الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الأولى
هذا الكتاب هو ثمرة جهود دامت حوالي ربع قرن. فقد كتب عني المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1960، بأنني (مشغوف إلى حد الافتتان، بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور)(1) وقد كنت حقا مفتتنا بهذا الموضوع منذ بدأت أعي معنى التاريخ والوطنية. وكان هدفي من البحث هو إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور. ذلك أن المستعمرين الفرنسيين قد بثوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسي ولا ثقافي، وزاد إهمال الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء، و (ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء).
وحين بدأت النهضة الوطنية في الجزائر كان مثقفوها غالبا من خريجي المدارس الفرنسية الذين لم يكن يربطهم بماضي الجزائر سوى الدين وبعض التقاليد والذكريات الشعبية. وقد كان هدفهم الأساسي هو التحرر، ولم يكن الكشف عن دور الجزائر الثقافي جزءا من برنامجهم. بل إن حركة ابن باديس التي ركزت على الجانب الثقافي من النهضة الوطنية، لم تعتن في مدارسها بتاريخ الجزائر الثقافي بقدر ما اعتنت بتاريخ العرب والإسلام عموما. ويعود
(1) من تصديره لكتابي (شاعر الجزائر: محمد العيد ال خليفة) الطبعة الثالثة 1984. والتصدير مكتوب سنة 1960 للطبعة الأولى.
ذلك بدون شك إلى ندرة المصادر وقلة الباحثين المتخصصين في هذا الموضوع (1). كما يعود ذلك إلى كون حركة ابن باديس قد اهتمت بالناشئة الجزائرية تربيها على حب التراث العربي والإسلامي وتبث فيها أفكار الحرية والوطنية. ولم يكد خريجو هذه الحركة يصلون إلى مرحلة الدراسات العليا حتى قامت الثورة فطغت الأحداث على التفكير وتقدمت السياسة على الثقافة.
ولو كان هذا الكتاب كتابا سياسيا لبسطها فيه الحديث عن الموقف من الوجود التركي والعثماني في الجزائر. ومع ذلك فإننا أتينا فيه بما يكفي في نظرنا لإلقاء الضوء على الحياة الثقافية. والحق أن معظم الكتاب الجزائريين أثناء هذا العهد كانوا يصفون الحكام العثمانيين بأنهم (أتراك) و (أعاجم) ذلك أن هؤلاء الحكام كانوا دائما من خارج الجزائر، وكان أغلبهم لا يتكلم إلا التركية، وكانوا من أصول مختلفة (تركية ويونانية وألبانية وإيطالية الخ). ولذلك كانوا ينعتون أيضا (بالأعلاج)(2). وكانوا في معظم الأحيان جهلة لا يعرفون حتى القراءة والكتابة، كما كانوا مغامرين لا فائدة لهم من الحكم إلا جمع المال والتسلط، ثم إنهم كانوا يحكمون الجزائريين بيد من حديد
(1) يجب أن نستثني جهود المرحومين الشيخ محمد مبارك الميلي والشيخ أحمد توفيق المدني.
(2)
بجب أن تفرق بين الأتراك الأقحاح الذين اعتنقوا الإسلام عن عقيدة وساهموا في حماية الحضارة العربية الإسلامية منذ عهد المعتصم العباسي وبين (المتتركين) الذين اعتنقوا الإسلام كوسيلة للوصول إلى السلطة وجمع المال والذين كانوا مغامرين وجهلة ومتمردين حتى على السلطان. ومن سوء الحظ أن حكام الجزائر خلال العهد العثماني كانوا من الأعلاج المتتركين في أغلب الأحيان. فعانى منهم الشعب الجزائري كثيرا كما أثبتت ذلك الوثائق. غير أن المنتصرين للعثمانيين في الجزائر يعتبرون هؤلاء الحكام أتراكا مسلمين وكفى، وكأنه يكفي المرء أن يكون مسلما كي يرتكب ما يشاء. أما المعارضون فيظلمون الأتراك الحقيقيين بجعل حكام الجزائر ممثلين لهم في كل شيء. وكلا الفريقين في نظري على خطأ. فهذه القضية إذن ما تزال في حاجة إلى الدرس والتوضيح.
