجرت إلى المغرب الأقصى عائلة الونشريسي وعائلة المقري (1).
ولم تستعد تلمسان مكانتها العلمية التي كانت تتمتع بها خلال القرنين الثامن والتاسع (14، 15 م). فقد ظلت خلال العهد العثماني مدينة مهزومة تعاني من التذمر والفقر. وقد حدثت فيها عدة مظاهر للتذمر والثورة نذكر منها ما رواه ابن مريم (في البستان) وما جاء في (كعبة الطائفين)(2). أما الزعامة السياسية فقد أخذتها في الغرب الجزائري خلال هذا العهد مازونة ومعسكر ومستغانم ثم وهران (3). وأما التدهور الثقافي فيها فسنتحدث عنه في مكانه من هذا الكتاب.
4 -
وقد حظيت عنابة بازدهار عمراني طيب أثناء هذا العهد باعتبارها المرسى الأساسي لإقليم قسنطينة الفسيح والغنى وباعتبارها أيضا قريبة من نشاط الشركات الأجنبية، وخصوصا الجنوية والفرنسية الباحثة والمصدرة للمرجان وغيره من خيرات البحر والبر. وقد وصفها بيري رايس العثماني بأنها كثيرة الأسود وأن أهلها يجمعون ويبيعون حب عقير كارها (لعله حب العناب) بالميزان إلى أهل السفن. وتحدث عن أهمية نهر السيبوس وراس سيدي مروان ومرسى الخرز الذي قال إن أهل جنوة قد جعلوه مقرا لهم لصيد وبيع المرجان بمبلغ خمسة وثلاثين ألف قطعة ذهب إلى سفن البندقية. وقال أيضا إن حوالي مائتي عامل كانوا في خدمة هؤلاء التجار (4). وقال عنها
(1) عن هجرة العلماء عموما انظر فصل العلماء من هذا الجزء.
(2)
انظر فقرة الثورات ضد العثمانيين في هذا الفصل.
(3)
بخصوص تلمسان في العهد العثماني انظر دراسة بروسلار في (المجلة الإفريقية)1862. وكذلك أبا حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول) مخطوط. و (كعبة الطائفين) و (البستان) لابن مريم.
(4)
(الكتاب البحري) ترجمة مانتران، (مجلة الغرب الإسلامي) 15 - 16، 1973. 159، وسوشيك (تونس في الكتاب البحري لبيري رايس) (مجلة الأرشيف العثماني) =
التمغروطي أواخر القرن العاشر بأنها كثيرة العناب وأنها وافرة (اللحم والحوت واللبن والعسل. ومنها ترفع السفن اليوم السمن الكثير إلى القسطنطينية)(1). وقد ذكر الحسن الوزان بأن عدد سكان عنابة يقدر بثلاثة آلاف موقد (حوالي 21000 نسمة)(2). أما قنصل أمريكا في تونس فقد قال بأن عدد سكانها يبلغون في وقته (سنة 1813 م) عشرين ألف نسمة، وإن عنابة كانت مركزا تجاريا كبيرا لصيد المرجان وتصدير الصوف والشمع والجلود والقمح (3). والمعروف أن كثيرا من تجار قسنطينة كانوا يترددون على عنابة للقيام بالأعمال التجارية.
وكانت الحياة العلمية والدينية في عنابة - كما سنرى، نشيطة أيضا.
ومن أشهر عائلاتها العلمية أسرة البوني والعنابي، ومن أبرز مؤسساتها الدينية جامع سيدي أبي مروان. وكانت لعنابة حياة اجتماعية بفئاتها المختلفة، ولكن يلاحظ كثرة اليد العاملة فيها لكونها مركزا تجاريا وبحريا، وكذلك الطبقة المتوسطة لكثرة التجار، كما يلاحظ وجود العناصر الأجنبية هناك من بنادقة وجنويين وفرنسيين وإنكليز ومالطيين ونحوهم. وكان اتصال هؤلاء بالسكان عن طريق التجارة والعمل.
