المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المدارس والمعاهد العليا - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ١

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: ‌المدارس والمعاهد العليا

فالرباطات إذن كانت قلاعا من جهة وزوايا ومدارس متنقلة من جهة أخرى. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك زاوية الشيخ محمد بن علي المجاجي التي اشتهرت بكونها زاوية ومدرسة ورباطا (1). ولعل ما أنشأه المرابطون في العهد العثماني الأخير من مؤسسات لنشر التعاليم المضادة للنظام العثماني (مثل زوايا ومعاهد الطرق الدرقاوية والتجانية والقادرية والرحمانية) لا تخرج أيضا عن كونها رباطات بالمعنى الذي أشرنا إليه.

‌المدارس والمعاهد العليا

رغم أن الرحالة الفرنسي فانتور ديبارادي قد تحدث في القرن الثاني عشر (18 م) عن وجود ثلاث جامعات لتعليم المذهب المالكي في مدينة الجزائر وحدها (2)، فإن الواقع هو أنه لم يكن في الجزائر كلها جامعة واحدة بالمعنى المتعارف عليه. فقد خلت الجزائر العثمانية من مؤسسة للتعليم العالي، توحد نظم التعليم وتحافظ على مستواه وتعكس نشاط واتجاه العلماء، وتحفظ قدرا معينا من أساليب اللغة والذوق الأدبي العام. ولم يكن للجزائر (جامعة) إسلامية كالأزهر والقرويين والزيتونة، غير أن دروس جوامعها الكبيرة كانت تضاهي، بل قد تفوق أحيانا، دروس الجامع الأموي بدمشق والحرمين الشريفين لتنوع الدراسات فيها وتردد الأساتذة عليها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فدروس سعيد قدورة وعلي الأنصاري (3) وأحمد بن عمار بالعاصمة، ودروس سعيد المقري في تلمسان، ودروس أبي راس في معسكر ودروس عمر الوزان وعبد الكريم الفكون وأحمد العباسي وعبد القادر الراشدي في قسنطينة، وأحمد البوني في عنابة - كانت مضرب

(1) جاء في (ياقوتة النسب الوهاجة) لأيي حامد المشرفي أن هذه الزاوية كانت مركزا (لإقراء الضيفان ولمن يجاهدون في سبيل الله).

(2)

فانتور ديبارادي (الجزائر في القرن الثامن عشر)، 158.

(3)

ترجمنا لقدورة والوزان والأنصاري والمقري في الفصل التالي باعتبارهم من كبار المدرسين.

ص: 273

الأمثال في العمق والإحاطة والرقي، غير أن شهرة هؤلاء العلماء كانت نتيجة جهودهم الشخصية وليس نتيجة انتمائهم لنظام شامل تخضع له المؤسسات التابعين لها. ونحن لا ندري قصد الرحالة الفرنسي المذكور بالضبط، ولعله كان يقصد بالجامعات بعض (المدارس العليا) مثل المدرسة القشاشية ومدرسة شيخ البلاد والجامع الكبير.

1 -

ومهما كان الأمر فقد كثرت في الجزائر المدارس الابتدائية حتى كان لا يخلو منها حي من الأحياء في المدن ولا قرية من القرى في الريف، بل إنها كانت منتشرة حتى بين أهل البادية والجبال النائية. وهذا ما جعل جميع الذين زاروا الجزائر خلال العهد العثماني ينبهرون من كثرة المدارس بها وانتشار التعليم وندرة الأمية بين السكان. وقد عد بعضهم العشرات من هذه المدارس بالإضافة إلى المساجد والزوايا والرباطات التي تحدثنا عنها. وكانت الأوقاف والصدقات تلعب دورا هاما في انتشار المدارس ونشر التعليم.