ويسلبونهم أموالهم وثرواتهم عن طريق الضرائب والرشى والهدايا ونحوها، بل إنهم تعدوا على حرمات الأوقاف وأموال العجزة واليتامى. وكانوا لا يسمحون للجزائري أن يقترب من النفوذ السياسي. وقد مكنوا طائفة اليهود في الاقتصاد، وكانوا يفضلون الأسيرة المسيحية على المرأة الجزائرية المسلمة، ثم إنهم كانوا لا يتكلمون لغة الجزائريين ولا يستعملونها في الإدارة إلا قليلا، ولا يوظفون الجزائريين إلا في الوظائف الثانوية، ولا يسوون في تطبيق أحكام الشريعة بين المسلم الجزائري والمسلم العثماني، كما كانوا جفاة غلاظا امتاز عهدهم بالعنف الدموي وقصر فتراتهم في الحكم وبالفوضى وانتشار الرشوة والظلم والفساد.
وهذا هو الجانب الأسود من العهد العثماني. أما الجانب المضيء منه فهو أن العثمانيين قد أنقذوا بتدخلهم، في بداية القرن العاشر، المغرب الإسلامي من الاحتلال الأجنبي المؤكد. وقد كانوا في ذلك غزاة مجاهدين تحالفوا مع الجزائريين لصد العدوان الصليبي وحماية الثغور وإقامة حكم إسلامي ثابت وقوي ظل طيلة ثلاثة قرون شوكة في حلق العدو وقذى في عينه وصخرة تحطمت عليها كل محاولات الغزو الخارجي. وقد ظل عامل الجهاد هو العامل الموحد الأساسي بينهم وبين الجزائريين. ورغم أن معاملة الجزائريين لهم كانت على أساس الأخوة الإسلامية فإنهم قد جعلوا الحكم (تركيا) وليس (إسلاميا) فلم يشركوا الجزائريين معهم فيه، بل احتكروه لأنفسهم طيلة ذلك التاريخ؛ وجعلوا أنفسهم أوصياء على شعب يفوقهم عددا وحضارة وشجاعة. وإذا كان للوجود العثماني مبررات دولية في القرن العاشر فإنه لم يبق له مبررات في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ولا سيما بعد تراجع المد الإسباني والبرتغالي.
وقد يتساءل المرء عن مصدر قوة العثمانيين في الجزائر رغم قلة عددهم. والواقع أن قوتهم الأولى كانت تكمن في تأييد الخلافة لهم، وذلك هو المصدر الروحي الذي اعتمدوا عليه في حكم الجزائريين. فهم كانوا حريصين على إبقاء هذا المصدر حتى حين تمردوا على السلطان وردوا
مبعوثيه (1) على أعقابهم، لأن تأييده الروحي والمعنوي هو الذي كان يعطيهم الشرعية في نظر الجزاريين. والمصدر الثاني لقوتهم هو استجابتهم لداعي الجهاد كلما حانت فرصة؛ ولا سيما في أوائل العهد، ومع الجهاد جاء الغزو البحري والثروة الاقتصادية سواء للخزينة العامة أو لجميع السكان.
أما الطبقات والفئات الاجتماعية التي رمت بثقلها وراء العثمانيين فهم معظم المرابطين ومهاجرو الأندلس وقبائل المخزن واليهود. فقد كان لهؤلاء مصالح حيوية في بقاء النظام العثماني. وكان المرتدون على الديانة المسيحية (الأعلاج) الذين تتركوا يشكلون أيضا قوة أخرى اعتمد عليها الحكم إلى جانب أتراك أناضوليا المغامرين الذين كانت قوتهم تكمن في قلة عددهم وتماسكهم. وقد بسطنا الرأي في هذه النقطة في الجزء الأول.
…
وقد يقول قائل: ما دام الأمر كذلك فلماذا لم يثر الجزائريون ويعلنوا الاستقلال؟. والواقع أن هذا السؤال طالما راودني ولم يكن الجواب عليه أمرا سهلا. فقد توصلنا بالبحث إلى أن عدد العثمانيين كان قليلا جدا بالنسبة لعدد الجزائريين بحيث لم يتجاوز في أي وقت من الأوقات الاثني عشر ألفا. ثم إن معظمهم كانوا في العاصمة أو في عواصم الأقاليم وفي محطات معينة. وأنت تقرأ في أخبار هذا العهد أن الباشا فلانا قد أرسل نحو المائة يولداش للمساعدة في القضاء على إحدى الانتفاضات المحلية، كما وقع الأمر أثناء انتفاضة سباو سنة 1157 (2). وكثيرا ما قرأنا أن كرسي الباشوية (أو الحكم) كان يخلو فيأتي أحدهم ويدخل القصر بسيف أو عصا أو بجماعة من الجنود ويعلن نفسه بأنه هو الباشا فيأتي الديوان والعلماء والأشراف والأعيان
(1) إن أنصار العثمانيين في الجزائر اليوم لا يدركون أن أوجاق الجزائر قد تمردوا على الدولة العثمانية وأنهم لم يكونوا يحكمون باسمها إلا ظاهريا للاستفادة منها.