5 -
ورغم شهرة بجاية التاريخية فإنها لم تكن تتمتع خلال العهد العثماني لا بمكانتها القديمة ولا بوضع خاص جديد. فقد حل بها عدد من المهاجرين الأندلسيين كسائر المدن الساحلية الجزائرية وتدعم بهم جانب الحضر الذين كانوا يعيشون على تراثهم القديم، ولكن العائلات البجائية الكبيرة التي اشتهرت في القرنين الثامن والتاسع. (عهد ابن خلدون والثعالبي) قد اختفت أو كادت أثناء العهد العثماني. ومع ذلك فقد ظلت بجاية مقصدا
= - 1973) 1976 Archivum ottomanium)، دراسة عما جاء في الكتاب البحري عن شرق الجزائر وتونس مع ترجمة لنصه.
(1)
التمغروطي (النفخة المسكية) مخطوط باريس رقم 6898.
(2)
الحسن الوزان، 2/ 370.
(3)
نوا، (رحلات)369.
لأهل زواوة بل عاصمة علمية وتجارية لهم. ومنها كانوا يتوجهون إلى قسنطينة للعلم وللتجارة أيضا. وقد تحدث عنها بيري رايس في أوائل القرن العاشر فقال إن بها حوالي ثمانية عشر ألف دار (حوالي مائة وستة وعشرين ألف نسمة)(1) أما الحسن الوزان فقد قدر عدد سكانها بثمانية آلاف موقد (حوالي ست وخمسين ألف نسمة) ولكن الإسبان قضوا على عمرانها وفر منها العلماء والتجار. وهذا ما لاحظه التمغروطي أيضا في أواخر القرن المذكور. فقد قال إنها كانت مدينة عظيمة ولكنها الآن (في وقته) مخربة، خربها النصارى، وليس بها إلا ديار قلائل وقلعة صغيرة يقيم بها متولي الترك ليمنع المرسى من العدو (2). ولم يذكر نوا عدد سكان بجاية ولكنه لاحظ أنها كانت قليلة الأهمية في وقته (سنة 1813 م) ما عدا وجود بعض صناعات الحديد المجلوب إليها من الجبال المجاورة (3).
6 -
ومن المدن التي كثر ذكرها في العهد العثماني في كتابات الرحالة لعلمها أو لموقعها الاقتصادي: بسكرة والخنقة وتقرت وميزاب ووادي سوف وورقلة وعين ماضي. وكلها في الواقع صحراوية. فقد اشتهرت بسكرة ونواحيها المعروفة بالزيبان بجامع سيدي عقبة التاريخي وبضريح سيدي خالد (خالد بن سنان العبسي) الذي كانت تقصده الناس من جميع أنحاء إفريقية، حسب تعبير الدرعى، وخلوة عبد الرحمن الأخضري الذي سنتحدث عنه، وجامع أولاد جلال ومدرستها المعدة للطلب المهاجرين أو الغرباء، وخنقة سيدي ناجي التي اشتهرت بمعهدها.
(1) لا شك أن هذا رقم غير دقيق. وقد خص بيري رايس بجاية بحديث طويل فوصف علاقته بالشيخ المرابط محمد التواتي حامي المدينة، الذي عاش أكثر من 120 سنة وقال إنه بعد وفاة الشيخ احتل الأسبان المدينة وخربوها ما عدا الجزء الموالي للبحر. انظر ترجمة مانتران (مجلة الغرب الإسلامي) 15 - 16، 1973 وسوشيك مرجع سابق.
(2)
التمغروطي (النفحة) مخطوط باريس، 6898.
(3)
نوا (رحلات)، 369.
أما بسكرة فقد عرفت بجامعها الواسع المتقن البناء ذي المئذنة الطويلة البالغة مائة وأربعين درجة. وقد لاحظ الدرعي أنها من أنجب المدن وأجملها (رفما رأيت .. أحسن منها في جميع المدن .. شرقا وغربا لوجود أسباب المعاش فيها)(1) ونفس الرأي في بسكرة قد أبداه قبله الرحالة العياشي أيضا (2) ولكن الأوضاع السياسة في بسكرة لم تكن مستقرة. وقد أشار الدرعي إلى أنه وجد مفتي بسكرة، الشيخ أبا القاسم البشكي البسكري، هاربا في سيدي عقبة خوفا من عاملها (3). وأكد ذلك الورتلاني حيث قال إن بسكرة قد أصيبت بغارات العرب (الأعراب) والترك، كما أصيبت بالوباء (4). وقال إن الأتراك قد استولوا على الأحباس (الأوقاف) والمدارس الكثيرة التي كانت ببسكرة، وأصبحوا يأكلون منها وينتفعون بها كالأملاك الحقيقية، وهي ليست لهم وليسوا من أهلها ولكنهم تمردوا وطغوا وجعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما (5). وهذا حكم قاس صدر عن الشيخ الحسين الورتلاني في القرن الثاني عشرو هو حكم قد أصدره ضدهم في قسنطينة أيضا وفي غيرها. وهو يدل على أن بسكرة كانت على عهد الدرعي والورتلاني تعاني من ظلم الولاة الأتراك.