كانت تلمسان عاصمة الدولة الزيانية قبل مجيء العثمانيين، قد اشتهرت بوفرة المدارس والعلماء رغم تدهورها السياسي، كما عرفنا. فبالإضافة إلى المدارس الابتدائية كان بها على الأقل خمس مدارس ثانوية وعالية. وهذه المدارس هي التي أشاد بها الرحالة المصري عبد الباسط بن خليل والكاتب المغربي الحسن الوزان (ليون الإفريقي). فقد أشاد الوزان على الخصوص بعناية أهل تلمسان بتشييد المدارس والإنفاق عليها، رغم أنه قد حكم أن فئة العلماء كانت من أفقر فئات المجتمع الأربع (1). والمعروف أن زيارة الوزان تلمسان كانت عشية استقرار العثمانيين بالجزائر. ورغم قول بعضهم بأن تلك المدارس قد انقرضت من تلمسان (2) فإن الفرنسيين قد وجدوا فيها بعد

(1) الحسن الوزان (وصف إفريقية) 2/ 334.

(2)

ألفريد بيل (الإسلام في بارباريا) في (التاريخ ومؤرخو الجزائر)195. وهذه المدارس مذكورة في (وصف إفريقية) للوزان 2/ 333 وهي عنده كوليج، أو معاهد عليا. وقد ذكر بعض المدارس من بناء ملوك تلمسان وبعضها من بناء ملوك فاس.

ص: 274

احتلالها خمسين مدرسة ابتدائية ومدرستين للتعليم الثانوي والعالي، وهما مدرسة الجامع الكبير ومدرسة أولاد الإمام (1). والمعروف أن الباي محمد الكبير هو الذي أعاد لمدرستي تلمسان أوقافهما وجددهما، كما سنرى.

ولم تكن قسنطينة أقل عناية بالمدارس. فقد كانت مدارسها الابتدائية كثيرة على العهد الحفصي وظلت كذلك في العهد العثماني. ورغم أن تطور إنشاء المدارس لا تؤكده لنا الإحصاءات فإن الذي يدرس كتابا مثل (منشور الهداية)، المؤلف في القرن الحادي عشر، يدرك أن حالة المدارس لم تكن سيئة وأن المواطنين وبعض البايات كانوا يؤسسون المدارس الابتدائية والثانوية. وقد عرفنا أن الورتلاني قد انتقد تدهور أحوال المدارس بتدهور الأوقاف، مضيفا بأن ولاة قسنطينة لم يشتغلوا ببناء المدارس ولا بكثرة الأوقاف مما سبب، في نظره، اندراس العلم (2). غير أن صالح باي الذي بدأ يحكم في آخر حياة الورتلاني، قد نهض بالمدارس وأوقافها ونحوها من وسائل النهوض بالتعليم. وقد ثبت من السجل الذي أمر به صالح باي أنه كان في قسنطينة على عهده مدرستان ثانويتان وهما سيدي بوقصيعة وسيدي ابن خلوف (3). ولكن هذا السجل لم يشر إلى عدد المدارس الابتدائية عندئذ. غير أنه من الملاحظ أن التنظيم المذكور قد جرى في بداية عهد الباي، أي قبل أن ينهض هو بالمدارس والتعليم (4). وعلى كل حال فقد كان عدد المدارس الابتدائية في قسنطينة عند دخول الفرنسيين حوالي تسعين مدرسة. وهو العدد الذي جعل بعض الباحثين يحكمون بأنه يدل على أن كل طفل ذكر

(1) ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر) 13 - وكذلك مقالته في (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 202. أما ابن سليمان في (كعبة الطائفين) 1/ 292، فقد ذكر أنه كان في تلمسان في وقته (القرن 11) مدرستان هما مدرسة سيدي الحلوي ومدرسة سيدي أبي مدين.

(2)

الورتلاني (الرحلة)686.

(3)

فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 130.

(4)

جرى تنظيم السجل المذكور سنة 1190 بينما توفي صالح باي سنة 1208.

ص: 275

بين السادسة والعاشرة كان له مكان في المدرسة. أما التعليم الثانوي والعالي فقد وجد الفرنسيون له في قسنطينة سبع مدارس (1).