(2)
تحدث عنها ابن حمادوش في رحلته التي قمنا بتحقيقها ونشرها.
لمبايعته (1). فلماذا إذن لم يحاول الجزائريون أمام هذه السهولة في الاستيلاء على الحكم أن يتولوا أمرهم بأنفسهم؟
ويبدو أن ذلك يعود إلى عدة عوامل. أولا الفكرة الراسخة في عقول الناس بواسطة الفئات التي ذكرناها سابقا من أن آل عثمان هم الذين هيأهم القدر والعناية الإلهية لحكم المسلمين وأن المتمرد عليهم سيقع لا محالة فريسة في أيدي المسيحيين.
والثاني تأييد الفئات المذكورة (مهاجرو الأندلس والأشراف ومعظم المرابطين واليهود والأعلاج) للحكم القائم ما داموا مستفيدين منه. وقد عرف الحكام العثمانيون كيف يكتسبون هذه الفئات المؤثرة في المجتمع إلى جانبهم عن طريق الإطراء والنفوذ والهدايا والإعفاء من الضرائب ونحو ذلك.
والثالث عدم معاملة آل عثمان للجزائريين معاملة واحدة، فهناك الجزائريون المخزنيون المتحالفون معهم، وهناك المستقلون أو شبه ذلك، وهناك الرعايا الذين كانوا محل اضطهاد شديد.
والرابع غياب الفكرة الوطنية بمفهومها الحاضر بين الجزائريين.
فالعلاقات الإسلامية كانت أقوى من العلاقات الجغرافية السياسية. وكان تقسيم الجزائرر في العهد السابق للعثمانيين إلى قسم زياني وآخر حفصي لم يساعد أيضا على ظهور مفهوم الوحدة الجغرافية السياسية بين الجزائريين في العهد العثماني.
والخامس أن الروح القبلية كانت ما تزال بارزة عند معظم السكان خارج المدن.
وكل هذه العوامل، وغيرها، قد جعلت أغلبية الجزائريين يعيشون على مضض وضعهم الثانوي خلال هذا العهد (2)، رغم أنه قد يبدو لنا وضعا غير
(1) توجد أمثلة على ذلك في مذكرات الشريف الزهار وغيره.
(2)
تتحدت معظم المصادر التي عدنا إليها حول هذه النقطة عن سخط الجزائريين تحت الحكم العثماني وخصوصا العامة (الشعب) التي كانت موضع اضطهاد واحتلال وإهانة حتى لقد كان الجنود الأتراك يدخلون البيوت اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وينزلون =
طبيعي وغير منطقي. ومع ذلك فقد كان الجزائريون يثورون على هذا الحكم كما تشير النماذج التي أتينا عليها في الفصل الثاني من الجزء الأول. كما أن الدلائل كانت تدل على أنهم كانوا سيثورون لا محالة ثورة وطنية متحدة ضد الحكم العثماني لولا تدخل الفرنسيين سنة 1246 هـ (1830).
وتظهر سلبية الوجود العثماني في الجزائر في الميدان الثقافي على الخصوص. فالعثمانيون قد دافعوا في البداية عن الدين الإسلامي وشجعوا تيار التصوف في البلاد وأوقفوا بعض الأوقاف على المؤسسات الدينية وساهموا في بناء الزوايا والمساجد والكتاتيب، فكأن نظرتهم إلى الدين في داخل البلاد كانت نظرة تعبدية محضة. وهي نظرة لم تستفد منها الثقافة على كل حال. فهم لم يؤسسوا جامعة كالقرويين أو الأزهر أو الزيتونة تبث العلم وتخرج العلماء والكتاب وتحفظ اللغة وتربي العقل. ثم إنهم لم يكونوا يتكلمون لغة البلاد ولا يتذوقون أدبها ولا يقرأون كتبها ولا يتصلون بعلمائها اتصالا عاطفيا وعقليا كما فعل مثلا سلاطين المغرب أو حتى بايات تونس بعد تأسيس العائلة الحسينية.
فلا غرابة إذن أن لا يشجع العثمانيون العلماء والشعراء على الإنتاج في عصر كان فيه الإنتاج الأدبي والتاريخي والعلمي محصورا في بلاطات الحكام. وهم لم يعقدوا المجالس العلمية والمناظرات كما كان يفعل قبلهم أمراء بني زيان وبني حفص وغيرهم. وهي المجالس والمناظرات التي كانت تشحذ المواهب ويتنافس فيها العلماء وتبرز القضايا الفكرية والخلافات المذهبية. ثم أن حرمان الجزائر من جامعة أو معهد للتعليم العالي قد جعل معظم علمائها يتكونون خارج بلادهم، وكثير منهم كانوا لا يعودون أصلا. وإذا كانت الحكمة تقول (الناس على دين ملوكهم) فإنها في الجزائر العثمانية تصبح (ثقافة العلماء على قدر ثقافة الحكام) وذلك أن أغلب العلماء كانوا يكتفون بالقليل من العلم لأنه لا أحد سيطالبهم بتجويده ولا بالمزيد منه.