وكانت عين ماضي موضع عناية العياشي أثناء رحلته، كما أنها أصبحت موضع عناية الدارسين بعد ظهور الطريقة التجانية بها. فقد حكم الدرعي على أن أهلها جميعا كانوا طلبة. وهو يقصد أنهم كانوا مشتغلين بالعلم. كما أنه لا يقصد بالطبع إلا الرجال، لأنه حكم على النساء حكما قاسيا حين قال إنهن كالبهائم (كدأب نساء هذه النواحي) وقال عنهن أيضا إنهن غير محجبات
(1) الدرعي (الرحلة) مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1997، 16.
(2)
العياشي (الرحلة) 2/ 409.
(3)
الدرعي (الرحلة)193. وكانت في بسكرة حامية تركية. وكذلك في بجاية وتلمسان وزمورة ومستغانم ومازونة وعنابة وقسنطينة إلا البليدة لقربها من العاصمة ولكثرة السكان الترك بها حيث كانوا يتزوجون ويستقرون. انظر جوزف بيتز. 9.
(4)
الورتلاني (الرحلة)117.
(5)
نفس المصدر، 110 ويؤكد ذلك الظلم ثورة ابن الصخري (شيخ العرب) التي سنتحدث عنها والتي شملت بسكرة ونواحيها.
ويخالطن الحجيج يبعن ويشترين وأنهن كن يغسلن الصوف في الساقية الجارية بالماء البارد. وقد وصف الدرعي أيضا أثر غارة السلطان السعدي عبد الملك (تولى سنة 983)(1) على أهل عين ماضي، ففد فرق، حسب قوله، شملهم وكسر هيبتهم وأخذ خزائنهم، كما فرض عليهم ألف ريال، وأنه لم يترك لهم شيئا، بينما كانوا من قبل موقرين، فكبر ذلك عليهم. وقال عن مسجد المدينة بأنه مبني بأحجار كأنها منحوتة لاستقامتها وأنه مفروش بقطائف وحصر، وله نور يعلوه، وحوله مطعم كبير للسواح الذين يؤمونه للتعبد (2). وعند ظهور الطريقة التجانية لفتت عين ماضي النظر إليها، ومن نتيجة ذلك غارات العثمانيين ضدها بقيادة الباي محمد الكبير (3).
كما تجدر الإشارة إلى أن أهل ميزاب قد ظلوا محافظين على طابع مدينتهم الإسلامي والعتيق وعلى مذهبهم الإباضي رغم وجود بني جلاب بتقرت والعثمانيين (4) في الشمال والسعديين من الغرب. وإذا كان تجارهم وعمالهم قد وجدوا الطريق للعيش في العاصمة وقسنطينة وغيرها من المدن فإن علماءهم قد ظلوا ينتجون في بني يزقن وغيرها من مدن ميزاب كما أن مجتمعهم نتيجة ذلك قد ظل منغلقا على نفسه لفترة غير قصيرة (5). ويذكر الحسن الوزان أن ميزاب كانت تضم ستة قصور وهي (غرداية والعطف وبونورة وبنو يزقن ومليكة وسيدي سعيد) كما ذكر أن ميزاب تقع في مفترق
(1) تولى بمساعدة السلطان العثماني سليم بن سليمان ومعونة الجزائر. وقد انتصر على البرتغاليين في المعركة المشهورة بمعركة وادي المخازن (سنة 986) التي قتل فيها ملكهم سيبستيان وهزموا فيها. انظر (الاستقصا) للناصري، الجزء الخامس.
(2)
الدرعي (الرحلة)، 13.