أما في العاصمة فالأقوال متضاربة حول عدد المدارس الابتدائية والثانوية - العالية. ويبدو أن هذا التضارب يعود أساسا إلى أن بعضهم كان يدخل الزوايا والمساجد في عداد المدارس والبعض لا يفعل ذلك. وقد رأينا منذ قليل حكم ديبارادي في الموضوع. وكان الرحالة المسلمون الذين زاروا الجزائر مهتمين غالبا بالمؤسسات التي يؤمونها هم كالجوامع والزوايا والمدارس العالية وقلما كانوا يتحدثون عن المدارس الابتدائية. وذلك ما فعله التمغروطي وابن زاكور والجامعي وغيرهم. وقد لاحظ أبو راس، الذي زار مدينة الجزائر سنة 1214 وجود المدرسة القشاشية وأشاد بها على أساس أنها مركز للتعليم الثانوي والعالي. وتحدث ابن حمادوش، وهو من أبناء مدينة الجزائر، عن مدرسة الجامع الكبير التي نزل بها أحمد الورززي سنة 1159. وذكر السيد بانانتي أوائل القرن الثالث عشر (19 م) أنه كان في مدينة الجزائر في وقته ثلاث مدارس عامة (2). وعند دخول الفرنسيين كان بها حوالي مائة مدرسة بين ابتدائية وغيرها (3).

وكانت أقل وحدة للتعليم الابتدائي هي الكتاب (جمع كتاتيب) أو المكتب كما يسمى أحيانا. وكان يطلق عليه، ولا سيما في العاصمة، اسم (مسيد) وهو بدون شك محرف من تصغير كلمة مسجد. ذلك أن الكتاب، المخصص عادة لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ القراءة والكتابة

(1) نوشي (الكرامات التونسية) 1955، 386. وقد ذكر ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202. أن عدد المدارس الابتدائية في قسنطينة سنة 1837 (سنة دخول الفرنسيين لهذه المدينة) قد بلغ ستا وثمانين مدرسة. وتؤكد وثيقة وطنية تعود إلى سنة 1006 أن عدد مدارس قسنطينة الثانوية والعالية كانت عندئذ سبع مدارس أيضا.

(2)

بانانتي 114.

(3)

بولسكي (العلم المثلث)، 22.

ص: 276

للأطفال. كان في الغالب عبارة عن حجرة أو دكان في الأصل أو جناح في مسجد معد للغرض المذكور، بل إن بعض الواقفين كان يكتفي بفتح غرفة في منزله على الشارع ويجعلها كتابا للأطفال. وكذلك كان في زوايا المرابطين أجنحة خاصة لتعليم الأطفال وحفظ القرآن. وكانت الكتاتيب منتشرة في جميع الأحياء، وكثير منها كان يحمل اسم الحي الواقع فيه. فهناك مثلا مكتب سوق القندقجية، ومسيد القيصرية، ومكتب الشماعين، وبعضها كان يحمل اسم الزاوية أو الشارع مثل مسيد كوشة الوقيد، ومسيد كوشة بولعبة، وكتاب زاوية الجامع الكبير، ومسيد ابن السلطان، ومسيد جامع السيدة. وأحيانا كان المكتب يحمل اسم الواقف أو المؤدب المشهور، مثل مكتب علي باشا، ومسيد الحاج مصطفى بولكباش ومكتب العمالي. وإذا كان المكتب يقع في البادية فهو يسمى (الشريعة) إذ تنصب لذلك خيمة خاصة بتحفيط القرآن وإقامة الصلوات ونحو ذلك (1).