= على صاحبها العشرين يوما ونحوها ويعتدون على حرمة السكان ويأكلون وينامون دون دفع أي شيء ودون أن يستطيع الساكن رفضهم أو الشكوى منهم.
ولقد عالجنا هذه النقطة في مكانها من الكتاب وخصوصا فصل العلماء من الجزء الأول.
فهل يصح إذن أن نطلق على هذا العهد (عهد الانحطاط الثقافي)؟ والواقع أن عهود الانحطاط السياسي والثقافي قد بدأت قبل القرن العاشر بفترة طويلة وأن دراسة أسبابها خارجة عن نطاق هذا الكتاب. ويكفي أن يعود المرء إلى مقدمة ابن خلدون وبدائع السلك لابن الأزرق وغيرهما من التآليف التي تعرضت لتلك الظاهرة. أما ما يخص موضوعنا فإن ظاهرة الجمود الثقافي كانت بارزة في العهد الذي درسناه، وهو جمود ليس خاصا بالجزائر. ولو كانت الثقافة في بقية العالم الإسلامية حية ونشيطة لاستفاد منها الجزائريون أيضا لأن معظم علمائهم كانوا يرحلون في طلب العلم إلى المعاهد الإسلامية. وإذا كان الأمراء في غير الجزائر لهم اتصال وثيق بالثقافة العربية والعلوم الإسلامية فإن حكام الجزائر، كما ذكرنا، كانوا أبعد الناس عن هذا الميدان. وهذا هو الفرق بين حالة الثقافة في الجزائر وغيرها من البلدان العربية الإسلامية الأخرى خلال هذا العهد. أما ظاهرة الجمود فقد كانت عامة.
ومع ذلك فنحن نجد، إذا حكمنا من عدد العلماء في كل فترة ومن عدد التآليف، أن لخط البياني للثقافة في الجزائر كان يسير في حالة اطراد وصعود. فبعد النزاع السياسي الكبير الذي عانت منه هذه الثقافة في القرن العاشر (16 م) الذي شهد هجرة العلماء الواسع وكثرة الحروب، أخذت الحياة تدب فيها في القرن الحادي عشر باستقرار الأوضاع السياسية وازدهار الحياة الاقتصادية وتوارد العلماء المسلمين على الجزائر ووفرة الكتب. ثم شهد القرن الثاني عشر (18 م) وأوائل الثالث عشر حركة قوية في صفوف العلماء والعناية بالتعليم وكثرة التآليف. ففي أواخر القرن المذكور (الثاني عشر) بدأت حركة نشيطة بتشجيع التعليم والعناية بالأوقاف والاهتمام بالعلماء والكتب. وقد ساهم في هذه الحركة بعض البايات أمثال صالح باي والحاج محمد الكبير، كما أنه منذ استرجاع وهران الأخير (سنة 1205) أخذ العلماء
الجزائريين يهتمون بالعالم الخارجي فاهتم ابن سحنون بأخبار الثورة الفرنسية، وكتب أبو راس عن أثر الحملة الفرنسية على مصر والشام، وعن الحركة الوهابية، وكتب ابن العنابي كتابه عن الإصلاح الاجتماعي والحربي للجيوش الإسلامية ودعا إلى الأخذ بنظم الغربيين فيما لا يخالف قواعد الإسلام. وقد كان لاسترجاع وهران، وثورة معظم الطرق الصوفية، وحملة الإنجليز على مدينة الجزائر، وبداية الإصلاح في الدولة العثمانية، ومصر على الخصوص، وثورة شعوب البلقان ضد العثمانيين، كان لهذا كله أثره الإيجابي على الحياة الفكرية في الجزائر. ولولا الاحتلال الفرنسي لأخذت تلك الحركة في التوسع والنمو ولسبقت الجزائر أخواتها بالنهوض والتخلص من ظاهرة الجمود (1).