(3)
أحمد بن هطال (رحلة الباي محمد الكبير) تحقيق محمد بن عبد الكريم، القاهرة 1969.
(4)
وصلت بعض الحملات العثمانية إلى تقرت ووادي سوف ومشارف ورقلة، ولكننا لا نعلم أنهم استولوا على ميزاب.
(5)
عن وضع الميزابيين في آخر العهد العثماني انظر دراسة السيد هولسنقر التي أشرنا إليها.
الطرق التجارية بين تجار الجزائر وبجاية حيث يلتقون بتجار السودان (1).
وقد استطاع العياشي أن يعاين جامع تماسين (قرب توقرت) وأن يسجل أن له صومعة عالية جدا تبلغ حوالي مائة درجة وأن يشاهد عليها اسم بانيها، وهو، كما قال، أحمد بن محمد الفاسي، سنة 817. وقد حكم على فقهاء وعلماء تقرت حكما قاسيا فقال إنهم (قوم بله لا يكادون يفقهون حديثا) (2). وكان أهل تقرت عندئذ في نزاع مع أهل ورقلة. وفي أوائل القرن العاشر ذكر الحسن الوزان أن تقرت كانت آهلة بالسكان وأن دورها مبنية بالطوب المحروق إلا جامعها فقد كان مبنيا بالحجر، وكان سكانها هم الحرفيين ورجال الأعمال من أغنياء غراسة النخيل. وكانوا يبادلون القمح بالتمر، ويرحبون بالغريب ويزوجونه بناتهم ويهدون إليه. وكانت تقرت سياسيا تتبع مراكش تارة وتلمسان تارة أخرى ثم تونس (3). وفي القرن العاشر حاصرها الأتراك من الجزائر وأجبروها على دفع الخراج لهم.
7 -
وقد لعبت مدن المدية وشرشال ومليانة ومستغانم ومازونة ومعسكر ووهران وندرومة دورا هاما في الحياة الاقتصادية والعلمية خلال العهد العثماني. وعمر المهاجرون الأندلسيون عددا منها مثل تنس وشرشال ومستغانم. وقد قال بيري رايس ان الأندلسيين قد اتخذوا شرشال قاعدة لهم، وقال عن برشيك انها مدينة آهلة بالسكان الأندلسيين. وذكر التمغروطي أن شرشال كانت مدينة حصينة كثيرة العمارة والزرع والفاكهة يجلب منها الزرع وغيره إلى الجزائر. ولا شك أن ذلك كان بعد استقرار الأندلسيين بها وتطويرهم للحياة الزراعية فيها. والتمغروطي نفسه قال عن تنس ان الأندلسيين هم الذين بنوها. وأشهر حاكم بها عندئذ هو حميد العبد الذي ضاد العثمانيين في أول أمرهم ثم تحول فأبقوه في الحكم إلى أن توفي،
(1) الحس الوزان، 2/ 437.
(2)
العياشي (الرحلة)، 50.
(3)
الحسن الوزان، 2/ 438.
وعندئذ ولوا مكانه عثمانيا (1).
وقد بنى أحد المهاجرين الأندلسيين مدرسة مازونة المشهورة التي تخرج منها عدد من الفقهاء خلال العهد العثماني، وهو محمد بن الشارف البولداوي. وظلت هذه المدرسة محافظة على سمعتها حتى بعد انتقال كرسي الحكم من مازونة إلى معسكر. ورغم أن معسكر أصبحت لفترة طويلة عاصمة للإقليم الغربي فإنها ظلت مدينة داخلية متخذة كمنطلق للهجوم على وهران ومرساها. ولكن معسكر قد اكتسبت سمعة كبيرة أثناء حكم الباي محمد الكبير. وقد اشتهرت بعدد من العلماء أمثال الرماصي القلعي وعبد القادر المشرفي وأبي راس كما اشتهرت بزاوية القيطنة القريبة منها والتي كان على رأسها الشيخ محيي الدين والد الأمير عبد القادر، واشتهرت كذلك بالمدرسة المحمدية التي سيأتي الحديث عنها. وبقصر الباي ودورها الجميلة. ولا نعتقد أن سكانها كانوا يتجاوزون الثلاثين ألف نسمة أيام ازدهارها (2).