ويظهر من هذا أن الواقفين على بناء وفتح الكتاتيب كانوا من جميع طبقات المجتمع. فالباشوات والبايات والموظفون السامون كانوا يشتركون مع الأهالي في هذه المهمة العلمية والخيرية. فقد وجدت وقفية لواقف مجهول خصصها لصالح (الذي يعلم الأطفال في المدرسة التابعة لمنزله). وبالقرب من جامع خضر باشا أنشأ الحاج مصطفى بولكباش مكتبا خصصه لتعليم القرآن، وهو المكتب الذي وسعه الباشا إبراهيم خوجة فيما بعد. وقد ألحق بجامع الباشا الحاج حسين ميزمورطو مكتب لتعليم الفقه الحنفي. وألحق الباشا محمد بن بكير بجامع عبدي باشا مدرسة وأوقف عليها. وكان الباشا محمد بن محمود هو الذي أنشأ مسيدا لتعليم القرآن للأطفال المسلمين. ومن جهة أخرى قام بيت المالجي، وهو ساري مصطفى، بإنشاء مسيد تابع لجامع السيدة. ووجد مكتوبا على مكتب علي باشا هذه العبارة (الحمد لله، أمر ببناء هذا المكتب الأمير المفخم، السيد علي باشا، نصره

(1) أشار إلى ذلك ابن مريم في (البستان) 288، حيث قال إن المؤذن يؤذن في (الشريعة) وسط الدوار.

ص: 277

الله) (1). وبالإضافة إلى ذلك وجدت كتاتيب تابعة لبعض الزوايا مثل المكتب الملحق بزاوية سيدي محمد الشريف، ومسيد الركرك المنسوب للمرابط سيدي عيسى بن العباس، والمكتب التابع لزاوية أيوب. ولكن أوقاف الكتاتيب وإنشاءاتها ليست كلها مسجلة عند القضاة. فأغلب الأهالي وخصوصا أغنياء الحضر، كانوا يفضلون عدم الإعلان عن صدقاتهم. ولذلك لا نكاد نجد في وثائق الوفف إلا أسماء كبار المسؤولين في الدولة، وهم الذين كانوا في الغالب يسجلون أعمالهم الخيرية، ومهما يكن الأمر فإن الأوقاف المعلنة وغير المعلنة هي التي كانت تغذي المدرسة الابتدائية وهي التي جعلت أعدادها كبيرة في القطر كله.

وكانت مؤسسة التعليم الابتدائي تخضع أيضا في أهدافها لرغبة الواقفين. ذلك أن بعضها كان عاما لتعليم القرآن وتربية الأطفال المسلمين، وبعضها كان خاصا بخدمة مذهب أو جماعة معينة. فقد لاحظنا أن المكتب الملحق بجامع الباشا الحاج حسين ميزمورطو قد خصص للمذهب الحنفي. وكانت المدرسة التابعة لجامع البطحاء مخصصة لتعليم الشبان العثمانيين، وكذلك الحال بالنسبة للمدرسة الملحقة بجامع باب الجزيرة، فقد كانت هي أيضا مخصصة لتعليم الشبان العثمانيين وتتبع سبل الخيرات الحنفية. غير أن معظم مؤسسات التعليم الابتدائي كانت من النوع العام. ذلك أن هدفها الأول، كما قلنا، هو تحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ القراءة والكتابة وأوليات العلوم لأطفال المسلمين الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والرابع عشرة سنة (2).

والمكتب عموما كان غير صحي. فالمكان، سواء كان دكانا سابقا أو جزءا من منزل أو قطعة من مسجد كان ضيقا ومعتما وقليل التهوية. وغالبا ما كان الأطفال يحشرون فيه حشرا بدون مراعاة للقواعد الصحية. وحتى

(1) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1867، 457.

(2)

عن نوع ومنهج التعليم الابتدائي انظر الفصل التالي.

ص: 278

الكتاتيب الملحقة بالزوايا لم تكن أحسن حالا من الكتاتيب المنتشرة في أحياء وأزقة القصبة. وكانت الحصر هي فراش هذه الكتاتيب الرطبة. وقد توقد النار للتدفئة بدون انتظام، فإذا المكتب أسود من جراء ذلك. وقليل من العناية كان يعطى لمياه الشرب والحمامات. حقا إن المؤرخين يتحدثون عن نظافة المدن الجزائرية خلال العهد العثماني. ولكن النظافة هنا نسبية. فالكتاتيب لم تكن قذرة ولكنها على العموم لم تكن صحية. وعلى كل حال فإن نظافة المكتب وتهوئته وموقعه تتوقف على وفرة أوقافه وعلى ذوق بناته. وهذه ناحية ما تزال غير مدروسة.