…
وقد سيطرت عدة ظواهر على الحياة الثقافية في العهد الذي درسناه ومن أهمها انتشار التصوف والدروشة وشيوع الشروح والحواشي على أعمال المتقدمين والثقافة الموسوعية والحفظ، فالتصوف الذي يعني الزهد والتقشف والصلاح والعمل بالعلم والابتعاد عن الدنيا وأهلها قد ترك مكانه في أغلب الأحيان إلى نوع من التصوف هو أقرب إلى الدروشة والدجل منه إلى الصلاح. لذلك شاعت مغامرات مدعي الولاية من الجهلة الذين كانوا يبتزون أموال الناس ويهددونهم في حياتهم. وكانت السلطة متواطئة مع هؤلاء أو غاضة النظر عنهم. وقد شاع هذا التصوف حتى بين العلماء العاملين كالفقهاء والنحاة والمؤرخين، بل حتى بين الولاة والمسؤولين. فأنت لا تكاد تجد عالما في آخر القرن الثاني عشر (18 م) إلا وهو منتم إلى إحدى الطرق
(1) مما يذكر أن عمر باشا (1230 - 1232 هـ) كان صديقا لمحمد علي والي مصر، وأن الحاج محمد الكبير قد ذهب إلى الحج أثناء انتشار الحركة الوهابية ومر بمصر واتصل بعلمائها أمثال محمد مرتضى الزبيدي ومحمد الأمير الكبير المازوني الأصل. ولكننا لا نعرف أن هناك خطة موسومة للإصلاح لا من عمر باشا (الذي بقي فترة قصيرة ولا من محمد الكبير ولا حتى من صالح باي.
الصوفية آخذا الورد والسبحة والمصافحة والخرقة ونحوها من أحد شيوخ الصوفية. وقد كانوا يتباهون بذلك ويسجلونه في أثباتهم ومذكراتهم. كما كان بعض الولاة يتقربون إلى رجال التصوف بوقف الأوقاف عليهم وإعفائهم من الضرائب وبناء القباب لهم والتبرك بهم وأخذ العهد منهم ونحو ذلك. فالعقل الإنساني في جميع مستوياته كان عندئذ واقعا تحت طائلة هذا المخدر القوي وهو التصوف المحرف عن حقيقته.
ومن جهة أخرى فقد قلت الآثار المبتدعة في إنتاج العلماء بحكم الجمود العقلي وشيوع الدروشة والتخلف السياسي، فالتمس هؤلاء العلماء نشاطهم العقلي في دراسة أعمال السابقين والنظر إليها نظرة تقديس. وعكفوا عليها يشرحونها ويحشون عليها ويكررونها مختصرين لمطولاتها ومطولين لمختصراتها أو موضحين لغوامضها. وقد شمل ذلك كتب الفقه والنحو والتصوف والسيرة والتوحيد والمنطق. وإذا لم يجد العالم ما يشرحه لغيره من الآثار عمد إلى شرح أعمال نفسه. فهو ينظم مثلا قصيدة أو رجزا في موضوع ما ثم يقوم بشرح ذلك كما فعل أبو راس وابن سحنون. وأحيانا كان العالم يؤلف مختصرا ويطلب من زميله أن يشرحه كما فعل عبد الرحمن المعسكري صاحب (عقد الجمان) مع محمد الجوزي المزيلي. ولم يكن ذلك مقصورا بالطبع على علماء الجزائر. كما أن ظاهرة الجمع بين عدة علوم كانت منتشرة وموضع تفاخر بين العلماء، فأنت لا تكاد تجد في سيرة عالم من العلماء إلا أنه جمع بين علوم النقل والعقل وعلوم الظاهر والباطن. وهم فعلا كانوا كذلك يأخذون من كل علم بطرف ويبثون ذلك في تآليفهم أيضا إذ يذكرون فيها الطرائف والنوادر والأخبار والحكايات والاستطرادات المتنوعة. ويا ويح العالم الذي اقتصر في مجالسه على علم واحد أو ألف ولم ينوع ويستطرد!. ولذلك وجدنا نحن صعوبة كبيرة في تصنيف هذه المؤلفات وتبويبها في الجزء الثاني. كما أن ظاهرة الحفظ كانت شائة عندهم ويتباهون بها وكان بعضهم يحفظ كتبا بأسرها. ومن الجدير بالذكر أن علماء الجزائر قد ألفوا تقريبا في كل العلوم المعروفة حينئذ إلا ما نسميه اليوم بالفنون، فنحن
لا نكاد نجد منهم من ألف عملا في الموسيقى والغناء أو العمارة والصناعات التقليدية أو الخطوط والرسم. لذلك اكتفينا حول هذه الفنون بذكر آراء العلماء المبثوثة في تآليفهم الأخرى.