وكانت وهران قد خضعت مدة طويلة للإسبان (3) لذلك كان عددها من السكان المسلمين قليلا نسبيا ويختلف من فترة إلى أخرى. ولم يستطع
(1) تزوج عدد من الباشوات من أندلسيات مثل حاج بشير باشا الذي نجد له بنتا تسمى عائشة أصبحت زوجة للقائد داود. وسنلاحظ أن عددا من العائلات الأندلسية قد تولت مناصب عالية في العلم والدين خلال العهد العثماني مثل عائلة ابن نيكرو وابن الكبابطي وابن الأمين.
(2)
جاء في تقرير كتب عند الاحتلال الفرنسي أن مكان معسكر كانوا حوالي عشرة آلاف نسمة. انظر تقرير تاتارو، عن مارسيل إيمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر 91.
(3)
أقام بن الرحالة عبد الباسط بن خليل حوالي سنة 871 وتحدث عن بعض علمائها أمثال خطيبها محمد القصار، ومفتيها أحمد بن العباس، وسليمان الحميدي وعبد الرحمن بن عزوز، قيم زاوية إبراهيم التازي، وذكر من مساجدها جامع البيطار وجامع الصخرة. ولم يتحدث عن عدد سكانها ويظهر أنها كانت مدينة تجارية لأنه تحدث عن إرساء باخرة بها قادمة من المحيط قصد التجارة في الجوخ ونحوه.
التمغروطي مثلا أن يصفها أواخر القرن العاشر واكتفى بالقول إنها كانت تحت النصارى وإن لم يظهر له منها، وهو يعبر البحر، غير الأبراج، وهو يعني أنه لم يشاهد فيها المآذن الإسلامية. واكتفى بيري رايس بالقول بأن وهران كانت مدينة كبيرة وأنها في وقته تحت الإسبان هي والمرسى الكبير. أما أبو راس فقد قال عنها إنها كانت في القديم كثيرة العلماء والمدارس والمآذن. ولكنه قال عن مدارسها (درسها الكفرة وعفوا رسمها). ولا شك أنها قد أصبحت كثيرة السكان المسلمين بعد فتحه (1) آخر مرة على يد الباي محمد الكبير وانتقال كرسي الحكم من معسكر إليها، وقد قدر الفرنسيون سكان وهران قبلهم حوالي خمسة وعشرين ألف نسمة لم يبق منهم حين دخلوها سوى ثلاثة آلاف وتسعمائة شخص جلهم من اليهود (2).
…
ويمكننا القول، بعد دراستنا لبعض المدن الرئيسية والإقليمية، أن نقول إن المجتمع الجزائري خلال العهد العثماني كان مجتمعا مدنيا، بمعنى أن المدينة كانت تلعب دورا بارزا في حياة السكان وقد بلغ عدد سكان الجزائر، حسب معظم التقديرات، حوالي خمسة ملايين نسمة، وكان عدد العثمانيين فيها اثني عشر ألف نسمة، وكان التطور الاقتصادي والعمراني لبعض المدن قد جعل الريف يتمدن شيئا فشيئا وأخذ الناس يخرجون من طور القبيلة والعرش والدوار إلى طور المدينة والتعايش السكاني المتكامل. حقا أن هذه
(1) أثناء فتحها الأول سنة 1119 كان الباي مصطفى بوشلاغم الذي جعلها هي عاصمة الإقليم يحتكر التجارة ويتاجر مع الأوروبيين فكان له ما لا يقل عن ثلاثة آلاف من الكراغلة وعدد آخر من الزنوج والأسرى المسيحيين والمسلمين الجدد (المرتدون عن المسيحية) والعرب يعملون في تجارته وأراضيه الواسعة التي كان يحرثها ثلاثة آلاف زوج من الثيران. كما كان أولاده يساعدونه على ذلك. وقد ظل في حكم معسكر ووهران ثلاثين سنة. انظر لافاي، الطبعة الإنكليزية.
(2)
من كتاب (وهران تحت قيادة ديميشال) باريس 1835، 207. ذكر هذا المصدر أن عدد اليهود بها كان 3500 وأن عدد الحضر (مائتان) فقط والباقي من الزنوج. ومعنى هذا أن أهل وهران قد فروا من وجه الفرنسيين.