ومع ذلك فإن وظيفة المدرسة الابتدائية كانت هامة، فهي تثقف وتربي الأطفال على قواعد الإسلام وعلى نمط اجتماعي محدد، وهي تقوم بتحفيظ القرآن الكريم الذي هو أساس الثقافة الإسلامية. وهي تعلم الأطفال مبادئ العلوم والقراءة والكتابة فيحفظون لسانهم من العجمة ويتوحدون في التفاهم والتخاطب حيثما كانوا، وهي أيضا تساهم في إعطاء الطفل رصيدا من المعارف التي تساعده على شق طريقه في المجتمع بعد خروجه منها، عندما يبلغ عادة الرابع عشرة سنة. وإلى جانب ذلك كانت المدرسة الابدائية تعد شعبا متعلما محصنا لا يوجد فيه إلا عدد قليل من الأميين. حقا إن المدرسة لم ترق بالتعليم ولم تساير العصر والحاجة الاجتماعية، كما سنرى، ولكنها كانت على كل حال تؤدي وظيفة أساسية في المجتمع، خصوصا رفع الأمية.

2 -

وقد عرفنا أثناء حديثنا عن الجوامع والزوايا اختلاط وظيفة المدرسة والزاوية والجامع في ميدان التعليم. فقد كانت بعض المساجد والزوايا تؤدي وظيفة المدرسة في نشر التعليم بجميع أنواعه، وخاصة الثانوي. وكانت بعض الزوايا عبارة على مدارس، كما كانت مساكن للطلبة الذين يدرسون. وكانت بعض المدارس ملحقة بالزوايا وأخرى ملحقة بالمساجد. وكثيرا ما ينص الوقف على تأسيس زاوية وجامع ومدرسة في نفس الوقت. لذلك فإنه من الصعب تمييز الوظائف التي تؤديها هذه

ص: 279

المؤسسات مجتمعة في مجتمع يقوم فيه التعليم قبل كل شيء على الدين. وتلعب فيه المساجد والزوايا (وليس المدارس) الدور الرئيسي.

لذلك لم تكن للجزائر العثمانية مدرسة مستقلة للتعليم المحض بالمعنى الذي نفهمه اليوم، وحتى بعض المدارس التي وجدت على نحو يقرب من ذلك كانت تعود إلى القرن الثاني عشر (18 م)، باستثناء بعض مدارس تلمسان التي تعود إلى العهد الزياني، كما لاحظنا، وكذلك مدرسة مازونة التي تأسست أواخر القرن العاشر. بل إن مدارس تلمسان قد تدهورت خلال العهد العثماني وأصابها ما أصاب المدارس التي تحدث عنها الورتلاني من الاستيلاء على الأوقاف وعدم مراعاة قواعد الشرع فيها. ومن الخمس مدارس التي تحدث عنها الحسن الوزان لم يبق إلا اثنتان استولى الولاة على أوقافهما. وقد أدى ذلك بالطبع إلى إضعاف وظيفة المدرستين اللتين ظلتا تنتظران عهد الباي محمد الكبير لكي يجددهما ويعيد إليهما أوقافهما، كما جاء على لسان كاتبه ابن سحنون. فقد تتبع هذا الباي أوقاف المدرستين التي (استولت عليهما الأيدي ونسي الناس أنها أحباس لهما)(1).