…
وقد وضعت خطة هذا الكتاب ليكون في ثلاثة أجزاء أتناول في الجزءين الأولين منه العهد العثماني من فاتح القرن العاشر إلى بداية القرن الثالث عشر (16 إلى 19 م) وأتناول في الجزء الثالث العهد الفرنسي. فإذا اتسعت مادة هذا العهد فقد أغطيه بجزئين أيضا (1). وبذلك يكون الكتاب في أربعة أجزاء. ولكن بحثنا في العهد الفرنسي ما زال لم ينته. وقد تناولت في الجزء الأول النواحي النظرية للتاريخ الثقافي من تيارات ومؤثرات وظواهر ومناهج كما تناولت فيه المؤسسات ورجال التصوف والعلماء وعلاقتهم بالسلطة والشعب. أما الجزء الثاني فقد خصصته لدراسة الإنتاج الثقافي من علوم شرعية ومنطق وتصوف وأدب وتاريخ وطب ورياضيات ونحوها. وقد جاء كل جزء في ستة فصول، وجعلت الفصل الأول من الجزء الأول مكرسا للقرن التاسع (15 م) باعتباره مرحلة هامة في تطور الثقافة التي ورثها العهد العثماني. كما أنني استعملت التاريخ الهجري لأن ذلك هو الذي استعمله العلماء وساسة ذلك العهد ولأنه عنصر من عناصر تراثنا العربي الإسلامي الذي يجب أن نعتز به ونعود إلى استعماله كما يستعمل الأجانب تواريخهم في كتاباتهم. غير أنني تسهيلا للباحثين غير المتخصصين وضعت بين قوسين القرن الميلادي المقابل للقرن الهجري. فالعاشر يقابله السادس عشر الميلادي والحادي عشر الهجري يقابله السابع عشر الميلادي وهكذا.
وقد كنت انتهيت مبدئيا من جمع المادة الأساسية للجزئين الأولين منذ حوالي عامين وحاولت الشروع في الكتابة، فكتبت الفصل الأول من الجزء الأول في الجزائر. ثم توقفت وظللت أبحث عن وقت أتفرغ فيه للكتابة وأنا
(1) عن الخطة الجديدة انظر مقدمة هذه الطبعة وكذلك مقدمة الجزء الثالث.
بالجزائر فلم أفلح لكثرة شواغل الحياة وواجات الجامعة والطلبة والالتزامات العائلية وفقدان وسائل الاختلاء والتأمل. فكنت أتحرق أسفا على عدم قدرتي على مواصلة الكتابة. وطالما جلست في مكتبي في المنزل طارحا أوراقي أمامي متأملا فيها ماسكا القلم ثم لا يواتيني الخاطر لأسباب عديدة.
وأخيرا قررت طلب التفرغ من الجامعة لمدة سنة، وكان ذلك من حقي القانوني نفوافقت هي والوزارة على ذلك وعلى المنحة أيضا، وكاتبت جامعة منيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية فوافقت على استقبالي أستاذا زائرا وحملت معي أوراقي وسافرت بالعائلة. وقد مكنني قسم التاريخ بجامعة منيسوتا من مكتب خاص كما مكنتني مكتبة الجامعة من مكتب آخر وهناك طرحت أوراقي وجلست الساعات بل الشهور الطوال أكتب وأبحث إلى أن انتهيت من تسويد الجزءين قبل نهاية يونيو سنة 1978 ولم يبق لي إلا نصف الفصل الأخير من الجزء الثاني (فصل العلوم والفنون) فأكملته في باريس في طريق عودتي إلى الجزائر.
وكنت أعرف أن الكتاب على ذلك النحو يحتاج إلى مراجعة طويلة وصياغة وإضافات وحذف ونحو ذلك وأن ذلك لا يمكن القيام به أيضا إذا استأنفت عملي في الجزائر. فطلبت من الجامعة تمديد تفرغي سنة أخرى للمراجعة فوافقت كما وافقت الوزارة على التفرغ والمنحة وعدت إلى الولايات المتحدة ضيفا هذه المرة على جامعة ميشيقان التي سهلت لي هي أيضا مهمتي. وقد استغرقت مني عملية المراجعة حوالي ستة أشهر. وكلما وجدت فرصة كنت أجمع أيضا مادة الجزء الثالث. فليس من الغريب إذن أن أكتب أكثر عملي خارج الجزائر، لأن الباحث لا يحتاج فقط إلى لقمة العيش بل يحتاج إلى المكان المناسب والزمان المواتي والجو المستبشر. ومن نافلة القول أن أضيف بأني استكملت فراغات كثيرة في البحث لم أكن قد تنبهت إليها من قبل سواء من المصادر الكثيرة التي تحتوي عليها مكتبتنا جامعة منيسوتا وميشيقان أو من طريق تصوير المخطوطات التي تهمني من جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس الأمريكي وغيرهما أو من مراسلاتي مع بعض الباحثين.