وقد عرف أبو راس الناصر المدرسة التي نحن بصددها، مدرسة التعليم الثانوي؛ والعالي، بأنها هي التي:(تبنى لدراسة العلم، أي تعليمه وتعلمه). فمن الواضح من كلامه أنها ليست المدرسة الزاوية أو المدرسة - المسجد بل هي المدرسة المتخصصة للتعليم وحده أي (دراسة العلم) في مستواه الثانوي والعالي. وفي هذا السياق ذكر أبو راس بأنه كان في مدينة الجزائر على عهده (مدارس) كبيرة. وقد مثل لها بالمدرسة القشاشية، كما مثل لها في معسكر بالمدرسة المحمدية. وعندما وصل إلى وهران قال ان المدارس بالمعنى الذي قصده قد (درسها الكفرة (أي الإسبان) وعفوا رسمها) فلم يبق في رأيه

(1) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط، ورقة 12. وكان الشيخ محمد الزجاي هو الذي كتب إلى الباي في شأن إعادة أوقاف مدرستي تلمسان فأجابه لذلك، انظر (إتمام الوطر) مخطوط باريس.

ص: 280

من موضع في وهران لدراسة العلم سوى المساجد (1).

والمدرسة المحمدية التي أشار إليها أبو راس هي التي أسسها الباي محمد الكبير فاتح وهران والتي تحمل اسمه. ورغم اهتمام الباي بالجامع الأعظم الذي بناه في معسكر فإنه قد أسس المدرسة إلى جانبه لأن فكرة المدرسة المستقلة عن الجامع لم تكن تدور في خلد هذا الباي. فبناؤها على النحو المذكور إذن كان يتماشى مع تقاليد العهد المدروس، بل مع تقاليد التعليم الإسلامي عموما. ويبدو أن المدرسة كانت في درجة ثانية بالنسبة للجامع. فالأوقاف تنص على نفقة المدرسين في الجامع وليس في المدرسة. ورغم قول مادح الباي ومؤلف سيرته ابن سحنون بأن المدرسة (كاد العلم أن ينفجر من جوانبها)(2) فإن الزمن لم يرحمهما. فقد انتقلت العاصمة من معسكر إلى وهران، ومع انتقال السلطة انتقل المدرسون والاهتمام بالمدرسة أيضا. وتوفي الباي محمد الكبير أيضا بعد ذلك بقليل. لذلك لم نعرف أن المدرسة المحمدية قد أخرجت جيلا من العلماء أو حتى بعض المشاهير منهم. ويذكر الشيخ البوعبدلي أن الباي قد عين لها مدرسين هم: محمد بوجلال (أو الجلالي) والطاهر بن حوا، ومحمد المصطفى بن زرفة الدحاوي (3).

والمدرسة القشاشية التي أشار إليها أبو راس منسوبة إلى جامع القشاش الذي قلنا إن الباحثين يرجحون أنه يعود إلى العهد السابق للعثمانيين، ولكننا لا ندري ما إذا كانت المدرسة نفسها قد أنشئت مع الجامع أو أن إنشاءها يعود إلى العهد العثماني. فنحن لا نملك عنها، لسوء الحظ، سوى معلومات ضئيلة رغم أهميتها في نشر التعليم، ولا سيما ذلك الذي نصفه بالتعليم

(1) أبو راس (عجائب الأسفار) مخطوط. ورقة 78.

(2)

ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط ورقة 10.

(3)

البوعبدلي مقدمة (الثغر الجماني)، 61. وكذلك أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 59. وبوجلال وابن حوا وابن زرفة كلهم اشتركوا في (جيش الطلبة) الذي كونه الباي لفتح وهران. وكان رئيس الطلبة هو الشيخ بوجلال. وكان ابن زرفة من كتاب الباي وقضاته أيضا. وسنتعرض لآثاره في الجزء الثاني.

ص: 281

العالي. والظاهر أن المدرسة متصلة بالزاوية (التي تحمل من الاسم) التي يبدو أنها أحدثت بعد الجامع. ذلك أن أوقاف الجامع وأوقاف الزاوية ليست واحدة، كما أن الوكيل ليس واحدا. وأقدم وثيقة تتحدث عن زاوية (مدرسة) القشاش تعود إلى سنة 1162. وقد جاء في وقفية لهذه الزاوية - المدرسة أن لها أستاذا مكلفا بتدريس الشريعة الإسلامية والتوحيد، بالإضافة إلى عشرة أساتذة لتدريس مختلف العلوم الأخرى. وهكذا استمرت مدرسة القشاش في تغذية التعليم الثانوي والعالي في مدينة الجزائر. ومع ذلك فإن الفرنسيين قد حولوها بمجرد احتلالهم (سنة 1247 - 1831) إلى مخازن للجيش (1).

وبالإضافة إلى المدرسة القشاشية كان في العاصمة مدرستان أخريان وصفتا أيضا بأنهما في مستوى عال، وهما مدرسة الأندلسيين ومدرسة شيخ البلاد. ويبدو أن أصل المدرستين زاوية أيضا. فقد جعل الأندلسيون من الزاوية التي أسسوها، كما سبق، (مدرسة عليا) لتعليم علوم القرآن ودراسة مختلف العلوم الأخرى. وكان الوقف يغطي حاجة المدرسة. وهو الوقف الذي قلنا إنه كان تحت إشراف لجنة من أعيانهم. ومن المتوقع أن التعليم في هذه المدرسة كان على مستوى راق لأن الأندلسيين قد عرفوا بإجادة فن التدريس وحسن التربية ومراعاة التطور العقلي للتلاميذ. وتذكر الوثائق أن الفرنسيين قد قضوا على هذه المدرسة أيضا (2). ولا شك أنها كانت من بين المدارس التي تحدث عنها أبو راس بعد زيارته لمدينة الجزائر.

أما مدرسة شيخ البلاد فقد ورد ذكرها أيضا أثناء الحديث عن الزاوية التي تحمل نفس الاسم. والظاهر أن عبارة (شيخ البلاد) هنا تشير إلى اسم الحي الذي تقع فيه المدرسة وليس إلى اسم المؤسس لها. ذلك أن مؤسسها هو الحاج محمد خوجة، أحد كتاب قصر الباشا في أواخر القرن الثاني عشر

(1) بعض المعلومات عنها أيضا في ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 53.

(2)

نفس المصدر، 1868، 270.

ص: 282

(18 م)، كما سبق. وكان الحاج محمد خوجة يملك كثيرا من العقارات فقرر وقفها على بناء (مدرسة عليا) تحتوي على خمس غرف لسكنى الطلبة ورجال العلم، وعلى مسجد للصلوات الخمس يؤديها الطلبة والعلماء وبقية المسلمين، وعلى مطهرة للطلبة وغيرهم، وعلى بئر للشرب والتطهر. وقد نصت الوقفية على تخصيص مبالغ مالية لأستاذ المدرسة والطلبة المقيمين فيها واشترط في الأستاذ أن يكون ماهرا في العلوم النظرية والعملية (أو المعقولة والمنقولة) والأدب والمنطق. وإذا لم يوجد من تتوفر فيه كل هذه العلوم (وقلما تتوفر طبعا) فأستاذ يحسن بعضها. وما دامت هذه المدرسة قد تأسست في أواخر العهد العثماني فلا نتوقع أنها قد لعبت دورا هاما في نشر التعليم، رغم أن تعليمها كان في مستوى الثانوي والعالي (1).