ولم تكن مهمة البحث فى المظان تهدف الى جمع المادة وحشرها في الكتاب بدون رأي أو تمحيص أو ترتيب. فالكتاب، كما قلت يدرس الظواهر ويحللها ويعللها، كما يدرس الانتاج ويصنفه ويقيمه ويناقش المؤلفين آراءهم ومواقفهم ويصحح بعض الأخطاء. فمادة الكتاب اذن ليست كتلة جامدة من الحوادث التاريخية أو تجريدة احصائية للانتاج. وسنتبع ان شاء الله فى باقيه نفس الطريقة.
ورغم أنه كتاب لتاريخ الثقافة لا يكاد يستغنى عن أثر من الآثار فانه ليس مجرد حصر لهذه الآثار. على أنه تجدر الملاحظة الى ان بعض الآثار لم نتمكن من الاطلاع عليها والقراءة عنها فاكتفينا بوضعها في مكانها من فصول الكتاب انتظارا للكشف عنها. كما أنه ليس كتابا تراجم بالمعنى التقليدي، رغم أنه يضم عددا من التراجم، فالترجمة لأحد العلماء فيه هي جزء من موضوع وليست وحدة منفصلة لا حس فيها. حقا ان تداخل المواد وانتاج العالم الواحد فى عدة موضوعات وطغيان الحواشي وكتب التصوف والشروح جعل استقلال وحدات الكتاب أمرا شبه مستحيل. ولكننا حاولنا ان يكون الكتاب مرآة للعصر وفي نفس الوقت خاضعا للتصنيف المنطقي. ولم ينظر الكتاب الى التراث نظرة تقديس. فأنا لم أكتبه لكي يكون عملا يرضي العواطف الجهوية أو يدغدغ المشاعر الوطنية أو يهدهد النزعات الدينية. ذلك أن بعض الانتاج مليء بالخرافة، وبعضه مكتوب في مدح رجال لا يستحقون المدح، وبعضه كان منحظ الأسلوب، وبعضه كان أصحابه يعبرون عن موقف المحرومين والموتورين. ولكن ذلك كله كان تراثنا على كل حال. فهل نكتفي بالاشادة به وبأصحابه، كما فعل معظم من تعرضوا له حتى الآن؟ لا نعتقد أن ذلك سيكون فى صالح هذا التراث نفسه، كما اننا لا نعتقد أنه سيكون فى صالح الجيل الحاضر والجيل الصاعد الذي يرغب في معرفة الحقيقة.
ومع ذلك فان لهذا الكتاب رسالة واضحة. فنحن الى الآن لا نملك
تاريخا لثقافتنا يحدد معالمها ويكشف عن قيمها ويضبط علاقتنا بها. وقد كانت هذه الثقافة عربية اسلامية اشترك فيها الجزائريون من شرق البلاد الى غربها ومن شمالها الى جنوبها. وهي ثقافة، مهما قيل انها متقدمة أو منحطة هي نحن في ماضينا، وهي التي نستمد منها اليوم ذاتنا وحقيقتنا. فالجزائري اليوم يجب أن يعتز بهذه الثقافة والانتساب إليها، لأن الشعوب التي ليس لها ثقافة ليس لها وجود، ولا يهم بعد ذلك أن يقال عنا أننا كنا سياسيا مستقلين أو مستعمرين ما دام وجودنا الثقافي ثابتا لا يتزعزع. وهذه إحدى نقط رسالة الكتاب.
ومن جهة أخرى فإن دارس الثقافة الجزائرية خلال العهد العثماني يدرك، مهما تغالى في إبراز الخصوصيات، أنه أمام ثقافة هي في صميمها الثقافة العربية الإسلامية المشتركة والشائعة عندئذ في العالم العربي الإسلامي، فمناهج التعليم كانت واحدة، وحدود الأفكار واحدة ومعاهد العلم التي ارتادها علماء الجزائر متشابهة والطرق الصوفية التي انتموا إليها هي هي سواء أخذوها في المغرب الأقصى أو في العراق. فكما أن على الجزائري أن يفتخر بإنتاجه الثقافي الخاص عليه أن يباهي أيضا بأنه قد أسهم بهذا الإنتاج في حركة المد التاريخي والحضاري للأمة العربية والإسلامية.