ويكاد الجامع الكبير بالعاصمة ومدرسته العليا يشكلان نواة لجامعة في الجزائر. ففي الجامع كانت الدروس كثيرة يقوم بها أبرز العلماء، وكانت حلقات الدروس فيه تصل إلى الاثني عشرة حلقة. وقد ذكرنا من أشهر مدرسيه سعيد قدورة وعلي الأنصاري وأحمد بن عمار ومحمد قدورة وعلي بن الأمين ومحمد بن الشاهد. كما كان ضيوف العلماء المسلمين يلقون فيه الدروس ويتتلمذون فيه على علماء الجزائر. وكانت للجامع الكبير أوقاف ضخمة تمكن بها المفتي سعيد قدورة من إنشاء مدرسة عليا أيضا تابعة للجامع وكذلك زاوية لسكنى الطلبة وغرباء العلماء. وقد كلف هذا المشروع خمسة عشر ألف دينار جزائري بعملة ذلك الوقت، وكلها قد دفعت من أوقاف الجامع. وكان عدد الأساتذة الذين يلقون الدروس بالجامع والمدرسة تسعة عشر أستاذا، بالإضافة إلى عدد من المسمعين (أو المساعدين) ونحوهم. وهذا بدون الأساتذة الذين يقرأون صحيح البخاري (2). ورغم

(1) نفس المصدر، 282.

(2)

عن قراء صحيح البخاري من العلماء وطريقتهم في عهد ابن حمادوش انظر رحلته (لسان المقال) مخطوطة، وكذلك دراستي عنه في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). و (شرح الحلفاوي) للجامعي، مخطوط باريس رقم 5113.

ص: 283

القيمة العلمية للمدرسة والزاوية فإن سلطات الاحتلال الفرنسي قد أعطتهما سنة 1249 (1833) إلى أحد الأوروبيين فحولهما إلى حمام فرنسي (1).

وقد كانت قسنطينة من أكثر المدن عناية بالمؤسسات العلمية وذلك لاستقرارها السياسي نسبيا ولقربها من تونس. ونود أن ننوه هنا بالمدرسة الكتانية التي أنشأها صالح باي والتي خصص لها أوقافا كبيرة شملت الأساتذة والطلبة. فقد كان المدرس بها يأخذ ثلاثين ريالا والطاب الداخلي يأخذ ستة ريالات (وعددهم ثمانية طلاب). وكان لهذه المدرسة، التي تنشر تعليما في مستوى الثانوي والعالي، نظام داخلي دقيق يضبط أوقات التدريس والتغيبات وعدد أحزاب القرآن المتلوة كل يوم، وشروط الإقامة في المدرسة. وقد أشاد بعضهم بهذه المدرسة ونظامها حتى قارنها بمدارس فرنسا العليا المعاصرة له (2). وقدر لهذه المدرسة أن تلعب دورا في الحياة الثقافية في الجزائر حتى في العهد الفرنسي (3). وهي ما تزال قائمة إلى اليوم.

ومن أشهر المدارس في غير العواصم مدرسة الخنقة ومدرسة مازونة. وتنسب مدرسة الخنقة إلى مؤسمها (سنة 1171) أحمد بن ناصر، لذلك تسمى بالناصرية. وقد اشتهرت بعلوم النحو والفقه والحديث. وكانت مقصد طلبة الزيبان ووادي سوف والأوراس وحتى قسنطينة وعنابة. وقد ترك لنا الورتلاني وصفا لهذه المدرسة والعلوم التي اشتهرت بها ومناقشاته مع علمائه (4). ومن خريجي مدرسة الخنقة أحمد التليلي وخليفة بن حسن

(1) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 381، وكذلك سنة 1867، 49.

(2)

نقل ذلك أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 153، عن فايسات.

(3)

انظر كتابي (محمد الشاذلي القسنطيني)، الجزائر، 1974 ط 2، 1985.

(4)

الورتلاني (الرحلة)117. انظر عنها أيضا (نشرة أكاديمية هيبون) 1885، 43. ومؤسسها هو أحمد بن ناصر بن محمد بن الطيب. وهو الذي بنى المدرسة والجامع والقبة والدمس من ماله الذي قدر بـ 8112 سلطاني ذهبا. والظاهر أن ذلك كان تجديدا فقط لأننا عرفنا أن هذه المؤسسة تعود إلى سنة 1147 على الأقل. انظر أيضا مقالتي (زيارة لختفة سيدي ناجي) في مجلة (سيرتا)، مايو، 1980، 113.

ص: 284