…
وفي تناولنا للعلماء قصدنا (بالجزائري) منهم كل من ولد وعاش في الجزائر فترة ولو هاجر منها بعد ذلك، أو ولد خارجها من أب جزائري وظل محتفظا بسنبه إليها، أو ولد وعاش خارج الجزائر ولكنه ورد عليها وأقام بها فترة واختلط بأهلها وساهم في حياتها الروحية والعلمية وكان من المسلمين. ومن ناحية أخرى اعتبرنا من علماء العهد العثماني أولئك الذين عاشوا حتى أدركوا حوالي عشرين سنة من القرن العاشر. فأحمد الونشريسي اعتبرناه خارج هذا العهد رغم أنه توفي سنة 914، بينما محمد بن أحمد بن أبي جمعة الوهراني اعتبرنا منه لأنه توفي سنة 927، وكذلك أحمد بن يوسف
الملياني المتوفى 931. ولكن من الصعب التمسك بهذه القاعدة دائما. كما أنه من الصعب تحديد نهاية العهد العثماني مع العلماء الذين أدركوا العهد الفرنسي أيضا كابن العنابي وحمدان خوجة وابن الشاهد ونحوهم. غير أنني نظرت في هذه الحالة أيضا إلى السن والتأليف. فإذا كان العالم قد قضى معظم حياته في العهد العثماني اعتبرناه منه ولو أدرك العهد الفرنسي. كما أن العالم الذي أدرك هذا العهد ولكنه ألف في العهد السابق له نظرنا اليه نظرة المخضرم. فكتاب ابن العنابي الذي ألفه سنة 1242 اعتبرناه من العهد العثماني رغم أن صاحبه قد توفي سنة 1267، أما بالنسبة الى انتاج حمدان خوجة الذي عاش معظم حياته في العهد العثماني فقد اعتبرناه في العهد الفرنسي لأنه مؤلف في هذا العهد. وقد خطرت ببالي عدة تسميات للكتاب منها (تراث الجزائري الثقافي) و (تاريخ الثقافي للجزائر) و (تاريخ الثقافة في الجزائر) ثم (تاريخ الجزائر الثقافي). وبعد الاستشارة والاستخارة استقر الرأي على التسمية لأخيرة لأنها أكثر شمولا وتعبيرا عما قصدته منه.
واثناء جمع المادة توفرت لدي ايضا معلومات غزيرة عن الحياة الثقافية في العصور الاسلامية العربية السابقة للعهد العثماني. وقد سألت نفسي عدة مرات: لماذا لا أضع موسوعة كاملة لهذه الحياة وأعود بالكتاب إلى تلك العصور ولو جاء في أجزاء عديدة؟ ولكني كنت أعود لنفسي وأقول ان طاقتي محدودة ومشاريعي كثيرة ويكفي الآن أن أدرس العهد العثماني والعهد الفرنسي لارتباط تخصصي بهما؟ فذا امتد العمر وواتت الأيام عدت الى دراسة العهود الاسلامية العربية أيضا وأخرج عنها موسوعة أخرى، واذا قصر العمر وعكست الأيام ظفرت على الأقل بهذه البغية، وهي بحمد الله فوق ما كنت أتصور.
ثم ان الكتاب موجه الى الباحثين والمطالعين معا. فالأولون سيحدون فيه، كما ارجو، مادة وفيرة من النصوص والمراجع والآراء، وهواة المطالعه سيجدون فيه، كما أرجو أيضا، متعة المعرفة ولذة الخبر.
وقد شاع بين الكتاب في هذه الأعوام التمسح بالتاريخ وبالعلم حتى كاد كل من يكتب منهم عملا يدعي أنه توصل إلى نتائجه فيه بالدراسة المنهجية والطريقة الأكاديمية والبحث العلمي ونحو ذلك من التعابير التي تلوكها أقلامهم. وما دروا أن العمل الجدي هو الذي يقدم نفسه بنفسه بدون أوصاف ولا اعتذارات ولا تملق للقراء. أما أنا فحسبي أن أقول إنني جمعت لهذا الموضوع ما استطعت من المواد قرابة ربع قرن ثم عكفت على دراستها ومقارنتها وتمحيصها ثم صغتها، فجاء منها هذا الكتاب. ولا شك أن عملا يغطي هذا المدى التاريخي الواسع وفي هذا الحجم لا يمكن أن يسلم من الفراغات والهفوات، ولكني سأظل، ما دمت حيا، عاكفا على تنقيحه وتهذيبه من المجهود الشخصي ومن تنبيهات واقتراحات الباحثين. ذلك أن البحث لا ينتهي بصدور الكتاب، كما أن الكتاب لا يمكن أن يظل محتجبا في انتظار الانتهاء من البحث، لأن البحث كنهر الحياة لا ينتهي.
وإني إذ أشكر الله تعالى على إعانته لي على إخراجه، أدعوه أن يجعله كتابا نافعا وأن يعينني على إكمال باقيه.
آن آربر (أمريكا)
يوم 21 مارس 1979
أبو القاسم سعد الله القماري